الصحفي النابه والداعية الغيور جابر رزق جابر الفولي
26 عاما على وفاته:
الصحفي النابه والداعية الغيور
جابر رزق جابر الفولي
بدر محمد بدر
هو أحد رجالات الإخوان الذين تركوا بصمة واضحة في العمل الإعلامي من جيل محنة 1965، عاش مجاهدا نبيلا ومات صابرا محتسبا، بعد أن داهمه مرض السرطان قبل أن يكمل عامه الثاني والخمسين، فلقى ربه في العشرين من يونيو من عام 1988، بعد حياة مليئة بالعمل والبذل والتضحية والعطاء، إنه الصحفي الداعية، والسياسي الواعي، والإنسان الخلوق الأستاذ جابر رزق جابر الفولى، رحمه الله رحمة واسعة, وتقبل جهاده وصبره وحبه لدينه ولدعوته.
معرفتي به
عقب سفر الأستاذ عبد المنعم سليم إلى الإمارات للعمل، شعر الأستاذ جابر بأن واجبه الدعوي يملي عليه العودة فورا إلى مصر، حيث كان يعمل منذ وقت قصير في الإمارات أيضا، وتولى مهام مدير تحرير مجلة الدعوة، واقتربت منه كثيرا في هذه المدة، التي سبقت إغلاق المجلة (منتصف 79: سبتمبر 81)، وهو من رشحني للتعيين بالمجلة في أول يوليو 80.
وفي سبتمبر أغلق السادات مجلة "الدعوة" واعتقل أغلب قيادات الإخوان، ومنهم الأساتذة: عمر التلمساني وصالح عشماوي وجابر رزق، ورغم حداثة صلتي بالإخوان تم اعتقالي أنا أيضا، ولا أنسى بعد عدة أشهر من وجودي ومعاناتي في معتقل (ليمان أبو زعبل)، أن سمعت من ينادي اسمي، ووجدت من يحمل لي ثمرة برتقال (برتقالة)، أرسلها لي الأستاذ جابر رزق، حيث كان معتقلا معي في أبي زعبل ولكن في سجن آخر، وكانت سعادتي لا توصف لأنها كانت رسالة دعم نفسي ومعنوي كبيرة جدا لي، لا تزال تسعدني كلما تذكرتها.
وعقب خروجي من المعتقل كنت أزوره في بيته قبل افتتاح مقر "الدعوة" وهو أيضا من أخذني لزيارة الداعية المجاهدة زينب الغزالي حيث بدأت رحلة العمل معها حتى توفيت رحمها الله.
ومنذ ذلك التاريخ وأنا ألازم الأستاذ الداعية جابر رزق ملازمة الابن والأخ والصديق والمربي والصحفي والقائد، حتى زرته وأخي الأستاذ صلاح عبد المقصود للمرة الأخيرة قبيل سفرة إلى لندن في رحلة العلاج، حيث عاد جثمانه بعد هذه الزيارة بثلاثة أشهر ليدفن إلى جوار أستاذه ومرشده وحبيبه عمر التلمساني، رحمهما الله.
وقد ارتحت إلى صفات كثيرة فيه, لكن أهمها صفتان, الأولى: حبه الشديد لدعوته وجماعته, حبا ملك عليه نفسه, واستولى على حبات قلبه, وكان يبدأ يومه قبيل صلاة الفجر، ويستمر حتى ما بعد منتصف الليل, مابين قراءة وكتابة ولقاءات ومحاضرات وزيارات، يبذل ما يستطيع صابرا محتسبا, والصفة الثانية: هدوء نفسه وصفاء قلبه وسعة صدره, لا يحمل ضغينة لأحد، ولا يبيت وفى صدره شئ من أحد، رحمه الله رحمة واسعة.
