صلاح أبو إسماعيل: الشيخ الحليم الرشيد

عبد السلام البسيوني

صلاح أبو إسماعيل:

الشيخ الحليم الرشيد

عبد السلام البسيوني

هل نَسيتُم أبا حازم عليه رحمات الله؟ لقد كان معنا في الدوحة قبل مدة وجيزة..

نعم؟ مدة وجيزة؟! لقد فجعت حين فتشت عن تاريخ وفاته، فوجدته قد تركنا منذ أكثر من ثمانية آلاف يومٍ تقريباً، مثل هذه الأيام منذ نحو اثنتين وعشرين سنة كاملة (2851990 م) حين ترك قطر، ماراً بأبو ظبي، ليلقي بعض الدروس الرمضانية، ثم المحاضرات العلمية، وفي المطار فاضت روحه إلى بارئها الرحمن الرحيم، لنُفجع في عَلم من الأعلام الذين لا عوض عنهم، كنت أظن أنه مات منذ ثلاث أو أربع سنين، عليه رحمات الله ورضوانه.

على بشاشة وجهه، ورقة نفسه، ولطف طبيعته، كان صقراً من صقور العمل الإسلامي؛ لا يرضى لدينه بالدنيّة، بل يناضل ويبذل لتعلو كلمة الإسلام؛ عبر المنابر السياسية الرسمية، وكانت له صولاته وجولاته في مجلس الشعب، دفاعاً عن الشريعة، ومناداةً بتطبيقها.

الصقر:

شاغب، وقدّم طلبات إحاطة، ومشروعات قوانين، كما أعد مسودات لقوانين الشريعة الإسلامية، كانت جاهزة لتقديمها عند الطلب.

وخذ عند حضرتك:

قدم استجوا باً لرئيس الوزراء عن تصريح الرئيس السادات - رحمه الله – كما كتب الشيخ المجذوب - رحمه الله - بأنه لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين، وحشد في هذا الاستجواب الأدلة على كمال السياسة الإسلامية، وتَفَوقِها على كل نظام؛ في تأمين العدالة والأمن لأصناف البشر، على اختلاف معتقداتهم.

ولما جبن رئيس مجلس الشعب عن تقديمه كما عبر الشيخ ذهب به إلى د. زكريا البري وزير الأوقاف، ليبلغه الرئيس، مندداً أيضاً بقوله إن قدوته مصطفى كمال أتاتورك!

واستجوب جمال ناظر وزير السياحة لسماحه بالخمر بالمدرسة الفندقية في بلد دينه الرسمي الإسلام!

واستجوب الدكتور عبد المنعم الصاوي وزير الإعلام، الذي صرح في زيارة لأميركا، بأن مصر لن تطبق الشريعة الإسلامية! وكان الاستجواب سبباً في إخراجه من الوزارة؛ اتقاء للحرج البالغ الذي كانت ستتعرض له الدولة لو نُظر هذا الاستجواب!

واستجوب د. عبد المنعم النمر لتفريطه في استرداد أموال الأوقاف المنهوبة.

وتصدى لقانون الأحوال الشخصية المسمى، بـ (قانون جيهان) مواجهاً أصحاب الفضيلة الدكاترة: عبد المنعم النمر وبيصار وجاد الحق رحمهم الله أجمعين.

وانتهز وجود نحو ثلاثمائة من أعضاء مجلس الشعب في مكة لأداء العمرة في يناير 1979م ليعاهدوا الله أمامه في الحرم الشريف أن تكون أصواتهم لشرع الله، لا يغلبهم على ذلك انتماء حزبي، فعاهدوه، فكان أن حل الرئيس السادات رحمه الله مجلس الشعب، وطار معظم هؤلاء عن كراسيهم.

ووقف بقوة مسانداً الشريعة الإسلامية، حتى نصت المادة الثانية من الدستور على أنها المصدر الرئيسي للتشريع، ولم يكن هذا النص موجوداً من قبل.

واستجوب وزير العدل حين خالف فضيلة المفتي الشيخ جاد الحق علي جاد الحق قرار مجمع البحوث الإسلامية، الذي يقضي بأن ثبوت هلال رمضان في بلد يوجب على جميع البلاد الإسلامية المشتركة مع بلد الرؤية في جزء ويسيراً من الليل تصوم، وقد ثبت الهلال عاماً من الأعوام في العراق والكويت واليمن، فلم يعتمد المفتي هذا الثبوت.

