الدكتور حلمي محمد القاعود ...سيرة ومسيرة
سوف نلتقى على متن هذه الصفحات مع عالم من أعلام العصر.. هو الأستاذ الدكتور حلمى محمد محمد القاعود القاعود بمناسبة بلوغه سن السبعين، وأردنا أن نحتفل بهذه المناسبة التى ننتظرها على أحر من الجمر، وكان المتوقع من مؤسسات الدولة أن تتبنى هذه الاحتفالية أسوة بغيره من أنصاف المتعلمين والأدباء الذين سيطروا على مؤسسات الدولة الثقافية، ومارسوا الإقصاء الخسيس ضد من يعترض على أفكارهم ومعتقداتهم الفكرية، وصارت الجوائز والنشر والسفر إلى المؤتمرات حكراً على فصيلهم الذى سقط فى دولة المنشأ قبل ربع قرن من الزمان، ومازال القوم يصارعون من أجل وجودهم، ولو بذلوا الدماء فى سبيل الحفاظ على تكية وزارة الثقافة، فعلوا كل شىء منكر.. من التطبيل للطغاة والتسبيح بحمدهم وتسويد ملايين الصفحات حول إنجازاتهم الوهمية التى هى "الفنكوش" بعينه، وكنت عندما أحضر مؤتمرات أدباء مصر التى تعقد فى شتاء كل عام، أراهم يبعثون ببرقيات تأييد للرئيس الأسبق حسنى مبارك، الذى زرع الشقاء والفساد فى الأرض، وترك من ورائه أرضاً بوراً لا تصلح لزراعة شىء، ومع ذلك كان فى نظر النخبة الثقافية: القائد الشجاع صاحب الضربة الجوية، والأخ الأكبر لكل المثقفين والمواطنين، وفرضوا سياج من التعتيم على المثقفيين الحقيقيين، الذين شرفوا مصر فى الداخل والخارج، وأثرّوا فى مجتمعاتهم، لأنهم رزقوا لغة الصدق والإخلاص.
واتفقت مع عدد من رفقاء دربه من العلماء المخلصين ومن تلامذته، على أن نخصه بأبحاث، ومقالات، وشهادات تبرز مكانته ودوره فى حياتنا الأدبية المعاصرة، ورغم الموج العاتى الذى يهدد هويتنا الثقافية من فكر وافد يريد أن يزيح فكرنا من الخارطة الثقافية ليحل محلها بمعاونة أناس باعوا ضمائرهم للشيطان نظير المنح والجوائز والأموال التى تغدق عليهم والسفريات المشبوهة..
وصمم الدكتور حلمى منذ يومه الأول أن ينازل هؤلاء ويقارعهم بالحجة الأمر، الذى يسبب لهم ألم شديد، وخاض معهم العديد من المعارك التى تخللتها الافتراءات والتشعينيات من أناس فقدوا الشرف والضمير، وخرج منتصراً لا يقول إلا الحق وحده الذى وهب له حياته، واضعاً نصب عينيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قول الحق فى وجه سلطان جائر"، لذا عارضهم طوال حياته بقلمه وفكره، لم يهادن أو يداجن، أو ينزو إلى جحر حتى تهدأ العاصفة كما فعل غيره إيثاراً للسلامة، فمازال حتى يومه هذا ينازل الطغاة والظالمين والمجرمين بقلمه السيال الذى يتحول إلى نار لظى تحرق وجوههم ...
وقد ولد الدكتور حلمى محمد القاعود فى قرية "مَرْقَص" مركز شبراخيت بمديرية البحيرة وذلك يوم الخامس من ابريل عام 1946 فى أسرة ريفية متوسطة الحال، وقرية "مَرْقَص" ، تحدث عنها الأستاذ محمد رمزى (ت1945م) فى كتابه "القاموس الجغرافى للبلاد المصرية" فقال: " مَرْقَص قرية قديمة، اسمها الأصلى محلة مَرْقَص، وردت به فى قوانين ابن مماتى، وفى تحفة الإرشاد، محلة مُرْقُس وضبطها صاحب تاج العروس مَرْقَس بفتح الميم والقاف كما ينطق بها الآن وفى تاريخ سنة 1228هـ باسمها الحالى". أهـ (محمد رمزى "القاموس الجغرافى للبلاد المصرية" المجلد الثالث، ص 310،الهيئة العامة لقصور الثقافة 2010)
وقد تغيرت اسم القرية إلى "المجد" سنة 1983، نسبة إلى العارف بالله سيدى عبدالعزيز أبى المجد، المدفون بالقرية وله ضريح يزار، وهو والد العارف بالله إبراهيم الدسوقى المدفون بدسوق، وهى تقابل القرية على الضفة الأخرى لنهر النيل، وفى آخر تقسيم جغرافى للبلدان المصرية تم تحويل قرية "الرحمانية" إلى مركز، وضمت إليه قرية "مرقص" أو "المجد"..
