شكري فيصل
شكري فيصل
العالم الأديب الذي لم تنصفه أمته
د. محمد مطيع الحافظ
الدكتور شكري بن عمر فيصل علامة أديب بحاثة، أمين عام مَجْمَع اللغة العربية بدمشق، وُلِدَ بدمشق بحي العقيبة (1337هـ/ 1918م). نشأ برعاية خاله العلامة الشيخ محمود ياسين، وفي مدرسته مدرسة التهذيب الإسلامي كان خاله مربياً وموجهاً ومدرساً، وأرشده لكسب العيش مبكراً مع طلب العلم. درس بالمدارس الرسمية ومكتب عنبر، ودرس خلالها على الشيخ أبي الخير الميداني، والشيخ محمد سليم الحلواني، وانتفع بخزانة خاله العامرة بالمؤلفات الجليلة. وبعد حصوله على الثانوية العامّة التحق بكلية الآداب بالقاهرة وحصل على شهادتها سنة 1361هـ/ 1942م، واشتغل بمهنة الوراقة خلال دراسته، ثم انتسب إلى كلية الحقوق بدمشق وحصل على شهادتها سنة 1366هـ/ 1946م، وعُيِّنَ في لجنة تعديل برامج التعليم، ثم أُوفد إلى القاهرة للتحضير للدكتوراة، فالتحق بها وعمل ملحقاً ثقافياً لدى الجامعة العربية. وحصل على شهادة الماجستير سنة 1368هـ/ 1948م، ثم في السنة التالية نال دبلوم معهد اللهجات العربية، وتقلد درجة الدكتوراة سنة 1371هـ/ 1951م، وعاد ليعمل في لجنة البرامج التعليمية وأستاذاً مساعداً في كلية الآداب، ثم صار أستاذاً سنة 1376هـ/ 1957م وأخذ يكتب في المجلات منذ شبابه، وانتسب إلى عصبة العمل العربي وصار يكتب في جريدتها، ورشح نفسه للانتخابات النيابية عن مدينة دمشق سنة 1954م إلا أنه لم يحصل على الأصوات المطلوبة، وانتخب عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية ثم انتُخب أميناً عامّاً سنة 1392هـ/ 1972م، وعهد إليه برئاسة لجنة تاريخ ابن عساكر وطباعته، وشارك في ندوات ومهرجانات كثيرة. ثُم عُين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أستاذاً ومشرفاً على رسائل الدراسات العليا، وترك مؤلفات كثيرة منها: (الفنون الأدبية) و (مناهج الدراسة الأدبية) و (المجتمعات الإسلامية في القرن الأول) و (حركة الفتح الإسلامي في القرن الأول) و (تطور الغزل من الجاهلية والإسلام) إضافة إلى دراسات كثيرة.
بعد هذا التعريف الموجز وبعد هذا العطاء الكبير والمفيد، كان كثير ممن عرفه وعاشره مخلصاً له ووفياً، ولا يخلو الإنسان من الحُسّاد خاصّة لمن تميّز بمواهب أكرمه الله بها كالدكتور شكري. إلا أن الكثير من معاصريه وصفوه بعبارات التقدير والوفاء والإنصاف ومنهم الشيخ علي الطنطاوي، الذي قال: (كان شكري فيصل عصامياً، خاض لُجّة الحياة قبل أن يستكمل عدّة خوضها، وجرّب الطيران صغيراً قبل أن ينبت ريش جناحيه، فما زال يضرب بهما يقوم ويقعد ويرتفع ويقع، حتى قوي الجناحان، وامتدّت قوادمهما، وقويت خوافيهما فعلا وحلّق)، وقال عنه صديقه الدكتور عدنان الخطيب: (كان شكري فيصل أديباً موهوباً، وناقداً قوي العارضة، بالغ الحجّة، واضح التعبير، سهل المفردات). وقال الشيخ محمد بن لطفي الصباغ: (فارس من فرسان الكلمة، وعلم من أعلام الأدب، ومجمعي نشيط معروف). وقال الأديب عبد الغني العطري: (شكري فيصل نجم ساطع في سماء الأدب، كوكب متألق في عالم الفكر، وبلبل على دوحة الضاد، شعلة متوهجة وضاءة، علم شامخ وقمّة في الأدب واللغة والأخلاق والتواضع).
