ماذا يتبقى من "عبد الرحمن بدوي"!؟

بعد رحيل "الزمان الوجودي"

ماذا يتبقى من "عبد الرحمن بدوي"!؟

زغلول عبد الحليم

(العقل الأوروبي لم ينتج شيئاً يستحق الإشادة)

د. عبد الرحمن بدوي

ولد الدكتور عبدالرحمن بدوي عام 1917 وأتم تعليمه الثانوي بمدرسة السعيدية والتحق بكلية الآداب قسم الفلسفة بجامعة القاهرة وتخرج في 1938 وكان ترتيبه الأول طوال السنوات الأربع وتأثر كما قال بـ: هيدجر ، ونيتشه ومثله هو الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي وصفه بالإنسان الكامل!؟

رحل الدكتور عبد الرحمن بدوي عن عمر يناهز 85 عاماً دافعاً ومروجاً للوجودية كمذهب واعتقاد وقد أعلن ـ رحمه الله ـ موقفه من الدين بكل وضوح.

والحقيقة أن معظم جيل أوائل العشرينات من القرن الماضي من الكتاب والأدباء والأساتذة في مختلف المجالات قد شكلت أفكارهم ومفاهيمهم على نمط مغاير لعقائدهم، فقد شكلت المفاهيم الماركسية والرأسمالية أفكار معظم جيل العشرينات واستطاع الكثير منهم الوصول إلى عقل القارئ خاصة كتاب الرواية الذين وضعوا أفكارهم ومهد لها أبالسة النقاد وقدموها على انها الكلمة النهائية عن (الله  ـ  الكون  ـ   الإنسان) فجاء الإفساد على أحسن ما يمكن، إفساد للرؤية التي يجب أن تكون فبرزت المفاهيم الإنشطارية التجزيئية وحلت محل الحقائق وصار الوضع الثقافي للأمة كلها في حالة من الانحطاط والترهل والتدهور من بداية العشرينات حتى الآن، وهو حالياً يرقد في غرفة الإنعاش.

والدكتور "عبد الرحمن بدوي" تتلمذ على (إلكسندر كواريه) وهو أستاذ فرنسي صاحب مؤلفات في تاريخ العلوم في الفلسفة الألمانية، وعلى الفيلسوف الفرنسي (اندريه لالاند) وعلى عالم النفس (برلو) وعلى الشيخ مصطفى عبد الرازق.

وانتهى رحمه الله إلى أن:

الوجودية خير مذهب فلسفي يطابق روح العصر .. حتى قال يمكن أن تفكيري الفلسفي الخاص بالوجودية قد نبع من منبعين:

فلسفة (هيدجر) !!

نزعات (نيتشه)!!

والدكتور عبد الرحمن بدوي كغيره من كتاب وأساتذة تربوا على ما يناقض العقيدة الإسلامية بشكل تام خاصة بعد أن تتلمذ على يد من ذكرنا سابقاً كما تتلمذ طه حسين على مرجليوت وقد أنكر عبد الرحمن بدوي على طه حسين أن يلقب بلقب عميد الأدب العربي لأنه لم يقدم ما يستحق عليه اللقب (انظر مجلة الحرس الوطني ـ 25/7/2002 ـ 15 جمادي الأول 1423هـ السعودية) والكلام يطول على الأثر السلبي الذي تركه جيل العشرينات من القرن الماضي ومن ناصروه وأيدوه وتعاطوا فكره نعم الأثر السلبي الذي وضع الهزل موضع الجد والانطباع المضلل محل الحقائق المؤكدة، وكذا ما هو أخطر التشكيك في الخطاب الإلهي الأخير  القرآن الكريم فيما تضمنه من أخبار الأمم السابقة خاصة.

هذا الجو السام عاش فيه وانشغل به عبد الرحمن بدوي وغيره من كتاب العشرينات من القرن الماضي حتى الآن عدا قلة قليلة تحاول جاهدة كشف الأباطيل ودحض الشبهات.