ميلاده ونشأته
ولد جابر رزق فى الثانى من أكتوبر عام 1936م, فى قرية "كرداسة" التابعة لمحافظة الجيزة, ونشأ فى أسرة ريفية بسيطة, وتعرف على جماعة الإخوان منذ نشأته, فقد كانت بلدته إحدى معاقل الحركة, والتحق بالمدرسة الابتدائية ثم الإعدادية في القرية، وفي المرحلة الثانوية انتقل إلى مدرسة السعيدية الثانوية, واشتغل بعدها مدرسا للغة الفرنسية, ثم أكمل دراسته الجامعية بعد ذلك, ليحصل على شهادة الليسانس من كلية الآداب جامعة القاهرة قسم صحافة.
وعقب التخرج عمل محررا فى مجلة الإذاعة والتلفزيون, التابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون، وعمل لمدة في القسم الفني، وذكر لي أنه أجرى حوارا مع الفنان عبد الحليم حافظ، الذي كان يتسم بالبساطة والتواضع.
دخوله السجن
وفى عام 1965م اعتقلته أجهزة الأمن, ضمن حملة الاعتقالات الكبيرة التى شملت الآلاف من المنتمين للإخوان المسلمين, وبخاصة من قريته "كرداسة"، وتعرض لتعذيب رهيب في السجن الحربي ضمن المعتقلين من الإخوان، وتم تقديمه مع المئات من إخوانه للمحاكمات العسكرية, وصدر الحكم ضده بالأشغال الشاقة لمدة 15 عاما!.
كان الأحكم الصادرة قاسية جدا ضد الجميع, الذين لم يرتكبوا أي جريمة يحاسبون عليها، وبدأ يسرى بين بعض المحبوسين تيارا يشكك فى "إسلام" هؤلاء الذين يعذبون الدعاة إلى الله، ويظلمونهم كل هذا الظلم، ويلقون بهم خلف أسوار السجون تحت التعذيب، دون ذنب أو جريرة إلا أن يقولوا ربنا الله.
وبدأ الأستاذ جابر (30 عاما وقتها) يتأثر بهذا التيار, وسرعان ما هدأت نفسه واستقر يقينه، بعد صدور الدراسة العلمية الرصينة, التى أشرف عليها المستشار حسن الهضيبى، رحمه الله، بعنوان "دعاة لاقضاة", أي أن المسلم هو داعية فقط، وليس مطلوبا منه أن يكون قاضيا يحاكم الناس، ويفتش في قلوبهم وضمائرهم، بل عليه أن يترك ذلك لمن بيده الأمر كله سبحانه، فأوكل الكثيرون منهم أمر هؤلاء الظالمين المجرمين, إلى الله العادل سبحانه وتعالى.
أمضى جابر رزق فى السجن تسع سنوات بكاملها، وخرج فى عهد السادات عام 1974, وسجل بقلمه هذه الفترة الحالكة من تاريخ مصر فى عدد من الكتب، وخرج من السجن ليواصل جهاده الصحفى والدعوي, وعاد إلى عمله فى "مجلة الإذاعة والتلفزيون", وفيها نفذ أكثر من حملة صحفية كبيرة, منها حملته لكشف أفكار وآراء "طه حسين" فى ميزان الإسلام, من خلال آراء عدد من المفكرين والنقاد والعلماء, وأحدثت تحقيقاته في هذا الموضوع أثراً كبيراً, وتعرضت المجلة للضغوط حتى تم إيقاف الحملة بأوامر سياسية, لكن جابر رزق لم يتوقف, وجمع حلقات هذه الحملة وما أضافه إليها فى كتاب مستقل، وأيضا قاد حملة صحفية ضد التعذيب الذى جرى فى السجون في فترة الخمسينيات والستينيات, وكشف فيها الكثير من الوقائع المؤلمة والجرائم المنكرة, التي تعرض لها السجناء السياسيون والمعتقلون في زمن عبد الناصر.