واستجوب المرحوم المستشار أحمد سميح طلعت وزير العدل، في يناير 1977م، بأنه لم يقدم ما عند وزارة العدل من تشريعات إسلامية خلال خمسة أشهر كما طلب منه - فكانت النتيجة أن أُجري تعديل وزاري، لم يخرج بمقتضاه من الوزارة سوى وزير العدل، ليسقط الاستجواب!

يوم من أيام الله

رغم اعتلال صحته، وخيانة عظامه له، كان يملك قلب أسد، ولم يكن كالشيوخ الآخرين الذين لم تزد علاقتهم بالشباب عن أن تكون تليفزيونية دعائية، بل كان دائماً وسط الشباب: يستمع لهم، ويطمئنهم، ويجيب عن مسائلهم مهما كانوا غلاة أو مسيئين فقد كان يرى أن مواجهة الغلو والانحراف لا تكون بقتل أولئك، ولا مطاردتهم، ولا سجنهم، ولا القسوة عليهم، ولا جبههم وتعنيفهم، بل كان يرى أن الاستماع لهم ومحاورتهم خير دواء للغلو والانحراف، لذا فإنه لم يتردد لحظة في الوقوف بجانبهم لمَّا استدعي للشهادة، وكانت شهادته ذات ثقل هائل في إنقاذ شبان كثيرين من حبل المشنقة، وقت كان عديد من العلماء الكبار بعيدين عن الساحة، ومستمتعين بالمكيفات والبدلات والامتيازات، ولا يكتبون عن الشباب إلا لائمين، أو متهمين عائبين، مع حاجة الميدان لهم بشدة.

في مقالة كتبها الشيخ أسامة حافظ عنوانها: كلمة حق، في زمن عزَّ فيه الحق، جاء (باختصار مني يسير، رغم إطالتي في النقل هنا):

" في مثل هذه الأيام منذ قرابة الثلاثين عاماً مايو 1982م، قدمنا لرئيس المحكمة المستشار عبد الغفار محمد قائمة سجلنا فيها أسماء بضعة عشر عالماً من شتى أنحاء العالم الإسلامي، ندعوهم للحضور شهوداً في القضية؛ لمناقشة ما كانت تحمله القضية والأحداث والمحاكمة من فكر، ومدى مشروعيته".

كانت القائمة تحمل أسماءً من ذوي الوزن الثقيل ممن اشتهروا بالعلم، وطبقت شهرتهم الآفاق.

وترقبنا قرارها، وكلنا في قلق أن ترفض، كما رفضت المحكمة العسكرية قبلها بشهور، مكتفية بالخلفية الجنائية للحدث، متجاهلة أن القضية في ذلك الوقت كانت أكبر وأشهر قضية سياسية ودينية شهدتها المحاكم المصرية طوال تاريخها.

ولكن المحكمة والحق يقال كانت حريصة على استقصاء جوانب القضية، وخاصة الشق الديني الذي بُني عليه الحدث.

ورغم كثرة الأسماء المعروضة وشهرتهم العريضة إلا أن المحكمة راعت في اختيارها كلا الشقين الديني والسياسي فيمن وافقت عليه. فاستدعت الشيخ الجليل صلاح أبو إسماعيل ليُدلي بشهادته في الشق الفكري في القضية، وما كان أعظمه من اختيار.

كنا نعرف الشيخ جيداً من خلال سباحتنا في بحر الدعوة كعلم من أعلامها، وإمام من الأئمة المقتدى بهم؛ فقد اشتهر بجهاده في مجلس الشعب في سبيل تطبيق الشريعة، صادعاً بكلمة الحق. وقد عرفناه على المنابر، وفي قاعات المحاضرات، وفي المؤتمرات، يدافع عن الدين ويذود عن حياضه.

وقد حمل لواء الدعوة، وابتُلي في سبيلها ولم يتراجع. والتقينا به كثيراً، ودعوناه في معسكراتنا ومؤتمراتنا، وفي مساجدنا. وكنا نرى فيه إماماً من أئمة الهدى، وبقية من حملة هدي سلفنا الصالح تتلمذنا على علمه ومواقفه وجهاده.