كانت القرية تقع على الشاطىء الغربى لفرع رشيد، وأغرم القاعود بالنهر منذ الصغر أيام كان النهر يجرى ويحمل معه الخير، ولكن هذا الخير توقف بعد بناء السد العالى الذى حجز خلفه الطمى والغرين والأسماك، وقد أطلق الدكتور حلمى على الجزء الأول من مذكراته "النيل بطعم الجوافة"، ويقول: "والنهر له في حياتي قصص وحكايات والنهر مصدر فرح ومصدر سرور ومصدر غضب أيضاً، النهر ربطني وارتبطت به"، وكان النهر يجمع النساء على مدار اليوم وخاصة فى الصباح أو المساء، يحملون الجرار لملئها بالماء فى الصباح الباكر، لأنه ماء رائق تملأ به الخوابى والأزيار التى تنقط هذا الماء وقبيل الغروب يحمل النساء الجرار مرة أخرى لمزيد من الماء للاستخدام فى أمور أخرى غير الشرب والنهر –إلى جانب ذلك- مكان جيد لتربية البط والأوز، تظل أسراب كل منهما تعوم منذ خيوط الصباح الأولى حتى غروب الشمس، فتخرج وتسير فى طابور منتظم إلى البيوت، حيث تبيت وتبيض أو تستعد للرقاد على البيض ..
وكانت القوارب وسيلة المواصلات بين قريته ومدينة دسوق المدينة التجارية الكبرى فى الدلتا وترجع أهميتها لوجود ضريح العارف بالله إبراهيم الدسوقى وأخيه موسى العمران ..وظلت القوارب الوسيلة المتاحة حتى بنى كوبرى دسوق فى التسعينيات ..وكان أصحاب القوارب يعيشون بالرضا والقناعة وكانوا ينتظرون يوم الخميس، وكان موعد السوق الأسبوعى فى مدينة دسوق، ويذهب الناس هناك لبيع حيواناتهم أو الحبوب التى تفيض عنهم أو الطيور أوالدواجن.
وقد فضّل الدكتور حلمى قريته "المجد" مستقراً رغم عمله ودراسته وابتعاده عنها لفترات طويلة، وتأثر فى هذا بالدكتور عبدالسلام العجيلى الروائى الأول فى سوريا، الذي لم يُفارق مدينته الصغيرة أو قريته سابقاً التي تسمى "الرّقّة" ..فالرجل مع أنه عُيّن وزيراً ونائباً في مجلس النوّاب في عام 47 و 48 كان يذهب إلى دمشق ثم يعود إلى قريته ويمارس مهنة الطب كمحترف ومهنة الأدب كهاوٍ ويظل فيها حتى وفاته..وفى هذا يقول: "والقرية ربطتني وارتبطت بها، ثم كانت تجربتي مع العمل في أن أكون معلماً يبدأ المرحلة من أول السلّم كما يقولون، درّست في المرحلة الابتدائية وفي المرحلة الإعدادية وفي المرحلة الثانوية حتى وصلت إلى المرحلة الجامعية والدراسات العليا وهذا كله كان يتم في بساطة شديدة وسلاسة شديدة لشخص عاش بسيطاً وارتضى البساطة في حياته وتعامل مع مجتمع بسيط لا يعرف التعقيد ولا يعرف "البروتوكولات" أو "الإتيكيت" أو غير ذلك من مصطلحات المجتمع المتمدن، ولكن هذا كله لم يمنعني من أن أدخل إلى الدائرة الصعبة أو الدخول في دائرة الأدب أو حرفة الأدب، فأدركتني حرفة الأدب، وما أدراك ما الأدب وحرفة الأدب؟ هي مسألة تقتضي منا مزيجاً من التفاعلات ومن الأحوال، ولكن الفتى الريفي صمم أن يبقى هو كما هو يذهب إلى القاهرة وإلى منتدياتها يرقب ويلحظ ولكنه لا يفرط في داخله لا يفرط في مكنونه.. لا يندمج.. لا يتفاعل بالطريقة التي تلغي تميزه أو تلغي خصائصه".(2)
