سليمان الحلبي .. البطل الذي هزم الغزاة وحده
البطولة شيء عظيم سامق ، لا تُدعى ، ولا يتقلدها إلا شخص يملك صفاتها ، ويحرز أسبابها ، أمثال هذا يسيرون في الناس وهم في غفلة عنهم ، ويعيشون بينهم ولا يحسدون بنبض قلوبهم ، ولا بلهب أرواحهم ، وصدق عزائمهم ، قصاد نحو الحق ، وإن تخلى الجميع عنه ، رواد نحو المجد وإن حاد الناس عن دربه ، وضلوا عن صراطه المستقيم ، إلى أن يأتي قدرهم وتظهر بطولتهم :
وسليمان الحلبي بطل من هذا النوع الفريد ، يحتاج إلى دراسات ووقفات لتحليل تلك الشخصية التي ظلمت ، كما يقرر الباحثون ، تاريخياً ، سواء على المستوى الرسمي للمؤسسة الدينية التي أدانته وتبرأت من فعلته ، أو على المستوى البحثي ، حيث لم ينصفه كثير ممن كتب في تاريخ هذه الحقبة ، الذين كانوا يعتبرونه قاتلاً للجنرال كليبر قائد الحملة الفرنسية فقط ، ويلتزمون الصمت ، ولا يعلقون على الحدث ، ولعل السبب في ذلك ، سيادة الثقافة الفرنسية التي غلبت على الأمة ، ومازالت تعاني من آثارها حتى الآن ، ولقد ظُلم بحق ذلك الطالب الأزهري المجاهد لقيامه بالواجب الشرعي في قتل عدو مغتصب محتل لبلد إسلامي ، فكان وجهاً من الوجوه التي أضاءت صفحات تاريخ الجهاد العربي والإسلامي المشرف ، ضد الهجمات الاستعمارية التي حاقت بالأمة في فترة من فترات التاريخ .
ففي عام 1798م ، تمكنت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت من الاستيلاء على مصر ، واستمر نابليون في قيادة الحملة حتى رحيله في 22 أغسطس عام 1799م لفرنسا ، وتولى القائد الجنرال كليبر قيادة الحملة خلفاً له ، وهو أحد القواد النابهين ، وقد أسرف الفرنسيون في إهانة الشعب المصري وإذلاله ، فاعتقلوا الكثير ، وأقيمت المذابح في الميادين ، وتزايدت أعمال القمع والإرهاب ، واشتد ضيق الناس ، وقامت الثورات ضد الفرنسيين ، وكان مركزها الأزهر الشريف الذي كان مشعلاً كبيراً في إذكاء روح الثورة ، وفي قيادة المقاومة الشعبية للانتقام من الاحتلال ، ودفع الأزهر ثمن ذلك غالياً من علمائه ، ومن تدنيس مسجده ، واقتحام حرماته ، فنصب الفرنسيون المدافع على التلال المحيطة بالجامع الأزهر ، وصارت ترسل نيرانها وحممها على الثوار ، وعلى الجامع الأزهر ، فتفتك بالناس ، وتحطم كل شيء ، فزاد هياج الناس .
وهنا أدرك الفرنسيون أنه لا خلاص من هذه الثورة إلا باحتلال الجامع الأزهر ، وصدرت الأوامر بالتركيز على ضرب الأزهر بوابل من النيران لا مثيل له ، ودفن كثير من الناس تحت الأنقاض ، واقتحم الجنود الفرنسيون الأزهر بخيولهم في مناظر وحشية ، وربطوا خيولهم بقبلته ، وكسروا قناديله ، ومزقوا مصاحفه ، وكتبه ، وداسوها ، وقبضوا على العلماء الشيخ سليمان الجوسقي ، والشيخ أحمد الشرقاوي ، الذي كان عطوفاً على الطالب سليمان الحلبي ، والشيخ عبدالوهاب الشبراوي ، والشيخ يوسف المصلحي ، والشيخ إسماعيل البراوي ، وآخرين ، وجردوهم من ملابسهم ، ثم اقتيدوا إلى القلعة ، وأعدموا رمياً بالرصاص ، وألقيت جثثهم من السور خلف القلعة من شاهق ، وكان المقتولون حسب رواية الجبرتي ثلاثة عشر عالماً ، وكان الإثخان في قتل العلماء مبعثه ، علم المحتل أن زعامة الأزهر الروحية والشعبية هي المحرك الأساسي للثورة في التخلص من الاحتلال .
