الأستاذ عمر عبد الفتاح التلمساني ربان السفينة في زمن المحنة

clip_image002_d698f.jpg

{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا }...الأحزاب 23

أولئك آبائي فجئني بمثلهم **** إذا جمعتنا ياجرير المجامع

الفرزدق

تمر اليوم  الذكرى الـ111 لميلاد مرشد الجماعة الثالث الحيي الوفي الاستاذ عمر التلمساني رحمه الله رحمة واسعة..

فقد ولد المرشد الراحل في 4 نوفمبر عام 1904م، في حارة حوش قدم بالغورية قسم الدرب الأحمر بالقاهرة واسمه بالكامل “عمر عبد الفتاح عبد القادر مصطفى التلمساني”.. من أصول عربية إسلامية فجده لأبيه من بلدة تلمسان بالجزائر، جاء إلى القاهرة واشتغل بالتجارة، وأصبح من كبار الأغنياء.

تزوج المرشد الراحل مبكرا  في سن الثامنة عشرة وهو لا يزال طالبًا في الثانوية العامة، ولم يتزوج عليها حتى توفاها الله في أغسطس عام 1979م، بعد أن رزق منها بأربعة من الأولاد: عابد، وعبد الفتاح، وبنتين”.

عندما حصل على شهادة ليسانس الحقوق، عمل بمهنة المحاماة وأفتتح مكتبًا في شبين القناطر، وفي سنة 1933م التقى بالأستاذ “حسن البنا” في منزله، وكان يسكن في حارة عبد الله بك في شارع اليكنية في حي الخيامية في القاهرة الكبرى، وبايعه، وأصبح من الإخوان المسلمين وكان أول محامٍ يعمل بتوكيل من الجماعة التي قبض عليهم للدفاع عنهم في المحاكم المصرية.

دخل السجن في عام 1948 ثم 1954م وأفرج عنه في آخر يونيو 1971م

جاءه ضابط المعسكر وقال: لقد أفرج عنك، فاجمع حاجتك لتخرج، وكان الوقت بعد العشاء،

فقال للضابط: ألا يمكن أن أبيت الليلة هنا، وأخرج صباحًا فإني قد نسيت طرقات القاهرة،

فقال له الضابط: هذه مسئولية لا أستطيع تحملها، تفضل اخرج من السجن،

ومن على بابه إلى أي وقت تشاء، فطلب “تاكسي” فأحضره، وعاد الأستاذ إلى منزله.

توليه موقع مرشد الجماعة

اختير مرشدًا للجماعة بعد وفاة المستشار الهضيبي ثم قبض عليه السادات مع المئات من مفكرين وأقباط وأساقفة وكتاب وغيرهم في عام 1981م،

وتوفي في يوم الأربعاء 13 من رمضان 1406هـ الموافق 22 مايو 1986 عن عُمْر يناهز 82 عامًا، ثم صُلِّي عليه بجامع “عمر مكرم” بالقاهرة، وكان تشييعه في موكب مهيب شارك فيه أكثر من ربع مليون نسمة وقيل نصف مليون من جماهير الشعب المصري فضلاً عن الوفود التي قدمت من خارج مصر.

وكان الشباب دون العشرين، وفوق العشرين، الذين جاءوا من مدن مصر، وقراها، يشاركون في الوداع، وهم يجرون حفاة الأقدام خلف السيارة التي تحمل الجثمان، ودموعهم تكسو وجوههم، يبكون فيه الداعية، وقد شاركت الحكومة في عزاء الإخوان المسلمين، وفي تشييع الجثمان، وحضر رئيس الوزراء، وشيخ الأزهر؛ وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية ورئيس مجلس الشعب، وبعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، ومجموعة كبيرة من الشخصيات المصرية والإسلامية إلى جانب حشد كبير من السلك الدبلوماسي، العربي والإسلامي، وشارك وفد من الكنيسة المصرية برئاسة الأنبا غريغوريوس في تشييع الجثمان.

النشأة

وقد ولد في القاهرة بشارع حوش قدم بالغورية عام 1904م وكان جده ووالده كلاهما يعملان أول الأمر في تجارة الأقمشة والأحجار الكريمة، وتنتشر تجارتهما هذه ما بين القاهرة وجدة وسنغافورة وسواكن والخرطوم، ثم صفيا عملهما ذاك ليتوجها إلى الزراعة حيث اشترينا مساحات واسعة من الأرضين في قرية نوى مركز شبين القناطر بمديرية القليوبية.. ومساحات أخرى في قرية المجازر مركز منيا القمح بمديرية الشرقية.

ويمتاز جده بالاتجاه السلفي في العقيدة، إذ كان على تعبير المترجم وهابي النزعة، وقد تولى طبع العديد من كتب الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب على نفقته.. وفي هذا الجو الرخي الحياة، البعيد عن البدع، نشأ الأستاذ محاطاً بالنعمة والروح الديني، إذ كان كل من في ذلك البيت قائماً بحقوق الله صلاة وصياماً وحجاً، سواء في ذلك الرجال والنساء، والفتيان والفتيات، وفي هذه البيئة.

يقول الأستاذ: طرق سمعه اسم ابن تيمية وابن قيم الجوزية، أثناء المناقشات التي كانت تجري بين جده وزواره من أهل العلم.

ويصف الأستاذ جده هذا بأنه، إلى جانب ثقافته العلمية، يمتاز أيضاً بالدعابة اللطيفة، ومن ذلك أنه يستقبل زائريه ومدعويه من هؤلاء مرحباً بقوله : (ما شاء الله.. وأتوني بأهلكم أجمعين.. أما فيكم من معتذر أو متخلف !!..)

حتى إذا ظهر في الفناء ديك رومي صاح فيه: “ انج بنفسك ولا تلق بيدك إلى التهلكة “.

وفي مدارس الجمعية الخيرية هناك تلقى الأستاذ دراسته الابتدائية.

فلما توفي الجد انتقلت الأسرة إلى القاهرة، فالتحق بالمرحلة الثانوية من الإلهامية في الحلمية.. حيث حصل على شهادتها، ومن ثم انتظم في كلية الحقوق، وبعد التخرج فيها بدأ التمرن على المحاماة، ثم اتخذ له مكتباً في بندر شبين القناطر، حيث مارس عمله القانوني بتوفيق مرموق..

محامي وفق منهاج اسلامي

ويبسط الكلام عن عمله هذا قائلاً: لقد باشرت عملي في المحاماة على قواعد ديني جهد الإمكان، فإذا جاءني ذو قضية مدنية درست مستنداتها، فإذا رجح لدي جانب الكسب فيها قبلتها، وإلا نصحت له بالصلح مع خصمه..

وطبيعي أنه يفعل ذلك مع مراعاة جانب الحق بالدرجة الأولى، بحيث لا يقبل المرافعة في قضية تخالف قواعد الدين التي أخذ بها نفسه كما تقدم.

ولم تشغله المحاماة عن تثقيف نفسه بالعلوم الإسلامية إذ كان نزاعاً إلى المطالعة في كتب الفقه والتفسير والحديث والسيرة النبوية..

ومع وفرة قراءاته ومحفوظاته من القرآن الكريم والحديث الشريف، لا يزعم لنفسه العلم وليس هو في رأيه عن نفسه سوى قارئ نهم لكل ما يتعلق بدينه يريد أن يتعلم منه ما لا يعلم، ولا يسمح لنفسه أن يفتي في شيء، فإذا سئل في أمر ديني أجاب: أذكر أني قرأت في هذه المسألة كذا.. وليس لك أن تستند إلى إجابتي بل عليك مراجعة المتخصصين في هذا الباب، ويؤكد لنا أنه لا يزال على شأنه حتى اليوم.

وذلك لعمر الله هو الورع لأن أجرأ الناس على الفتيا أجرؤهم على النار، وما أكثرهم في هذه الأيام!..

ويتصل بهذا الجانب من حياته أنه مع حفظه الآلاف من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يلقي بالأثر الذي يستشهد به مرفوعاً إلى مقام النبوة إلاً مصحوباً بقوله “ أو ما هذا معناه “ لأنه لا يحفظ مع الحديث سنده، ويخشى أن تكون له رواية أخرى أصح لفظاً منه، فيعمد إلى ذلك الاستدراك لعلمه بأن أئمة الحديث يرون صحة روايته بمعناه، ويتأيد ذلك لديه بالأثر النبوي القائل (نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها) حيث قيد سلامة الرواية المقبولة بالوع، والوعي أمر يختص بالمعنى دون حرفية اللفظ، وقد أشرنا فيما تقدم إلى استظهاره كتاب الله، وهو يقول أنه لا يزال يتعهده باستمرار خشية تفلته من الذاكرة.

خواطر ومؤلفات

وعن سؤاله رحمه الله عن آثاره المنشورة أو المعدة للنشر، أجاب :

أن ليس في آثاره القلمية ما يستحق إلحاقه بالمؤلفات، وإنما هي خواطر جمعت في كتب، منها : (شهيد المحراب الفاروق)، (قال الناس ولم أقل في حكم عبد الناصر)، ثم (بعض ما علمني الإخوان المسلمون) و (الملهم الموهوب حسن البنا)و (يا حكام المسلمين ألا تخافون الله؟؟) و (ذكريات لا مذكرات)، وأخيراً (ثلاثة وثلاثون يوماً من حكم السادات) هذا إلى جانب افتتاحياته لمجلة (الدعوة) وما يكتبه حول الشئون الإسلامية في المجلات والصحف السيارة..

ويردف هذه العنوانات بقوله: إن من أجل نعم الله عليه كونه لا يحمل حقداً ولا كراهية لإنسان أياً كان مذهبه، بل من عادته أن يترك ما يصيبه لله يتولى الفصل فيه بحكمته وعدله..

هي إشارة لطيفة وغير مباشرة إلى مضمون هذه الآثار من حيث كونها عرضاً موضوعياً لوقائع أو أفكار مبرأة من أهواء النفس، فلا مكان فيها لكراهية أو ضغينة، إنما هي تجلية لحقيقة، أو بيان لرأي الجماعة التي يمثلها.

أو مجرد نصيحة يوجهها إلى حاكم رجاء أن ترده على جادة الحق، على الطريقة التي أمر الله بها نبيه والمؤمنين معه في قوله الحكيم أدع إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (سورة النحل 125).

ويتحدث عن الأعمال التي تولاها وأثرها في نفسه فيقول:

شاء الله أن أبدأ عملي في المحاماة كما أسلفت، استبعاداً لنفسي عن حيز الوظيفة التي لا أحتمل قيودها من الضغط على حرية الرأي، وتحديد موارد الرزق، فآثرت الحرية في العمل بحيث لا يكون لأحد عليّ من سلطان إلا مراقبة الله.

وأنا أمرؤ طبعت على الحياء حتى لأتساهل في كثير من حقوقي، إلا أن مما أحمد الله عليه، ولا حصر لفضله، منحه إياي نعمة التجرد من الخوف، فما خفت أحداً في حياتي إلا الله، ولم يمنعني شيء من الجهر بكلمة الحق التي أؤمن بها، مهما ثقل وقعها على الآخرين، ومهما لقيت في سبيلها من العنت..

أقولها هادئة رصينة مهذبة لا تؤذي الأسماع ولا تخدش المشاعر، وأتجنب كل عبارة أحس أنها لا ترضي محدثي أو مجادلي، فأجد من الراحة النفسية في هذا الأسلوب ما لا أجده في سواه، ولئن لم يكسبني الكثير من الأصدقاء، فإني قد وفيت به شر الكثير من الأعداء، هذا إلا أن ما نالني ورميت به منذ انتسابي إلى جماعة الإخوان المسلمين، قد أصبح لي درعاً واقياً من الغضب والكراهية، تنهال عليه النصال فيكسر بعضها بعضاً..

ويستأنف: “على أن العبء الوحيد الذي يبهظني وأنوء بحمله هو مسئوليتي عن الإخوان، لأن نظام الهيئة التأسيسية للجماعة يقضي بأن يتولى الأمر أكبر الأعضاء في مكتب الإرشاد سناً، وشاء الله أن أكون الأكبر في هذه الظروف، فكان الوفاء لبيعتي أن أحمل العبء ماضياً مستريحاً، لا لأن في ذلك مخالفة للقانون الذي قضي بحل الإخوان؛ بل لأن الصلة الروحية بيني وبين الإخوان جعلتهم ينظرون إلي بهذه العين، وجعلتني أرتاح للنهوض بالواجب مهما واجهت من الصعاب والمشاق، وقد عاملني المسئولون في الدولة على أساس من هذا التصور..

وهنا لا يفوتني الاعتراف بأن جانب الحرية الذي أتمتع به، على ضآلته، لا أعرف مثيلاً له في العالم الإسلامي ما بين إندونيسيا إلى أقصى المغرب، ولا جرم أن لله حكمة في ذلك...

 

أسلوبه

وعرف جمهور الناس أسلوبه الحكيم من خلال حواره مع الرئيس أنور السادات، يوم وجه هذا هجومه العنيف عليه وعلى الإخوان، وساق إليهم أنواع التهم المفتراة، وهو يظن أن خوف السلطة سيقطع لسانه عن الرد، فإذا هو يخيب فأله ويلتف على مفترياته بالحجة الداحضة حتى يختمها بقوله : الشيء الطبيعي بإزاء أي ظلم يقع علي من أي جهة أن أشكو صاحبه إليك بصفتك المرجع الأعلى للشاكين بعد الله، هأنذا أتلقى الظلم منك فلا أملك أن أشكوك إلا إلى الله..

وما كان أروعه رداً حطم سلاح الطغيان بأدب اللسان وقوة الإيمان، فإذا بالرئيس يلملم تهمه وينقلب مستعطفاً يسأل المظلوم إلغاء شكواه.. وكل ذلك على مرأى ومشهد من مئات الحاضرين لذلك الحفل، وملايين المشاهدين عن طريق التلفاز.

في صحبة الإمام البنا

يقول : “من أكثر الرجال تأثيراً في حياتي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار، هو الإمام الشهيد حسن البنا رضوان الله عليه.

فقد حباه الله بكل ما يقربه إلى قلوب المسلمين، يبغضه إلى كل خصوم الدعوة الإسلامية، لا أتحدث عن غزير علمه، فرسائله حوت، على إيجازها، كل ما يحتاجه المسلم للتفاني في سبيل دينه، وما يعوز الداعية من منهاج واضح بين موضوعاً ووسائل وأساليب؛ فكل واحدة من رسائله متن صالح لمجلدات ضخمة تفسيراً وتبصيراً،

لقد أفاض الله عليه ذكاءً عجيباً حتى ليكاد يجيبك على ما تريد قبل أن تتوجه إليه بالسؤال، وكان من الثقة بحيث يظن كل أخ من ملايين الإخوان المسلمين أنه أقرب الناس إليه، وأحبهم لديه، بسيطاً غاية البساطة في مظهره ومعاملاته وأحاديثه، حتى إذا علا المنبر أخذ بكل جوانب النفس، فتظل معلقة بكلامه في وعي خيفة أن يفوتها حرف منه، حتى إذا فرغ من حديثه استرد كل سامع قلبه وفكره إلا شخصاً واحداً بقي قلبه مع الإمام الشهيد في روحاته وغدواته “.

ويستأنف الأستاذ التلمساني في وصف شخصية الإمام الشهيد قائلاً : “إذا كان في رحلة من رحلاته التي لا تعد ولا تحصى، في الداخل والخارج، فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يستريح إلا بعد أن يطمئن على كل من في رفقته.

كان جم التواضع، نظيف العبارة حتى مع مهاجميه وخصومه، لم يسئ إلى أحد منهم قولاً ولا عملاً..

يربي أعوانه تربية عملية، فيكل إليهم القيام بالأمور الهامة مثنياً عليهم، مصححاً لأخطائهم، محتملاً لكل تجاوزاتهم..

ولا أنسى يوم أن حصل خلاف بين الإخوان والوفديين في بور سعيد، فاستدعاني وكلفني الذهاب إلى هناك قائلاً لي : تصرف كما يوحي إليك الموقف دون الرجوع إليّ في شيء، فكانت هذه اللفتة التربوية معواناً لي في استفراغ الوسع، حتى انتهى الأمر إلى خير ما يمكن أن يصير إليه ذلك الموقف الشائك المعقد..

كل ذلك وما أشبهه ربط قلوبنا جميعاً بإمامنا الشهيد بأوثق عرى المحبة و الوفاء والإخلاص.. ولهذا عشقت الدعوة والداعية، ووقفت عليها حياتي إلى اليوم”.

ثورة 1919

ويتابع :” عاصرت الوفد وقيامه، وثورة 1919، وكانت بحق نابعة من مشاعر الشعب كله، وكان المنتظر أن تأتي بأبرك الثمرات لمصر بخاصة وللأمة الإسلامية بعامة، لولا المؤامرات الشخصية، والانفعالات الزعامية، والألاعيب السياسية، التي مزقت الشعب المصري فرقاً وأحزاباً وشيعاً واتجاهات، وأطاحت بكل ما أمله المصريون.