 وأمّلنا أن تكون المحاكمة وما كانت تلقاه من زخم إعلامي فرصة لطرح القضية الإسلامية، وقضية تطبيق الشريعة علي قمة هذا الزخم من خلال هذه الشهادة.

ولم يخيب الشيخ أملنا فيه، وقَبِلْ دون تردد رغم ما يحوط هذا القبول من محاذير وحمل مسؤولية هذه الشهادة أمام الله أولاً، ثم أمام الناس وفي يوم من أيام الله شهدت قاعة محكمة أمن الدولة بالعباسية الشيخ وهو يتقدم بتؤدة ووقار نحو موقفه أمام القاضي، بينما تصاعد هتافنا يزلزل القاعة: "الله أكبر الله أكبر، فليرتفع صوت الأزهر/ الله أكبر الله أكبر، فليرتفع شأن الأزهر".

وبدأت كلماته تتوالى، والكل صامت كأن على رؤوسهم الطير؛ فما ترك كلمة حق له فيها مقال إلا قالها، لا يهاب فيها أحداً، ولا ترك خللاً إلا سعى في تقويمه، ولا ترك موقفاً لله فيه مقال وتردد لحظة في قوله! وقد كنا نشعر أنه لا ينظر في مقاله إلى أحد، ولا يشعر بأحد حوله، إلا نظر الله إليه واطلاعه على عمله.

مرت الجلستان التي أمتعنا فيهما كأنها لحظات، وشعرنا جميعاً أن كلماته غزت القلوب، وحركت المشاعر، وكثيراً ما أشفقنا عليه من بعض ما قال، ولكنه لم يكن يشغله من ذلك شيء.

ولأن ما كان لله بورك فيه ووضع له القبول بين الناس، فإن شهادته هذه ما إن نشرت حتى أحدثت دوياً وحراكاً في المجتمع الإسلامي، وبادر عدد من العلماء الأجلاء يضيفون إلى ما أثار الشيخ من قضايا فيضاً من علومهم، ومزيداً من الدعم.

الحليم الرشيد

هناك شيوخٌ شيوخ، يبدو عليهم السن، وضيق الصدر، والتبرم بما لا يعجبهم ولا يرضيهم، وهناك شيوخ شباب، شيوخ في أعمارهم لكنهم قريبون من الشباب في عقولهم، يقدّرون العنفوان، ويعذرون أصحابه، تعلو وجوهَهم ابتسامة، ولهم في الأمور حُسن تأتٍّ، وفيهم صبر على خطايا الشباب وأخطائهم، ليسوا رسميين دائماً، وليسوا متجهمين دائماً، أسوتهم في ذلك الأعظمُ محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الرؤوف الرحيم، الذي جاءه الشاب الفائر يستأذنه في الزنا، فلم يلعن جدوده، ولم يضربه بالحذاء، ولم يقل له: يا بن الأفاعي، ولم يرَ أنه كفر بهذه الفلتة الشبابية، بل مسح على صدره، ودعا له، ثم حاوره وأقنعه، حتى قام من بين يديه راضياً طاهر الصدر!

أسوتهم الرؤوف الرحيم الذي رأى بعينه الرجل البدوي (يبول) في المسجد، فنهى الصحابة أن يقطعوا عليه بولته، وما نهره، ولا أمرهم أن يسحلوه، أو يجعلوا جلده (شوارع( ومِزَقًا.

أسوتهم النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، الذي كان عنفوانُ الشباب يتجلى في حضرته صريحاً، في سلوك عمر وخالد وغيرهما، فاستطاع صلى الله عليه وسلم أن يكفكف اندفاعهم، ويكبح جموحهم، ويصوغهم بعدُ رحمةً تمشي على الأرض.

كذلك كان أبو حازم أحسبه والله حسيبه الرجل البشوش الودود الرفيق، الفذ في الصبر على الشباب، وفي احتمال جهالاتهم، الذي لم تفارق الابتسامة وجهه منذ رأيته لأول مرة في الجامع الأزهر عام 1980م حتى لقي الله تعالى وقد رأيته بين ذلك عشرات المرات وكان قبلها بأيام قد قال لجلسائه: وداعاً؛ فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، وكأنما أُلهم هذه الكلمة إلهاماً.