بعد هذا الوصف من كبار معاصريه أحب أن أعرض فيما يأتي بعض ما رأيته منه من صفات قلّ أن نجدها في شخص واحد وذلك بعد اتصالي به في الجامعة، والمجمع، والبيت، والحي والسفر والغربة فقد كنت أولاً تلميذاً عنده، درست الأدب على يديه، وتعلّمت تحقيق التراث بتوجيهاته وإرشاداته. واقتبست من أخلاقه وسلوكه الشيء الكثير ثم أصبحت كأني واحد من أسرته وأهله، فكان يعاملني معاملة الصديق لا التلميذ، والمحب والعطوف ...
في مجمع اللغة العربية بدمشق
كان شكري فيصل أستاذنا عضواً مجمعياً عاملاً معطاء، لم يترك أي مجال في سبيل رفع راية المجمع خفاقة في كل الأقطار العربية والأجنبية ممثلة بحضوره المؤتمرات اللغوية وندوات التعريب، وعندما انتخبه المجمع أميناً عامّاً له، شهد حركة غير عادية في نشر التراث، فظهرت في مطبوعات المجمع كتب كثيرة قيّمة من أمهات كتب التراث، امتازت بعددها الكبير ونوعيتها، فكانت مفخرة لعهده المبارك.
صفاته وأخلاقه
إذا أردنا الحديث عن سلوكه الشخصي فإننا نجده قد تميّز بأمور قلّ أن نجدها عند غيره. منها: بره بوالديه، ومنها وفاؤه – وهذا الخُلق أصبح نادراً – وخصوصاً في هذا الزمن المتأخر، فقد خصّ أمّه التي ربته وخاله الذي علّمه ووجهه، وخصّ أساتذته الذين علّموه سواء في مكتب عنبر أو في مصر بأفعال تدل على وفائه لهم قبل المقال.
ويجب أن لا ننسى تواضعه الذي تميّز به وكان خُلقاً عفوياً فيه، عرفه عنه الناس كلهم صغيرهم وكبيرهم، وكانت الابتسامة على وجهه الذي تقرأ فيه الطيب والبراءة والفطرة السليمة.
ومن صفاته المتميّزة: الإيثار فقد شغلته هموم أمّته وواقعها عن نفسه، فكان دائم التفكير بسعادة أسرته ومن حوله من أهله وجيرانه وأصحابه خاصّة، ووطنه وأمّته عامّة.
ومن مميزاته رحمه الله أسلوبه الأدبيّ فمما لا شكّ فيه أن أستاذنا تميّز بأسلوب خاص في الكتابة يشبه أن يكون الطّابع عليه، بصفاته التي تأخذ القارئ في مدارج في البلاغة قلّما أُتيحت لكثير من أهل العلم والأدب من أقرانه الذين لم يتمكنوا من موهبة الكتابة.
ويَعرف المقربون من أستاذنا أن قلمه سيال، ينساب بين يديه، طيّع لا يخذله متى شاء، يمتح فيه من معين ثر، وذخيرة غزيرة، تسعفه الفكرة من جهة، وفي التعابير الجميلة المرصوفة بعضها إلى بعض من جهة أخرى.
ذلك أنّه تخرّج في فن الكتابة بمدرسة مجلة الرسالة ومجلة الثقافة، واطّلع على تلك الأساليب ولاقت تلك الأساليب تربة صالحة أنبتت أسلوباً كأسلوب الدكتور شكري وأثمرت.