ولقد نابني من ذلك بعض الرشاش خلال تعصبي الوفدي وأنا في مطالع الشباب، كذلك كان لثورة يوليو 1952 أثره الكبير، إذ أيقظ المشاعر وحرك الرغبة في رؤية شرع الله مطبقاً في هذا البلد المسلم، ومن أجل ذلك كان للإخوان المسلمين أكبر الأثر في نجاحها.. إذ كانوا يجوبون القطر كله في بث الدعوة الإسلامية، وربط القلوب بعقيدتهم، ونقد المفاسد والمظالم التي كانت تسود البلاد من قبل الاستعمار، وطغيان الملكية وتهافت الأحزاب.

ويواصل “ أما هيئة الضباط الأحرار فكانت تعمل في الخفاء، ولم يكن يشعر بها أحد، فلما أسفرت وجدت الطريق ممهداً والجو صالحاً، والشعب على استعداد لتقبل حركتهم، ولكن لحكمة لا يعلمها إلا الله تغلب حب الزعامة والظهور، فكان ما كان من انقلاب الضباط الأحرار على الإخوان المسلمين، الذين أخلصوا لهم العون، ومهدوا لهم السبيل، ولا غرابة في ذلك، فالسلطان، كما يقال، عقيم لا يتورع أصحابه أن يتجاوزا من أجله كل شيء حتى أبسط مبادئ الأخلاق..”..

الأستاذ التلمساني ومحنة الجماعة مع عبد الناصر

يقول الأستاذ عمر: “ فتك عبد الناصر بالإخوان المسلمين استناداً إلى قوة الجيش والشرطة، والقوى التي كانت تكيد للجماعة، وبخاصة الصليبية والصهيونية والملاحدة..

ولو أن ما أنزله عبد الناصر كان في غير الإخوان المسلمين لكانوا اليوم واحداً من أخبار التاريخ ترويه الأجيال للعظة والاعتبار،

أما الإخوان فقد زادتهم المحن إيماناً، ومكنت لحب الله ودعوته في قلوبهم، وقد ذهب الظالمون وأعوانهم وبقيت دعوة الله على الرغم من محاولات القوى المحاربة للإسلام، لأن كلمة الله ثابتة لا يعتريها زوال..

وما من شك أن مواقف الإخوان المسلمين ودماءهم الطاهرة التي روت شجرة الإيمان على ثرى فلسطين وعلى ضفاف القناة، قد هزت المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.. وهكذا أثبتت دعوة الإخوان للعالم بأسره أنها قوة ولاء عملي، رسخ الإسلام في صدرها، وصدق العمل في حركاتها وتصرفاتها وتضحيتها وصبرها ومرابطتها، الأمر الذي ألهب نيران الكراهية في صدور أعداء الإسلام، فهي تتكشف يوماً بعد يوم على كل بقعة من ربوع المسلمين، وما الكيان الصهيوني إلا صورة بارزة لهذه الكراهية، التي توهمهم أن القضاء على الإسلام والمسلمين أصبح وشيكاً..

وخاب فألهم، فلئن استطاع هؤلاء الأعداء أن يقضوا على بعض المسلمين فهم أعجز من أن ينالوا من الإسلام، لأنه رسالة الله الخاتمة إلى الأرض، فلو لم يبق على البسيطة سوى مؤمن واحد يحمل راية “ لا إله إلا الله محمد رسول الله “ وكانت السموات والأرض رتقاً عليه لفتقها الله له قوة وعزة ونصراً.. وكل شيء عنده بمقدار..

 

السجن مدرسة

ويتابع رحمه الله: “خرجت من السجن وقد ازددت يقيناً بالحكمة القائلة (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع) فالسجين قد استقر عند خاتمة المطاف، فليس لدى ظالمه إلا سجنه أو قتله، والسجين المستمسك بعقيدته تسليماً لأمر الله أشد إيلاماً لنفس الظالم من غيره، لأن غيره يبيت ويصحو متوقعاً المجهول من البلاء، وهذا التوقع قد يحول بينه وبين الكثير من العمل لدعوته.

وفي ذلك راحة لخواطر الظالمين.

وإذن ففي ثبات السجين على دعوته انتصار للحق على الباطل، وهزيمة للباغي في عجزه عن تحقيق بغيته، فالباغي مهزوم مهزوم وصاحب العقيدة منصور منصور..

وهنا أسجل أن انتصار الدعاة لم يكن قط وليد شجاعتهم أو تحديهم أو صبرهم، وإنما هو فضل الله في تثبيتهم (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليل) (سورة الإسراء 74).

أجل إن الله هو صاحب الفضل الأول في النعمة إذا اقترنت بالشكر، وهو صاحب الفضل الأول في المحنة إذا لازمها الصبر، وفي كل خير، وليس ذلك لغير المؤمن.

المسلمون ما كانت لتحز في نفوسهم كثيراً، ولكن الموجع ما كنا نسمعه ونحن في ظلمات الزنازين من تأوهات المعذبين وأصوات العصي والسياط التي كانت تنهال متلاحقة عليهم..

وكم من أخ أدخل على إخوانه في المطبق وقد سال دمه وتمزق لحمه وبرزت عظامه، وهو يبتسم، وهم من حوله محزونون مغمومون لما أصابه، لا لما سيلحق بهم بعد قليل.. لقد كانت العواطف الإسلامية دفاقة بالإيثار والتضحية والحب، وكانت حياتهم في غمرة المحنة فداءً وصبراً وحمداً وشكراً وصلاةً وصياماً وذكراً.

فما أروع ما حصلناه في تلك السجون من نعم الله في الناحية الإيمانية، فما استأثر واحد منا براحة دون أخيه، وما اختص نفسه بمطعوم تسلل إليه..

لقد كان بعض القائمين علينا في السجون يبدي الكثير من الأسى على ما نحن فيه ولكنهم لا يملكون أن يقدموا غير هذا، فسيوفهم علينا وقلوبهم معنا، ولكنه خير كان ينفح ببعض الراحة على أي حال.

حقاً إن السجون مدرسة للتطهر والصفاء وترسيخ اليقين.

معالجة هادئة للانحرافات الفكرية

وعن ظاهرة الانحراف في مسيرة بعض الشباب والسبيل إلى ضبطها في طريق الإسلام الصحيح يقول أ. التلمساني :

“إني لعلى يقين بأن الشباب المسلم سيركن في نهاية المطاف إلى الأخذ بالأساليب الإسلامية، إذ ما نشط الأزهر والدعاة والمسئولون في سبيل التوضيح والشرح والتبيين.

إن أولئك الذين يرمونهم بالانحراف والتطرف قد عوملوا بقسوة لا مسوغ لها، وهذا دون ريب قد ترك في نفوسهم الكثير من المرارة والحفيظة.

والمسئولون هم المكلفون بالعمل الدائب على إزالة هذه الندوب ليأخذ كل شيء خطه المستقيم.

وإني لواثق كل الثقة بأن معاملة الشباب على هذا المنهج النبوي الراشد الرحيم ستأخذ بيده إلى الجادة التي لا ضلال فيها لسالك.

إن الحاكم هو الطرف الأقوى، وعبء إصلاح العوج واقع على كاهله، وعليه هو أن يبدأ حتى يحس الشباب أنه يتعامل مع عاطفين عليه محبين له، لا مع كارهين له ناقمين منه..

إننا نطالب الشباب بالعدول عن العنف، وفي الوقت نفسه نطالب المسئولين بأن يبينوا صلتهم بالشباب على هذا الأساس الصالح، وحبذا لو فسحوا المجال أمام الدعاة الذين طال تمرسهم بمعالجة النفوس، إذن لرجونا أن تؤتي جهودهم الثمرات الطيبة والمرجوة.

ذات يوم بعد أحداث العام 1981 طلبت مني وزارة الداخلية أن أذهب إلى سجن طرة للتحدث مع المعتقلين، وفعلت والتقيت بالكثيرين منهم هناك، وكانوا من مختلف الاتجاهات والأفكار، ودخلت معهم في حوار متفاوت الحرارة، ساخن مرة وهادئ أخرى، ولكن ما إن انتهى الحوار بعد ساعة ونصف حتى اندفع الشباب كلهم إلى احتضاني وتقبيل رأسي ويدي، إعراباً منهم عن الإقتناع بما سمعوا ووعوا.

مواقف من حياة الأستاذ “عمر التلمساني” رحمه الله

الأستاذ عمر التلمساني كان مدرسةً تربويةً بمواقفه الحية التي عاش بها وطُبِعت في قلوب ونفوس إخوانه خاصة والناس عامة، فقد كان مثالاً لهذه المدرسة التي قلَّت أن تجود بمثله في هذا الزمان.

وهذه المواقف ليست للقراءةِ فحسب بل هي لأخذ العبرة منها والسير على نهجها بما تخللتها من تواضع وعزة المؤمن وحسن خلق الداعية وطرف مليحة.

العمل بالمحاماة

عرض عليَّ الإمام الشهيد أن أتخذ مكتبًا في القاهرة، فلم أقبل؛ مبررًا رفضي بأني قد أنجح في المكتب ويدر عليَّ دخلاً وفيرًا، فيقول البعض: إن الإخوان هم الذين أوجدوا لي كيانًا في عالم المهنة، وهذا ما تأباه عليَّ أخلاقي ونشأتي وتربيتي.

الصلح بين عائلتين

انتدب الأستاذ عمر التلمساني لأجراء صلحٍ بين عائلتين كبيرتين، ببلدة دمهوج بمركز قويسنا منوفية، وكانت إحدى العائلتين من الإخوان، والأخرى غير إخوانية، وبعد استعراض مسببات الخصام وأحداثه، تبيَّن بشكلٍ قاطع أن الحقَّ إلى جانب العائلة الإخوانية.

وحسب توجيهات فضيلة المرشد ضرب مثلاً عمليًّا لأخلاق الإسلام التي يعيشها الإخوان، فطلب من العائلة الإخوانية التنازل عن كلِّ حقوقها، وأن يذهب رءوس العائلة الإخوانية لزيارة العائلة الأخرى في منازلهم.

ليتعلم الناس كيف يعالج الإسلام الخصومات بين الناس.. (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43)) (الشورى).

وزير مالية الإخوان

يقول الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله-: عملتُ فترة “وزير مالية الإخوان”، وكنتُ إذا وجدتُ في الخزانة مائة وخمسين قرشًا كنتُ أرى وقتها أننا من الأثرياء!!.

وكان الداعية إذا ذهب إلى لقاءٍ إخواني ليتحدث في الدعوة، أُعطيه “ثلاثة تعريفة”: منها ستة مليمات للذهاب، ومثلها للعودة، وثلاثة مليمات يشتري بها ما يروقه من الترمس والفول السوداني، واللب الأسمر والأبيض!!

يقول الأستاذ “عمر التلمساني”رحمه الله:

كان الإمام الشهيد يدعوني إلى السفر معه في بعض رحلاته داخل القطار ويسألني: هل السفر على حسابك أو على حسابنا؟

فإن كنت (متريشًا) من أتعاب قضية دسمة قلت: السفر على حسابي، وأقطع لهم تذاكر السفر في الدرجة الثانية، أما إذا كنت (مفرقع) الجيب قلت: السفر على حسابكم، فكان يقطع التذاكر في الدرجة الثالثة.

فكنت أجلس، ورأسي إلى الأرض؛ حتى لا يراني أحد من معارفي، وأنا أركب الدرجة الثالثة التي كنت آنف ركوبها، وكان الأستاذ يبتسم لمنظري الخجل، حتى إذا ما طالت عشرتي للإخوان أصبح ركوب الدرجة الثالثة عندي كركوب الأولى الممتازة دون حساسية أو تحرج.

*****

يقول الأستاذ “عمر التلمساني” رحمه الله:

ذهبت مع الإمام الشهيد يومًا إلى شبين الكوم في حفل إخواني، وبعد صلاة العشاء وجدت الإخوان يجلسون كما يجلس الناس في سماط، وجاء الطعام فإذا به بيض مقلي، وجبن قديم، فملت على أذنه قائلاً: هل جئت بي إلى هنا لتجوعني؟!

فقال هامساً: اسكت الله يسترك، ونادى أخاً فأحضر لي لحمًا مشويًا، وشيئًا من العنب.

*****

عندما أفرج عن الأستاذ عمر التلمساني في آخر يونيو 1971م جاءه ضابط المعسكر وقال: لقد أفرج عنك... فاجمع حاجتك لتخرج، وكان الوقت بعد العشاء،

فقال للضابط: ألا يمكن أن أبيت الليلة هنا، وأخرج صباحًا فإني قد نسيت طرقات القاهرة.

فدهش الضابط وقال: ماذا تقول؟ ألم تضق بالسجن وتود الخروج منه فوراً؟

قال: بل أفضل أن أبيت هنا هذه الليلة، وأخرج صباحًا.

قال: هذه مسئولية لا أستطيع تحملها، تفضل اخرج من السجن، ونم على بابه إلى أي وقت تشاء، فطلبت تاكسي فأحضره، وعاد الأستاذ إلى منزله فيقول: والعجيب حقًا أنني عندما التقيت بأهلي وأقاربي لم أحس بتغير كبير في مشاعري، وكأني لم أفارقهم إلا بالأمس، ما السر في هذا ؟ لست أدري!!

*****

وجه أحد المراسلين في لندن له سؤالاً: لماذا تتهرب من الإجابات عن أسئلة واضحة؟

فكان جوابه: “إن التهرب ليس من خلقي، ولكن طباعي تأبى عليَّ أن أنقد حكومتى خارج وطني، ولا أشنع عليها في الخارج، بل أوجه مآخذي إليها مباشرة داخل مصر، وهو مبدأ وليس سياسة”.

في إحدى الندوات التي عقدها الصحفيون بدولة الإمارات مع الأستاذ “عمر التلمساني” عام 1982م بعد حملة الاعتقالات الساداتية، وجه إليه أحد الصحفيين هذا السؤال: ما رأيكم في حكام مصر، ومعاهدة “كامب ديفيد”؟.

فأجاب الأستاذ: أحب أوجه نظر الأخ السائل إلى أنني لم آت هنا؛ لأشتم حكامنا، ورأينا نعلنه بكل صراحة ووضوح أول ما نعلنه على صفحات الجرائد والمجلات المصرية. فقد تعلمنا من الإسلام الصراحة مع عفة اللسان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء”.

*****

أرسله لمجاهدي أفغان

أرسلت وزارة الثقافة بدولة الإمارات دعوةً للأستاذ عمر التلمساني عام 1982م فلبَّى الدعوةَ وألقى محاضرةً في النادي الثقافي بأبي ظبي حيث جاء جمع غفير ملأ القاعة وخارج القاعة ولم يأتِ قبله مثله.

وفي نهاية الزيارة قدمت الوزارة تحيةً لضيفها “شيكًا بخمسة وثلاثين ألف درهم”،

فشكر الأستاذ عمر لهم هذا الصنيع الكريم ثم قال للأستاذ جابر رزق في الحال: حول هذا الشيك إلى المجاهدين الأفغان.

هذا لا يأخذ أجرًا

انتدب الأزهر الأستاذ عمر التلمساني لإلقاء بعض المحاضرات في الشريعة والقانون بالجامعة، وكان ذلك أيام فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود، فلمَّا جاء كشف صرف المكافآت للسادة الأساتذة المحاضرين المنتدبين، إذا بالدكتور عبد الحليم محمود يجد اسم الأستاذ عمر التلمساني مدرجًا بالكشف فقال للمسئول: ارفع اسم الأستار عمر من الكشف، هذا لا يأخذ أجرًا (ده مش بتاع كده)، ودار حوار، ولم يرفع المسئول اسم الأستاذ عمر.

ولما حان وقت صرف المكافآت، ذهب المسئول بالكشف للأستاذ عمر ليوقع فأبى، فذهب المسئول للدكتور عبد الحليم محمود الذي قال له: ألم أقل لك إن الأستاذ عمر “ده مش بتاع كده”.

ندوة بلا أجر

عقدت إحدى المجلات الدينية ندوةً دعت إليها الأستاذ عمر التلمساني فلبَّى الدعوة.

ثم قدَّم إليه موظف ورقةً وطلب منه التوقيع عليه.

فقال الأستاذ: ما هذا؟

قال: هذا مقابل حضورك الندوة.

قال : لو كنتُ أعلم أن الدعوة إلى الله تدفعون لها مقابل لما حضرت.

قال: هذه مصاريف الركوب والانتقال.

قال: عندي سيارة أعدها الإخوان لمثل هذه الأمور.

قال: ولكنهم جميعًا يأخذون.

قال: أنا لستُ من هذا الجميع، أنا رجلٌ على بابِ الله، وانصرف دون قبضٍ أو توقيع.

جئت داعيًا لا جابيًا

ذهب الأستاذ عمر التلمساني لأداء فريضة الحج.

ولقيه أحد الإخوة، وقال له: إن شخصية كبيرة من السعودية تريد مقابلتك.

فقبل الأستاذ وتحدد الموعد، وأثناء اللقاء تحدث هذا الكبير عن الدعوة الإسلامية ومستقبلها... ثم عرج على مجلة الدعوة، وكانت لم تصدر بعد.