ما رأيته رحمه الله تعالى إلا باشاً، مبتسماً، ضحوك الأسارير، يُحسن الاستقبال، ويتلطف في المجاملة، لذا فقد كان مجلسه الرمضاني في فندق الواحة بالدوحة القطرية غاصاً دائماً بالشباب، ينصحهم، ويوجههم، ويبتسم لهم، ويصبر على جرأتهم، حتى إنني أزعم وأرجو أن أكون صادقاً أنه لم يترك بعده مثله، في حلمه وسعة صدره.

كان بعض الجُرآء من الشباب يجبهونه أحياناً، ويجهلون عليه، فيبتسم، ويرد عليهم بمنتهى الهدوء، في حين كان يأتي غيرَهُ الشابُّ ليسأله، فيسبه، ولو كان بوسعه أن يضربه بـ (الجزمة) لفعل!

كان يتلقى الشاب فيرحب به كأنه صديقه الأثير، ويوسع له، ويهش في وجهه..

زرته الساعة الخامسة مساءً، في بيته بالدقي في القاهرة مع فريق من التلفزيون القطري، لتسجيل حلقات معه، فلم يخرجني ومن معي إلا في الثالثة صباحاً، عشر ساعات وهو جالس يسامرنا بمنتهى الحيوية واللطف والكرم.

ليلة صلاحية

أراد ليلتها أن "يعشينا" وكنا أربعة، فاتصل بأحد المطاعم الكبرى، وقال "للشيف": عندي أناس من قطر، كلما زرتهم ذبحوا لي أربعة خراف، وأريد منك أن تثبت لهم أن المصريين يمكن أن يكرموا الضيف، فهيئ لنا عشاءً يليق بك وبهم، وفعلاً كانت "العشوة صلاحية" باذخة، أكلنا حتى انتفخنا، وضحكنا حتى استلقينا، وصوّرنا، وانتفعنا، وتعرفنا على الأستاذ حازم لأول مرة، وتركنا الشيخ واسع الأفق، فلم نسجل معه!

وليلتها أبشَمَنا طرائف و" نكتاً " وحكايات جعلتني أتوسل إليه أن "يخف شوية" حتى أصل إلى بيتي سالماً، فقال ضاحكاً: أقول لك حاجة أنيل من دا كله: بينما كنت جالساً معه، دخل فلان علينا، قائلاً في قرف: تصور يا باشا، العيال ولاد ال ... بيقولوا إن الخمرة حرام! فانتفضت واقفاً وقلت له:

- همّا رجالتك بيقولوا إن الخمرة حلال؟!

- وإيه رأيك انت يا.. يا باشا؟.. وخرجت من مكتبه غاضباً!

كان منتمياً للإخوان المسلمين، متعصباً لهم، حتى إنه قال أمامي: لو قُتلت وسال دمي على الأرض لكتب دمي: الله أكبر ولله الحمد، وكان يقول: إن الإخوان إذا أغلقوا في وجهه الباب فإنه سيدخل عليهم من الشباك؛ ومع ذلك فقد كنت تجد في مجلسه السلفي والتبليغي والإخواني والأزهري، لا فرق، ولا عصبية، وهذا فرق كبير بينه وبين غيره، لا يقدر عليه كثيرون غيره، ممن يتعصبون للافتات أكثر من عصبيتهم لمحمد (صلى الله عليه وسلم)!

لنصلح الدنيا بالدين

وقد بدأت علاقته بهم، وبدأت رؤيته في التغيير عن طريق السياسة، إثر حديث سمعه من الشيخ المجاهد عبد القادر عودة وكيل جماعة الإخوان، ألقاه ذات خميس في المركز العام..

يقول رحمه الله: حضرت ذلك الاجتماع، وكان تقديري السابق أن الدكتور عودة كاتب ومفكر أكثر منه متحدثاً، ومع ذلك فقد استهواني حديثه ذاك، وترك في نفسي من التأثير ما جعلني أعتقد أن تغيير الفكر أساس لتغيير السلوك..

وكان مما قاله يومئذٍ:

" نحن في بلد يحكمه نظام دستوري، أساسه سلطة الأغلبية، فإذا استطعنا أن نحشد الأكثرية تحت شعار "لا حكم إلا بالقرآن" فذلك هو السبيل الدستوري لتطبيق الشريعة الإسلامية".

