الدكتور عرفه عبدالمقصود عامر.. عالم النحو والصرف
"الورود تتساقط".. فى نهاية الخريف وبداية الشتاء الحزين ..ودعنا نجم من نجوم دار العلوم، ورائد من رواد النحو والصرف والعروض ..إنه الأستاذ الدكتور عرفة عبدالمقصود عامر، الذى وافته المنية فجر يوم الخميس 24 ديسمبر 2015، قبيل أيام من وداعنا لهذا العام، وما هو إلا أسبوع بالتمام والكمال حتى لحقه إلى دار الخلد أستاذه الدكتور محمد حماسة عبداللطيف، نائب رئيس مجمع اللغة العربية، الذى رحل فجر الخميس 31 ديسمبر 2015، وقد خلت الصحف والمواقع الالكترونية من ذكر أى شىء عن هذا الرحيل، وضرب حوله شباك من الصمت من زملائه ومن تلامذته اللهم إلا تعليقات بسيطة بمواقع التواصل الاجتماعى، جاءت على استيحياء، وقد بذلت مجهوداً فى الحصول على هذه المعلومات البسيطة من محبيه وعارفى قدره..وتصرفت مع الأمر قدر المتاح لدى من بيانات وكتب وهذا رد الجميل لرجل من رجال العلم والفكر الذى أفنى عمره فى البحث والعلم ...
ولد الدكتور عرفة عبدالمقصود عامر حسن هيكل فى قرية "الشابانات" مركز الزقازيق بمحافظة الشرقية فى الأول من شهر أغسطس 1955 حفظ القرآن الكريم فى طفولته ووهبه والده للأزهر الذى أحرز فيه تفوقاً طوال سنى دراسته وحصل على شهادة الثانوية الأزهرية من معهد الزقازيق الأزهرى عام 1974، وكان من الأوائل على مستوى القطر المصرى، وحُبب إلى علوم العربية منذ الصغر، ويذكر أن معهد الزقازيق تخرج منه القمم الشوامخ، منهم: الإمام الشعراوى مجدد القرن، ومحمد عبدالمنعم خفاجى، وطاهر أبو فاشا، ومحمد رجب البيومى، وعطية صقر، وغيرهم..
التحق بكلية دار العلوم وكانت فى مكانها القديم فى شارع "المبتديان"، الذى تشغله اليوم حديقة لا يؤمها أحد ..أطلق عليها "حديقة دار العلوم" عندما نقل مقر الكلية إلى حرم جامعة القاهرة فى مكان غير مميز مثل الكليات الأخرى التى تشغل الأماكن الفخمة بالجامعة مثل كليات: الآداب، والحقوق والتجارة، وقد قاتل الكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين لإبقاء مكان الكلية القديم وتحويله إلى حديقة، وتخليد اسم دار العلوم، وكانت الكلية فى هذا الوقت تعج بكوكبة من أئمة العلم منهم: أحمد الحوفى، وأحمد شلبى، والطاهر أحمد مكى، وإبراهيم العدوى، وعلى الجندى، وتمام حسان، وسعد مصلوح.. وغيرهم ..وحافظ عرفة عبدالمقصود على تفوقه، وكان من الأوائل كل عام، وشجعه أساتذته وكانوا يقولون له ستكون زميلنا بعد التخرج، وتخرج عام 1978، بتقدير عام جيد جداً مع مرتبة الشرف، ثم عين معيداً بقسم النحو والصرف والعروض فى نفس العام، وكان طوال دراسته يسافر من بلدته للكلية لأنه لم يستقر فى القاهرة وهذا جهد مضاعف إلا أنه تحدى الصعاب وصمم على التفوق..
حصل على درجة الماجستير فى رسالة بعنوان "الرجز ودوره في الدرس الصرفي والنحوي" عام1987بإشراف الدكتور محمد حماسة عبداللطيف، والدكتور السيد أحمد على، وبتقدير ممتاز، وعلى درجة الدكتوراه فى رسالة بعنوان "دور شواهد الشعر الجاهلي في التقعيد النحوي" بإشراف الدكتور محمد عيد وحصل عليها بإمتياز مع مرتبة الشرف الأولى .
أثرى الدكتور عرفة المكتبة العربية بالعديد من الكتب والأبحاث فى تخصصه الرفيع "علم النحو والصرف" وكشفت عن تعمقه فى هذا التخصص الصعب الذى لا يقوى على منازلته إلا من رزق الصبر فى البحث والتنقيب والتحليل وسبر أغوار المسائل والموضوعات، وقد كان الدكتور عرفة من هؤلاء، ومن مصنفاته نذكر: "من علم القافية" 1993، و"المنصوبات بين اللفظ والمعنى"1994 ، و"قراءة في اللغة الشاعرة" 1994، و"القراءة في ضوء المنحى التكاملي" 1997، القافية بين الكم والكيف (بحث منشور بصحيفة دار العلوم 1999)، و"كَرْم النحاة الممدود لابن عبدالمقصود"2004، و"الجملة الاسمية صورها واحكامها" 2007، و"تيسير المقدمات النحوية" 2009، و"خطاب القرآن الكريم عن اليهود دراسة نصية" 2010، و"دراسة النص القرآني بين الاتباع والابداع"2014.