تلقى تعليمه الأساسى فى المدرسة الابتدائية ببلدته، ثم التحق بالمعهد الدينى بدسوق بعد أن حفظ القرآن وجوّده، وأثناء وجوده فى معهد سمع أن هناك معهد نموذجى بالقاهرة أنشأه الدكتور محمد البهى حينما كان وزيرا للأوقاف وشئون الأزهر، وذهب القاعود إلى القاهرة ليلتحق به، فوجد من يقنعه بالالتحاق بدار المعلمين بدسوق.. لأن طريق الأزهر طويل، والتخرج من المعلمين يضمن وظيفة حكومية بعد سنوات معدودة، وبالفعل التحق بدار المعلمين بدسوق، وقد ألغى المعهد النموذجى بعد خروج الدكتور البهى من الوزارة وكأنه كان يقرأ الغيب، وفى دار المعلمين تفتح ذهنه على الآداب والمعارف وكان يطالع ما تخرجه المطابع من إنتاج فى شتى فروع المعرفة، وكان يسبقه في دار المعلمين بعام الروائى والسينارسيت محمد عبدالقوى الغلبان الذى اشتهر باسم "محمد جلال عبدالقوى"، وكانا يشتركا معا ًفى تقديم الإذاعة المدرسية، ويتخرج ويعمل مدرساً فى قرى مركز دسوق.
وعرف عن الدكتور القاعود مثابرته فى تحقيق أهدافه فقد كانت الجامعة حلماً يراود خياله لم يغب عنه أبداً وصمم أن يستذكر مواد الثانوية العامة، إلا أن التوفيق لم يحالفه بسبب اللغات الأجنبية لقلة بضاعته فيها، ولم يستسلم لليأس فقد انتصر عليه أخيراً، ونجح فى الحصول على شهادة الثانوية العامة إلا أنه تأتى الرياح بما لا يشتهى السفن... فقد وقعت نكبة 1967، والتحق بالقوات المسلحة مجنداً، وعندما قدم أوراقه إلى كلية دار العلوم رفض مسجل الكلية قبول أوراقه تذرعاً باللوائح رغم توسط الدكتور أحمد هيكل لحل هذه الإشكالية، إلا أن المسجل صمم على رأيه وقراره، واستسلم الدكتور لهذا الأمر، ومكث فى الجيش سنوات ست حتى تحقق النصر فى أكتوبر 1973، وإنهاء خدمته فى عام 1974، وأسرع الخطى إلى دار العلوم، وكانت تقع فى مكانها القديم فى شارع المبتديان بحى السيدة زينب، ووفق بين عمله مدرساً وطالباً وكان الأمر شاقاً وعسيراً لا يتحمله إلا من رزق الصبر والجلد والإقدام، وكان يتوارى عن أساتذته العظام خجلاً لأنه فى هذا التوقيت كان اسمه لامعاً فى دنيا الأدب ينشر فى كبرى الصحف والمجلات، وصدر له أكثر من كتاب نقدى وإبداعى، منها: كتاب "الغروب المستحيل عن سيرة محمد عبدالحليم عبدالله" وصدر عن المجلس الأعلى للفنون والآداب سنة 1974، ومجموعة قصصية بعنوان "رائحة الحبيب" صدرت فى عدد خاص من ملحق مجلة الثقافة سنة 1974، وصدرت له رواية "الحب يأتى مصادفة" عن دار الهلال فى يوليو 1976 ..وضحى الدكتور حلمى بأعمال السنة حتى لا يعرفه أساتذته، وله فى هذا مواقف يضيق المقام عن ذكرها ..