بهذه الكلمات الموجزات تحققت أن الأزهر يعلم ويفقه وينشر دعاته ووعاظه وخطباءه في كل مكان، ولكنه لا يهتم بمبدأ تجميع الأغلبية، للمناداة بالمطلب الواحد، الذي هو تطبيق النظام الإسلامي الحاكم، على حين يصب الإخوان الرأي العام في قوالب دستورية؛ أخذاً بالأسباب الموصلة إلى ذلك الهدف، دون التفات إلى أهواء الناس، بل التزاماً بقول الله تعالى:

(إنما كان قول المؤمنين إذا دُعُوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون).

ومن هنا بدأ يهتم بالسياسة، وآمن بالتغيير عن طريق القنوات الدستورية، فرشح نفسه فيما بعد لمجلس الشعب، واكتسح الآخرين، حتى إنه سبق منافسه بنحو أربعين ألف صوت، كما سمعت من فمه رحمه الله تعالى.

يقول رحمه الله: " خضت المعركة الانتخابية في المرتين الأولى والثانية سنة (1976، 1979م) تحت شعار "أعطني صوتك لنصلح الدنيا بالدين".

وقلت لجماهير الناخبين: لو أن شيوخ الإسلام بُعثوا من قبورهم، وانضموا إلى المعاصرين، وملؤوا الدنيا خطابة ومناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية، ما استطاعوا غير تعبئة الرأي العام، وللرأي العام قوته وأثره، ولكن لا سبيل إلى تغيير القوانين الوضعية لتكون شرعية إلا عن طريق مجلس الشعب، الذي له وحده سلطة التشريع، واستجاب الناخبون بما يشبه الإجماع المنقطع النظير، وبحماسة متدفقة؛ على الرغم من موقف السلطات، التي كانت تستهدف إسقاطي في الانتخابات بتخطيط ظالم.

وكان الإخوان يُعجبون بموقفه السياسي، ويباهون به، ويدعمونه، ويرون سبيله السبيل، وقد صرح بذلك أستاذي القرضاوي في إحدى حلقات الشريعة والحياة عن الإسلام والسياسة، مع عبد الصمد ناصر، فقال:

أخونا وصديقنا رحمه الله الشيخ صلاح أبو إسماعيل كان داعية من الدعاة المتميزين، وله تأثيره في جمهوره، وله أسلوبه الخاص، ولكنه رأى أن يستغل حب الناس له في دائرته، وإقبال الناس عليه، ودخل البرلمان مرات عديدة، وحاولوا أن يسقطوه فلم يستطيعوا، الناس كانت تستقتل لتحمي الصناديق حتى لا تُغيَّر ولا تُزوَّر؛ فالشيخ صلاح أبو إسماعيل اشتغل بالدعوة واشتغل بالسياسة، لمَ لا؟!

تجاهله الإعلام المصري – كما تجاهل العلامة (أبو زهرة) بعد تحركه السياسي، ونيله عضوية مجلس الشعب فليس له تسجيل فيه ولو لخمس دقائق كما سمعت من فيه رغم أنه سجل خارج مصر مئات الحلقات، وعشرات البرامج، وشارك في تفسير كتاب الله تعالى، في تسجيل كانت تعرض حلقاته في كل دول الخليج في آنٍ معاً، وكان شركاؤه في هذا التفسير الشفوي من كبار علماء الأزهر في هذا الوقت: الغزالي والقرضاوي وعبد المعز عبد الستار، وحسن عيسى عبد الظاهر، وسيد طنطاوي، ومحمد المهدي، رحم الله من مات منهم ومتّع بمن هم بيننا! بجانب كمية هائلة من المحاضرات والدروس الوعظية والعلمية!

يقول في ذلك رحمه الله تعالى: ومما هو جدير بالذكر أن الإعلام المصري، الذي قدمت من خلاله الكثير من الأعمال الدينية في الإذاعة والتلفاز على مدى سنين، قد أدار لي ظهر المجن منذ دخلت مجلس الشعب، وارتفع صوتي بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، فقد صدرت الأوامر بمنع التعامل معي في الإعلام المصري منذ العام 1978م، ولكن رحمة الله لا تنتظر أوامره..