وقال: إنه يريد تدعيمها.. فأدرك الأستاذ هدفه وقال مقاطعًا: سيادتكم طلبتم مقابلتي كداعيةٍ لا كجابٍ، فأنا جئتُ داعيًا لا جابيًا، ولو كنتُ أعلم أنك ستتحدث معي في مسألة نقودٍ لاعتذرتُ؛ ولذلك أرجو أن تسمح لي سيادتكم بالانصراف.

تواضع.. لا تجاملني

يقول الشيخ عبد الله الخطيب:

كان الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله- إذا أراد مراجعة شيء مكتوب، كان يأتيني إلى مكتبي ويقول لي: أقسمتُ عليك بالله أن تراجع وتُصحح ما تجد من خطأ، ولا تجاملني.

يقول الشيخ الخطيب: وكان هذا دأبه، إذا أراد شيئًا ذهب إلى الأخ في مكتبه، إلا أن يكون عذر من مرض أو إرهاق.

لا أنتقد حكومتي خارج وطني

يقول الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله-:

كان مراسلو الصحف والإذاعات يأتون لإجراء أحاديث، والظاهرة العجيبة في كل تلك الأحاديث: أن المراسلين كانوا يحاصرونني بأسئلةٍ دقيقةٍ رغبةً منهم في أن يحصلوا مني على انتقادٍ أو هجومٍ على الحكوماتِ القائمة، وكنتُ أفسد عليهم هذه المحاولات..

حتى قال لي أحد المراسلين في لندن: إنك تتهرب من الإجاباتِ عن أسئلةٍ واضحة.

فكان جوابي: إن التهربَ ليس من خُلقي، ولكنَّ طباعي تأبى عليَّ أن أنقد حكومتي خارج وطني، ولا أشنع عليها في الخارج، بل أوجه مآخذي إليها مباشرةً داخل مصر، وهو مبدأ وليس سياسة.

لم أر مثل هذا الرجل

سأل بعض الناس السائق الذي صحب الأستاذ أثناء زيارته بدعوةٍ من وزارة الثقافة بدولة الإمارات: فقال السائق صحبتُ كثيرًا من الشخصيات الكبيرة والوزراء.. فلم أرَ مثل هذا الرجل في خُلقه وتواضعه وحيائه وعفته وزهده وعطفه..

لقد ركب إلى جواري واعتاد كبار الشخصيات أن يركبوا في الخلف، ولكنه التواضع، وكان يصحبني معه ويُجلسني بجواره في كل مأدبةِ طعام.

الوفاء للزوجة

دُعِيَ الأستاذ عمر التلمساني إلى لقاءاتٍ بالإسكندرية فلبَّى، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك، وأعدَّ الإخوان مأدبة إفطار احتفاءً بالأستاذ المرشد، وكان في المأدبة شراب المانجو.

فقدَّم أحد الإخوان كوب المانجو للأستاذ عمر فاعتذر ولاحظ بعض الإخوان علامات التأثر على وجه الأستاذ فسألوه: هل يلحقك ضرر صحي من المانجو؟

فأجاب: لا........ وبعد الانتهاء من الإفطار أراد بعض الإخوة معرفة سرِّ الاعتذار عن شرب المانجو، وألحوا في الطلب.

فقال الأستاذ: لقد اعتدتُ كلمَّا رجعتُ من العمل متأخرًا أن أجد زوجتي في انتظاري، وقد أعدت كوبين من المانجو فنشربهما معًا، فلمَّا تُوفيت عزَّ على أن أشرب بدونها، وأسأل الله أن يجمعني بها في الجنة، وأن نشرب معًا من خمر الجنة.

عمر التلمساني يواجه السادات بعزةِ المسلم وأدب الداعية

عندما قرر السادات عقد لقاءٍ فكري بالإسماعيلية، مع السياسيين والمفكرين وزعماء المعارضة، التقى وزير الإعلام بالأستاذ عمر التلمساني يرجوه حضور اللقاء والأستاذ عمر يرفض؛ لأنه- على حدِّ قوله- يعرف كبرياء السادات، وبعد إلحاحٍ من الوزير حضر الأستاذ عمر اللقاء، وجلس في الصف الأمامي.

وبعد استرسال السادات في حديثه، تطرَّق إلى الحديثِ عن الأستاذ عمر التلمساني وعن الإخوان، ثم أخذ يكيل لهم الاتهامات وقيامهم بإثارةِ الفتنة وتحريض الشعب ضد النظام.

فما كان من الأستاذ عمر- وقد قارب وقتها الثمانين عامًا- إلا أن قامَ بالرد على السادات وتفنيد ما قاله. ثم قال له بعزةِ المؤمن الواثق في ربه:

“لو كان أحدٌ غيرك وجَّه إليَّ مثل هذه التهم لشكوته إليك، أما وأنت يا محمد يا أنور يا سادات صاحبها فإني أشكوك إلى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين.. أشكوك إلى الله.. لقد آذيتني يا رجل وقد أُلزم الفراشَ أسابيع من وقعِ ما سمعتُ منك.

فما كان من السادات إلا أن قال: إنني لم أقصد الإساءة إلى الأستاذ عمر ولا إلى الإخوان المسلمين. اسحب شكواك.

فرد الأستاذ عمر: “وأنا لم أشكُ إلى ظالم، إنما شكوتُ إلى الله العادل ويعلم ما أقول”.

شركة إخوانية

يذكر الأستاذ عباس السيسي أنه سافر ذات يومٍ مع الأستاذ التلمساني من الإسكندرية إلى القاهرة، وأثناء الحديث اقترح الأستاذ عباس تكوين شركات اقتصادية بسيطة لتعين الإخوان على ظروفِ المعيشة، فأقره الأستاذ التلمساني على ذلك، فردَّ عليه وأنا عندي فكرة إنشاء شركة مياه غازية، فأجابه الأستاذ التلمساني: وهل فكرت لها في اسمٍ تجاري؟

قال: نعم، فكرتُ أن يكون اسمها (سيسي كولا)

فضحك الأستاذ التلمساني وقال: والله اسم جميل.

القاضي الطريف

في يومٍ تقدَّم بعض الإخوان بشكوى ضد سكان الغرفة رقم 6 بمعتقل الطور، وكانت تضم الأستاذ محمود عساف والأستاذ أنور الجندي، فحضر الأساتذة البهي الخولي وعمر التلمساني ومحمد الخضري، حضروا فقام الإخوة بوضع بطانية مثناة على كتف كلٍّ واحدٍ من الإخوة الثلاث، كما صنعوا لهم منصة من لوحٍ خشب مرفوع عن الأرض بقطعٍ من الطوب، وجلس الإخوة الثلاث وقالوا لإخوان الغرفة: جئنا نحاكمكم.

فقال لهم إخوان الغرفة: هاتوا ما عندكم.

قالوا: إن بعض الإخوان يشكونكم بأنكم تتلفظون بألفاظٍ غير لائقة، فاستنكر أصحاب الغرفة ذلك وقالوا: الحقيقة، أننا نُسلي أنفسنا بقصصٍ من تجارب حياتنا، وبعض (النكات) التي تتفق مع المواقف.

فقالت المحكمة: لا شيءَ في هذا، وخرجوا

ولكن بعد لحظةٍ وجدوا الباب يفتح وإذا بالأستاذ عمر التلمساني يدخل عليهم قائلاً: أين أنتم من زمن، إنه لتحضرني النكتة فلا أجدَ مَن هو مستعد لسماعها من إخوانكم في الغرف الأخرى،

وإليكم نكتتان، وأخذ يروي نكتتيه حتى إن الإخوة ظلوا كلما تذكروهما يضحكون عليهما حتى بعد خروجهم من المعتقل.

ملك السجن

ذات يوم ارتدى الأستاذ عمر التلمساني بدلة السجن مكويةً، فرآه ضابط يحقد على الإخوان، وكان الأستاذ عمر في قمةِ أناقته بهذه البدلة، لكن ذلك لم يرق للضابط فسأل الأستاذ عمر: (إيه ده)؟

فقال له: بدلة سجن يا فندم.

فقال الضابط: “أنت راح تشتري السجن؟”

فرد الأستاذ عمر بسرعة وطلاقه: “لا، والله ما اشتريه، ولا يدخل ذمتي بمليم”.

العدل والإنصاف في فهم المرشد الراحل

يقول فضيلته: مما يصاب به بعض الناس أن يحكموا قبل أن يتبينوا، وهذا منهي عنه شرعاً، فيجرون وراء أوهام تطوف بخواطرهم سواء استقام طريقهم أو اعوج، فإذا قرأوا لأحد الإخوة مقالاً مثلاً رأيتهم يجتزئون بعض فقراته ليحكموا على المقال كله من خلالها، مع أن العدالة تقتضي تقويمه كاملاً، فإذا رجح سداده كان خيراً مشكوراً، وإن غلب سيئه كان محل المؤاخذة..

وذلك هو المعيار الذي يحاسبنا به الله يوم القيامة، حيث توزن الأعمال بقسطاس الحق، فإذا رجحت الحسنات أدخل المسلم الجنة بفضل الله على ما في صحائفه من السيئات، أما إذا غلبت السيئات فإلى النار حتى تطهره عدالة الله.

وما أكثر ما يغفل البعض هذا العدل الرباني، فيقصدون إلى التماس الخطأ في أعمال إخوانهم، فإذا ما عثروا على ذرة من ذلك طاروا بها فرحاً، ثم راحوا يشهرون بها نقداً وتجريحاً..

كل ذلك وهم بعيدون عن ميدان المعركة، لا يدري أحدهم ظروفها ولا ملابساتها، ولا يقدر مسئولية القائد إن تقدم أو تأخر أو داور.. وما احسب مثل هذا الإنسان سليم الطوية أو سوي التفكير، وليس معنى ذلك ادعاء العصمة، وهي لا تكون إلا للأنبياء، والكمال لله وحده.

إن كتاب المسلمين يزنون كلماتهم وهم يخطونها ويقومون عباراتهم وهم يقدمونها، لأنهم يعلمون بيقين أنهم ليسوا مسئولين عن أنفسهم فحسب.

فرب كلمة تساق دون وعي ولا تقدير تلحق الضرر بالآلاف من حملة الدعوة، وهي مسئولية ضخمة ثقيلة ما أظنها تخفى على أريب، غير أن البعض يحب أن يتظاهر بالعلم والشجاعة والغيرة على الدعوة ما دام آمناً مطمئناً، جرياً على طريقة القائل :

وفي الهيجاء ما جربت نفسي                    ولكن في الهزيمة كالغزال

ولعل أعلى الناس صوتاً بالشجاعة والإقدام أسرعهم إلى الفرار يوم الزحام..

على أن هناك فريقاً من حسني النية يحرصون على ألا يسقط أخ لهم في محذور أو محظور، فهؤلاء تشفع لهم نواياهم، وإن كنا ننصح لهم بالتأني والتروي قبل إصدار الحكم، خشية المسألة أمام الله، مع العلم بأن خلوص النية غير كاف حتى يصحبه سداد القول والفعل في الحياة الدنيا على الأقل.

ولا ننسى أن المسلمين مطالبون بالستر على بعضهم، فلا يسيرون بالسيئة بين الناس معالنين، حتى إذا ما عاتبهم أحد تذرعوا بحجة الخوف على أخيهم، وحرصهم على أن يكون فوق الشبهات وهي حجة لو عرضوها على معيار الإسلام لوجدوها عليهم لا لهم، ولأمسكوا أن يكونوا من الذين قال الله فيهم (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) (سورة النساء 83) لئلا يأخذوا البريء بجريرة المذنب، فكم ظاهر في صورة الخطأ ينكشف عن محض الصواب حين تدقق الوقائع.. فليرحم هؤلاء أنفسهم، وليشفقوا على المحاطين بالأخطار، فيعينوهم أو يدعوهم، بدلاً من أن يلاحقوهم بإشاعاتهم وأذاهم !..

إن الثقة أحد عناصر الأخوة في الله، فإذا توافرت سترت العيب وعالجته في مودة، وإذا فقدت كان الغرض هو تضخيم الخطأ إذا وجد، واختلاقه إن لم يوجد..

ولا شأن لنا مع هؤلاء المبتغين للبرآء العيب، وإنما نخاطب إخوتنا في الله فنذكرهم بما قد يغفلون عنه من مشتبهات الأمور، ليكونوا لنا معينين لا معوقين..

المرشد الراحل ونظرته للعلاقة مع الأفكار المناوئة للإسلام في رده على اتهام السادات

إن دعوة الإخوان قامت على الإيمان العميق. واليقين الخالص.

لقد علم الخاص والعام أن الإخوان يرفضون الدخول في جبهات، لأن الجبهة الوحيدة لهم هي عقيدتهم الإسلامية، فكيف يمكن أن يجتمع الإلحاد والإيمان في إهاب رجل واحد !..

وإذا فرضنا أن ائتلفنا مع غيرنا لإزالة حكم ما، ثم وصلنا إلى ما نريده، فأي منهم هو الذي سيحكم أو يسود !..

ألا نكون بذلك قد خرجنا من ائتلاف مع جهة واحدة إلى صراع مع عدة اتجاهات !.. ما لكم كيف تحكمون !.. ثم ما مضمون هذا التقارب ؟..

أيتنازل الإخوان عن شيء من معتقدهم، والأخرون عن شيء ليكونوا منهاجاً أسود، أبيض، أحمر، أخضر، أزرق، أصفر في وقت واحد ؟!..

أما القصة التي حيكت حولها كل هذه الأقاويل فإليكها :

كنت في معتقل القصر العيني، وكان هناك بعض المعتقلين من مختلف الهيئات والاتجاهات، فلم أجد إلا أدباً وحسن معاملة وتبادل احترام..

وقد كان بعض المعتقلين من الشيوعيين يؤدون معنا صلاة الجماعة، بل لقد قمت ذات ليلة للتجهد فرأيت أحدهم يتوضأ ليتهجد أيضاً، فهل من حقي شرعاً إذا سئلت عنه أن أنكر رؤيتي لصلاته !.

ألا يعلم المعترضون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي للصلاة على ميت سأل : هل رأوه يصلي ؟..

فإذا جاء الجواب بالإيجاب صلى عليه، وإلا فلا..

هل يريد المنتقدون أن أدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقاء انتقادهم أو اعتراضهم !..

ألا فمهلاً.. بعض هذا التدلل.

لقد أمرنا ديننا أن نحسن معاملة الناس أياً كان دينهم، وكان يزور جاره اليهودي إذا مرض، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي..

أليس هذا هو أدب النبوة !..

أم يريدون أن نخاشن الناس ونجافيهم..

وإذا دعتني لجنة الحريات في نقابة المحامين للكلام في الموضوع..

أأرفض أم أذهب لأقول كلمة الحق والدين !..

ففيم الاعتراض، وعلام الانتقاد ؟!..

وابن عباس رضي الله عنه كان يسلم في طريقه على المسلم وغير المسلم، فلما قيل له في ذلك

أجاب: حتى يعرفوا أننا مسلمون..

وماذا يقول هؤلاء الغاضبون في قول الله تبارك وتعالى:( وقولوا للناس حسناً)

فقد عمم فذكر الناس ولم يخص المسلمين وحدهم !..

وكان بين أمراء المسلمين من الأمويين والعباسيين محالفات مع غير المسلمين، فلم يعترض واحد من فقهاء تلك الأعصر، وبينهم الشافعي وابن حنبل ثم ابن تيمية، وغيرهم

أأنتم أشد حرصاً على الدين من أولئكم !..

وقبل ذلك عقد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله محالفة مع يهود المدينة، وقال عن حلف الفضول الذي حضره في الجاهلية: لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.

ألا بربكم دعونا من شكلياتكم التي تصور الإسلام على غير حقيقته وأربعوا على أنفسكم، فإننا نتصرف بفهم صحيح من ديننا، ولسنا بالمترخصين في شيء يمس عقيدتنا الطاهرة من قريب أو بعيد.

ولقد علمتم أن حضور الإخوان اجتماع الهيئات الناظرة في مستقبل الديمقراطية بمصر أدى إلى صدور بيان المجتمعين متوجاً بطلب التطبيق لشريعة الله، وعودة الأئمة المبعدين إلى مساجدهم، أفليس في ذلك ربح للدعوة وتأييد لمبادئ الإخوان المسلمين !..

فماذا تريدون بعد هذا.

لقد اتهمنا السادات بأننا المسئولون عما سمعناه بالفتنة الطائفية، فكان تعاملنا مع أقباط مصر، وموقفهم منا أثناء مرض بعضنا، أبلغ رد على تلك المفتريات.

ولسنا نمن بعمل ولكننا نشهد الله أن المسلمين أبعد الناس عن التعصب، وأن محمداً صلوات الله وسلامه عليه ما أرسل إلا رحمة للعالمين.