وتخرج فى كلية دار العلوم عام 1978، وصمم أن يكمل المشوار فى الدراسات العليا، واختار موضوع الماجستير عن الشاعر أحمد مخيمر، وكان يعرفه شخصياً ..قابله أكثر من مرة فى دار الأدباء، ومقر مجلة الثقافة فى إصدارها الثانى، ولما أحس أنه مهضوماً فى الحياة الأدبية، أراد إنصافه بدراسته عنه، إلا أنه عدل عن الموضوع لعدم توفر المراجع اللازمة للبحث، فاختار موضوع "مدرسة البيان فى النثر العربى الحديث" وعرض الخطة على على الدكتور عبدالحكيم حسان، إلا أن القسم اختار مشرفاً هو الدكتور على عشرى زايد وناقش الرسالة سنة 1980، بعدها أعد رسالة الدكتوراه بعنوان "محمد صلى الله عليه وسلم فى الشعر الحديث" وحصل عليها سنة 1985.
بعد نكبة 1967 صدم الدكتور حلمى القاعود فى القيادة السياسية القائمة آنذاك التى باعت للشعب الوهم والشعارات والهزائم والمظالم، وجند بعد النكسة فى المسلحة ليبقى ست سنوات طوال مليئة بالأسى والشجن وبالأعاصير النفسية والفكرية، فهو يعيش مرحلة الهزيمة المريرة التي عبَّر عنها في مجموعتي القصصية "رائحة الحبيب"، وفي روايته الوحيدة "الحب يأتي مصادفة"، وفى هذا يقول: "وكانت هذه المرحلة من أشق الفترات على النفس البشرية المصرية خصوصاً، وعلى نفس البشرية العربية عموماً، فإن تُفاجأ بين يوم وليلة وقد ضاعت منك أرضك وقدسك وكل فلسطين وجزء كبير من سوريا، وجزء من لبنان، وجزء من الأردن، وتجد العدو يفصل بينك وبينه ممر مائي وهو يغايظك ويكايدك في الصباح والمساء وأنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً وثلاث محافظات هُجّرت إلى الداخل رجالاً ونساءً وأطفالاً، مع ما تبع من ذلك من مضاعفات وآلام كل ذلك اختزنته وتأثرت به وانفعلت به وتألمت منه وتألمت له، وعبَّرت عن بعضه وما زلت أختزن معظمه لعل يوماً ما يأتي فأحاول أن أعبِّر عنه"، ولكنه رد له بعض الأمل بعد انتصار أكتوبر المجيد، لولا تصرفات القيادة السياسية الرعانة التى بددت آثار النصر بالزيارة المشئومة إلى القدس التى أهتز لها الدكتور حلمى، وانصرف عن الأبداع لينشغل بعد ذلك بهموم أمته الفكرية والثقافية والاجتماعية ...
وقد عرف الدكتور حلمى القاعود طريقه إلى الصحافة الأدبية والفكرية مبكراً، فكتب فى مجلات: "الأديب"، و"الآداب"، و"الجديد"، و"الرسالة"، و"الثقافة"، ومجلة "الأزهر"، وكانت تجربته مع الصحافة الإسلامية تجربة ثرية جدا جديرة بالدراسة والتحليل، والمقالات التى نشرت بها شكلت صلب الكتب الثقافية التى نشرها على مدار تاريخه الثقافى الطويل، فكتب فى "الاعتصام"، و"لواء الإسلام" و"المختار الإسلامى"، و"الدعوة" وصحف "المصريون"، و"النور"، و"آفاق عربية"، و"الشعب" الأولى والثانية، كما كتب فى مجلات الخليج مثل "المجتمع"، و"المنهل"، و"الأمة"، و"الوعى الإسلامى"، و"منار الإسلام"..ويمتاز أسلوبة بالبساطة والعمق وسبر أغوار الموضوعات فى لغة بسيطة راقية يستفيد منها الباحث المتخصص والقارىء العادى..