لقد تعرض العقل المسلم لأبشع جريمة ثقافية منظمة قادها ما يطلق عليهم كتاب العشرينات من القرن الماضي (معظمهم) أساء (ميخائيل نعيمه) إلى الشعر العربي إساءات بالغة وأفسد (جرحي زيدان) التاريخ الإسلامي بصفة خاصة كما أفسده (فيليب حتى) وأفسد (جبران) اللغة العربية ذاتها وأساء إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إساءات بالغة لا رحم الله فيه مغرز إبرة.

وقد كتب الدكتور "محسن عبد الحميد" في هذا الأمر كتاباً جميلاً شرح جذور البلاء ودور نصاري الشام في الإساءة إلى الإسلام وقدمه في صورة وثائقية، كما قدم الدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب رسالة دكتوراه عن (طه حسين مفكراً) وأبرز دور الأب كمال قلته والآباء الدومنيكان في تشكيل ثقافة الدكتور طه.

وقد حدث مع عبد الرحمن بدوي نفس الشئ ولم يستطع الرجل أن يفلت من الأسر إلا عندما أوشك العمر أن ينقضي وبدأ الرجل يشعر بأن الغرب ككل هو العدو الحقيقي للإسلام بعنصريته البغيضة وإلحاده المقيت.

انتبه الرجل في أيامه الأخيرة. أراد له الله أن يعود إليه بعد اغتراب.

طال لمدة أكثر من نصف قرن!

    المهم أنه عاد ليتبرأ عما صدر منه تجاه العقيدة الإسلامية ويعلن رفضه التام لما يطلقه الفكر الغربي الذي يقوم على المفاهيم اليهودية / النصرانية المستمدة من الترهات المتعلقة بالمصطلحات الشاذة (الخطيئة ـ الصلب ـ  الفداء ـ الغفران) التي تشكل عصب الفكر والمزاج الغربي بالكامل والمبثوثة في ثنايا ما يطلق عليه الكتاب المقدس لدى الكنيسة والتي أطلق عليه القرآن (أهواء) (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ...) قرآن كريم (سورة البقرة ـ الآية: 120)

والصفحات التالية تعرض توبة الدكتور عبد الرحمن وتبين ما ألم به من حزن عميق لبعده الشديد عن الدين وها هو قد عاد بيقين ثابت وقدم لنا عملين عظيمين:

(دفاع عن القرآن ضد منتقديه) 1989.

(دفاع عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضد منتقضية) 1990م والأول هو محور مقالنا هذا وقد نشرته مجلة الأزهر كملحق لها عن شهر رجب 1436 هـ بمقدمة تحليلية للعلامة محمد عماره وصف فيها الكتاب (بالفذ) وهما معاً قمة إبداع الرجل الكبير بعد أن قام بترجمة السيرة النبوية لابن هشام.

    والملاحظ أن كل كتبه (125 كتاب) كانت خارج نطاق المفهوم الإسلامي عن (الله ـ الكون ـ الإنسان) ولكنه رحمه الله عاد وقد شغله المفهوم الحقيقي عن الخالق والمخلوق.

ويقول مترجم الكتاب:

ولقد انتهى المطاف بالدكتور بدوي إلى الإقامة بباريس في السنوات الأخيرة من حياته .. وهناك واجه صعود ظاهرة العداء للإسلام، التي عمت الكثير من المجتمعات الغربية، وخاصة بعد سقوط المنظومة الشيوعية، وتوحد قبضة الحضارة الغربية، واتخاذها الإسلام عدواً أحلته محل الخطر الشيوعي الأحمر .. فكان ختام حياته الفكرية بالدفاع عن الإسلام والقرآن ونبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) مفنداً الجذور الفكرية الاستشراقية التي تغذي ظاهرة (الإسلاموفوبيا) .. وذلك بعد أن عاش ردحاً من الزمن بنشر في الثقافة العربية مناهج الاستشراق والمستشرقين.

فقبيل سقوط الشيوعية، نشر الرئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون) (1913– 1994م) –وهو مفكر استراتيجي– كتابه (الفرصة السانحة) الذي أعلن فيه الحرب الغربية على الأصولية الإسلامية –التي تدعو-حسب رأيه-إلى:

استرجاع الحضارة الإسلامية السابقة، عن طريق بعث الماضي، لاتخاذه هداية للمستقبل.