لقد ردّني ذلك إلى حديث كتبه المغفور له الإمام محمد أبو زهرة ذات يوم، وفيه يقول:

" إن بعض الفضلاء قد سأل مدير التلفاز المصري عن السبب في استبعاد أبي زهرة عنه، فكان جوابه: لأني لا أستريح إليه! وما كان أبلغ رد الإمام على ذلك الجواب العجيب حين قال: لقد نسي هذا المدير أن تلفاز مصر ليس مُلكاً له، ولا هو غرفة من منزله؛ ليستقبل فيها من يشاء، ويقصي عنها من يشاء.

ضِخامٌ سِمان

كنتُ أدل عليه أحياناً رحمه الله ويحتملني، قلت له ذات مرة: أنت والقرضاوي والغزالي (ضِخامٌ سِمان) تسدون الأفق، ولا تتركون فرجة للدعاة الشبان، ولا تسمحون لهم بالتنفس، فهلا فسحتم لهم قليلاً ليشموا شيئاً من الهواء!؟ حرام عليكم.

فضحك وهو يقول: أنت صادق، ثم ينادي على شاب من الداخل: يا واد يا حازم.. ليدخل شاب رزين، يماثله في سمنته، وحركته، وفصاحته، وسعة ثقافته، وسعة ابتسامته، وحجم بشاشته، وكان الأستاذ حازم المحامي الداعية الرائع، والذي ارتفع صيته بعد ذلك، وصار مرشحاً لرئاسة مصر، وشرفني بزيارتي في بيتي قبل سنين مفاجأة جيدة بالنسبة لي آنذاك، التفت له، وأعجبت به إعجاباً أنساني أباه، واستمتعت بحديثه، وسجلت له حتى كاد الفجر أن ينبلج، والشيخ يشارك (وينكّت) ويرضى بما يدور.

دخل شابان (قِفلان) جاهلان مندفعان فقرعاه ولاماه، وقالا له: أنت تتحدث عن العلماء، فأين العلماء؟ أين هم؟ فخلع عمامته، ونحاها جانباً، وأخذ يتلفت حوله ضاحكاً ويقول: فعلاً .. أين هم؟ أين هم؟ كأنما يصفع غباءهم وقلة أدبهم، بلطفه وحكمته.

كان يُكثر من المزح، فيخلع عمامته ليظهر رأسه الأصلع، الخالي حتى من شبهة شعرة، ويقول: قريباً سأعالج بالإبر الصينية في مستشفى حمد، وأعود شاباً فتياً كابن العشرين.

ذهبت إليه مرة متضجراً من عنفوان بعض الشيوخ، وقسوتهم على الشباب وسوء ظنهم بهم، وقلت له: لماذا أنتم غلاظ هكذا؟ فضحك وكان لماحاً وقال لي: اسمع.. واحد راح يسأل صاحبك:

- أين أضع يدي يا مولانا في الصلاة: على صدري أو فوق السرة أو تحتها؟

فانفعل عليه، وقال:

- يا أخي حُطّها على بطنك، واللا على صدرك، واللا حتى في جهنم، الله يخرب بيتكم، ثم بدأ يعتذر عن الشيخ بما ينبغي لمثله من مثله.

حين أراد أن يتخنفس!

كان الشيخ داعية موهوباً بشكل نادر، وقد رأيت من حسن تأتيه، وتلطفه في الدعوة الشيء الكثير، ومن لطيف نوادره ما أرسله لي الأستاذ الحبيب حازم أبو إسماعيل الداعية الكبير الرائع، مكتوباً بخط يده وقد اختفى بين أوراقي للأسف، أثناء انتقالي من بيت لبيت، ولعلي أعثُر عليه قريباً لأنشره كما وصلني أن الشيخ كان ذات يوم في طريقه لخطبة الجمعة في الستينيات، فمر بمجموعة من الشبان (الخنافس) أيام هوجة أولاء الشبان، طوال الشعر قصار النظر، فأوقف سيارته، وحياهم، قائلاً: أنا معجب كثيراً بطريقتكم، وبأسلوبكم، وعايز أكون خنفس زيكم، أعمل ايه؟!