مجلة الدعوة
وفى عام 1976م عادت مجلة "الدعوة" للصدور من جديد, وتولى الأستاذ جابر إدارة التحرير, فأعطاها اللمسة الصحفية الساخنة والمشوقة, بمقالاته الحية وتحقيقاته وحواراته وعناوينه الجذابة، ونجحت المجلة مهنيا, وزاد توزيعها على الخمسين ألف نسخة شهريا, وهو رقم كبير جدا فى ذلك الوقت.
وفى عام 1978 سافر للعمل فى الإمارات, لكنه عاد سريعا إلى مصر، وتولى مسئوليته فى "الدعوة"، التى كانت قد زادت شهرتها, وبدأت تتعرض للضغوط من أجهزة الأمن, وخصوصا فى الفترة التى أعقبت توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني عام 1979, وأيضا بعد نجاح الثورة الإيرانية في إسقاط الشاه، والتأثير الإيجابي لهذا النجاح على الحركة والصحوة الإسلامية بالمنطقة، وهو ما أدى إلى زيادة مخاوف النظام والحكومة من نفوذ الإخوان في مصر.
الملف الإعلامى
وفى أوائل سبتمبر 1981م قبض على الأستاذ جابر ضمن حملة على المعارضة بوجه عام، وقيادات الإخوان المسلمين بوجه خاص، وتم الإفراج عنه بعد نحو خمسة أشهر, وخرج جابر رزق مرة أخرى ليواصل جهاده, مرافقا دائما للأستاذ عمر التلمساني، ومستشارا إعلاميا له، ومسئولا عن الملف الإعلامى للجماعة.
وفي عام 83 جاءته الفرصة ليكون رئيسا لتحرير مجلة "الإصلاح" التي تصدرها جمعية الإصلاح والتوجيه الإجتماعى بدولة الإمارات, لكنه فضل أن يكون قريبا من قيادة الجماعة التى كانت فى حاجة إليه.
وفى يناير من عام 83 أعيد افتتاح مقر الإخوان من جديد فى رقم 1 شارع سوق التوفيقية بوسط القاهرة, وفى عام 84 شاركت معه فى إصدار مجلة "البشير" بوصفها مجلة غير دورية، بعد تعنت الأجهزة الأمنية بإيقاف مجلة الدعوة، حتى توفي الشيخ صالح عشماوي صاحب الترخيص، فسقطت بذلك الرخصة، حسب القانون الذي أعدوه لذلك.
لكن أجهزة الأمن صادرت المجلة الوليدة قبل أن تخرج من المطبعة! وأحالت المسئولين عنها للمحاكمة (الأستاذ عمر والأستاذ جابر والأستاذ صلاح عبد المقصود وكاتب هذه السطور).
وفي عام 84 اتفق الإخوان مع السيدة فاطمة أحمد حمزة صاحبة ترخيص مجلة "لواء الإسلام" على تولي أمر تحريرها وطباعتها، وفى عام 85 تولى الأستاذ جابر رئاسة تحرير "لواء الإسلام"، ونجحت المجلة نجاحا كبيرا, وارتفع توزيعها في فترة وجيزة إلى نحو 90 ألف نسخة شهريا, وتوقفت المجلة بعد ذلك فى عام 1990, بضغوط من المملكة العربية السعودية على صاحبة الترخيص, بعد إعلان الإخوان رفضهم إستقدام قوات أجنبية لتحرير الكويت في نفس العام, وإصرارهم على ضرورة أن تكون القوات عربية فقط.
نقابة الصحفيين
ومع موجة الإنفتاح على المجتمع المصرى, التى قادها الأستاذ عمر التلمسانى, فى أوائل الثمانينيات, تولى جابر رزق بصفته مسئولا عن الملف الإعلامي للإخوان، مهمة تفعيل شباب الصحفيين المنتمين للإخوان أو القريبين من الجماعة فى نقابة الصحفيين, وخصص لذلك يوما فى الأسبوع للاجتماع العام فى مقر النقابة، فى شارع عبد الخالق ثروت بوسط القاهرة.