والسعي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية.

واتخاذ الإسلام ديناً ودولة.

وفور سقوط الشيوعية –الخطر الأحمر-قرر الغرب الإمبريالي الرأسمالي، اتخاذ الإسلام عدواً بديلاً للخطر الأحمر –وشن عليه حملة واسعة من الكراهية والتخويف والتزييف .. فكتبت مجلة [شئون دولية] – التي تصدر بلندن عن جامعة كمبردج – تقول: (لقد شعر الكثيرون بالحاجة إلى اكتشاف تهديد يحل محل التهديد السوفييتي، وبالنسبة لهذا الغرض فإن الإسلام جاهز في المتناول! . . فالإسلام مقاوم للعلمنة، وسيطرته على المؤمنين به قوية، وهي أقوى الآن عما كانت من مائة سنة مضت لذلك فهو، من بين الثقافات الموجودة في الجنوب، هو الهدف الماشر للحملة الغربية الجديدة ليس لسبب سوى أنه الثقافة الوحيدة القادرة على توجيه تحد فعلي وحقيقي لمجتمعات يسودها مذهب اللا أدرية، وفتور الهمة واللامبالاة، وهي آفات من شأنها أن تؤدي إلى هلاك تلك المجتمعاتمادياً، فضلاً عن هلاكها المعنوي.

ولقد تبارى المفكرون الاستراتيجيون الغربيون في التحذير من الإسلام، وفي تأجيج نيران العداء له، وإعلان الحرب عليه .. فكتب (فوكوياما) ويقول: (إن الإسلام هو الحضارة الوحيدة في العالم التي ترفض الحداثة الغربية، ومبدأها الأكثر أساسية وهو العلمانية .. وإن الصراع الحالي ليس ضد الإرهاب، ولكنه صراع ضد العقيدة الإسلامية الأصولية التي ترفض الحداثة والدولة العلمانية .. وهذا الصراع يمثل تحدياً أيديولوجياً، هو في بعض جوانيه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية) !

ولقد انضم (فيلسوف صدام الحضارات) (صموئيل هنتجتون) [1927 – 2008م] إلى (فوكوياما)، وأعلنا ضرورة قيام (حرب داخل الإسلام، حتى يقبل الحداثة الغربية، والعلمانية الغربية، والمبدأ المسيحي: فصل الدين عن الدولة)!

ويعلن الكاردينال (بول بوبار) مساعد بابا الفاتيكان- : (إن الإسلام يشكل تحدياً لأوربا وللغرب عموماً .. وأن هذا التحدي يكمن في أنه دين وثقافة ومجتمع وأسلوب حياة وتفكير وتصرف، في حين أن المسيحيين في أوروبا يميلون إلى–تهميش الكنيسة- أمام المجتمع)

ويعلن المونسنيور (جوزيبي برنارديني) في حضرة بابا الفاتيكان-: (أن العالم الإسلامي لديه برنامج للتوسع في أوربا وهو يريد أن يفتحها فتحاً جديداً) !

وتنصح مراكز الدراسات الغربية –وفي المقدمة منها (مؤسسة راند) الأمريكية– صانع القرار الغربي بالاعتماد على الحداثيين والعلمانيين في العالم العربي والإسلامي، لاستخدامهم في الصراع ضد الإسلاميين الأصوليين والراديكاليين !