كان شكري فيصل علماً كبيراً، وقمّة في الأدب واللغة والفكر والوطنية والأخلاق والتواضع والخُلق الرفيع، مع المحافظة والتمسُّك بقيم الإسلام ومبادئه.
كان أستاذاً جامعياً مبدعاً، ومجمعياً خالداً، ومفكراً عبقرياً، أعطى الكثير لأمته، تخرّج على يديه أجيال، واستفاد منه الكثيرون، ووجّه وربَّى، وقدّم خدماته لمن يعرف ولمن لا يعرف.
كان بأسلوبه الأدبيّ ينطلق ليحقق ما يريده للأمّة عن طريق العلم المفيد الذي ينهج النهج الإسلامي الصحيح، كان يبدأ هذا بنفسه وبأهله وبمن حوله من محبيه وتلامذته.
لهذا التميز والإبداع والخُلق كثر حساده، وكلَّما زادت مزايا المرء كلما كثر حساده، وكل صاحب نعمة محسود. وحاول حساده أن يفسدوا عليه حياته، فلم يقدروا، ولم يكن يلتفت إليهم، لأنه لم يكن لديه وقت ينفقه في الترهات. ولكن الأمّة لم تعرف قدره، ولم تعطه حقّه من الوفاء والعرفان الجميل، وكاد فضله أن ينسى، وهذا بلا شك جحود ونكران للجميل، لأنه بذل النفس والنفيس في سبيل إسعاد الآخرين وتثقيفهم وتوجيههم وتربيتهم.
هذا جزء يسير مما يجب أن أذكره عن شمائل أستاذنا رحمه الله، ولا أجدني أوفيه حقّه، ولا أقوم بجزء ممّا له عليَّ من فضل ومنّة، فما هذه إلا سطور وفاء أُقدمها لروح أستاذي بيد خجلى وقلب مضطرب، لعلّه يرضى عنّي وهو في سكينة مستقرّه الطاهر في بقيع الغرقد.
رحمك الله أيُّها الشيخ الجليل، وآنسك في مثواك الذي نزلت، وأنزل عليك سابغَ رضوانه، وغفر لك، ورفع منزلتك في الفردوس الأعلى.
صلتي الشخصية به
تَعُودُ صِلتي بالأستاذ الدكتور شكري فيصل رحمه الله إلى زمنٍ بعيد، فقد امتلأت منه عيني عندما كان بين الحين والآخر يزورُ حيَّنا – حيَّ العُقيبة – الذي نشأ فيه زمنَ صباه، ليصلَ أرحامه، ويتّصل بكبارِ أهلِ العلمِ والوُجهاء، كالشيخ أبي الخير الميداني والشيخ عبد الوهاب الحافظ (دبس وزيت) والشيخ محمد سعيد البرهاني وآل الحلواني وغيرهم من الأعيان، وكان مَقْدَمُه يلفِتُ الأنظارَ حقّاً، ويُثيرُ الانتباهَ إليه، بما كانَ يلقى الناسَ بالبشاشةِ والكلامِ الطيِّبِ الذي كنتُ أسمعه منه يخرج من فمه على استحياءٍ، وبنبرةٍ متواضعةٍ لَم تكن لتقلِّلَ من قدره بين الذين يتردّدُ عليهم، وإنّما كانوا يبادلونه الودَّ بالودِّ، ممزوجاً بالاحترام.
فلمّا وجدتني في جامعة دمشق، وأنا في أيامي الأولى فيها طالعني فجأةً شخصُ أستاذنا، فخفق قلبي لمنزلتِه السامية في نفسي، ولكن عاد لي رَوْعي سريعاً لِمَا أعرف من شمائله، فتقدَّمتُ إليه أحيّيه، وسرعان ما رحّبَ بي، وسألني عن دراستي ومنهجي فيها، ثم دعاني إلى بيته ليرشدني إلى الطريقة المثلى في دراسة الأدب. وسُرعان ما نشأتْ بيني وبينه من دون سائِرِ الطلاب علاقةٌ كأنّها تمتدُّ من زمنٍ طويلٍ، هذه العلاقةُ متَّنَتْها الأيامُ، ووثّقت عُراها على صغر سني وقَدْري، وعلى كبر مكانته وسَعة علمه وفضله، ووجدتني تلقاءَ رجل أخذتُ أزداد إكباراً له كلّما امتدت السنوات، بالمقارنة مع ما كنا نلقاه من جفاءِ بعض الأساتذة وشدَّتهم.