إن دعاة الإسلام في أمس الحاجة لإثبات هذه الحقيقة للناس جميعاً حتى يعلموا بيقين أن سماحة الإسلام وجماله وجلاله فوق كل الشبهات، وقد رأينا ربنا تبارك اسمه حين يصف اليهود بأنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين لم يجعل هذه العداوة متبادلة، بل جعلها من ناحيتهم وحدهم، لأن المسلمين مكلفون دعوة الناس إلى ما يسعدهم ويحييهم في الدنيا والآخرة، ولن يكون ذلك بمعاداة الناس والتجهم لهم، ولكن بالتودد إليهم ترغيباً وتحبيباً بدعوة الله..

هذه طريقتنا ولن يثنينا عنها مخالف أو معترض، والله نسأل الهداية والمغفرة للجميع..

المرشد الراحل ورؤيته لاتجاهات العنف بين الشباب في إجابته على سوال صحفي

السؤال: كنت أحد الجهات المدعوة للشهادة في قضية الجهاد بيد أن الظروف حالت دون حضوركم يومئذ ولو قدر لكم الحضور، فما الفكرة التي كنتم ستدلون بها إلى المحكمة في هذه القضية !..

المرشد الراحل: ما كنت بزائد على ما قاله فضيلة الشيخ الجليل صلاح أبو إسماعيل عضو مجلس الشعب إلا أني أضيف إلى ذلك إقراري بأن الشباب أخطأ، وأن الحكومة أخطأت كذلك.

الشباب في اتجاهه وأخطأت الحكومة في تصرفاتها معهم.

إنه شباب مسلم حقاً، ولكنه أخطأ الطريق في إقامة ما رآه من اعوجاج.

لقد فسحت الحكومة المجال لشرح وجهة نظرها، وحرمت الشباب حقه في عرض مفهوماته، وليس هذا بالمنهج المنشود في الإصلاح، فالحجة بالحجة والدليل بالدليل، وليس سوى هذا للإصلاح والتصحيح من سبيل، إلا أني أصبحت مرتاحاً لما يعرضه علينا التلفاز من الحوار الذي يقوم به أفاضل العلماء وهذا الشباب...

والله هو المسئول أن يأخذ بيد الجميع إلى خير الإسلام والمسلمين.

- وما مطالعاتكم في شأن الحوار القائم بين لجنة بالأزهر وفضيلة الشيخ صلاح أبو إسماعيل حول شهادته في هذه القضية....

إنني أميل إلى الأخذ برأي فضيلة الشيخ صلاح، لأن ما فصله في شهادته عن أوجه الإنحراف الاجتماعي والفردي والحكومي هو من الواقع الذي لا مندوحة من أن يؤخذ فيه بالرأي الحاسم، والإجراء الفاصل، لكي توضع الأمور في نصابها..

وإني لمع القائلين بعدم إسكات المتألم الباكي قبل أن أطلب من المتسبب في هذه الآلام أن يقلع عن كل ما دعا إلى التألم والشكوى.

وقد اعتبر عمر بن الخطاب نفسه مسئولاً عن ضرر العاثر إذا لم يكن قد سوى له الطريق، فما بالنا ونحن نرى الصراصير والنمال تتهاوى على مقدسات العقيدة والأخلاق !!.

إنني بطبيعتي لا أقر العنف أياً كانت صوره، ولكني أصرح في الوقت نفسه بوجوب إزالة كل المسببات لطلقات المدافع والرصاص.

إن قضية الجهاد بين يدي قضاء عادل أثبت نزاهته ومراقبته لله الذي يحول بين المرء وقلبه، وهو المسئول أن يلهمه الصواب، وأن يجري الحق على لسانه أياً كان الحكم الذي سيصدره..

بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك فأطالب بالتقويم وسيادة الألفة والتعاون والتوادّ بين الجميع، ولو افترضنا أن هناك إدانة فإن تصحيح المسيرة لا يزال في يد السيد رئيس الجمهورية، لأن الدستور يمنحه العفو الشامل، إذا ما قدر أن ذلك في مصلحة الوطن.

إن لمثل هذه الخطوة فاعلية رائعة في نفوس الشباب، إذ يؤمنون حينذاك أن أزمة البلاد في يد أمينة حانية، ولا مرد لما حدث، أما الإبقاء على الأحياء بالعفو والصفح فقد يكون من ورائه خير كثير..

- على الرغم من كل المعوقات التي تواجه مسيرة الدعوة في معظم الديار الإسلامية يلاحظ أن ثمة نهضة إسلامية تتنامى بقوة وعمق، ولا سيما في الأوساط الجامعية العلمية وبخاصة في مصر.. فما تفسير ذلك، وما توقعاتكم بشأنه، وما السبيل إلى ضبط هذه النهضة في طريق الإسلام الصحيح!..

لقد بلغ الفساد بالمجتمعات الإسلامية حداً لا يمكن تجاهله، وآمن الجيل الحاضر والغابر ألا ملجأ ولا منجاة من ذلك التدهور إلا بدين الله، فانبرى لحمله صادقاً مخلصاً، وأخذ المد الإسلامي يرقى ويتسع، فأنزل به أعداء الإسلام ضربات قاسمات حسبوا معها أنهم بذلك يقضون على الدعوة والدعاة، وغالوا في تخبطهم فسلكوا إلى أغراضهم كل سبيل شيطاني، وكل وسيلة جهنمية، فاستباحوا الأعراض، وانتهكوا الحرمات، وتنكروا لكل معنى إنساني..

وما كان أشد غيظهم عندما رأوا أن كل منة ينزلونها بأهل الحق تزيد من تصميمهم فيزدادون عدداً وإقبالاً على الله، وكأنما كل تلك المحن مغريات بالمضي في سبيل الله.

ومن هنا شرعوا في تعديل طرائقهم فجربوا وسائل الإغراء من المال والمباهج والمراكز، وإذا بالنتائج عكس ما يتوقعون، فلا الإغراء بمجد، ولا الإرهاب بناجع،فعادوا إلى الإجرام مرة أخرى، ولن يفلحوا إذا أبداً..

والسر في ذلك غاية في البداهة، ذلك أن الإيمان إذا خالطت حلاوته القلوب، وتمشى برده في الصدور، هان على أهله كل ما يبتلون به.. وقد اقتدى شبابنا الطاهر بسلفه الصالح، وراجع مواقفه الإيمانية، فإذا هو مصمم على احتمال أمثالها في سبيل الله، لم يزده البلاء إلا إصراراً وتسليماً، فإذا ما اكتوى جسده الناحل بلذعات السياط، انطلق لسانه بكلمة التوحيد..

ذلك هو الطريق الوحيد لترسيخ العقيدة ونشرها وإنمائها وامتدادها إيمان بالله. وحب له يفوق حب المال والأهل والولد والجسد، واحتساب لا شكوى معه، ويقين راسخ بموعود الله ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).

أجل.. إن الوعي الإسلامي قد استيقظ في قلوب المسلمين وهيهات أن يناموا، وقد لفتت هذه اليقظة أنظار الشباب إلى ما عليه أمتهم من ضعف وهوان، فعز عليه أن يرى خير أمة أخرجت للناس في هذا الدرك المشين، فعاهد ربه على العمل لعودة العزة السليبة أو الموت الكريم في طاعته.. وهكذا استهانوا بقوة الأعداء اعتزازاً بقوة الله، فهم منتشرون في أرجاء الأرض داعين إلى الله على بصيرة، مصممين على استرداد القياد الذي سلبتهم إياه القوى الباغية، لتعود القافلة التائهة إلى المحجة الهادية،فتقدم للبشرية الضائعة أكرم رسالة وأقوم منهاج يخرجها من الظلمات إلى النور.. ذلك هو واقع الجيل الذي يمثل هذه النهضة في مصر بخاصة وفي العالم الإسلامي كله بعامة، وما دام المنطلق صحيحاً سليماً فالعاقبة من النوع نفسه، إن شاء الله ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (سورة النحل 128).

قالوا عن

أ. عمر التلمساني

كتبت صحيفة (وطني) لسان حال الكنيسة المصرية في عددها الصادر في 25/5/1986م، عن المرشد الراحل أ. عمر التلمساني فقالت:

توفي إلى رحمة الله الأستاذ الكبير عمر التلمساني بعد معاناة مع المرض، فشق نعيه على عارفيه في مصر وفي العالم الإسلامي الذي يعرف كفاحه من أجل الدعوة التي حمل لواءها، وامتاز فيها بأصالة الرأي ورحابة الصدر واتساع الأفق وسماحة النفس، مما حبب إليه الجميع من إخوانه ومواطنيه، كما كانت علاقته بإخوانه الأقباط علاقة وثيقة عميقة تتسم بالتفاهم التام والحب والصداقة.

رحل رحمه الله عن عمر أربى على الثمانين وكان يشكو في سنيه الأخيرة من وعكة مرضية إلى أن أصيب بتليف بالكبد اضطره إلى دخول المستشفى من شهر... ومن أسبوعين انتابته غيبوبة، فظل في غرفة الإنعاش على أن جاد بأنفاسه الأخيرة مأسوفًا عليه من الجميع. و”أنطون سيدهم” يشاطر أسرة الراحل الكريم وإخوانه ومواطنيه مشاعر الحزن على فقد هذا الشيخ الجليل، رحمه الله رحمةً واسعةً.

وقال محرر (جريدة الأهرام) في 13/6/1986م:

عرفته منذ نحو عشر سنوات، فلم أر فيه غير الصلاح والتقوى، كان هادئ الطبع، قوي الحجة، يدعو إلى الله على بصيرة من الأمر، ذلك هو المغفور له الداعية الإسلامي الكبير عمر التلمساني الذي فقد العالم الإسلامي بفقده رجلاً من أعز الرجال وأخلصهم لدعوة الحق.

فقدناه في وقت نحن أحوج ما يكون فيه إلى أمثاله من ذوى الرأي السديد، والفكر الرشيد الذين يعرفون جوهر الإسلام ويدعون إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.

إن حزني على رحيل عمر التلمساني شديد، فقد كان الرجل من الدعاة الذين يعملون في مجال الدعوة الإسلامية وفق المنهاج الإلهي الذي يصوره قول الله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: من الآية 286)... وقوله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: من الآية 185).

وإذا كان لي من دعوة أتوجه بها إلى الله عز وجل بعد رحيل هذا الداعية الكبير، فهي أن يوفق سبحانه وتعالى الذين يعملون في مجال الدعوة من بعده إلى العمل وفق هذا المنهاج وإلى السير على طريق الراحل الكريم الذي هو في واقع الأمر، صراط الله المستقيم الذي أمرنا الله بإتباعه.

وقال الأستاذ يوسف ندا:

﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23)﴾ (الأحزاب).

توفى إلى رحمة الله تعالى المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بكافة تنظيماتها المحلية والدولية والعالمية بعد سن قارب الاثنين والثمانين عامًا، تكالبت عليه فيها أنياب الظلم فلم تنفذ إلى عمق توحيده للقادر على الرزق والأجل.

عمل في صفوف الجماعة ثم في قيادتها ثم على رأسها ثلاثة وخمسين عامًا، قضى منهم في السجون والمعتقلات أكثر من عشرين عامًا منهم سبعة عشر عامًا متصلةً.

عاش بقلب كبير احتوى كل من أجهد نفسه في حرب معتقداته، وبخلق كريم أسبغه على الكريم وعلى اللئيم.

وعاش عفيفًا ليس لغير الله عليه يد فكان جبلاً في الإباء والشمم. وفيًّا يذكر ويشكر الكبير والصغير على ما قدموه لغيره أو لدعوته.

عظيمًا في إيمانه وإسلامه، متواضعًا أفخر بالبساط في العيش والمظهر، أكبرته قلة زاده التي نافس بها الفقراء وطهارة القلب وبراءة الوجه وحياء الطفولة التي زينت هيئته وشيبته.

عاش مجمعًا لكل من تفرق على فكر أو عمل أو دين أو مذهب

عاش يدعو الناس حتى يكونوا مسلمين ويؤلف بين المسلمين حتى يكونوا إخوانًا.

وقال الأستاذ جابر رزق المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان المسلمين- آنذاك:

لقد اختار الله الشيخ عمر التلمساني ليقود الجماعة في سنوات ما بعد محنة السجون التي استمرت قرابة ربع قرن من الزمان، فاستطاع بحكمه الشيخ الذي حنكته السنون، وأنضجته السجون، وبميزات شخصه منحه الله إياها، وبأخلاق الإسلام التي صبغت سلوكه وتصرفاته. أن يفرض “الوجود الفعلي” لجماعة الإخوان المسلمين على الواقع المصري، والعربي، والعالمي، فعلى مدى العقدين الأخيرين: عقد السبعينيات وعقد الثمانينيات كانت كلمات التلمساني، وتصريحاته وكتاباته تبرز في مقدمة وسائل الإعلام محليًّا وعربيًّا، وعالميًّا، والإذاعة ووكالات الأنباء من كل أنحاء العالم، وجاءه مندوبو الصحف حتى اعتبر عام 1980 صاحب أكبر عدد من الأحاديث الصحفية والتليفزيونية على مستوى العالم.

وكتبت المرحومة السيدة زينب الغزالي تقول:

عرفته، فقرأت في تقاسيم وجهه الحب لكل الناس. لا بأس من أن يرى العاصي يومًا، تقيًّا نقيًّا قريبًا من الله.

يغفر للحاكم المسيء، كما يغفر للفقير الذي استغرقه الخطأ، ولكن لا يكف عن نصيحة الحاكم وتربية الفقير، لا يخشى إلا الله، ولكنه يستحيى أن يقول لإنسان أنت مسيء، فقط يدعو له ويعظه في جموع المسيئين والمحسنين.

يحمل الطهر في كل جوارحه، لحقيقةٍ جُبل عليها، عف اللسان مع من أساء.

حيي كالعذراء البتول، قوي في الحق الذي اعتقده، مصر على نصرته، أب لكل أتباعه ومريديه، الشدة لا ترهبه، غياهب السجون لم تزده إلا إصرارًا على الحق، وتفانيًا في نصرته.

ولا أنسى ذلك اللقاء، وكان في ألمانيا، عندما سألته: المسلم إذا احتاجك وليس من جماعتك، وأنت قادر على مساعدته، ماذا تفعل؟

قال لا أتأخر لحظة واحدة على نصرة مسلم.

يقول الأستاذ صالح أبو رقيق من الرعيل الأول وعضو مكتب الإرشاد:

كان فقيدنا الجليل طيب الله ثراه، سمحًا يذوب رقةً وحياءً، ويتألق تواضعه في عزة المؤمن، وكبرياء الواثق من نفسه والمقدر لمكانته، دون صلف أو تكبر، من الذين قال الله فيهم ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ (المائدة: من الآية 54).

جاهد في سبيل الله أصدق جهاد، وتحمل في سبيل ذلك أشد العذاب وقدم أعظم التضحيات.. وكان متمكنًا في الفقه، عالمًا بجميع جوانب دينه الحنيف، متحدثًا مقنعًا. وخطيبًا مؤثرًا، تخرج الكلمات من أعماق قلبه، فيأتي وقعها على القلوب بردًا وسلامًا. عذب الأسلوب، مهذب المنطق، في جلال ووقار.

تاريخه حافل بالمواقف المشرقة، ولم تثنه الأحداث الجسام وشرور اللئام عن قول الحق، والتمسك بالحق، والصمود من أجل الحق، الذي كان يؤمن به.

ولا أنساه في سجن الواحات الذي خصص أصلاً للإخوان المسلمين ومن بعد للشيوعيين، والجو قاري، وقارس البرد شديد الحر، مع العواصف الرملية الشديدة التي يدخل رملها في مسام الجلد، فتثير الأعصاب، وتقلق الراحة وتقض المضاجع وتزعج النفوس، ظروف غاية في الصعوبة لا يتحملها إلا أولو العزم، كان رحمه الله يقابلها بابتسامة الرضا العذبة، وجلد المؤمن القوي، الواثق من أن ابتلاء الله لعبده يحقق أسمى الغايات لكل مؤمن، يكفر عن سيئاته ويكون في ميزانه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ولسان حاله يقول قولة الصوفيين: “كل ما يأتي به المحبوب محبوب”.

وقال الشيخ عبد البديع صقر أحد الرعيل الأول في حقه:

عرفته محاميًا ناشئًا يواظب على محاضرات الأستاذ حسن البنا في دار العتبة الخضراء سنة 1936م.. ثم عضوًا في الهيئة التأسيسية للجماعة، ثم عضوًا فيمكتب الإرشاد العام.

كان رجلاً جميلَ الخلقة، متكاملَ الهيئة، تامَ الأناقة وكان أمثالنا من “المنتوفين” يقولون عنه وعن أمثاله من الوجهاء “ مثل محمود أبو السعود وحسين عبد الرزاق ومحمد محمود الصواف ومصطفى السباعي”

يقولون: هل هذه الأشكال تصلح للعمل الإسلامي؟ أو تقوى على “البهدلة” في سبيل الدعوة؟..

ولكن محيط الدعوة كان سوقًا كبيرًا يتسع “للمشطوفين” و “المنتوفين” على حد سواء.

والمحنة لا تحتاج لأسباب فهذا المحامي المترف الخجول لم يشتم أحدًا ولم يشترك في نقاش مع أحد فضلاً عن أن يضرب أو يجرح وكان مستغرقًا في مكتبه الناجح.