وكان هناك مجال آخر توازى مع الاهتمامات الأدبية والنقدية بصفة عامة وهو المجال الإعلامي، كانت هناك بعض الظواهر الإعلامية كان يتابعها عنكثب وعن قرب، وكان أن كتب كتابه المشهور فى بداية الثمانينات عن "الصحافة المهاجرة" (وسوف نستعرض هذا الكتاب فى نهاية كتبنا هذا فى جزء الملاحق)، التي تركت العالم العربي وذهبت إلى لندن، وباريس، وروما، وقبرص، لتصدر من هناك بعض المجلات وبعض الصحف، وأيضاً بعض الكتب فيما بعد، على كل حال هذه الظاهرة كانت ظاهرة أملت عليّ أن أؤلف فيها كتاباً يكشف عن بعض أبعادها الغائمة ويأتي بعض الزملاء ليكملوا المسيرة من المتخصصين في كليات الإعلام وأعتقد أنني لم أتوسع في هذا المجال لأن الصحافة الإسلامية استغرقتني، والحقيقة الصحافة الإسلامية كان لها في أوائل السبعينيات منهج تقليدي يقوم على معالجة القضايا المكررة والنظر إلى بعض الأمور التي لا تعني الجمهور فبحمد الله تعالى أعتقد أن إسهامي في هذا المجال كان لمناقشة القضايا اليومية التي يعيشها الناس، والقضايا المطروحة على الساحة وعلى رأسها قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، وكانت الشريعة في ذهن بعض النخب الثقافية في ذلك الوقت وربما إلى الآن مرتبطة بالحدود، وطبعاً هذه مسألة في غاية الخطورة أن يفهم الناس أن الإسلام هو قطع أيدٍ وهو رجم للرجال والنساء وهو قتل ولا شيء غير ذلك، فحاولت مع مجموعة من الكتّاب الفضلاء أن نُقدم الصورة السمحاء للإسلام ونبرز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث وأرسل رحمة للعالمين وأن الشريعة الإسلامية ليست هي الحدود، وليست هي القِصاص، ولكنها منهج حياة يقوم على الرحمة وعلى المودة وعلى التكافل وعلى التعاون، وعلى المساواة وقبل ذلك وبعده على الحرية، لأنك عندما تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإنك تحرر من كل شيء آخر.
القاعود ورجال عصره:
أغرم الدكتور حلمى القاعود بمعرفة أعلام عصره، فهو يسعى إليهم ليلتقيهم وجهاً لوجه بعد أن توثقت الصلة الروحية بهم من خلال إنتاجهم وآثارهم العلمية، فتعرف على الروائى الأكبر محمد عبدالحليم عبدالله، وقد ساقته الصدفة إلى اللقاء الأول، فقد تقدم لمسابقة مجمع اللغة العربية أواخر عام 1967، وعندما ذهب ليقدمه عرف أن الأستاذ عبدالحليم يعمل مديراً للمجمع واصطحبه الموظف إلى مكتبه، وكان هذ اللقاء بداية علاقة طيبة ممتدة مع أسرته حتى اليوم، وأثمرت مجموعة دراسات عنه وكتاباً كان أول كتاب أدبى ينشر له وهو "الغروب المستحيل"، وقد نشره المجلس الأعلى للفنون بمقدمة للأديب يوسف الشارونى ...
كما تعرف إلى صاحب الرسالة الأستاذ أحمد حسن الزيات وزاره فى منزله بالمنيل، ووجده رجلاً بسيطاً، وقال عن هذا اللقاء: "استقبلنى بسمته الهادىء، وجلسنا فى شرفة تطل على حديقة الفيلا الهادئة مثل صاحبها، وتحدثت معه فى قضايا أدبية كثيرة، وكان يحدثنى بلغة أدبية محكمة، لا تزيد فيها ولا ترخص، وتنبىء عن رجل عرك الحياة، وعرف كثيراً من التجارب..وكان يؤمئذ قد قارب الخامسة والسبعين أو أكثر، ولكنه كان يحتفظ بحيوية ونشاط لا يخفيان، وأهدانى معظم كتبه، ومجلداً من الرسالة فى إصدارها الأول، يضم أعداد سنة كاملة ..". كما زاره فى مجلة الأزهر فيما بعد.
كما تعرف على الشاعر الكبير عبده بدوى وزاره فى بيته بالحلمية الجديدة، وكانت بينه مراسلات منذ كان مديراً لمجلتى "الرسالة"، و"الثقافة" خصوصا وأنه من قرية قريبة من قريته تدعى "كفر الفراوى" مركز شبراخيت، ويقول عنه: "لقيت فى عبده بدوى صورة الفلاح الهادىء الوديع الذكى المجامل، كانت فترة تعرفى عليه فى البداية مشحونة بانتقام وظيفى منه بعد إغلاق الرسالة والثقافة إحيل القائمون عليهما إلى هيئة النشر الرسمية التابعة لوزارة الثقافة ...".