وتقلّبتِ الأيامُ، فإذا بي أرتبطُ به في كثيرٍ من المناسبات، وإذا به يشجعُني على العلم والدأب والتحصيل والعمل ما وَجدَ إلى ذلك سبيلاً، ثم شاءت المقاديرُ أن أعملَ في (مجمع اللغة العربية) بتزكية منه يوم كان العضوَ البارز المنتج فيه، وأمينَه المؤتمن، فشدّني إليه، وضمّني إلى لجنة تحقيق كتاب (تاريخ مدينة دمشق) لابن عساكر، فتتلمذتُ له في التحقيق وأصوله، وتعلّمتُ منه أشياء لم يبخل بها عليَّ، وأفدتُ منه كلَّ الفائدة، ودفعني إلى عالم التأليف والكتابة والتحقيق ... فأمضيتُ في كنفه سنوات ممتعة ومفيدةً، كان فيها تفتّحي وتخرّجي.
ثم تقلّبتْ به الأحوالُ رحمه الله بعد أَنْ أحيلَ إلى التقاعد من الجامعة، فعانى من حسد الحاسدين وكيد الكائدين، وازدادتْ مصائبُه، فصبر واحتسب، وكان ينتظر الفرج وهو يقول: انتظار الفرج عبادة، ولكن هذه الأمور أخذتْ منه هدوءَه، ونزعت استقراره وطمأنينيته، فأثَّر ذلك في صحته فتدهورتْ، ولم يكن آنذاكَ قد طعن في السنِّ، ولا أوغلَ في العمر، ولكنَّ الهمَّ يخترِمُ الجسيمَ، ويهزِلُ القويَّ، ويهرِمُ الشابَّ النشيطَ.
لم يتوقف شكري فيصل عن العمل، وكان مطلوباً في الجامعات كلِّها، تخطِبُ ودّه وتريده، وتغريه بكلِّ مغرياتها، وجفاه مَنْ كان يدّعي صداقته في ساعات العُسر، وتنكَّر له عارفوه، فيمَّم وجهه شطرَ مدينة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أستاذاً للدراسات العليا في جامعتها الإسلامية، يعطي – ولا يتوقف عن العطاء – بكلّ ما يستطيع، وبقيَ يتردَّدُ إلى دمشق لحبِّه الشديد لها، ولزيارةِ أرحامِه وأقارِبه.
وفي المدينة المنورة كان لقائي الأخير به في بيته خلال موسم الحج لعام (1404هـ/ 1984م) وكان قد أخذ منه الإعياءُ مَأْخذَه، وأشفقتُ عليه، وأظهر لي من المودّةِ والتواضع آنذاك ما لم أجد منه مثلَها من قبلُ، وشعرتُ وكأَنَّ هذا اللقاء لقاءُ مودِّع، وكنتُ أكذِّب ظنّي أو أطلبُ من الله أن يكذِّب ظنّي.
وفي ذلك اللقاء كتبَ مقدّمة تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري، الذي اشتركتُ في تأليفه مع أخي وصديقي الدكتور نزار أباظة ... وكان ذلك من أواخر ما كتب لأنَّ قلمه توقَّف بعدّ ذلك، وجفَ مدادُه.