ولكنه سيق إلى السجن ثلاث مرات قضى في بعضها سبعة عشر عامًا متوالية وفي الصحاري المحرقة.

وقال عنه الشيخ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير بجامعة الأزهر الشريف:

رحم الله عمر التلمساني رضي عنه وأرضاه في الجنة فقد كان نفحةً من نفحات الله تعالى في حياته ومماته جميعًا.

وذلك منذ بدأ رحلته في الدعوة الإسلامية منذ نصف قرن أو يزيد، وكان يومئذ شابًا يافعًا مترفًا، أنيقًا رقيقًا، يشفق عليه الخبراء بأثقال الطريق، وأعباء الدعوة، وتبعات البيعة.

ثم حين ختم رحلة حياته وهو يحمل الراية، ويرفع لواء الإسلام، ويقدم الصفوف جميعًا، يرى راحته في دعوته، رغم وهن العظم، واشتعال الشيب، وأنه “لم يعد في قوس العافية منزع” كما قال في آخر لقاء عام له في نقابة الأطباء في شهر ربيع الأول الماضي.

كان الرجل رحمه الله نفحة إلهية هادية، وهادئة. وكان نسمةً طيبةً. مطمئنة إلى جنب الله تعالى، اطمئنانًا راسخًا عبرت به رحلة هذه الحياة الصاخبة عبور الطيف المنير، حتى خلصت إلى ربها راضية مرضية بإذنه وفضله تعالى.

هل نذكره رحمه الله وهو في السجن المتطاول تعلوه بسمته، وأمله الدائم في الله رب العالمين؟

هل نذكره وهو يذوب حرصًا على هذه الدعوة، ونصحًا لهذه الأمة، وإخلاصًا لهذه الجماعة المؤمنة، التي سلكت طريق الأنبياء عليهم السلام، ولا بد أن تشرب من نفس الكأس، وتخضع لسنة الله الدعوات وأصحابها؟

إننا لنذكره رحمه الله وهو يخط كلماته الندية من المعتقل، إلى الإخوان في السجون، تبشرهم بنصر الله وعظيم الأجر، وجميل التفويض.

أن ألحق بإمامي الشهيد حسن البنا وقد وفيت بيعته.

وكتب الأستاذ فتحي رضوان رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان:

عرفت عمر التلمساني الذي استحق عن جدارة اللقب المهيب الجليل لقب “شيخ” وهو محامٍ في مدينة شبين القناطر يمارس عمله إلى آخر العمر متواضعًا لا يلفت إليه النظر، بصوت عالٍ، ولا بمشية يشوبها الخيلاء ولم نكن نعرف آنذاك عنه أمورًا منها أنه حفيد “باشا” من باشوات العرب الأغنياء الذين فاض الله عليهم رزقه؛

كما لم نفطن من مجرد اسمه أنه عربي من الجزائر مما يرفع قدره ويعلي من شأنه، فالجزائر هي موطن الجهاد والسلاح والوقوف في وجه استعمار الفرنسيين سافكي الدماء، وهاتكي الأعراض، وقاطعي الطرق فقد تصدى لهم عبدالقادر الجزائري بسلاح بسيط فأثخنهم جراحًا سبعة عشر عامًا، والعجيب أن السبعة عشر عامًا هذه، كانت من نصيب عمر التلمساني سجنًا متصلاً.

احتملها صابرًا محتسبًا وخرج إلى الحياة فكأنه كان في نزهة فلم يحدث عن هذه الفترة الطويلة من القيد أو الحرمان والتضييق وتولى مكان الرياسة والصدارة بين جماعته.

وقال عنه الكاتب الصحفي محسن محمد تحت عنوان “من القلب”:

قابلته في مكتب جريدة “الدعوة” بالقاهرة،لا توجد حوله سكرتارية ضخمة، أو قيود تمنع لقاءه.

والمكتب الذي يجلس عليه صغيرًا للغاية فقد نبذ الرجل الأبهة، وقد كان من أغنياء الإخوان في شبابه.

وكتب الدكتور حلمي محمد القاعود أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة طنطا يقول:

لا أزعم أنني سأضيف جديدًا إلى ما كتب حول عمر التلمساني المسلم الصابر المحتسب، ولكني أزعم أن تقديم الرجل كقدوة هاجس يشغلني، بعد أن أصبح الذين يعنيهم تنوير هذا الشعب يكتفون بتقديم نماذج هامشية أو تحت مستوى الشبهات. لتكون الأسوة التي يحتذيها أبناء وبنات الوطن.

ولا أعتقد أن مرحلة حرجة من حياة الوطن أحوج ما تكون إلى تقديم عمر التلمساني كقدوة مثل هذه الفترة التي سادت فيها أخلاقيات الانتهازيين المرتشين والوصوليين والمنافقين والمصالح المتبادلة.

فالرجل رحمه الله كان يمثل صورةً مضيئةً للمسلم الذي ظل طوال حياته “1904 - 1986م” يطمح إلى المثال الحي والقيم المضيئة.

وقال الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله:

كنت في شبابي أرى الأستاذ عمر التلمساني يتردد على الأستاذ المرشد العام، ويتحدث معه في شئون الدعوة، ويتزود منه بشتى التوجيهات: كان يومئذ يشتغل بالمحاماة، وله مكتبه في بلدة “شبين القناطر” وكان إلى جانب ذلك عضوًا في مكتب الإرشاد.

السمة العامة التي كنا نعرفه بها: وجهه البشوش وأدبه الجم وصوته الهادئ، وظاهر من حالته أنه كان على جانب من اليسار والسعة لا يسلكه في عداد المترفين، وإنما يخصه من متاعب الكدح ومعاناة التطواف هنا وهناك، ويحفظ عليه حياءه الجم.

وقد حمل الرجل في شبابه أعباء الدعوة الإسلامية في غربتها، ورأيته يومًا ينصرف من مكتب أستاذنا حسن البنا بعد لقاء لم أتبين موضوعه، ورأيت بصر الأستاذ المرشد يتبعه وهو يولى بعاطفة ناطقة غامرة، وحب مكين عميق، فأدركت أن للأستاذ عمر مكانة لم يفصح عنها حديث.

وقال الأستاذ أنور الجندي الكاتب والمفكر الإسلامي:

حياة عريضة خصيبة، كانت منذ يومها الأول إلى يومها الأخير خالصة لله تبارك وتعالى..

فقد كان “عمر التلمساني” نموذجًا كريمًا، وأسوةً حسنةً وقدوةً صالحةً يمكن أن تقدم للشباب المسلم في كل أنحاء الأرض لتصور له كيف يمكن أن يكون المسلم داعيةً إلى الله موقنًا بقوله تبارك وتعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾ (الأنعام).

وكتبت مجلة (اليقظة) الكويتية تحت عنوان “الشيخ عمر التلمساني من حياة مترفة إلى سجن وتشريد” فقالت:

﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيل(23)﴾ (الأحزاب)

صدق الله العظيم.

هؤلاء الرجال الصادقون كانوا كثرة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما تطاول العهد وتقادم زمان النبوة قل أولئك الرجال الصادقون حتى أصبحوا في ندرة الدر والجوهر.

إذا كان في زماننا هذه أحد من أولئك الأبطال فإنه بلا ريب الشيخ عمر التلمساني الذي جاء نعيه منذ أيام ونزول خبر موته كالصاعقة على قلوب محبيه ومريديه والمعجبين به.

والشيخ عمر التلمساني كان محبوبًا لدى الجميع من عرفه عن قرب أو سمع عنه عن بعد، وذلك لدماثة أخلاقه، ورقة قلبه، وتسامحه العظيم حتى مع أعدائه ومخالفيه.

وكتب سيد هادي خسرو شاهي في جريدة (اطلاعات) الإيرانية في عددها الصادر في يونيو سنة  1986م يقول:

“كان وفيًّا لمبادئ الإخوان طوال حياته، قضى عشرين سنة من عمره في سجون الاشتراكيين وأتباع القومية العربية بعد المؤامرة الغادرة التي دبرها جهاز الأمن المصري ضدهم بأوامر الضباط الديكتاتوريين حكام مصر، وذلك من أجل قمع الإخوان المسلمين.

يرحم الله الشيخ الذي بقي صامدًا في طريقه ولم يستسلم لليسار المزور أو اليمين المتطرف، وأسلم الروح في النهاية بجبين مرتفع وتاريخ وضاء وهو اليوم بلا شك في حضرة العدل الإلهي وينبغي على فراعنة مصر أن يقدموا لله حساب الظلم الذي ألحقوه به وبآلاف المسلمين المصريين الآخرين، والأمة المصرية والعالم العربي والإسلامي؟!”

وقالت جريدة الرأي العام في عددها الصادر في 30/51986/م تحت عنوان “المجاهد الإسلامي عمر التلمساني وداعًا”:

فقدت الأمة الإسلامية مجاهدًا بارًا.. أعطى حياته لقضية الإسلام وظل حتى آخر رمق في حياته ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية كوسيلة لخلاص الأمة العربية من الأزمات والنكبات التي لاحقتها في السنوات الأخيرة بعد أن تعثرت قوانين الشريعة في دهاليز مجالسها النيابية، لقد كان عمر التلمساني.. المجاهد الإسلامي، لا يخاف لومة اللائمين، أو ظلم الحكام، أو إرهاب أعداء الإسلام، وكان يقول كلمته لوجه الله تعالى.

وكان رحمه الله مناضلاً كبيرًا، لا يهادن، ولكن يجنح للسلم دون ضعف أو ترجع، وبالرغم من كبر سنه واعتلال صحته فإنه حمل مشعل الكلمة الطيبة المناضلة حتى آخر يوم من حياته، وحظي باحترام أعضاء جماعته والناس، و( الرأي العام ) تنعى الأمة الإسلامية في فقدها المجاهد الإسلامي عمر التلمساني، أسكنه الله فسيح جناته.

وكتب الأستاذ خالد محمد خالد تحت عنوانالإخوان المسلمون بين وداع فارس شهيد وانتظار مرشد رشيدفقال:

يوم الجمعة الماضي زفت إلى السماء في عرس عظيم روح فارس شهيد، أجل شهيد!!

فالرجل الذي يواصل رحلته المضيئة في سبيل الله مغالبًا شيخوخته، ومقاومة أسقامه وأمراضه. حاملاً رايته في ثبات وولاء ورشد حتى اليوم الأخير من أيام حياته الوهنانة، غير متجانف لكسل، ولا مجلد لراحة، يرى حياته تميل للغروب، وزورقه يترنح بعيدًا عن المرفأ والشاطئ ثم يصر على المقاومة. الراية ملء يمينه، والولاء لها ملء يقينه. ثم لا يكفكف من بلائه وعطائه سوى غيبوبة الموت، إنه إذن لشهيد وأي شهيد..

كذلكم كان “عمر التلمساني” رحمه الله ورضي عنه.

وإني لأبصر في هذا الرجل “مَعلمًا” من معالم الدعوة التي فتح كتابها، واستهل شبابها الإمام الشهيد “حسن البنا“ رضي الله عنه وأرضاه.

“عمر التلمساني” وحده، مَعلم من معالم هذه الدعوة بما أورثته من هدى ونور..!!

ولقد كان الرجل المناسب في الوقت المناسب لقيادة “الإخوان المسلمين“ الذين خرجوا من محنتهم التي تتضاءل أمامها كل المحن، يتلمظون برغبة طبيعية في الثأر والانتقام..!!

فجاءهم “عمر” وقد انتفع بالدرس القديم!! وحذق العبرة منه. وصادف ذلك طبيعة فيه وديعة، ومسالمة، فنبذ العنف ونسي الثأر.

وقال عنه الصحفي الكبير الأستاذ مصطفى أمين تحت عنوان “فكرة”:

لو كان عمر التلمساني على قيد الحياة لاستنكر إحراق المسارح ومحلات الفيديو ومحل بقال في الزمالك.

فالإسلام الذي سمعته من فمه دين يدعو إلى الحب والتسامح والبناء والتعمير، ويرفض العنف والحرق والتدمير.

ولا إكراه في هذا الدين ولا حقد ولا بطش ولا انتقام.

وقد أمضيت سنوات طويلة مع التلمساني في سجن ليمان طرة.

وكانت زنزانته في مواجهة زنزانتي، كنت أراه كل يوم وأتحدث إليه.

وكان أكثر ما حببني فيه سعة صدره واحتماله الغريب، ومواجهته للبطش والاستبداد بسخرية واستهزاء، فقد كان يشعر أنه أقوى من الذين قيدوه بالأغلال، وكان مؤمنًا بأن المحنة لا بد أن تنتهي ويخرج من السجن ويكتب رأيه وينشر الفكر الذي آمن به.

كان يعتقد أن العنف يضر ولا ينفع.

يسيء للفكرة ولا يخدمها.

كم تدخل ليهدئ الثائرين ويهدى الضالين.

وكان التلمساني يرى أن الإسلام يلعن الطاغوت، أي الذي يفرض إرادته على الناس، ويكتم أنفاسهم ليتكلم، ويقيدهم ليتحرك فوق أشلائهم. وكان يعارض الاغتيالات وأعمال العنف.

ويرى أن مقاومة الطاغية تكون بالصمود والإيمان والثبات.

وقال عنه المفكر والكاتب الصحفي اليساري أحمد بهاء الدين:

تركت وفاة المرحوم عمر التلمساني مرشد عام الإخوان المسلمين مذاقًا مرًّا لدى جميع الناس، فالفترة التي وقف فيها الرجل في مقدمة جماعته مرشدًا وممثلاً لهم، تميز فيها أمام الناس بعفة اللسان، وسعة الأفق، واتساع الصدر للحوار، والأدب الجم في هذا الحوار، مهما كان خلاف الآخرين معه.

ولي معه تجربة شخصية جرت هنا على صفحات الشرق الأوسط فقد كان المرحوم عمر التلمساني ينشر مذكراته في جريدة الشرق الأوسط....

وجاء على ذكر واقعة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية، ووقائع أخرى، ونشرت في هذا المكان ردودًا من وجهة نظري على ما قال ورد على، وكررت الرد عليه، فوجئت بعدها بخطاب شخصي منه، رقيق وطويل، يقول فيه بعد كلمات تقدير كريمة منه خلاصته أنه يفضل لو نقلنا الحوار إلى لقاء شخصي وحوار متبادل بطريقة لا تبلبل الناس ولا تستثير مشاعر متناقضة.

وما زلت أحتفظ بهذا الخطاب، معتزًا به، وبلهجة الاحترام مع الخلاف الذي تنطوي عليه، لا لأنه من عادتي الاحتفاظ بالأوراق الشخصية، فأنا شديد الإهمال في ذلك، ولكن لأنني أحب أن أظهره لبعض من لا يعرفون من الخلاف السياسي إلا اللدد في الخصومة والعناد في الحوار، الأمر الذي ينقص ساحتنا العربية كتابةً وخطابةً وصحافةً وإذاعةً إلى حد مرضي تعيس!

ولم نلتق، فبعد أسابيع كنت في حجرة مستشفى المقاولون العرب واكتشفت أن المرحوم الشيخ عمر التلمساني في الحجرة الملاصقة لي، اكتشف هو ذلك قبلي، فكان بعض زواره يمرون على للتحية قائلين إنهم يحملون معهم تحية الشيخ عمر التلمساني.

وقال الأستاذ محمد حامد أبو النصر المرشد العام الرابع للجماعة رحمه الله رحمة واسعة:  

لقد افتقدنا مجاهدًا عظيمًا، ومرشدًا عظيمًا، ومرشدًا راشدًا، حمل الأمانة ونصح للأمة، وأدى الرسالة على أكمل الوجوه، في ظل ظروف صعبة وقاسية ومريرة، ولن نهدأ نحن الإخوان المسلمين حتى نرى شجرة الإسلام قد نمت وترعرعت، لقد كان رحمه الله عف اللسان، عف القلم، عف السلوك.

وقال الشيخ عبدالحميد كشك الداعية الإسلامي الكبير-رحمه الله رحمة واسعة:

الراحل الكريم، يرحم الله جهاده، ويرحم الله صبره بعد الإرهاب والسجون والمعتقلات، ظل في السجون سبعة عشر عامًا فما لانت له قناة، وما انحنى إلا لله، وما ركع إلا لمولاه، وما سجد إلا للواحد الديان، يا عمر نم هادئًا بجوار الحق سبحانه، نم إلى جوار ربك بعد أن صبرت واحتسبت.

نشهد أنك والحمد لله قد صبرت واحتسبت وبلغت وأديت فإلى جوار الله في جنات ونهر.

وقال الدكتور الحبر نور الدين مراقب عام الإخوان المسلمين في السودان:

رحم الله عمر التلمساني الذي قاد دعوة عالمية لا تعرف تجزيئًا ولا تفريقًا، إنها الدعوة الربانية الأصيلة التي لن تموت أبدًا، فأصلها ثابت وفرعها في السماء، لقد كان رحمه الله الوجه الطلق البشوش، لقد كان الخلق الكريم، والأدب الجم، لقد كان ذا عزيمة لا تقاوم، وقناة لا تلين.