كما تعرف إلى الشاعرة العراقية نازك الملائكة وزوجها الدكتور عبدالهادى محبوبة، فى دار الأدباء بالقاهرة، وكانت نازك حريصة على قضاء الصيف فى مصر كل عام مع أسرتها وكان القاعود حريصاً على مقابلتها، وكتب عنها أكثر من دراسة، وأجرى معها بعض الحوارات الأدبية، ورثاها بدراسة طويلة عقب وفاتها ودفنها بالقاهرة عام 2007.
كما تعرف إلى الأديب الكبير وديع فلسطين، عرفه عن طريق مجلة "الأديب" اللبنانية، وكان فى نهاية الستينيات يعمل مترجماً فى السفارة الإيرانية، وزاره فى بيته فى مصر الجديدة، وأهداه كتبه وبعض المجلات الإيرانية التى كانت تصدر فى تلك الحين، وتوطدت الصلة بينهما وحضر وديع ندوة أقامتها رابطة الأدب الحديث عن كتابه "الورد والهالوك..شعراء السبعينيات فى مصر" أشاد فيها بهذا الكتاب، ويذكر لوديع فلسطين أنه عندما سئل فى حوار له بمجلة "الثقافة" فى السبعينيات عن أفضل النقاد الشباب فقال: حلمى القاعود، وعلاء الدين وحيد..كما أمده بدواوين شعراء المهجر أثناء إعداده لرسالة الدكتوراه "محمد صلى الله عليه وسلم فى الشعر الحديث".
أما أهم الأعلام التى توطدت صلته بها فكان الأستاذ أنور الجندى، والذى تأثر به القاعود كثيراً فى فكره وأدبه ومنهجه وحماسه للفكرة الإسلامية الخالصة والخالية من أى شوائب ..كان أنور الجندى رحمه الله أمة وحده، لم تنقطع صلته به مذ عرفه فى دار الأدباء الكائنة فى شارع القصر العينى بالقاهرة، أما أول مرة زاره فى بيته بالطالبية فكانت أثناء تجنيده بالقوات المسلحة فى أواخر الستينيات، وكان لقاءً مشهوداً تكرر بعد ذلك عشرات المرات، ولم تنقطع صلته به حتى رحيل أستاذنا الجندى فى يناير 2002م.
كما تعرف إلى الأستاذ يحيى حقى رائد فن القصة القصيرة فى مصر والعالم العربى، وحدث أن استعرض القاعود كتاب لحقى صدر له بعنوان "عطر الأحباب" ويضم مجموعة من مقالاته النقدية التى نشرها فى جريدة "التعاون" التى تهتم بشئون الفلاحين والزراعة بالدرجة الأولى..وكتب القاعود مقالاً عنه فى مجلة "الأديب"، وبعث له برسالة على عنوان بيته.. أرسلها من المعسكر بالبريد الحربى، ونسى أمرها، إلى أن فؤجىء بعد أسابيع بمظروف أصفر مرسل من الأستاذ يحيى حقى وبه نسخة من الكتاب وعليه إهداء رقيق إلى المقاتل حلمى القاعود، ويذكر بعد خروجه من القوات المسلحة سعى للقائه فالتقاه فى محل "جروبى" بوسط القاهرة فى وجود زوجته الفرنسية، وأجرى معه حواراً نشره فى مجلة "الجديد" التى كان يرأس تحريرها الدكتور رشاد رشدى، ونشره بعد الافتتاحية، وتم التنويه عنه فى الإذاعة والتليفزيون ..
وتوثقت علاقته عبر البريد باثنين من أدباء سوريا الكبار، أولهما: فاضل السباعى الذى عرفه بالآخر وهو عبدالسلام العجيلى، ويكتب فاضل الرواية والقصة القصيرة وله ولع بالأندلس مكاناً وتراثاً وقد سافر إلى أسبانيا مراراً واستوحى من زياراته للمدن الأندلسية عديداً من أعماله الإبداعية والمقالات كما ترجم بعض الكتب التى تتعلق بالتاريخ الأندلسى، وقد كتب عنه بعض الدراسات وكانا يتبادلان الآراء، وكان السباعى يعرض عليه بعض الكتابات قبل نشرها. وقد أنشأ السباعى دار نشر سماها "إشبيلية" حباً فى المدينة الأندلسية الشهيرة، أعاد نشر أعماله وكانت تطبع فى صورة أنيقة شكلاً وإخراجاً وصفاً للحروف وتنظيماً للسطور والعناوين، وكان عندما يزور مصر يسعى القاعود للقائه ..