وفعلاً انتهى الاحتلال على يد أحد طلاب الأزهر الشريف ، وهو سليمان الحلبي ، الذي شهد ما يُفعل بالأزهر من إهانة للمقدسات ، ومن قتل لشيوخه الذين كان من بينهم أستاذه الشيخ أحمد الشرقاوي ، فرسم سليمان خطته لضرب هذا الاحتلال في مقتل لا يبرأ منه ، فقتل القائد الأكبر للحملة الجنرال كليبر الذي بقتله تنهار تلك الحملة المحتلة الباغية ، ورسم خطته المحكمة الناجحة للقضاء على الحملة بقتل قائدها ورأسها المدبر ، لينتهي الأمر . ويلاحظ الباحث في شخصية هذا البطل أن له مواصفات عجيبة وأفكاراً رشحته للمهمة العسيرة ، يلتفت فيها إلى ما يلي :
1 ـ لم ينشغل سليمان الحلبي بقتل الجنود عشرة عشرين مائة ، وكان أسهل لأنهم كانوا في الطرقات .
2 ـ من الذي خطط لهذا الرجل والأمر يحتاج إلى مراقبات ومعرفة مداخل الأمكنة ومخارجها ، ومعرفة الأوقات ونقاط الحرس ؟ ... إلخ .
3 ـ العقلية التي اخترقت الحراس والأماكن ، والقيادة العامة للجيش في حالة الهياج والحذر .
4 ـ تلك السرية الكبيرة التي أحاط الرجل بها خطته ، وذلك الكتمان الذي يدل على قمة الانضباط والوعي .
5 ـ ثبات الرجل وجرأته الغريبة في تنفيذ خطته التي يعلم عواقبها ، وقد كاد يفلت بعد العملية لو كان معه من سهل هربه .
6 ـ بشاعة الانتقام منه ، لم تنل من ثباته واحتسابه ، ولم تنل من توازنه وإيمانه .
وبتتبعنا لسيرته ولخطته في الهجوم على قائد الحملة نعلم مقدار ذلك ، ففي صباح يوم السبت 14 حزيران / يونيو سنة 1800م ، جاء كليبر من الجزيرة ومعه بروتان كبير المهندسين إلى حي الأزبكية ليجيب دعوة الجنرال داماس لتناول الغداء ، وما كاد كليبر يغادر دار الجنرال داماس مخترقاً حديقة الأزبكية حتى برز من بين الأشجار فتى نحيف القامة ، وتقدم نحو القائد العام ، ووثب عليه وأخرج بيده اليمنى خنجراً كان يخفيه تحت ثيابه وطعن به الجنرال عدة طعنات سريعة قضت عليه في الحال ، وسقط على الأرض صريعاً ، وحاول بروتان نجدته فانقض عليه الفتى وطعنه عدة طعنات ألقته هو الآخر على الأرض ، واختفى سليمان الحلبي سريعاً ، ولم يعثر له على أثر ، وانتشر الجند ، وعثر على الحلبي في حديقة قصر مجاور ، وعُذّب عذاباً أليماً بحرق يده وقطعها ، ولم يعترف على أحد ، ولكنهم أخذوا من نزل عليهم في الأزهر ، أو كانوا يعرفونه ، وحكم على سليمان الحلبي بالإعدام على الخازوق ، وترك جثته للطيور الجارحة ، بعد أن رأى قتل زملائه أمامه ، وجيء به لتنفيذ الحكم ، فتقدم ثابتاً يتلو القرآن ، ويشهد أن لا إله إلا الله ، فرحاً بلقاء الله سبحانه .
وأخذت جثته إلى فرنسا ، وما زالت جمجمته في متحف " أنفاليد " إلى اليوم .
وبعد قتل القائد كليبر الذي كان أعد العدة للبقاء في مصر أبد الآبدين ، انكسرت الحملة ، وتجرأ الناس عليها ، ففاوضت على الخروج ، وخرجت فعلاً مدحورة مهزومة ، واحتفل الأزهر بهذا النصر ، وتذكر المؤمنون سليمان ، ونسيه الجاحدون ، ولكن حسبه أن الله يعلم ذلك ، وهو حسبه ، وحسب المجاهدين في سبيله أنهم " في مقعد صدق عند مليك مقتدر (55) " (القمر) .
وسوم: العدد 661