لقد كان يعامل الجميع معاملة الأب الرحيم الشفوق، وقد كان ينظر إلى الإخوة من السودان وغير السودان نظرةً واحدةً.

ولقد كتب الشيخ حافظ سلامة الداعية المسلم وقائد المقاومة الشعبية في مدينة السويس الباسلة:

لقد اجتمعت الأمة بكافة ممثليها لتشييع قائد من خيرة قوادها فلم يحدث ما يعكر الصفو ويخدش الأمن، إنه عمر التلمساني الرجل الذي لم يضعف أمام جبروت السلطان.

لقد عاش الرجل في سبيل دعوته كل حياته، ولقد مرت به وبإخوانه وتلاميذه ومريديه الكثير من المحن ومع ذلك ظل صابرًا محتسبًا.

وذكر الدكتور عبد الصبور شاهين ممثل هيئة التدريس بجامعة القاهرة:

لقد كان عمر التلمساني رجل المرحلة، فقد كانت الدعوة قد أساء إليها أعداؤها أيما إساءة، فجاء عمر التلمساني ليطرح على الدنيا وجه الدعوة المشرق فكان صورةً حيةً من صور التسامح والتوازن والاعتدال، صورة الصدر الذي يتسع لسفاهات الأعداء، ولست أنسى يوم واجه السادات وقال له: إني أشكوك إلى الله.

وقال الأستاذ محمد رزق المحامي مندوب نقابة المحامين المصريين:

إن انتساب سيدي وأستاذي الفقيد الذي كان يفيض رقةً وعلوًّا كان شرفًا لنقابة المحامين، إن الأستاذ عمر مات جسده من سنوات ولكن قلبه حي وروحه حية فلم يستسلم للضعف وظل يدعو إلى الله إلى أن سقط وهو في الميدان، اعتقل وعذب، ولكنه خرج أقوى من الحكومة.

إن جماعة الإخوان ليست بحاجة إلى أن تعود بقانون.. فجنازة الراحل الكريم كانت استفتاءً على شرعيتها القانونية، والمحامون يشرفون بانتساب التلمساني إلى نقابتهم.

ويقول الأستاذ محمد سعيد عبد الرحيم في كتابه (عمر التلمساني المرشد الثالث للإخوان المسلمين):

“.. هلك الطاغية وخرج المعتقلون الذين قضوا في السجون سنوات طويلة، خرجوا وقد صقلتهم المحنة فقويت نفوسهم واشتدت عزائمهم، لئن كانت أبدانهم قد وهنت فإن أرواحهم أصبحت أكثر تعلقًا بما عند الله واستصغارًا لكل عرض زائل، وانتفى من قلوبهم الخوف، خرجوا من المحنة رجالاً كالجبال في شموخهم وصمودهم،

في السجن حفظوا القرآن الكريم ونهلوا من العلم، وفي السجن تغلبوا على شهوات أنفسهم، وفي السجن خبروا الناس وعرفوهم على حقيقتهم، لقد كان السجن لهم مدرسةً أي مدرسة، أعطتهم أكثر مما أخذت منهم، ومن هؤلاء الرجال خرج الأخ عمر التلمساني.

إن الله سبحانه قد أعده ليقود الجماعة في هذه المرحلة، فكان هو القائد المناسب الذي قاد السفينة وسط الأعاصير بحكمة وصبر، ولين وأناة مع إيمان ثابت وعزم لا يلين،

لقد انتشرت الدعوة في عهده انتشارًا لم يسبق له مثيل، وأقبل الشباب على الإسلام، حتى أصبح التيار الإسلامي هو التيار الغالب في الجامعات وفي النقابات، بل في مصر كلها؛ لأنه استطاع أن يقود السفينة بخبرة القائد المحنك، ومهارة الربان القدير، وتمكن من أن يجتاز بها المزالق والمخاطر ويوصلها إلى بر الأمان.

لقد عاش رحمه الله كل المحن وقضى في سجون مصر قرابة عشرين عامًا، وكان من أكثر الإخوان صبرًا وجلدًا على تعذيب الزبانية في السجون، ومع ذلك ورغم قسوة العذاب وسوء المعاملة كان لسانه لا يفتر عن ذكر الله ودعوة إخوانه إلى الصبر والثبات، وكان كذلك عفّ اللسان لم تُسمع منه كلمة نابية في حق جلاديه وظالميه، وإنما كان يوكل أمرهم إلى الله فهو حسبه ونعم الوكيل.

وقال إبراهيم سعده رئيس تحرير (أخبار اليوم) عنه بالحرف الواحد:

مات عمر التلمساني، صمام الأمان، لجماعة، وشعب، ووطن!!

مع الأستاذ عمر عبد الفتاح التلمساني

بقلم: مصطفى محمد الطحان

الأستاذ عمر.. هادئ الطبع، لين الكلمة، رقيق المشاعر، إذا قرأت كتبه وجدت عجباً، كيف ينفذ هذا الرجل بالكلمات الهادئة فتصنع بك أكثر من الخطب الحماسية.. كأنها الإعصار الصامت الذي لا تحسّ له أثراً إلا في نفسك وقلبك.

أول مرة التقيته كانت في مصر في المركز العام للإخوان المسلمين.

كان يجلس على منضدة صغيرة.. ويجلس على منضدة مثلها الأستاذ صلاح شادي.. كانا يعملان في تحرير مجلة الدعوة.

جلست إليه، وتحدث معي حديثاً عاماً فلم يكن يعرفني.. صليت معه العصر في غرفة متناهية في الصغر.. بالكاد تتسع لثلاثة مصلين.. هذه هي كل مسافات المركز العام.. غرفتين صغيرتين ومصلى صغير.

من هذا المكان الصغير.. كانت تخرج مجلة الدعوة الناطقة باسم الإخوان المسلمين قوية بكلماتها.. صادقة في لهجتها.. تفعل فعل السحر في نفوس قرائها.

 وبعد صلاة العصر اصطحبني إلى مكتب المحامي شوكت التوني الذي كان يتابع الدعوى التي رفعها الإخوان على الدولة..

فقد كانت الدولة تدعي أن مجلس قيادة الثورة قد حلّ جماعة الإخوان..

وقال القضاء انه ليس لهذا الادعاء صحة.. ومع ذلك فمازالت الجماعة محظورة!!

في السيارة الصغيرة التي كانت تقلنا.. قال لي: لقد كنت أجد في المعتقل وقتاً أنام فيه.. وللأسف فلم أجد مثل هذا الوقت في هذه الأيام.

لقد عاش شيخ الإخوان في شقة متواضعة جداً.. في حارة المليجي الشعبية القديمة في حي الظاهر بالقاهرة وفي زقاق ضيق وسلم قديم متداع، وكان أثاث الشقة غاية في البساطة، برغم أنه ينحدر من أسرة غنية لها مكانتها الاجتماعية المتميزة.. ولكنه زهد الصالحين من أمثال أبي بكر الصديق وعمر التلمساني رضي الله عنهما.

التقيت مع الأستاذ الجليل عمر التلمساني في مدينة لاهور في مؤتمر إسلامي جمعيت الطلبة.. وهو مؤتمر حاشد حضره عشرات الألوف من الطلبة الباكستانيين.. وعندما تحدث الأستاذ عمر علت الهتافات: الله أكبر ولله الحمد.. الله غايتنا، الرسول زعيمنا، القرآن دستورنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا..

كان الاحتفاء بإخواننا عمر التلمساني ومصطفى مشهور احتفاء منقطع النظير.. هي دعوة واحدة.. من مشكاة واحدة.. تنتسب إلى مصدر واحد وإلى زعيم واحد.

بعد اللقاء الحاشد.. وفي اليوم التالي.. تجدد اللقاء مع الأخوين عمر التلمساني ومصطفى مشهور مع الطلبة العرب في اتحاد الطلبة المسلمين وكان حديثاً كريماً شيقاً مشبعاً بالإيمانيات التي يملك منها أستاذنا الشيء الكثير.

في باكستان.. وكانت الدولة الأكثر اهتماماً بالقضية الأفغانية.. قمنا بزيارات ميدانية لمعسكرات المجاهدين في منطقة قريبة من بيشاور.. وعلى الرغم من شيخوخته فقد كان مع إخوانه يتنقل ماشياً بين معسكر ومعسكر.. هذا للجمعية الإسلامية.. وآخر للحزب الإسلامي.. وثالث للاتحاد الإسلامي ورابع وخامس.. وفي كل معسكر كان حديثه رائعاً.. يلتقط المناسبة.. ويعرف تاريخ الجهاد.. ويتحدث للناس حديث العارف بالتفاصيل فتقع كلماته من إخوانه موقعاً حبيباً قريباً.

أرسل الرئيس ضياء الحق أحد إخوانه إلى الأستاذ عمر التلمساني يقول له: إما أن تأتينا أو نأتيك..

وكان خلق الأستاذ عمر الكريم وتواضعه الجم هو الذي يتكلم..

فقال: بل نحن نزور الرئيس ضياء الحق.. ومن صباح الغد ركبنا السيارات في طريقنا إلى بيت الرئيس ضياء الحق.. كان الركب يتكون من الأستاذ عمر والأستاذ مصطفى مشهور والأستاذ طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية والأستاذ خليل الحامدي رئيس دار العروبة للترجمة والنشر وكنت معهم..

احتفى الرئيس بالمرشد العام وإخوانه احتفاء كبيراً.. وحاوره في كثير من القضايا وخاصة قضية أفغانستان.. وقضية الطلبة في باكستان فقد كانت العلاقة متوترة بينهم وبين الرئيس.. وفي ختام اللقاء ودعنا الرئيس وعدنا إلى مقر إقامتنا في فندق إنتركونتنتال في إسلام آباد.

تعود الذاكرة إلى سنة 1933م عندما زاره في عزبته اثنان من شباب الإخوان المسلمين وسألاه: ماذا تعمل؟

فقلت لهما ساخراً: أقوم بتربية الكتاكيت، ولم يضايقهما الرد، وأجاب أحدهما مبتسماً، ولكن هناك من هم في حاجة إلى التربية أكثر من الكتاكيت..

قلت من؟

قال المسلمون..

يقول الأستاذ عمر: كانت هذه هي البداية، فالتقيت بعدها بالإمام حسن البنا في بيته المتواضع، ودار بيننا حديث عن أوضاع المسلمين.. واقتنعت بوجهة نظره..

وبعد أسبوعين تمت بيني وبينه البيعة بأن أكون وفياً لدعوة الإخوان المسلمين..

ويتابع الأستاذ عمر فيقول: لقد اخترت هذه الجماعة دون غيرها لأنه لم يكن في تلكم الأيام أية جماعة أخرى تغشى الأندية والقهاوي والمساجد والمجتمعات والجامعات تدعو إلى الإسلام..

ومنذ لحظة انضمام التلمساني إلى دعوة الإخوان المسلمين أصبح ملازماً للأستاذ البنا يتعلم منه مبادئ الدعوة، ويرافقه في سفراته إلى مختلف أنحاء القطر المصري، كما كان الأستاذ التلمساني في قلب كل المحن التي ألمت بالجماعة، وكان شاهداً على حركة الجماعة في مدها وجزرها.

وبعد وفاة الأستاذ حسن الهضيبي ونائبه الدكتور خميس حميدة، تولى الأستاذ عمر التلمساني في نوفمبر 1973م إرشاد الجماعة باعتباره أكبر أعضاء مكتب الإرشاد سناً، ولم يكن للجماعة وضع قانوني منذ أن عُصف بها وبفروعها، وأصبح التلمساني هو مرجع الجماعة، حيث لم يكن للجماعة تنظيم يخشاه الأمن في مصر، وكان الأمن في مصر يتعامل معه على هذا الأساس.

وإذا كان لا يعرف الفضل إلا ذووه.. فلنقرأ معا شهادة الأستاذ محمد الغزالي بالأستاذ عمر التلمساني.. في مقال كتبه في مجلة الأمة (ذو القعدة 1406 هـ).. أختم به مقالتي عن الأستاذ عمر التلمساني

عمر التلمساني كما عرفته

كنت في شبابي أرى الأستاذ عمر التلمساني يتردد على الأستاذ المرشد العام، ويتحدث معه في شئون الدعوة، ويتزود منه بشتى التوجيهات: كان يومئذ يشتغل بالمحاماة، وله مكتبه في بلدة شبين القناطر وكان إلى جانب ذلك عضوًا في مكتب الإرشاد.

السمة العامة التي كنا نعرفه بها: وجهه البشوش وأدبه الجم وصوته الهادئ، وظاهر من حالته أنه كان على جانب من اليسار والسعة لا يسلكه في عداد المترفين، وإنما يحصنه من متاعب الكدح ومعاناة التطواف هنا وهناك، ويحفظ عليه حياءه الجم.

وقد حمل الرجل في شبابه أعباء الدعوة الإسلامية في غربتها، ورأيته يومًا ينصرف من مكتب أستاذنا حسن البنا بعد لقاء لم أتبين موضوعه، ورأيت بصر الأستاذ المرشد يتبعه وهو يولّى بعاطفة ناطقة غامرة، وحب مكين عميق، فأدركت أن للأستاذ عمر مكانة خاصة لم يفصح عنها حديث.

كان ذلك في أوائل الأربعينيات من القرن الميلادي، ولم أكن أدري ولا خطر ببالي يومئذ أن عمر التلمساني سيخلف حسن البنا، وأنه سيقود ركب الدعاة في أيام عصيبة..

محنة وقى الله شرها

واستشهد الإمام البنا سنة 1949م، واعتقل الألوف من أتباعه، وكان من قدري أن أساق إلى منفى الطور مع بضعة آلاف من الإخوان، وفي طور سيناء رأيت الأستاذ عمر التلمساني في خطواته الوئيدة ونظراته الهادئة يمشي في رمال المعتقل باسماً متفائلاً يصبّر الإخوان على لأواء الغربة وقسوة النفي، ويؤمل الخير في المستقبل.

وحدثت بيننا وبين إدارة المعتقل جفوة خطيرة، لأننا أحسسنا بأن أقواتنا تسرق، وأن تجويعنا مقصود، وبدأنا حركة تمرد كادت تنتهي بمذبحة لولا لطف الله.

ولقيني الأستاذ عمر طيب الله ثراه يقول: محنة وقانا الله شرها، إنك تصرفت بحدة الشباب ومغامرته، ورأيي أن الأمور تعالج بغير هذا الأسلوب.

وشرعت أستمع إليه وهو يشرح فلسفته في الحياة يقول: أنا أكره الظلم وأرثي للظلمة، أنا أكره أعمالهم وحسب، ولا أحقد على أشخاصهم بل أرجو لهم التوبة، وأدعو الله تعالى أن يبصرهم الحق، ويلهمهم الرشد..

ورأيتني أمام رجل من طراز فذ، تحركه في الدنيا مشاعر الحب والسلام، وكأنما فيه قال الشاعر:

أنا نفس محبة كلَّ نفس          كلَّ حيّ، حتى صغير النبات..!!

من شمائله

كان عمر التلمساني يكره الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ويؤثر العزلة، ويرى أنسه في الانقطاع إلى الله، ولم يكن رذائل الرياء والتطلع تعرف طريقا إلى فؤاده، وربما استفاد من مهنته – المحاماة- أن يعرض قضيته بوفاء وشرف، وأن يدع القضاء بعد ذلك يصدر حكمه، فإن كان له رضي، وإن كان ضده قرر أن يستأنفه ليعيد الشرح والإيضاح، وهكذا فعل في قضية الإسلام كله عندما كُلّف بالدفاع عنها أمام الجاهلين والجائرين، كان يلوذ بالنفس الطويل والصبر الجميل، ويحاول بالإقناع المتكرر أن يبلغ هدفه.

وخلال النزاع المحتدم تراه طيب النفس، بادي السماحة، يرمق خصوم الحق وهو يردد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).

ومات حسن البنا، ومات بعده حسن الهضيبي، وشغر المنصب الكبير، وشعرت القافلة المحزونة بأنها تتحمل الكثير في سبيل الله، قتل والله رجال أكابر طالما باتوا لله سجدا وقياما، وطاحت هامات قضاة ودعاة وشيب وشباب كانوا زينة المحافل.. وعشش في السجون آباء تركوا بناتهم في أعمار الورود، فلما خرجوا كانت البنات قد تزوجن: ويا هول ما نزل بضيوف السجن من عذاب: لقد استقدمت كل وسائل التعذيب التي استخدمها ستالين وهتلر حديثا، وفراعنة الشرق والغرب قديماً، فمات من مات وهو يرى في الموت راحته، على نحو ما قال أبو الطيب:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا       وحسب المنايا أن يكن أمانينا

وأما من تخطته المنون لأمر ما فقد عاش مقتول الروح كسير الفؤاد غريبا على الدنيا..

نحتسب ما أصابنا..

وفي وسط الأنواء العاصفة قيل لعمر التلمساني: احمل العلم قبل أن يسقط.