وصعقني النبأُ المؤلم، الذي وافى أهلَه بدمشق ينعي أستاذنا الجليلَ الذي لم يحتمل جسمُه مباضعَ الجراحين السويسريين، وتوقفَ القلبُ الكبيرُ عن الخفقان ليلةَ السبت (17/11/1405هـ/ 3/8/1985م)، ونُقل من جنيف إلى المدينة المنورة في (10/8/1985م) ليرقد بجوار الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في بقيع الغرقد آمناً مطمئناً مع الذين أنعم الله عليهم من الصحابة والشهداء والصالحينَ وحَسُنَ أولئك رفيقاً.
وبقيت ذكرى الأستاذ الجليل تسري في عروقي مع دمائي، تزداد ألقاً يوماً بعد يوم، وأنا أتذكَّرُ شمائله العطرة، وأخلاقَه الطيبة، لا يغيبُ عن عيني شخصُه المحبوب، ولا تتبدَّدُ طلعته البهية، ولا تنمحي بسمتُه البريئة وبقي في نفسي أنموذجاً يُحتذى للعالم المخلص الصادق الغيور، والمربي الرؤوم، والصّديق الصدوق، إذ كان علماً شامخاً أبداً في كلّ مرحلة من مراحل حياته، وفي كلِّ حال من أحواله، وفي كلِّ شأنِ من شؤونه.
دراستي للأدب على يديه
لمع نجم أستاذنا في قاعات التدريس، وأقبل عليه الطلاب وأحبوه الحب الخالص، وأصفاهم وده، حتى قامت بينه وبينهم علائق لا تكون إلا بين الأساتذة المخلصين وطلابهم الأذكياء.
يوم كنا طلاباً في الجامعة نقعد بين يدي أستاذنا كنا نرى أنموذجاً من الأساتذة يختلف عن سائر الأساتذة الذين كنَّا نهابهم لحزمهم، قلّة قليلة من أساتذة الجامعة في الستينيات كانت تلقانا بما كان يلقانا به الدكتور شكري فيصل رحمه الله.
إذا سألتَ عن العلم فإنَّك واجده عنده، وإن فتشت عن المحبة تنزلَّت عليك منه، وإنْ رغبتَ في الأسلوب الممتع في التدريس وقعت عليه عنده، كانت دروسُه في النقد والنصوص والتحليل الأدبي متعةً خالصة، وهي بعدُ دروسٌ ليست بالهيّنة ولا السهلة، تحتاج إلى إعمالِ فكر، وإلى جهدٍ، وإلى تذوقٍ، وإلى أشياء أخرى، لم يكن الطالبُ يجدُها في كتاب، وإنّما ربَّاها فينا أستاذُنا تربيةً، ونشّأنا عليها تنشئةً، حتى برزَ فينا ناسٌ كانوا صنيْعَته، ترسّموا خطاه، وعُرفوا في الجامعات العربية.
ومِنْ هنا أقبلَ عليه طلّابه، جلسوا في قاعة درسه مرتاحين، فهموا من غير مشقة، وناقشوا دونَ خوف، وحفظوا على السجيّة، وأدّوا امتحاناتهم ببساطة – لم ترعهم المفاجآت التي تطلع عليهم من بعض الأساتذة أو من جلّهم – ونجحوا عن استحقاق ومكْنَةٍ.
كان أستاذُنا منفتحاً مع طلابه تمام الانفتاح، لم يقطّب في وجوههم، ولم يُسمعهم قارصَ الكلام، ولا عنّفهم، ولا أساءَ إلى أحدٍ منهم، وما ارتفعَ صوتُه على أحدٍ، ولا هدَّد طالباً، ولا أخزى طالبةً على الملأ ... فأقبلوا عليه، واعتزُّوا بالانتساب إليه.
كان درسُه متميّزاً في كلِّ ما يقدّم من مواد في النقد والبلاغة ودرس النصوص الجاهلية والإسلامية، فاستمتعنا بشعراء كثيرين، فمن طريقه عرفنا النابغة وليله، وأحببنا شاعرَ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم حسَّان بن ثابت رضي الله عنه وحبَّه ومديحه للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك من خلال تحليله لما قدّم إلينا من نصوص.