فضج الشباب ضاحكين، وظنوه يعابثهم، إذ رأوا أمامهم أزهرياً معمماً مهيباً، فإذا به يكرر سؤاله بجدية مغلفة بابتسامته الجميلة، واستنصحهم:

- أنتم قصدكو إيه؟ وعاملين كدا ليه؟ وإيه الفلسفة خلف هذا الأمر؟ لأني فعلاً عايز أكون معاكم!؟

فأجابوه بقدر ما يسعهم، فقال لهم:

- أنا عندي فكرة، أريدكم أن تتغدوا معي اليوم جميعاً، لنكمل حديثنا؛ فلعلي أقتنع بما تقولون، فأنخلع مما أنا عليه إلى ما أنتم عليه، فوجد فيه الشبان فريسة طريفة، أو مغامرة من نوع جديد، أو تسلية يقضون بها بقية اليوم، فاقترح عليهم أنه لاضطراره أن يؤدي صلاة الجمعة بحكم الوظيفة – يا عيني - أن يصحبوه للمسجد، وبعدها يتغدون، فرافقوه، ليغير هو موضوع خطبته إلى حديث خاص، نجح به في اختراق عقول المجموعة المتخنفسة وقلوبها، واستمالهم إليه، ثم تغدوا وعاد بهم إلى المسجد، ولم ينته النهار، حتى كان قد (فَرمتَ) عقولهم وأعاد برمجتها، ليحلقوا شعورهم، وينظفوا عقولهم، ويغيروا اتجاههم، ويصيروا كائنات أخرى غير الكائنات التي طلع عليها صبح ذلك اليوم العجيب!

الطنطاوي والمجذوب

حضرت للشيخ عشرات اللقاءات في زياراته الرمضانية للدوحة، ورأيته بصحبة الغزالي، والقرضاوي، وعبدالمعز عبدالستار، وحسن عيسى، وعبدالعظيم الديب، وحسان حتحوت، وعبدالتواب هيكل، وكثيرين غيرهم، ورأيت حبهم إياه، واحتفاءهم به، وازدحام مجلسه بالشباب ليلياً حتى يؤذن للفجر!

وقد اعتبره العلامة الشيخ علي الطنطاوي من عباقرة المسلمين في هذا العصر، لما كان له من أثر في السياسة الإسلامية، وما أحدثه من تغييرات.

وكتب عنه الشيخ الشاعر الأديب محمد المجذوب في كتابه "علماء ومفكرون عرفتهم": كثيرون جداً أولئك الذين يريدون أن يقرؤوا سيرة الشيخ صلاح أبو إسماعيل، لأنه بات في أيامهم هذه من التحف النادرة التي قل أن يقعوا عليها في واقعهم.

ولعل معظم هؤلاء قد فوجئوا لأول مرة باسم هذا الرجل يوم ألقى بقذيفته المدوية أمام المحكمة المنعقدة لمحاكمة من يسمونهم "جماعة الجهاد" في القاهرة، فانطلق صداها يتردد في الصحف والإذاعات العالمية، ثم لم يتوقف دويها حتى اليوم.. وحق لهم أن يفاجؤوا، وحق لوسائل الإعلام العالمية أن تردد ذلك الصدى، لأنه كان نذيراً بأنه لا يزال بين علماء الإسلام من يُؤْثر مرضاة الله على النفس والحياة والمنصب، فيعلن شهادة الحق في أحرج المواقف، يرسلها مجلجلة ناصعة لا تخاف في الله لومة لائم؛ حفاظاً على قلبه من أن يخالطه الإثم الذي أوعد الله به كاتمي الشهادة.

وإنها لعمر الحق لبطولة تفوق سائر البطولات التي أَلِف الناس أن يروها ويقيموا لها الأنصاب والمعالم.. وبخاصة بعد أن خرست أصوات الصادقين، وطغت ضوضاء المنافقين، وأصبحت فنون البلاء موكلة بالألسن، فهي تتهيب أن تهمس بكلمة الحق، خشية أن تقطع أو تنزع!

رحمك الله يا أبا حازم، وأحسن مثوبتك، وأكرمك بكرامة الصالحين.. وبارك لك في حازم سرِّك وصلتك بالدعوة والجهاد الرشيد اللهم آمين.