ورغم أن العمل كان متواضعا جدا فى تلك المرحلة, بسبب قلة عدد المقيدين بالنقابة، وضعف الخبرات وصغر السن..إلخ, إلا أن هذا اللقاء كان مدخلا مهما، ولفترة طويلة، للتأثير الإيجابى لصالح الإسلاميين خصوصا فى انتخابات النقابة التى جرت عام 1985, وفاز فيها الأستاذ محمد عبد القدوس لأول مرة بعضوية مجلس النقابة بأعلى الأصوات.
وكان هذا اللقاء أيضاً فرصة لتعريف الصحفيين وبخاصة الشباب بدعوة الإخوان المسلمين, حتى وصل الإسلاميون في إحدى دورات المجلس إلى الفوز بثلث مقاعد أعضاء مجلس النقابة (4 مقاعد من 12), وهذا نجاح كبير فى نقابة محسوبة تاريخيا لليسار والعلمانيين والحكوميين، لكنها بركة هذا اللقاء المتواضع.
مؤلفاته
انشغل الأستاذ جابر رزق كثيرا بالكتابة والتأليف، وكانت تلح عليه باستمرار فكرة تأليف الكتب، حتى إن أصدقاءه كانوا يطلقون عليه: "جابر مشروعات"، لأنه كان دائم الاقتراح لمعالجة أفكار وقضايا بالمقالات والكتب، ورغم عمره القصير وسنوات السجن، وكثرة الحركة العامة، إلا أنه ترك للمكتبة الإسلامية والسياسية مجموعة مميزة من الكتب وهي: "الأسرار الحقيقية لاغتيال الإمام الشهيد حسن البنا" و"مذابح الإخوان فى سجون ناصر- جزآن" و"مذبحة الإخوان فى ليمان طره" و"طه حسين.. الجريمة والإدانة" و"الإمام الشهيد حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه" و"الدولة والسياسة في فكر حسن البنا" و"المؤامرة على الإسلام مستمرة" و"محمد عواد الشاعر الشهيد" و"الإخوان المسلمون في سورية" و"النصيرية" و أخيرا كتاب "حسن الهضيبي.. الإمام الممتحن"، الذي صدر بعد وفاته رحمه الله.
وفاتـه
وفى يناير 1988م عاد جابر رزق من تركيا بعد أن شارك في أحد المؤتمرات هناك, وكان يعانى من آلام فى الصدر و"كحة" شديدة, ورغم أنه ذهب للأطباء الذين شخصوا الحالة بنزلة برد شديدة أدت إلى حدوث التهاب رئوي حاد، والتزم بالدواء الموصوف إلا أنه كان يتألم كثيرا, حتى نصحه أحد الأطباء بإجراء فحوص وأشعة وتحاليل, وبالتالي تم اكتشاف إصابته في الرئة بالمرض الخبيث, وأن هذه الإصابة فى مرحلة متقدمة, وعندما طلب منه الإخوان أن يسافر إلى أوربا أو أمريكا للعلاج, اشترط أن يعالجه طبيب مسلم.
وفى أواخر مارس عام 88 ودعناه، أنا وأخى صلاح عبد المقصود، على أمل اللقاء, لكن جثمانه عاد إلينا من الخارج، بعد أن لقى ربه فى العشرين من يونيو 1988, عن عمر لم يكمل العام الثاني والخمسين ليدفن، كما أوصى، بجوار أستاذه ومرشده عمر التلمسانى، فى مقابر القطامية بمدينة نصر, وترك ثلاثة من الأبناء: أيمن وأشرف وأحمد بارك الله فيهم.
ولتطوى صفحة ناصعة ومضيئة من صفحات الصدق والإخلاص والجهاد والصبر, سطرها هذا الرجل المجاهد الداعية الصحفي جابر رزق.. رحمه الله رحمة واسعة.