كان يعالجُ النصوصَ معالجةً ذاتَ حياةٍ، ينفخُ فيها الحياة فيبعثها من بطون الدواوين، وينثرها أمامَ الطلّاب، فتتألق بين يديه وتتوهج، يقف عند المعاني المهمّة فيها، ثم يطرحُ أسئلةً حولها كثيرة ... كثيرة جدّاً، لم نكن ندري كيفَ يستخلِصُها أو يخترعُها ... حتى إذا فرغت جعبتُه من الأسئلة، ولعلّها لا تفرغ عادَ فأجاب عنها بما تستحقُّ من تفصيلٍ أو إيجازٍ، مشيراً إلى النواحي الجمالية الفنيّة، يلقي عليها الضوءَ أو يقفُ عندها، ويُمْتِعنا بها، فإذا بنا نراها بالعين التي لم نكن نراها بها، وإذا بنا نقدّرُ النابغةَ ونفخرُ به، ونعتزُّ بحسَّان ونحبّه، ونعرِفُ أقدارَ الشعراء ومنازلهم.
وتعرّضَ لنصوص عن الأصفهاني في كتابه (الأغاني) يغمز بها من قناة حسَّان رضي الله عنه، فيتّهمه بالجُبْنِ والخَوَرِ، ويسوقُ نصوصاً كنّا نظنُّها – لقصر باعنا آنذاك وقلّةِ اطلاعنا، وحسنِ ظننا بالأصبهاني وهو مَنْ هو؟! – أنها ممّا لا نقاشَ فيه، خصوصاً وأنَّ راويها صاحبُ الأغاني، يسوقُها بالسند على ألسنة الرجال.
وتوقّف أستاذُنا عند تلك النصوص، ونقدَها النقد العلميّ، فتهاوت بين يديه وتفتَّتت، فبيَّن أن شعراء قريشٍ سكتوا لشعر حسَّان فأخرسهم، وأنّ شعره كان أشدَّ عليهم مِنْ وَقْعِ النبال، وأنَّ سلاحَ الكلام والإعلام في المعركة كان أشدَّ من سلاح الحديد والعضلات ... وأنَّ قريشاً كان تجتهد في قتل الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم لإسقاط الدِّينِ الجديد، وأرسلتْ إليه أكثر من مرة مَنْ يبتغي قتله وأنَّ حسَّاناً كان مطلوباً، وأنَّ قتله أهونُ من قتل النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام بمرّات كثيرة، وهو إذ يعرفُ ذاك فلا يكفُّ عن مقارعة أعداء النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فإنْ كان يهابُهم لسكتَ، وفتنحّى عن ميدان المعركة، ولكنّه شفى واشتفى، ودعا له الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ونصبَ له منبراً في المسجدِ ينشدُ الناس، وقال: إنَّ جبريلَ معه يؤيّد ما نافحَ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وذكر أستاذُنا رحمه الله أنَّ الشجاعة كانت سمةَ الصحابة، وإن تفاوتوا بها، ليس فيهم جبانٌ، ولم يكن الوسط آنذاك ليرضى عن جبانٍ يذهبُ ويروح. ولو كان في حسَّان جبنٌ لما رضي عنه الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكان دعا له أنْ يذهَبَ عنه جبنُه، ولكنَّ آفةً كانت في يدِ حسَّان – فهو مقطوع العصب – لم تكن تمكّنه من حمل السلاح.