أما علاقته بالدكتور العجيلى فقد ظلا يتراسلان لأكثر من ربع قرن دون أن يلتقى به وجهاً لوجه، ثم التقيا فى الحجاز عام 1994، حينما حضر مهرجان "الجنادرية" السنوى، وجلس معه لساعات، وشارك فى اللقاء عبدالعزيز الخويطر وزير الإعلام السعودى، والدكتور العجيلى يسمونه "نجيب محفوظ سوريا".. كتب الرواية والقصة القصيرة والمقالة والمقامة ونظم الشعر وسجل الرحلات الكثيرة وكتب الكثير عن أعماله وظلت العلاقة بينهما حتى رحل العجيلى فى يوم ميلاد القاعود 5أبريل سنة 2006.
وعرف القاعود خلال رحلته العديد من الأدباء منهم عبدالعال الحمامصى من خلال مجلة "الزهور" التى كانت تطبع كملحق لمجلة الهلال، وكان الحمامصى يعمل سكرتيراً لتحريرها، وكان مجلس تحريرها مكون من أربعة أدباء هم: يوسف الشارونى، وعبدالعزيز الدسوقى، وعلاء الدين وحيد، وأبو المعاطى أبو النجا، وأخبره الحمامصى بموهبة جديدة لها قصة فى العدد الجديد الذى أوشك على الصدور فقرأها القاعود فاكتشف أنها مسروقة، وهى للأديب فاضل السباعى فكتب مقالاً عن هذه السرقة ونشر بالزهور ..وفى العدد التالى خصص عبدالعال الحمامصى الباب الشهرى الذى يحرره فى الزهور لينشر ما كتبه القاعود عن السرقة الأدبية، ويستطلع رأى ثروت أباظة الذى فسر السرقة بأنها دليل على امتياز مؤلفها الحقيقى وهو الأستاذ فاضل السباعى، وأصالته وجودة قصته، ولولا ذلك ما سرقها السارق، الذى اختفى تماماً من الساحة الأدبية بعد اكتشاف جريمته..
وتوطدت صلة أستاذنا الدكتور القاعود بالشيخ أحمد عيسى عاشور وأبنائه، وهم حسن ومحمد الذين كان يشرفان على مجلة الاعتصام، وحسين منشىء مجلة ودار نشر "المختار الإسلامى"، وطه صاحب دار الفضيلة، وكان لهم اليد الطولى فى الإعلام والنشر الإسلامى وحازوا فيه قصب السبق، وكانت البداية عام 1972 عندما نشر له الأستاذ أنور الجندى مقالا بمجلة "الاعتصام" بعنوان "مسلمون لا نخجل"، وهذا العنوان اتخذه الدكتور حلمى عنواناً لأحد كتبه بعد ذلك، وقد أسس الشيخ عيسى عاشور مجلة "الاعتصام" عام 1938، وتبنت التعريف بالإسلام والدفاع عنه ومحاربة البدع والضلالات والدعوة إلى الإسهام فى المشروعات الخيرية فضلا عن الدفاع عن المسلمين فى شتى أرجاء العالم العربى والإسلامى بدء من قضية فلسطين، والمغرب، واليمن، والجزائر، وليبيا إلى قضايا المسلمين فى الفلبين، وبلغاريا، والبوسنة والهرسك، وأندونسيا، وجامو، وكشمير، وأفغانستان، والسودان، وغيرها..حتى صارت فى السبعينيات المجلة الإسلامية الأولى، وقابل الدكتور حلمى "الشيخ أحمد عيسى عاشور" بمقر المجلة بالخيمية بالأزهر، ثم بعد ذلك فى المعادى عندما انتقلوا وأقاموا منزلاً بجوار جمعية الفتح الخيرية، وكان يحضر لقاءات كثيرة وتوطدت صلته بالشيخ حسن عاشور وهو أكبر أبناء الشيخ عيسى وكان يشرف على "الاعتصام" وصار الدكتور حلمى عضوا أساسيا فى تحرير "الاعتصام" وكان يرأس تحريرها الابن التالى الدكتور محمد عاشور بحكم عضويته فى نقابة الصحفيين، وعندما حدثت طفرة للكتاب الإسلامى، ولم تكن إمكانيات المجلة تسمح بتمويل دار نشر كبيرة، إلا أنه عن طريق علاقاته المتشعبة مع تجار الورق وآلات الطباعة والناشرين فى مصر والعالم العربى تمكن من تحويل دار الاعتصام المتواضعة لتقوم بدور كبير فى نشر الكتب بأسعار مخفضة، فأقبل عليها الشباب الجامعى، وقد نشر الدكتور حلمى معظم كتبه الأدبية والفكرية فى دار الاعتصام فى طبعات فاخرة كانت تنفذ بمجرد صدورهاومنها: "مسلمون لا نخجل"، و"حراس العقيدة"، و"الحرب الصليبية العاشرة"، و"العودة إلى الينابيع"، و" الصلح الأسود: رؤية إسلامية لمبادرة السادات والطريق إلى القدس"، و" النظام العسكري في الجزائر"، و"الصحافة المُهاجرة"، و"مدرسة البيان في النثر الحديث"، و" محمد (صلى الله عليه وسلم) في الشعر العربي الحديث"، و"الرواية التاريخية في أدبنا الحديث: دراسة تطبيقية"، و"لويس عوض: الأسطورة والحقيقة"، و" الرواية الإسلامية المعاصرة: دراسة تطبيقية"، وغيرها..