وغضب لفيف من الناس لهذا التكليف، لماذا؟

قالوا: في غمرات المحن التي أصابتنا، وأصابت عمر التلمساني معنا، مات جمال عبد الناصر الآمر بكل ما قاسينا من مصائب، وتنفس الصعداء كثير من السجناء،

ولكن الخبر لما بلغ الأستاذ عمر التلمساني قال: مات؟ انتهى؟ ذهب إلى الله! الله يرحمه..!!

وتصايح الإخوان في غضب: ماذا تقول؟ وبم تدعو؟ كيف يرحم الله قاتل العشرات، وجلاد الآلاف، وقاهر الجماهير، ومزهق كرامتها ورجولتها؟؟

بيد أن عمر التلمساني قال: نحتسب ما أصابنا في سبيل الله، ولا داعي للشماتة..!!

ورأيي أن عمر التلمساني كان صادقاً مع طبيعته، وكأنما كان اختبارا إلهياً أخيرا للقوى المعادية للإسلام، فإن من أبى التفاهم مع الرجل، ورفض لقاءه وأصر على حرب الدعوة وأهدافها النبيلة كما شرحها المرشد الثالث فلن تكون له عند الله وجاهة ولن تنهض له حجة ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)( الشورى- 16).

وذهبت إلى الأستاذ عمر التلمساني لأتعاون معه على خدمة الإسلام، فقال لي: تعلم أن هذا عبء تحملته برغمي، وقبلته وأنا كاره، قلت: أعلم ذلك،

قال: والله لو وجدت من يريحني منه ما ترددت في تركه له.

قلت: أعلم ذلك. ومن أجل ما أعرفه عنك جئت إليك وأنا موقن بأن الله سيؤيدك، فأنت ما سعيت إلى صدارة ولا تطلعت إلى إمارة، ومثلك جدير برعاية الله وتسديده.

قال: لست داعية حرب ولا ذلك من شيمي، ولا تعلمت هذا من حسن البنا.. سأجتهد في جمع فلول الإخوان بعد المحن الرهيبة التي وقعت بهم، وسأعتمد على الله في تكوين قاعدة شعبية عريضة تحيا بالإسلام.. وتكون صورة وضيئة له.

صنفان

وكان يزعجه صنفان من الناس..

الأول: الساسة الضائقون بدين الله النافرون من تعاليمه، وموقفه منهم رحمه الله التريث والمهادنة وإسداء النصح بأدب، وعندما أحرجه أنور السادات قال عمر التلمساني: إذن أشكوك إلى الله،

ولما رد عليه السادات: اسحب هذا الشكوى – ولا أدري أكان جاداً أم هازلاً؟-

قال له: إنني أشكوك إلى الله وهو عادل..!

الحق أن عمر التلمساني كان ملكاً كريما في إهاب بشر أرهقته السنون، وأن الذين أبوا من الساسة المحترفين أن يستمعوا إليه لم يكونوا من أهل الإسلام، ولا من بغاة الخير لأمته..

أما الصنف الثاني: فهو الشباب الشديد الحماس، القليل التجربة، الراغب في الاستشهاد ولما يتهيأ الميدان له بعد.

كان الأستاذ عمر شديد الحنو على هؤلاء الفتية، شديد الرغبة في المحافظة على حياتهم وتجنيبهم معارك لا يستفيد منها إلا أعداء الإسلام..

وهو يرى- والحق معه- أن نفرا من الساسة يدور في فلك إحدى الجبهتين العاملتين المتنافستين..

وكلتاهما تكره الإسلام وتكيد له، وكان رحمه الله يكره تمكين هذا النفر من البطش بالإسلاميين لحساب سادته الدهاة المستخفين،

ويقول: لا معنى لتكثير الضحايا، والزج بالإسلام في معارك خاسرة..!

وأذكر أنه عندما وقعت فتنة الزاوية الحمراء ذهبنا إلى وزير الداخلية الأسبق، أنا وعدد من رجال الجمعيات الإسلامية، وعلى رأسنا الأستاذ عمر، وكنا غضابا لما وقع على المسلمين من عدوان..

وقال لنا الوزير: عاونوني على إطفاء الفتنة، ولكم ما تطلبون بعد إخمادها.

وشاء الله أن تثمر جهودنا في إعادة الاستقرار إلى المنطقة، وألقيت كلمة في الحفل الذي أقيم عند وضع الحجر الأساسي للمسجد جلوت فيه طبيعة الإسلام في أمثال هذه الأحداث.. وقد لاحظت أن ناسا مُريبين كانوا يشتهون إلصاق التهم بالمسلمين.

والغريب أن هؤلاء الناس أنفسهم حاولوا في فتنة فرق الأمن المركزي أن يختلقوا أمورا لا أصل لها البتة كي يجعلوا المتدينين مسؤولين عن تعكير الأمن.

قال لي الأستاذ عمر: إنني حريص على حماية الدعوة من أولئك الذين يتلمسون العيوب للأبرياء، حريص على حماية الشباب المؤمن من أن يُقاد إلى السجون ويتعرض للتعذيب كي تُثبت عليه تهم باطلة.

وعلى أولئك الشبان الطيبين أن يضبطوا حماسهم حتى لا يمكنوا الأشرار منهم، إن سذاجتهم قد تكون مزلقة لهم إلى ما نكره.

رحم الله عمر التلمساني، ورضي عنه، ورزق جماعته من يفيد التجارب  ويبذل للناس وده وبشاشته وطيبة قلبه.

ما أحوج أمتنا إلى ذوي القلوب الكبيرة والنفوس المطمئنة، وإلى التوكل على الله والنفور من الحزازات.

توفي المرشد العام عمر التلمساني، وفي ذكرى وفاته كتب عنه رفيق دربه الشيخ محمد عبد الله الخطيب فقال:

في مثل هذه الأيام من عام 1986م.. سكت الصوت الجريء في الحق، الصوت القوي الصريح المؤدب.. فقد غادر المرحوم الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام للإخوان المسلمين هذه الدنيا الفانية، ولحق بالرفيق الأعلى، عن عمر يناهز 82 سنة..

وهو أحد رجال الرعيل الأول من الإخوان، ومن الذين رصدوا حياتهم لدعوة الإسلام، وعاشوا بها ولها.. ومن الذين حملوا الأمانة بصدق، وتعرضوا لأبشع ألوان التعذيب والتشريد والسجن لمدد طويلة..

ولقد أخذ نفسه بالعزيمة، كشأن أصحاب الدعوات دائماً، وظل حارسا وفيا أمينا عليها حتى لقي ربه.. عزيزا كريما على دعوة الإسلام.

لقد حاول عمر التلمساني مع إخوانه أن ينبهوا المسلمين للكارثة التي تنتظرهم.. فأمريكا سحقت روسيا، ثم استدارت إلى تطويق العالم الإسلامي، وتصفية الحساب مع المسلمين، سواء في آسيا أو في أفريقيا، وبخاصة مع الحركات الإسلامية الداعية إلى الله، والبعيدة عن العنف أو الإرهاب.. لكن المسلمين لم يسمعوا إلا من رحم الله

وأكد دائما أن الطريق الوحيد لتحرير فلسطين والأقصى الأسير والقدس يتمثل في اتحاد الأمة الإسلامية التي تعلن الجهاد في سبيل الله، رداً للعدوان وحفاظا على وجودها وكيانها..

ويتساءل الأستاذ عمر التلمساني: لماذا قتلوا حسن البنا؟

فيقول:

ألأنه أسس ألفي شعبة في القطر المصري كله كانت كل واحدة بمثابة مدارس للوطنية والجهاد والكفاح، وكانت إحياء للرجولة والفتوة وتنويرا للأذهان بحقيقة ما يدور في الموقف السياسي، فربت جيلا جديدا يلتهب وطنية وحماسا وعلى أتم استعداد لبذل روحه وماله وكل ما يملك في سبيل الدفاع عن وطنه وكرامته.

ألأنه انضم تحت لوائه خمسة وسبعون ألف جوال نظفت الشوارع، وأعدت فوانيس الإضاءة وعملت مجالس مصالحات للمتخاصمين وشجعت الشباب على خدمة وطنهم، وقوت أواصر الترابط بين ابناء القرى والمدن بعد أن عمت الخنوثة والميوعة.

وعندما اشتد وباء الملاريا في الصعيد كانت جوالة الإخوان في المقدمة مع المسؤولين، وعندما اشتد وباء الكوليرا عام 1947م في الوجه البحري – وكان كثير من المسؤولين يفرون من خطر الموت- وضعت جوالة الإخوان سبعين ألفا تحت امرة المسؤولين وقد كان لدقة اتصالاتهم وسرعتهم في تبليغ الحالات وتلقي التعليمات والتوجيهات أثرا كبيرا في نجاح المقاومة ووقف تيار الوباء، وهذا ما أعلنه وزير الصحة آنذاك نجيب اسكندر.

ألأنه كان طرازاً فريدا في الوطنية وحب الوطن، لم يألفه من أبرموا مواثيق الذل وصكوك العبودية؟!

ففي إبان محنة الاضطهادات والاعتقالات بعد حل الجماعة حدّث الإخوان بقصة الطفل الذي اختصمت فيه امرأتان إلى سليمان الحكيم وادعت كل منهما بنوته، فحكم بشطره نصفين بينهما، فوافقت المرأة التي لم تلده على قسمته بينما لم توافق الأم الحقيقية وتنازلت عن نصيبها في ابنها نظير أن يظل متمتعا بحياته،

وكان يعقب بقوله: إننا نمثل نفس الدور مع هؤلاء الحكام، ونحن أحرص منهم على مستقبل هذا الوطن وحريته، فتحملوا المحنة ومصائبها، وسلموا أكتافكم للسعديين ليقتلوا ويشردوا كيف شاءوا حرصا على مستقبل وطنكم وإبقاء على وحدته واستقلاله.

الأستاذ عمر التلمساني.. وداعًا:

لقد اختاره الله إلى جواره يوم الأربعاء 13 من رمضان المبارك عام 1406هـ 22/5/1986م حيث توفي بالمستشفي بعد معاناة مع المرض عن عمر يناهز 82 عامًا، ثم صُلِّي عليه بجامع “عمر مكرم” بالقاهرة، وكان تشييعه في موكب مهيب شارك فيه أكثر من ربع مليون نسمة – وقيل نصف مليون – من جماهير الشعب المصري فضلاً عن الوفود التى قدمت من خارج مصر.

لم تشهد مصر، على مدى نصف القرن الأخير وداعًا مثل الوداع الذى كان عند رحيل الأستاذ عمر التلمساني، في ضخامته، وتلقائيته، ومصداقيته وعاطفة المودعين الجياشة.

لن ننسى منظر الشباب دون العشرين، وفوق العشرين... الذين جاءوا من مدن مصر، وقراها، يشاركون في الوداع، وهم يجرون حفاة الأقدام خلف السيارة التي تحمل الجثمان، ودموعهم تكسو وجوههم، يبكون فيه الداعية، والرائد، والقائد، والمرشد، والرمز.

حامل لواء الدعوة الإسلامية على مستوى العالم الذى استطاع على مدى السنوات العشر الأخيرة، أن يعيد للحركة الإسلامية المعاصرة – وطليعتها الإخوان المسلمون – صفاءها، ونقاءها، وسماحتها، ويرد عنها كل السهام المسمومة التي وجهت إليها، والتهم الباطلة التى ألصقت بها، ويدحض كل الافتراءات التي افتراها ضدها المفترون، على مدى ثلث القرن الأخير، ويستل السخيمة من قلوب الأعداء؛ حتى صاروا له أصدقاء.

لقد استطاع الأستاذ “عمر” رحمه الله بأدبه، وحيائه، ودماثة خلقه، ولينه، وصدقه، وتجرده، وإخلاصه، وصراحته، وشجاعته، وتواضعه، ودأبه، وإصراره، وحكمته أن يحقق لجماعة الإخوان الوجود الفعلي والواقعي، وأن يعيد لها ثقلها في المسرح السياسي على المستوى المصري والعربي، والإسلامي والعالمي.

مات المجاهد عمر التلمساني... فقال الشعب المصري من جديد: نعم للإخوان المسلمين!!

ولم تُخف الحكومة ثقتها في الإخوان المسلمين.. فشاركت في تشييع الجثمان، وحضر رئيس الوزراء، وشيخ الأزهر، وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية ورئيس مجلس الشعب، وبعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، ومجموعة كبيرة من الشخصيات المصرية والإسلامية إلى جانب حشد كبير من السلك الدبلوماسي.. العربي والإسلامي.

حتى الكنيسة المصرية قالت: نعم للإخوان المسلمين، وشارك وفدها رئاسة الأنبا نمريعريوس في تشييع الجثمان. هدمت الكنيسة القول الظالم والشائعات المغرضة بأن الإخوان المسلمين ضد الوحدة الوطنية!!

وعلى استحياء قالت وسائل الإعلام: نعم للإخوان المسلمين.. فنشرت خبر الوفاة.. وأثنت على الراحل..

حتى إن إبراهيم سعده رئيس تحرير أخبار اليوم قال بالحرف الواحد: مات عمر التلمساني.. صمام الأمان.. لجماعة... وشعب... ووطن!!

وقال اليساريون المصريون أيضًا... نعم... فحضروا وشيعوا الجثمان!!

وقالت إذاعة راديو أمريكا: إن هذه الجنازة أظهرت قوة وفعالية التيار الإسلامي في مصر خاصة أن أغلبية من حضروا كانوا من الشباب.

وكتبت مجلة “كريزنت إنترناشيونال” في عددها الصادر في 1/6/1986م “بوفاة التلمساني تفقد الحركة الإسلامية جمعاء واحدًا من أبرز رجالها العاملين وستظل تضحياته للإسلام محلاً للذكرى إلى أمد بعيد.

 

نحن على خير حال

بقلم: الأستاذ عمر التلمساني (رحمه الله)

هذا المقال كتبه الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله- (سنة 1986م) ليكون افتتاحية مجلة “الدعوة” عندما تعود إلى الصدور، فلمَّا تأخَّر صدورُها اختير هذا المقال ليكون افتتاحية الكتاب غير الدوري الذي أصدره- رحمه الله- تحت اسم “البشير”، ولكنه لم يرَ النور، وكان هذا المقال تحت عنوان:

نحن على خير حال.

يقول- رحمه الله تعالى:

“أجل نحن- الإخوان المسلمين- على خير حال بفضل المنعم الوهاب، إن وجدنا قانونًا فنحن قائمون بهمتنا في التربية والتوجيه، ورَبْط المسلمين برباطِ الحب، والالتقاء على الله،

وإن حرمونا من الوجود القانوني بسلطانِهم، فنحن المتحابون في الله، المتزاورون في الله، المتجالسون مع الله، في ظلِّ الله، يوم لا ظل إلا ظله، ظل القوي القاهر الجبار، لا ظل واشنطن ولا موسكو، ولا لندن ولا باريس،

ولئن اختلفت القوى المادية على كل شيء، فقد التقت جميعًا على هدف واحد، هو طمس معالم الإخوان المسلمين من الوجود، وهيهات.

 أحلام وردية:

هَالَ أعداءَ الإسلام ما أحدثته دعوة الإخوان من أثر في حياة المسلمين، لقد حسب الأعداء أن المسلمين غدوا جسدًا مشلولاً، لا قدرةَ له على الحركة، فإذا بدعوة الإخوان المسلمين تُخرجهم من هذا الحلم الوردي، وتوقظهم على حسرة ما ظنوا بعدما رأوا أنهم في طواياها غارقون، المسلمون هم الذين صحوا على أغاريد دعوة الإخوان، وعرفوا من دينهم ما كانوا يجهلونه، وأيقنوا أنهم أحق الناس بأستاذية العالم كله، صحوا على مجد بديع أنار الوجود بأن الإسلام دينٌ ودولةٌ، دينٌ يربط الناس بربهم، ودولةٌ تعز المسلمين في معاشهم.

 لاحقتنا المحن من عهد فاروق، فاغتال الإمام الشهيد حسن البنا، وظن- وظن معه من في ركابه- أن المحرك الذي يدير الدعوة ويفديها بدمه قد أفضى إلى ربه، وأن الدعوة ولَّت على أثره، وإذا بالدعوة تجرف فاروقًا وحكمه، وإن نسبت قوى ظاهرة أن الفضل لها.. والفضل لله أولاً وأخيرًا،

ووقعت الواقعة الثانية على يد عبد الناصر فاغتال الشهداء عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وآخرين.. إن كنا لا نعلمهم، فالله يعلمهم، وكفى بعلمه إدراكًا،

ومات عبد الناصر، وها نحن قد قرأنا في الصحف السيارة أن النائب الوفدي أحمد طه قدَّم سؤالاً أو طلب إحاطة، بعد أن شاع أنه لم يمتْ ميتة طبيعية.

 أنياب الديمقراطية:

وجاء السادات يحاول احتواءهم، فلما عجز، أبرز أنياب الديمقراطية كما زعم، فما كنا نعرف أن للديمقراطية أنيابًا ولا أظافر، كنا نعرفها لينةَ الملمس، رخيمةَ المأخذ، عادلةً، لا تتجنى ولا تجور..