وتقومُ النصوصُ في نفوسنا بتلك الأطرِ التي يضعُها أستاذُنا فيها، فإذا بنا ننفعلُ بها ونتفاعل، وإذا بنا نحسُّ بها إحساساً، قلّما أحسسنا بمثله من قبل. ولكأننا نرى النابغة يقفُ في سوق عكاظ تحت قبّته الحمراء يستمعُ للشعراء يحكّمونه في جديدهم، ولكأننا به يقف بين يدي الملك النعمان، يمدحُه، فيستفيضُ في مدحه، أو يهابُه بعد ذلك فيهربُ، ويطولُ ليلُه فلا ينامُ فنشفِقُ عليه.
ويحلِّلُ أستاذنا بطريقةٍ شيّقة أسبابَ غضب النعمان على شاعره المجلّي، ويسوقُ أسباباً كثيرةً، فيرفض بعضَها، ويرجِّحُ أخرى، مستعيناً بالنصوص النثرية والشعرية والأخبار حتى يقيمَ في ذهننا ما يستقيمُ للحجة.
ومن أعظم ما اقتبسه بعضُنا من أستاذنا الدكتور شكري أسلوبهُ في الكتابة التي كان يمليها علينا حينما يحلِّلُ النصوص ويدرسُها. كانت الجملُ بين يديه كالعجينةِ يقطِّعها، ويكورها، ويمدّها، ويبسطها، لتكونَ جاهزةً للخَبْزِ، وكالصلصال الطريِّ يقومُ به الفاخوريُّ، يبدعُ منه كلَّ آنية جميلة.
ولم يكن أستاذنا حين يملي علينا يقرأ من كتاب، أو يطالعُ من دفتر، أو يقتبس من أوراق، وإنّما كان يمتح من ذهن وقّادٍ، ولسان قوال فصيحٍ، يهدرُ هدراً، لا يكادُ يقفُ أو يتريّث إلا من أجل أن نكتبَ نحن الطلّاب، الذين كلّت أصابعنا من الكتابة السريعة، فنخشى أن تفوتنا كلمةٌ مهمّة، أو جملةٌ مفيدة.
ومع هذه المتعة، ومع هاتيك البشاشة، ومع ذلك الانبساط في المعاملة والحديث، لم يكن أستاذنا ليجانبَ الوقارَ والسيطرةَ على الدرس، وما كان يجرؤ طالبٌ أو طالبةٌ أن يتفوّه بكلمة خارجةٍ عن الموضوع أو مُزاحٍ غيرِ مقبول، أو تصرّف لا يليق، لأنّ الجميع عرفوا أنَّ مع ذاك اللين قوةً هي قوة القادر المتمكن، حتى إنك لا تسطيع أن تسمع همساً.
ومن هنا كانوا إذا تحلّقوا حوله بعد انتهاء الدرس، ووافَوْه بما عندهم من أسئلةٍ طرحوها بأدب جمّ، وأصواتِ منخفضة، ووجوهٍ حيية .. واستمعوا للإجابة بكل اهتمامٍ، وناقشوا بكل احترام.
ومن هنا تخرّج معظمنا حين تخرّجوا ليتسلموا وظائفهم في الثانويات أو الجامعات، فكان كثير منهم يتمثّلون شخصية أستاذنا مع طلابهم، ويحاولون أن يكونوا مثله، يقتدون به. فكان منهم مدرّسون وأساتذة ناجحون.
وأيقنّا جميعاً أنّ أستاذنا قبلَ أن يحمل لهم العلمَ، قدّم لهم التربية، وربّى فيهم الخُلُق بحاله قبل مقاله([1]). رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء.
([1]) للتوسُّع في ترجمته انظر: تاريخ علماء دمشق، الجزء الثالث، 457، عبقريات من بلادي لعبد الغني العطري، ص238، الدكتور شكري فيصل وصداقة خمسين عاماً للدكتور عدنان الخطيب، مجلة مَجْمَع اللغة العربية بدمشق سنة 1406هـ/ 1986م، ولمحمد مطيع الحافظ: (شكري فيصل: العالم الأديب المجمعي) صدر عن دار القلم ضمن سلسلة علماء ومفكرون معاصرون سنة 1431هـ/ 2010م.