رئيس الحكومة العربية بحمص عمر الأتاسي

clip_image002_21e09.jpg

السيد عمر بن يحيى بن العلامة المفتي محمد سعيد الأتاسي، زعيم حمص الأوحد، وقائد ثورتها الأمجد.  ولد الأتاسي عام 1879 لأسرة تبوأت مناصب العلم والزعامة، فلا عجب أن يكون ابنها لصنع التاريخ رمزاً وعلامة، فقام يجاهد لا يصيبه من أحد ملامة، وتربى على أيدي الأفاضل السادة، وأخذ عنهم ما يصيب العقول بالسعادة، فنشأ راسخ الحكمة قوي الإرادة.  ولما زاد جور الأتراك، وبان ما نصبوه للمحكومين من شراك، انتمى الأتاسي للجمعيات المعادية، وانتظم في المنظمات التي كانت تنادي بالحقوق.  فقد انتمى "للجمعية الثورية القحطانية" التي أسسها حقي العظم عام 1913م في مصر، والتي كانت أشد المنظمات عداءً للأتراك، تنادي بحمل السلاح والثورة، وباستقلال العرب واتحادهم.

كما كان الزعيم الأتاسي أحد الأعضاء المؤسسين لمنظمة الفتاة العربية الشهيرة، والتي انتمى إليها جل قواد الثورة العربية الكبرى من جميع البلاد العربية التي قامت بمواجهة حزب الاتحاد والترقي الذي كان يحكم تركيا والذي كان ينادي بالقومية الطورانية وتتريك العرب، ومن هؤلاء الأمير فيصل بن الحسين الهاشمي، وأخوه زيد، وياسين الهاشمي، وعلي رضا الركابي، والأمير بهجت الشهابي، وأحمد الحسيبي، وشكري القوتلي، وجميل مردم بك، وكامل القصاب، وأسعد الحكيم، وفخري البارودي، وأعضاء من أسر الشام الكبيرة، كآل البكري، وآل التميمي، وآل الخطيب. وكان ابن عم المترجم له، هاشم الأتاسي أحد أعضائها أيضاً.  وقامت هذه المنظمات تنشر أهدافها وتعمل على توعية الأهالي وتطالب بحقوقهم وبالمساواة، وكان بعضها سرياً والآخر أكثر علنية.

وعمل الأتاسي باجتهاد مع باقي زعماء البلاد العربية على تحقيق الاستقلال، فلما تنبه الاتحاديون بدأوا باتخاذ إجراءات تعسفية، فشردوا ونفوا وسجنوا وعذبوا وأعدموا، وكان أخو المترجم له، عبد الجواد الأتاسي، أحد الذين نفوا إلى الأناضول لاشتراكهم في النضال السياسي في أوائل عام 1917 وحتى انتهاء الحرب العالمية الأولى.  وقد كان للمترجم له نصيب في هذا التعسف، فسجن في لبنان أشهراً خمسة، ثم وضع تحت الإقامة الجبرية هناك، إلى أن استطاع الهرب والانضمام إلى القوات العربية بقيادة فيصل، والتي كان قد بدأت طلائعها تهدد الجيش التركي في الشام ونحن إذ نذكر ذلك تعود إلى ذاكرتنا ما تعرض له أجداد الأسرة كالشيخ علي الأصغر، والشيخ صافي، والشيخ إبراهيم لحجز ونفي من الحكام الظلاّم بسبب وقوفهم إلى جانب مواطنيهم ومطالبتهم بحقوقهم.

وتقرب الأتاسي من الأمير فيصل ونال ثقته، فعهد له الأمير بقوة من الجيش يتقدم بها إلى مدينة حمص ويؤمنها للثوار العرب، فكان أن دخل المقاتلون بقيادة الأتاسي حمص في 23 تشرين الأول عام 1918م والجيش التركي يتقهقر أمامهم إلى الشمال.  وقرر عمر الأتاسي أن يكتسي باللباس العربي والكوفية وهو يدخل حمص، فيعلم الناس أن الفرج قد أتى، وتعم الفرحة بالرؤيا قبل أن تعم بالكلمات.  ونترك هنا الحديث لصاحب تاريخ حمص الذي وصف هذا الدخول التاريخي فقال:

"ما أن دخل السيد عمر الأتاسي حمص على رأس القوة العربية حتى استقبله الأهلون بالزهور والورود والرياحين، وأقيمت المهرجانات الشعبية وكان الجميع يهتفون بحياة العرب والاستقلال والوحدة.  وبعد أن دخل إلى دار الحكومة واستقبل عدداً من رجالات المدينة الأحرار خرج إلى شرفة السراي وأعلن بصوت جهوري للجمهور المحتشد في الساحات العامة: أن البلاد العربية أصبحت الآن مستقلة، وقد تم طرد الأتراك من مدينة حمص وهم في طريق هزيمتهم الكاملة والتخلي عن بقية المناطق السورية الشمالية قريباً جداً.  وبعدئذٍ أعلن على الملأ أنه شكل حكومة عربية مؤقتة في حمص لرعاية شؤون المواطنين وحفظ الأمن وهي مؤلفة من السادة رفيق الحسن الأتاسي، الخوري عيسى أسعد، صبري الدروبي، أنطوان طرابلسي، شكري الجندي، وصالح الجندلي.