ويجد الدكتور عبد الرحمن بدوي كل معالم هذه الحرب على الإسلام –في فرنسا والغرب في السنوات التي عاشها هناك .. وفي مواجهة هذه التحديات انتفض عقل الدكتور بدوي، فعاد بكل كيانه إلى أصالته الحضارية، وبدأ مرحلة إيابه الفكري ودفاعه عن الإسلام .. والقرآن .. ورسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) .. ويومها قال: (إن عنصرية الغربيين ضد الإسلام واضحة .. فالغرب، فيما يتعلق بالإسلام، يكيل ليس بمكيالين فقط، بل بعشرة أو ربما بمائة مكيال .. فهو أكثر عنصرية ووحشية مع الإسلام مما يمكن أن نتصور .. وفي مكتبات باريس عشرات الكتب التي تقطر سما على الإسلام .. بل إن الكتابة في الإسلام قد أصبحت حكراً على ذوي الخط الأعوج! .. إن كل من هب ودب من الغربيين بات يعطي نفسه الحق في الحديث عن الإسلام، وترجمة قرآنه المجيد. وقد تألمت كثيراً لأن باحثاً يهودياً يدعى (أندريه شوراكي) (كان يشغل منصب عمدة القدس) قام بوضع ترجمة للقرآن الكريم هي عار على الترجمة والمترجمين في كل زمان، لأنها مليئة بالاعتداءات الصارخة على قداسة النص القرآني! .. إن الغرب لا يريد أن يفهم من الإسلام إلا ما يريد هو أن يفهمه، ولذلك يرحب ويفسح المجال أمام ترجمة مؤلفات الكتاب العلمانيين دون غيرها .. إنهم يحرصون على ترجمة مقالات الكتاب العلمانيين، أمثال فرج فودة وسعيد العشماوي وفؤاد زكريا -التي جمعها وترجمها من العربية إلى الفرنسية المستشرق جيل كيبيل.

ولقد لاحظت أن حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) أصبحت تلو كها –عن علم أو عن غير علم– ألسن الأدعياء من الكتاب الغربيين. ولذلك أردت أن أقطع عليهم هذا العبث، فقمت بترجمة – السيرة النبوية لابن هشام، وأنفقت فيها عامين كاملين من العمل المتواصل.

وبهذه الترجمة أكمل سلسلة الكتب التي أدافع بها عن الإسلام –بالفرنسية– وأهمها: [دفاع عن القرآن ضد منتقديه] سنة 1989م و [دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره] سنة 1990م.

إن هناك جرأة جهولة حمقاء عند هؤلاء الكتاب الأجانب، الذين يجهلون العربية، مع معلومات ضحلة عن المصادر الإسلامية، وسيطرة الحقد الدفين لديهم ضد الإسلام، ونقلهم الأكاذيب والإفتراءات حول القرآن الكريم والإسلام بعضهم من بعض، والتزامهم التبشيري الشديد التعصب والاجتراء على الإسلام .. لذلك كرست جهودي في السنوات الأخيرة للدفاع عن الإسلام، وتصديت بالتفنيد والتحليل لكل الكتابات الغربية المغرضة ..

وأعتزم كتابة دراسة نقدية لكل الترجمات الفرنسية التي صدرت عن القرآن الكريم في السنوات العشر الأخيرة)

كذلك وجد الدكتور بدوي – بباريس – نماذج من الأساتذة والباحثين "العرب" الذين سقطوا في غواية الاستشراق الغربي، فأصبحوا خدماً لهذه المخططات الاستشراقية – ومن هؤلاء د.محمد أركون – الذي قال عنه الدكتور بدوي : (.. وهل لأركون من رسالة سوى تشويه التراث الإسلامي؟! .. إنه تلميذ في مدرسة الاستشراق الاستعماري الكبرى التي تضع نصب عينيها كهدف ثابت تشويه الإسلام والإساءة إلى نبيه والطعن في قرآنه المجيد، وهو يحيط نفسه بمزاعم معرفية لا أساس لها .. وهو مشكوك في وطنيته .. لقد جنى على الفكر العربي جناية لا تغتفر .. ولقد كتب مقدمة للترجمة (كازيمسكي) للقرآن الكريم حوت أخطاء ومغالطات لا تكاد تغتفر لدارس مبتدئ في تارخ الفكر الإسلامي)!

وفي باريس، رفض الدكتور بدوي استقبال أستاذ مصري للفلسفة .. معللاً ذلك بأن هذا الأستاذ ( قد أعتنق النصرانية لمدة لا تقلل عن عشر سنوات عندما كان يدرس في فرنسا وكان ينام الليل والنهار في الدير لا يبرحه)!!