كشَّر عن أنياب الديمقراطية كما قال، فاعتقل وصادر وجال، ونسي أن الله من وراء كلِّ ذلك محيط،

وها نحن في العهد الحالي، ولم يسمح بعودة الإخوان، يتمسك بالقوانين الاستثنائية من قانون الأحزاب إلى قوانين الصحافة إلى قوانين الطوارئ، ولا ندري ما تخبئه الأقدار من قانون الطوارئ عامًا ونصف العام، وإن كنا نرجو الخير في وجه الله، ونطلب لهم من الله الهداية والسداد.

 الإخوان باقون:

ورغم هذا كله فقد بقي اسم الجماعة وأثرها فعالاً في كل قارة من القارات..

توقفت مجلة الدعوة من سنة 1981 إلى اليوم، فإذا بصحف العالم كله- عربية وأعجمية، الأصدقاء منهم والخصوم- إذا بها كلها تفتح صدورها على امتداد سواعدها لتتحدث عن الإخوان المسلمين يومًا بعد يوم على التوالي ودون توقف، وعرفنا من لم يكن يعرفنا، وتحدَّث عنا من كان في قلمه عقم، وفي لسانه عي، وفي سمعه صمم، متعمدًا منفعلاً،

أليس من حقنا بعد هذا كله، أن نقول: إننا- بفضل الله- على خير حال؟!... لك العتبى حتى ترضى، يا أرحم الراحمين.

 محاربة الإخوان.. لماذا؟

الكل في مجالسهم الخاصة والمغلقة، يعترفون بصدق نوايا الإخوان في خدمة عقيدتهم ووطنهم، ولكنهم لا يصرحون بها على الملأ، بل يخالف علنُهم سرَّهم في هذا المقام، ترى ما صفة ما يُخفى ضد ما يُعلن؟ ما الذي يكرهونه من الإخوان؟ من حقِّ الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وفرنسا وإنجلترا، ومن يدور في فلكهم، أن يقاوموا دعوة الإخوان المسلمين في شراسة ووحشية، لأسباب كثيرة منها:

1- حيوية الدعوة وفاعليتها في إيقاظ العالم الإسلامي من رقدته، ومطالبته بالعودة إلى سالف عزه ومجده.

2- خطر هذه اليقظة على الاستعمار الفكري والحضارة المادية.

3- خطرها كذلك على الاستعمار الاقتصادي.

4- الخوف على زوال الاستغلال الجشع لكل مواردنا الطبيعية، وكنوزنا التي أنعم الله بها على هذه المنطقة المسلمة وأهلها، هذه النعم التي أهملنا شكرها بإهمال استغلالها.

5- القضاء الكامل على تجارة الأسلحة، التي أثرت الشرق الغرب ببيعها لدول هذه المنطقة بقتل أبنائها بعضهم بعضًا بها، فيزداد أعداء الإسلام قوة وثراء، ويزداد المسلمون ضعفًا وفقرًا.

6- الخوف من عودة الحضارة الإسلامية، التي سمت بالمسلمين إلى أسمى مكان رفيع وهم لا يريدون للمسلمين ذلك، كي يظلوا على ما هم عليه من تبعية وهوان.

7- كراهية الإسلام والمسلمين، كراهية بلغت حد الحقد والضغينة.

ثبات وإصرار:

لقد تحمَّل الإخوان المسلمون كلَّ المحن الطاحنة التي نزلت بهم، لم يضعف ذلك شيئًا من تمسكهم بمبادئهم، وارتباط بعضهم ببعض، وتعاونهم في حياتهم الخاصة والعامة، وسواء أكان لهم وجود قانوني أم لم يكن لهم هذا الوجود، فإنهم لا يجتمعون على شكليات، ولكنهم يتوحَّدون على أصولٍ ثابتة، وقواعدَ راسخةٍ، تتبدل القيم والمناهج من حولهم، وهم على ما هم عليه من ثباتٍ وإصرار، لا تبديل ولا تغيير ولا تحويل،

ألسنا بذلك على خير بفضل الله؟ ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ﴾.

 نحن على خير حال، فالدعوة تنتشر ويزداد أنصارها يومًا بعد يوم في كل قارة من قارات الأرض المعروفة، فإذا صودرت في مكان، ظلت نواحي الأرض تنبض بالحياة الإخوانية الزاخرة،

وحتى لو أجمعت الدنيا بأسرها على مصادرة دعوة الإخوان المسلمين، فإنها أعجز من أن تصادرها في قلوبهم، وإذا ضاقت الأرض بأهلها، فإن قلوب الإخوان لن تضيق بدعوتهم،

إن القلوب المخلصة عرش الرحمن الذي لم تسعه أرض ولا سماؤه، ووسعته قلوب عباده المؤمنين، هيبةً وعظمةً وإجلالاً وتكبيرًا،

ما دامت هذه الركيزة متمركزةً في قلوب الإخوان، فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون،

ماذا يريد الإنسان الصحيح الإنسانية، بل المسلم السليم الإيمان؟

صلة قوية.. قائمة، رغم الحرب الضروس ضد هذه الصلة!!

حب طاهر متوافر يجمع الأخ بأخيه.. فيحبه ويبصره ويفتديه!!

عمل دائب.. موجود في كل نواحي النشاط في العبادة في المعاملة.. في السياسة.. في الاقتصاد.. بشكل ظاهر ملحوظ،

حتى لو اختلفوا على بعض المفاهيم، قدرة الدعوة الإخوانية سرعان ما تخفف من أثر الخلاف فيعذر بعضهم بعضًا فيما اختلفوا فيه، ويتعاونون فيما اتفقوا عليه، ألا ترى أنهم عند آية بارقة من بوارق الحرية تجمعوا، وتكتلوا، كما تشدو الطيور في لمسات الفجر المبكرة ينادي بعضها بعضًا، ثم تشترك جميعًا في ترنيمة واحدة، تسبح المبدع العلام.

 باقون على العهد:

إننا بخير حقًّا، إذا ألهمنا الله الصبر والاحتساب، في رضًا كامل، وتسليم عجيب، لا يفكرون في انتقام، ولا ثأر،

ولئن أطمع هذا العمق فيهم خصومهم، إلا أنه أفادهم،

من ناحية تعمق العقيدة بين حنايا صدورهم وطهارة مقصدهم، وسد منافذ الشيطان أن يقف المسلم بسيفه في مواجهة أخيه المسلم، مهما أساء،

إنهم الرحمة المهداة في هذا العالم المادي المفترس، وما كان للرحماء أن يبادلوا القساة شرًّا بشر، ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾،

إن الجبناء هم الذين يرتعدون ويقبلون أقدام الطغاة،

أما الإخوان المسلمون فهم على عهدهم باقون، وفي طريقهم سائرون، ولدعوتهم عاملون، ولدينهم موفون، وما ذلك شأن الرعاديد، فلا نامت أعين الجبناء،

إنهم يعرفون أن أعداءهم أقوياء خبثاء، تجردوا من الإنسانية والضمير والخلق والعقيدة، وأنهم يتربصون بهم الدوائر، في كلِّ معطف، ومع كل هذا فقد سمو بفضل الله، فوق مستوى الخوف والنكوص عن البيعة، والتخلي عن عهد الله،

ما دامت الدنيا لأحد! ولو دامت لحاكم ظالم ما وصلت لغيره، ظالم أو عادل، وتلك الأيام نداولها بين الناس، ودوام الحال من المحال،

لقد مرَّ أشجع خلق الله- صلى الله عليهم وسلم- بالكثير من أصحابه وهم يُعذبون عذابًا وحشيًّا، بلغ حدَّ بقر بطون الحوامل، فهل امتشق سيفًا، أو قاتل باغيًا، أو أدار خد المسلمين الأيمن لمن صفعهم على خدهم الأيسر؟

لم يحدث شيء من ذلك على الإطلاق، كل ما فعله أنه قال: “صبرًا آل ياسر، إني لا أملك لكم من الأمر شيئًا، إن موعدكم الجنة”، أو ما معناه، لقد طلب منه- صلى الله عليه وسلم- بعض شباب الصحابة أن يغتالوا رءوس الكفر، فلم يأذن.

 لا نقر القتل:

إن قتل ظالم لا يذهب الظلم؛ ولكن تهيئة الرأي العام، وتربية النشء والشباب، وطول النفس، هو الذي يذهب بالظلم والظالم تلقائيًّا،

مَن كان يظن أن الملك فاروق سينزل عن العرش ويغادر مصر، ما بين يوم وليلة وبهذه البساطة والسهولة، إنها إرادة الله، ثم تهيئة الإخوان المسلمين أفكار الشعب لتقبل هذا التغير، وأصبح الأمر يسيرًا والتغيير ممكننًا،

والإخوان المسلمون على هذا الغرار، لن يستبيحوا دم مسلم أيًّا كان موقعه، وأيًّا كانت صفته، ولكنه الإقناع، ولو طال به المدى،

والإخوان على خير حال، فما تحدثوا مع إنسان وإلا وأبدى اقتناعه، صادقًا أو منافقًا، وهذه أولى خطوات النجاح- بإذن الله.

 إننا بخير لا نترك فرصة تلوح في الأفق، إلا اقتنصناها إعلامًا ودعايةً وتربيةً وتوجيهًا.

ولقد أغلقت مجلة الدعوة، ففتحت صحف العالم كلها أبوابها للحديث عن الإخوان ونشر مبادئهم، وأرادوا وأراد الله، فكان ما أراد القاهر القهار.

 فنحن على خير حال؛ لأننا ثقتنا في نصر الله لم تتزعزع طرفة عين، حتى ونحن في أعماق السجون، وما دمنا على هذه الثقة في ربنا، وفي صدق دعوتنا فما علينا من حادثات الزمان، والحديث القدسي يقول: “أنا مع المنكسرة قلوبهم من أجلي”، وإن كنا نعتز بديننا ونؤمن بأننا الأعلون، إلا أننا مع الله منكسرة قلوبنا، تعوذ به من الفقر إلا إليه، ومن الخوف إلا منه.

 صراحة:

نحن على خير حال.. لأننا نحمل دعوةً تميزت بالصراحة في مواجهة الباطل وأنصاره أينما كانوا، دعوةً تميَّزت بالوضوح؛ فلا لفَّ ولا مداورة ولا استغفال،

دعوة برَّأها الله من المطامع المادية، والتطلعات الدنيوية، والمصالح الذاتية، نزيهة من غبش الزيف، تزدان بالنبل في العاطفة، والسمو في حب الخير للناس جميعًا، بلا تفرقة بين خصوم وأصدقاء، فحب الخير لا يتجزأ.

 من أجل ذلك سنبقى- بفضل الله- على خير حال، مهما ادلهمت الخطوب، وعصفت الرياح الهوج، ومهما اشتد العسف بالشهداء، ومهما ظنت قوى الشر، أنها بالغة ما تريد بقوتها المادية غرورًا واغترارًا،

إن قدر الله إذا جاء فلا عاصم لظالم أو مغتر من أمر الله، وحاق بهم ما كانوا يستهزئون..

إن كلمة الله هي العليا دائمًا وكلمة الظالمين هي السفلى دائمًا، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.

 نحرص على الموت:

أراد الله لنا أن نكون على خير حال في اللأواء والرخاء، بهداه استوى لدينا شأن الموت وشأن الحياة، بل لعلنا أحرص على الموت، فتوهب لنا الحياة، الناس يفزعون في مجال الروع من الموت، ونحن نسارع إليه، في سبيل إعلاء كلمة الله،

إن حبسونا فهي خلوةٌ مع الله،

وإن نفونا فهي سياحةٌ لتبليغ دعوة الله،

وإن قُتلنا فهي الشهادة الكبرى التي يتمناها المجاهدون المخلصون؛

فماذا يملك أعداؤنا لنا، مما يخوفون به الناس الحريصين على الحياة مهما كان طعمها من الذل علقمًا، ومن الهوان صعابًا.

ولا بد بعون الله من مجيء اليوم الذي ينتظره العاملون المخلصون.

 ماذا ينقصنا؟

نحن، بحمد الله، على خير حال، ماذا ينقصنا مما يستمتع به عامة الناس؟ لا شيء.

الطعام؟ ... إننا نأكل، ونستمرئ كل ما نأكل أيًّا كان حاله، مطهيًّا لذيذًا، أو غير مطهي وغير شهي، نرضى بكل ما قسم الله في هذا المجال، دون تطلع إلى ما في أيدي الناس، وإنها لنعمة من الله ما لها من نظير..

المسكن نرضى به حتى ولو كان كوخًا، حسنًا ما يقينا الشمس والمطر، وكل مكان ينبت العز الطيب الملبس، ونحمد الله على أن الإخوان من أليق الناس مظهرًا فيما يلبسون، ويحبون أن تُرى نعمة الله عليهم، ولباس التقوى ذلك خير.

 ثم بقي بعد ذلك، ما نمتاز به على خصومنا، في ميادين الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، إن كنا نألم فإنهم يألمون كما نألم، بل أشد، ولكننا كما قال تعالى: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُون﴾ (النساء: 104).

 ذكر حسن وأحدوثة طيبة، وأخرى ملؤها النعيم الخالد الذي لا يفنى ولا يبيد.

إننا نحظى بهذا عند ربنا، وهم منه محرومون،

إننا ننظر إلى آخرتنا قبل دنيانا، وهم لا ينظرون إلا ما يقع تحت أنظارهم،

وشتان بين من يؤمن بالآخرة، وبين من هو عنها في صمم ويأس بعيد، هل يستوي من يُلقى في النار بمن يأتي آمنًا يوم القيامة؟!

كلا وربي لا يستويان.

 أيها الشباب، إننا ندعوكم لتكونوا معنا على خير حال، بفضل الكبير المتعال، إننا ندعوكم إلى ما فيه عزكم ومجدكم وأمنكم وحياتكم، ندعوكم إلى الطهر والفضيلة ومكارم الأخلاق وكمال العقيدة، لا نطالبكم بأجر، فأجرنا هدايتكم، ولا نمنيكم بالأحلام والأضاليل، فما عند الله خير وأبقى..

هيا ضعوا أيديكم في أيدينا، وشبابكم في شيخوختنا، وحماسكم في خبرتنا، وعيشوا لها، ورِّثوها مَنْ بعدَكم، فلله عاقبة الأمور: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).

 هل هناك من شك، بعد ذلك، أننا على خير حال؟!

استعملوا عقولكم وعواطفكم، واحذروا أن تكونوا مثل ثمود الذين هداهم الله، فاستحبوا العمى على الهدى، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون.

واحذروا أن تتكاسلوا، فيذهب الله بكم، ويأتي بآخرين، يحبهم فيغفر لهم ويؤيدهم وينصرهم، أولئك هدى الله فبهداهم اقتده.

 لا نقول لكم اتبعوا أشخاصًا، ولكننا نوجهكم إلى طريق الخير: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّين﴾ (الفاتحة: 5- 7).

ومسك ختام حديثنا عن أستاذنا الكبير عمر التلمساني هو هذ االمقطع من مناجاة القلب الحيي الوفي لربه:

ربي.. كيف أناجيك؟!..

بلساني.. وهو جم العثرات؟!

بفمي وهو وافر الهفوات؟!

بجوارحي؟! إنها كليلة قاصرة.

فما حيلتي.. وهذا قدري؟

ولكني محب مستهام، أضناه طول السرى، يبغي الهدى، فهل من رضا؟!

القلب تائق، والسعي موصول، وباب العطاء مفتوح، فهل من إذن بالدخول، الأمل قائدي إليك، والرجاء مبسوط بين يديك، لا استقصر الليل إذا بسطت يد الضراعة، ولا استطيل الليل إذا لج بي الشوق في حناياه،

فأنت أنت القريب أقرب من حبل الوريد، أنت أنت القريب، القائم علمه بين المرء وقلبه، فلا خلجة إلا بتدبير، ولا طرفة عين بغير إحاطة وتقدير. أنت.. أنت القريب.. في الخاطر.. في النفس.. في الأمل.. في القول.. في العمل..

أنت أنت القريب قبل أن تخطر خواطر خاطري..

أنت أنت القريب، لأنك ماثل في كل الوجود قدرة.. واقتدارا.. وحسنا وجمالا.. وروعة وابداعاً.. وإحكاماً وإتقانا....

بعض من مؤلفات المرشد الراحل

ذكريات لا مذكرات شهيد المحراب حسن البنا الملهم الموهوب بعض ما علمني الإخوان وفي رياض التوحيد المخرج الإسلامي من المأزق السياسي الإسلام والحكومة الدينية الإسلام ونظرته السامية للمرأة قال الناس ولم أقل في حكم عبد الناصر من صفات العابدين ياحكام المسلمين.. ألا تخافون الله؟ لا نخاف السلام ولكن الإسلام والحياة حول رسالة نحو النور من فقه الإعلام الإسلامي أيام مع السادات آراء في الدين والسياسة.

 

وإنا لله وإنا إلية راجعون

واللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم

وثبت أقدامنا على طريق دعوتك متجردين غير مضيعين ولا مبدلين

وسوم: العدد 646