ثم دعا السيد الأتاسي الأهلين إلى التكاتف والتضامن والعمل على إقرار الأمن في المدينة وضواحيها ومساعدة الحكومة المؤقتة المحلية لتقوم بواجبها على خدمة الجمهور الحمصي على الوجه الأكمل. واستجاب الناس بسرور بالغ لنداء رئيس الحكومة المحلية الجديد، وساد الأمن والنظام سائر أحياء المدينة لدرجة أنه لم يسمع طيلة شهر كامل عن حدوث أي جريمة أو سرقة أو اعتداء.

وظلت هذه الحكومة تمارس صلاحياتها على أقل تقدير، مدة شهر، إذ زار الأمير فيصل حمص في 27 من الشهر ذاته ورحب به رئيس الحكومة وأعضاؤها في باحة مبنى الحكومة.

إلا أن اهتمام الأتاسي لم يكن بالسياسة الخارجية والإصلاحات الوطنية فحسب، بل كان قائماً على خدمة مواطنيه في سائر مرافق الحياة.  ففي عام 1912م تولى الأتاسي رئاسة بلدية حمص، فكان ثاني رؤسائها من الأتاسيين.  وقام لتوه بنصب مصابيح زيت في أرجاء المدينة، فعمها النور ليلاً، وخفت بسبب ذلك معدلات السرقة والإجرام. كما أن الأتاسي تولى قائمقامية المدينة من عام 1918م حتى عام 1919م، ثم صار متصرفها مرة أخرى من 16 تموز عام 1920 حتى سنة 1921م، كانت خلالها فترة رخاء واستقرار للمدينة وأهلها.

ولما بويع الملك فيصل عام 1919 بعرش سورية كان عمر بك الأتاسي موفد الحماصنة في البيعة، وقد خاطب الأمير فيصل قائلاً: "قدمت من حمص وما ودعت الحمصيين إلا بعد أن اعتمدوني، وهم يسلمونك دماءهم وأرواحهم.

إلا أن عرش الهاشميين سرعان ما هد قوامه بحلول الاحتلال الفرنسي في تموز عام 1920، واضطر الملك فيصل لمغادرة البلاد.  ووجد الأتاسي نفسه يحمل سلاح النضال مرة أخرى ليحارب به الفرنسيين، فأخذ ينظم الاجتماعات مع مندوبي الأسر ورؤساء العشائر، وقام بتأسيس لجنة الدفاع الوطني في حمص، ثم ترأسها وتولى الإشراف على فعالياتها، ونشط في جمع الأموال لتموينها، وقد قامت هذه اللجنة بالتخطيط لثورات تل كلخ وللدفاع عن مدينة حمص ضد جيوش الفرنسيين الزاحفة عام 1920. وبذلك كان الأتاسي أحد أكبر القواد الوطنيين في البلاد، إلا أن كثيراً من كتب التاريخ أهملت ذكره ونسيت فضله وجهاده، ولم يأت إلا القليل منها على تكريمه والتعريف به، بل ليجدن القارئ والباحث في تاريخ تلك الحقبة عدداً أكبر من المؤرخين الأجانب ذاكراً له وأعماله، رحمه الله.  هذا وفي حمص شارع باسم عمر الأتاسي تكريماً له.

وقد ذكر المترجم الحصني في كتابه "منتخبات التواريخ لدمشق" وأخبر أنه كان شاعراً ومؤرخاً. وللأتاسي كتاب في تاريخ حمص مخطوط استخدمه المؤرخ العلامة محمد كرد علي كمرجع من مراجع كتابه الشهير "خطط الشام"، وللأسف ما ندري ما حل بهذا المخطوط وحبذا لو وجد الكتاب لأنه سيكون كنزاً تاريخياً يستعين به المؤرخون وكيف لا وقد ألفه أحد صنعة التاريخ أنفسهم.  كما كان للأتاسي مساجلات تاريخية تذكر مع الأستاذ الخوري عيسى أسعد مؤرخ حمص المعروف.

وسوم: العدد 655