هكذا انتفض عقل الدكتور عبدالرحمن بدوي .. وانتفض وجدانه، فعاد إلى أصالته الحضارية، مدافعاً عن الإسلام وعن القرآن وعن رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم).

وقبل شهر من وفاته – التي جاءت في 25/7/2002م – 15 جمادي الأول سنة 1423هـ وهو على فراش المرض – أجرت معه مجلة [الحرس الوطني] السعودية – حواراً أعلن فيه صراحة إيابه الفكري إلى الإسلام وحضارته .. وطيه لصفحة الوجودية التي ااستغرقت من حياته عدة عقود .. وفي هذا الحوار سأله مندوب المجلة:

-  ماذا تود أن تقول وأنت على فراش المرض؟

-  لا أستطيع أن أعبر عما بداخلي من إحساس الندم الشديد، لأنني عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف قرن. أشعر الآن أنني بحاجة إلى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق، لكي أعود من جديد مسلماً حقاً، إنني تبت إلى الله وندمت على ما فعلت، وأنوي إن شاء الله –بعد شفائي- أن أكون جندياً للفكر الإسلامي وللدفاع عن الحضارة التي شادها الآباء والأجداد، والتي سطعت على المشارق والمغارب لقرون وقرون.

-  وهل تبرأت من كتاباتك السابقة عن (الوجودية) و(الزمن الوجودي) وعن كونك رائد الوجودية في الوطن العربي ؟!

-  نعم .. أي عقل ناضج يفكر لا يثبت على حقيقة واحدة. ولكنه يتساءل ويستفسر ويطرح أسئلته في كل وقت، ويجدد نشاطه باستمرار، ولهذا، فأنا في الفترة الحالية أعيش مرحلة القرب من الله تعالى، والتخلي عن كل ما كتبت من قبل من آراء تتصادم مع العقيدة والشريعة، ومع الأدب الملتزم بالحق والخير والجمال، فأنا الآن .. هضمت تراثنا الإسلامي قراءة وتذوقاً وتحليلاً وشرحاً وبدا لي أنه لم يتأت لأمة من الأمم مثل هذا الكم الزاخر النفيس من العلم والأدب والفكر والفلسفة لأمة مثل أمة الضاد!! وكما أني قرأت الآدب والفلسفات الغربية في لغاتها الأم، مثل الإنجليزية والفرنسية واللاتينية والألمانية والإيطالية، وأستطيع أن أقول إن العقل الأوروبي لم ينتج شيئاً يستحق الإشادة والحفاوة مثلما فعل العقل العربي!! . وتبين لي –في النهاية- الغى من الرشاد، والحق والضلال.

-  وماذا تنوي أن تقدم من مشاريع فكرية في المستقبل؟ وهل ستعود إلى باريس ثانية؟

-  مشاريعي الفكرية القادمة إن شاء الله تتجه وجهة فكرية أخرى، تميل إلى الأصالة بعد أن افتضحت (المعاصرة) وغزاها الجحود والتخلف والتعقيد.

    وأنا من الباحثين عن أسس مرجعية للحضارة الإسلامية، وبصدد تأليف كتاب يكون مرجعاً لمعالم الحضارة في الإسلام، سماتها، أسماؤها، ومعالمها، اتجاهاتها، شخصياتها، أبرز علمائها .. إلخ .. وهناك كتاب أخر عن الأدب والعقيدة دراسة في نماذج مختلفة وغير ذلك من الموضوعات التي تمتاح في الأصالة وتتعمقها وتنشر بها أصلاً ونبراساً وطريقاً ولا محيد عنه. وربما أعود إلى باريس ثانية.

-  خلافك مع كبار المفكرين كالكتور طه حسين، وقولك إنه لم يقدم ما يستحق عليه لقب "عميد الأدب العربي"، هل مازلت مصراً عليه؟!