كما اتصل بالحاج حسين عاشور الذى أسس مجلة "المختار الإسلامى" وهى مجلة شهرية مازالت تصدر حتى اليوم، وقد نشر بها الدكتور حلمى مئات المقالات والعديد من الكتب الإسلامية ..
ومن الناس الذين عرفهم الكاتب الكبير محمد عبدالله السمان، عرفه فى مجلة "الاعتصام"، وفى مجلة "الأزهر" فى الستينيات، وقال عنه: "أخبرنى حين التقينا فى الاعتصام أنه كان يقرأ مقالاتى المتواضعة ويشيد بها، وكرمنى فيما بعد حين كان يقتبس مما اكتب ويستشهد به فى بعض كتبه ومقالاته، وعندما كنا نلتقى كان الحديث يمتد بنا إلى آفاق متشعبة وكانت مقالاته فى الاعتصام حادة ولاهبة ، يوجهها إلى طغاة السلطة وخصوم الإسلام". وقد كتب عنه فصلا فى كتابه "وجوه عربية وإسلامية"، وكان القاعود شاهد عيان على مقال السمان الذى رفضت نشره مجلة الاعتصام، وكان ينتقد فيه الشيخ عبدالحليم محمود شيخ الأزهر، ورفضت إجلالاً للشيخ، ثم نشره السمان فى مجلة "روز اليوسف" التى نشرته بمدح شامت، وقد تعرض بسبب هذه السقطة لهجوم من علماء ومفكرى الإسلام فى هذه الفترة، وقد خصه فضيلة الشيخ كشك بخطبة حمل فيها عليه، وقد اعتذر السمان عن هذه الواقعة فيما وكتب كتابا قيما عن الشيخ كشك بعد رحيله عام 1996.
وتوثقت عرى الصداقة بينه وبين الأستاذ جابر رزق الفولى، وزاره الفولى فى الاعتصام بعد خروجه من السجن عام 1974، وتعارفا وكان وقتها سكرتيراً لتحرير مجلة "الدعوة" وكان فى نفس الوقت محرراً بمجلة "الإذاعة والتليفزيون" التى يرأس تحريرها ثروت أباظة، وزار معه مجلة "الدعوة"، وصار القاعود واحداً من كتابها، وعرف جيلاً شاباً من المحررين مثل: بدر محمد بدر، وصلاح عبدالمقصود، وأحمد عزالدين، وأحمد السيوفى، ومن بعدهم جيل تال منهم: عامر شماخ، وأحمد جعفر ..
وعرف الدكتور حلمى بعض الشخصيات الأخرى منهم: الدكتور على شلش تعرف عليه فى منتصف الستينيات، وكان وقتها محررا فى مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، والأديب قاسم مسعد عليوه وزاره فى بيته ببورسعيد، إضافة إلى المئات من أساتذة الجامعة ورواد الفكر والصحافة فى مصر والدول العربية والإسلامية.
هذا قليل من كثير من جوانب السيرة الذاتية لأستاذنا الدكتور حلمى محمد القاعود على أمل أن نفصل هذا الأمور فى مقام آخر..
وسوم: العدد 658