يرى الدكتور عرفه أن الدرس النحوى الحديث لم يعد مقصوراً على مراجعة الكتب النحوية فحسب، بل على القراءة الواعية لدائرة أوسع هى دائرة الدرس اللغوى، بل ربما انطلق إلى ما خلف الجملة، أى النص بتمامه وما يشمله من تؤكد تواصل وتأثيره على قارئه، وتفاعل الأخير معه، ليس على مستوى الأفراد بل والجماعات؛ ومن ثم يحلق البحث فى خصوص الدرس اللغوى المعاصر، مع عدم إغفال ثوابته الراسخة على أرض النحو بصورته العامة والخاصة، هذا النحو المشار إليه بكونه نظاماً من القواعد والمقولات التى تختص بنظام لغة ما.
وقد حاول عدد من المستشرقين النيل من قدسية النص القرآنى، ونسبته إلى سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتباره نص ثقافى لغوى من صنع البشر، أو نص ارتقائى كالإنجيل والتوراة كما جاء فى خطابات الباحث "جرد آر بين"Gerd R. Puin الذى قال: "إن كل كتاب سماوى يقبل التغييرات مع مرور الأيام فتحذف منه أشياء وتزاد أخرى مع الحفاظ على رسالته المطلوبة فيه". وجارى هؤلاء نصر حامد أبوزيد الذى تعامل مع النص القرآنى، وقد نفى عنه صفة القداسة كخطوة من خطوات التحليل الموضوعى، وطبق عليه ما يطبق على تحليل قصيدة أو قصة أو مسرحية ! أى نظر إلى النص القرآنى نظرة تقييم!
وقد رد الدكتور على هذا النتائج الفاسدة وهى عنده ليست من الموضوعية لسببين هما:
أولهما: أن النص القرآنى منذ نزوله على النبى - صلى الله عليه وسلم- وهو نص مؤثر على مجموع الممارسات الدالة، ومن ثم لو كان من إنشاء محمد بما فيه من أخبار وأحكام وقصص، وتشريع ..لنسبه لنفسه، ولم يكن ثمة مبرر للتمسح بأنه من عند رب العالمين، بل لعد ذلك فخراً له ولقبيلته، ولكن ثقافة النص القرآنى أعلى من الثقافات المحيطة بالرسول - صلى الله عليه وسلم-، بل وأعلى من الثقافات المؤثرة فى الدول المجاورة – الفرس والروم واليونان.
وثانيهما: أن فكرة الارتقاء فى النصوص المقدسة ربما تنطبق على التوراة والإنجيل بسبب تأخر تدوينهما عن وقت نزولهما، بل مما لا خلاف فيه أن التلمود وهو الكتاب الذى يشرح العقيدة اليهودية هو كتاب سرى وضعه حاخامات اليهود، وهذا مما يفسر انغلاقية الديانة اليهودية وانحرافها فى أنهم سلالة نقية – شعب الله المختار- وأيضاً يفسر اختلاف اليهودية وتعاليم الصهيونية عن شريعة موسى عليه السلام، والأمر مختلف بصورة قاطعة مع القرآن الكريم؛ لأنه محفوظ منذ نزوله إلى يومنا هذا – بل إلى يوم الدين- ولم يرصد فيه عالم متخصص أو باحث غربى موضوعى – بكل ما يعنيه الوصف من إحاطة بكل علوم القرآن- تغيراً واحداً منذ نزوله إلى الآن ...والخلاصة الموضوعية فى مناقشة ثوابت أصول المستشرقين هو أن القرآن هو أدق نص ؛ لأن طريقة التوثيق فيه جديدة وفريدة .
ومن ثم فقد اهتم الدكتور عرفه فى أبحاثه بعطاء القرآن اللغوى وهذا نراه فى العديدة أبحاثه المتخصصة الثرية مثل: "خطاب القرآن الكريم عن اليهود دراسة نصية"، و"دراسة النص القرآني بين الاتباع والابداع"، وقرر أن دوره فى هذه الدراسات هو التفسير المبنى على الملاحظة والربط ثم الاستنتاج، وليس هدفه التقييم حتى لو كان تحت شعار الموضوعية، لأن التقييم ينطبق على النص البشرى، أما النص المقدس – وخصوصاً الذى لم يدخله التحريف – فكل ما يقدمه الدارس المعاصر هو الاجتهاد فى التفسير أى التفسير بالعقل والرأى، واستنتاج التماسك النصى بصوره الشكلية والموضوعية عن تناص محدد. فقد حاول فى كتابه " خطاب القرآن الكريم عن اليهود" معالجة النص القرآنى الخاص باليهود معالجة نصية تخلو من النمطية التقليدية، بل تربط هذه المعالجة بالواقع من خلال الدلالة اللفظية للمفردات والجملة، وما وراء الجملة من آية وسورة، ثم فى ضوء النص كله كنسيج واحد من أوله إلى آخره. وينقل عن الدكتور سعد مصلوح قوله:"إن نحو النص الذى نريد هو نمط من التحليل ذو وسائل بحثية مركبة تمتد قدرتها التشخيصية إلى ما وراء الجملة، بالإضافة إلى فحصها لعلاقة المكونات التركيبية داخل الجملة، ثم الفقرة، ثم النص بتمامه".
هذا قليل من كثير من حياة وفكر الأستاذ الدكتور عرفة عبدالمقصود رحمه الله تعالى..
وسوم: العدد 652