-  نعم .. وليقارن القارئ والباحث بين إنتاج طه حسين وإنتاج معاصريه، كالرافعي مثلاً، ذلك الأديب الكبير المظلوم، الذي يمتلك قدرات ومؤهلات أدبية وفكرية خارقة وصاحب قلم رشيق، وخيال خصب، وعبارات مبتكرة، وكتابات توزن بميزان الذهب، بنما نجد على النقيض أعمال طه حسين الضاربة في اتجاه معاداة الإسلام واللغة العربية والدعوة إلى الفكر الغربي، ثقافة وأدباً!!!

-  وما رأيك في الحداثة بعد أن افتضح أمرها، وثارت حولها القصص والحكايات بشأن التمويل والعلاقات المشبوهة مع المخابرات الغربية؟! .

-  الحداثة ماتت في الغرب في السبعينيات، لكننا أحييناها على ترابنا، وفي جامعتنا ومعاهدنا، وفي منتدياتنا الفكرية والقافية والأدبية. وعادينا من أجلها تراثنا العظيم، وشعرنا العمودي، وفكرنا القويم، وخضنا بسببها حروباً طاحنة، واشتباكات فكرية لاطائل من ورائها! . ولم يفطن أدبائنا ولا مفكرونا إلى حقيقتها وإلى أوزارها ومساوئها إلا بعد صدور هذا الكتاب [الحرب الباردة الثقافية .. دور المخابرات المركزية الأمريكية في الثقافة والفن] الذي أحدث صدمة قوية بالنسبة لهؤلاء المتغربين، فاقتنعوا أخيراً بما كنا نقوله من قبل!

-  يهاجم الجميع العولمة، لما يكتنفها من هيمنة وغزو وسيطرة، ومحق لثقافات وتجهات وهويات الآخرين الحضارية .. فما رأيك في ذلك؟!

-  العولمة .. شبح يريد الفتك بنا جميعاً، فهي وحش كاسر يتربص بالعالم كله، لكي يستحوذ عليه ثقافياً وفكرياً وحضارياً واقتصادياً وعسكرياً، وهي استعمار جديد، وهيمنة غربية على مقدرات العالم، ولعقوله وأفكاره وأمواله! . ويجب أن نتصدى لها، وأن نفيق لمخططاتها الجهنمية! .

-  وهل تقدرون مغبة عودتك الحميمة للإسلام، بالنسبة للحداثيين والعلمانيين الذين سيشنون حرباً شرسة ضدكم؟!

-  ما دمت قد هاجمت الأصلاء وعرضت بهم وبإنتاجهم لسنين وسنين، فما المانع أن أذوق من نفس الكأس، وأن أشرب منه، بعد أن تسببت في تجرع الكبار من هذه الكأس من قبل؟! . وأنا سعيد بأن يهاجمني الوجوديون والعلمانيون والشوعيون، لأن معنى ذلك أني أسير على الحق، وأنني على صواب. ولا أكترث بما يكتبون، لأن القافلة تسير، والكلاب تنبح!!

-  وماذا تتمنى في هذه اللحظة؟!

-  أتمنى أن يمد الله في عمري، لأخدم الإسلام، وأرد عنه كيد الكائدين، وحقد الحاقدين.

رحم الله الدكتور عبدالرحمن بدوي .. الذي مثل – في عالم الفكر –مؤسسة فكرية كبرى .. والذي مثل – في عالمالشجاعة الأدبية والإياب الفكري- نموذجاً في الأنتصار للحق جديراً بالاحتذاء.

والذي ترك وراءه مئات المقالات وآلاف المحاضرات والعديد من التلاميذ- مؤلفات ومترجمات وتحقيقات زاد عددها على المائة والخمسين.

ولكن ماذا يتبقى من الأستاذ الدكتور "عبدالرحمن بدوي" يشغلني للغاية ما تبقى. لأن ما تبقى شغل عقول كثيرة من أبناء الأمة واعتبره الكثير المنهاج الصحيح للحياة !! أعني الأثر السلبي لمؤلفات الرجل.

   غفر الله لنا ولأستاذنا الكبير الدكتور عبدالرحمن بدوي وتقبله في الصالحين.