محمود الملاح حياته وشعره
أنجبت هذه الأمة رجالاً عظماء من الأدباء والشعراء والعلماء والمؤرخين وأرباب الفكر في العالمين العربي والإسلامي، قدموا خدمات جليلة لأمتهم، وحذروها من دعوات تفتُّ في كيان المسلمين، وتمزق شملهم، وتزور بهم عن طريق القوة ووحدة الأمة.. وكان في الموصل عدد من هؤلاء الأدباء والشعراء الذين لا يعرف عنهم أهل الموصل أنفسهم إلا النادر الأندر الذي لا يكاد يذكر، فكيف بغيرهم من المحافظات الأخرى، بل كيف بغيرهم من الدول الأخرى.
ومن أولئك على سبيل التمثيل فقط: محمود الملاح الذي هو محور حديثنا اليوم، وفاضل الصيدلي، ومحمد حبيب العبيدي صاحب ديوان (ذكرى حبيب)، وقاسم الشعار، وعبد العزيز الجادرجي، وغيرهم كثير.
أما محمود الملاح، فقد أدهش كل من يعرفه بأدبه وبيانه نثراً وشعراً، وقد قام بكشف المستور عن الدعوات التي تبدو بظاهرها إسلامية، وهي – في حقيقة الأمر – سم ناقع على الإسلام الصحيح، الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، وسار عليه الصحابة ومن جاء بعدهم.
ويؤسفني أن أقول: إن محموداً الملاح طواه النسيان حياً وميتاً، حتى قال محسن الحبيب التونسي في بحثه عن شعر الملاح:
"أسجل هنا بكل أسف أنَّ الشاعر (الملاح)، لم يُمنح القيمة اللازمة له في عصره، وما زال شبابنا لا يعرفه.."(1). قال هذا والملاح على قيد الحياة، فماذا نقول عنه بعد موته بما يقرب من خمسة عقود؟!
ولكن من حسن الحظ أنَّ الدراسات العليا في عدد من البلاد العربية والإسلامية، صارت تتدارك تلك الخطيئة، وتبرز جوانب من حياة أولئك العظماء بأطاريح (الماجستير) و(الدكتوراه) في المجالات العلمية والأدبية والسياسية والاجتماعية.. ومن هؤلاء: رمز من رموز العلم والأدب: محمود بن عبد الله بن يونس الملاح. سمي بالملاح، لأن والده كان يبيع الملح، وترجع عائلته إلى (ألبو حمدان). وفي الموصل 10 عائلات تسمى بالملاح.
ولد في الموصل سنة 1891م، ودرس العلوم الشرعية واللغوية على عدد من علمائها واستقر به المقام عند الشيخ عبد الله النعمة، وأخذ عنه (الإجازة العالمية) سنة 1330هـــــ، الموافق لسنة 1912م في احتفال أُقيم في (جامع العراكده) في الموصل.
وتُعد إجازته أول إجازة عالمية، استقل فيها العلم عن التصوف، فلم يلبس (خرقة الصوفية).
درس الملاح في عدد من المدارس، وكتب عدداً من الأناشيد لهم تتغنى بالإسلام والوطنية والدعوة إلى السعي والجد والاجتهاد والاتحاد والعلم.. وقد قام بنشرها مع أناشيد أخرى لغيره، وعلَّق على حواشيها محمد سعيد الجليلي، وعنوان الأناشيد (الأناشيد الموصلية: للمدارس العربية).
نشأ رحمه الله محباً للقراءة، فكوّن له مكتبة تعرف من خلالها على كتابات دعاة الإصلاح. ولما دخلت قوات الاحتلال البريطاني الموصل بعد الحرب العالمية الأولى، ضاق بهم صدراً، فسافر إلى حلب سنة 1919م، وهناك تولى وظيفة في مجلس إدارة الولاية.
ولما سيطر الاستعمار الفرنسي على سورية ضاق صدره بهم، فعاد إلى الموصل سنة 1922م، وبقي فيها عدة أشهر إلى سنة ثم انتقل إلى بغداد، ومنذ انتقاله إلى بغداد لم يعد إلى بلدته الموصل ليس كرهاً فيها، فقد كانت حبيبة إلى قلبه وكثيراً ما كان يفخر بها، وفي الجزء الثاني من ديوانه قصيدتان يمدح فيها هذه المدينة ويعتب على الذين لا يعطونها حقها، فقال في إحداهما:
وقد كتب هذه القصيدة، قبل أن يكون عضواً في مجلس النواب، وذلك سنة 1936م، وبعد سنة صار عضواً في مجلس النواب عن الموصل أي في سنة 1937م، ولم يبق في نيابته إلا فترة قصيرة، فقد حُلَّ ذلك المجلس في شباط سنة 1939م. وقبل أن يُحل مجلس النواب، قررت مجموعة من نواب مصر عقد مؤتمر للنظر في (قضية فلسطين) في القاهرة، وشارك مجلس النواب العراقي في هذا المؤتمر وكان برئاسة (مولود مخلص)، وكان الملاح واحداً من أعضاء الوفد، وذلك في الفترة من 13 – 16 من شعبان، وقرر ذلك المؤتمر رفض (وعد بلفور) بإعطاء اليهود جزءاً من فلسطين، مؤكداً على ضرورة منع الهجرة إلى فلسطين من بلاد العالم، وألقى في هذ المؤتمر قصيدة بهذه المناسبة.
ولقد قام بنشر كثير من قصائده ومقالاته في جرائد ومجلات العراق، وكان يحضر مجالس جميل صدقي الزهاوي وقد ردَّ على نزغاته، وكذلك الشاعر معروف الرصافي، وفهمي المدرس، وطه الراوي، وياسين الهاشمي، وعباس العزاوي، وكانت تربطه علاقة بالأب (أنستاس الكرملي)، ونشر عدداً من مقالاته في مجلة (لغة العرب)، وحدث خلاف بينهما أثناء الاحتفال بيوبيل الكرملي، فلم يلتقيا بعد ذلك.
آثر الملاح حياة الوحدة، فانقطع في الجلوس في داره، واستمر بكتابة المقالات في عدد من الجرائد والمجلات العراقية.
أما عن مؤلفاته، فقد كتبها بين سني 1951 – 1956، وكتب هذه المدة تسعة عشر كتاباً، وهي كتب علمية قيمة، ما أحوج أمتنا وهي تعيش انتعاش الدين الصفوي الباطني في العالمين العربي والإسلامي إلى إعادة نشرها من جديد، لئلا يُخدع الناس بالكلمات الرنانة، والشعارات الطنانة التي يطلقها هؤلاء مواربة من أجل نشر دين الرفض هنا وهناك.
وقد كان الشيخ محمد نصيف رحمه الله من السعودية، قد نشر قبل ما يقرب من خمس وأربعين سنة عدداً من كتبه في الرد على الرافضة، مع رسائل للشيخ محب الدين الخطيب ومحمد بهجت البيطار، وكانت بجزأين تحت عنوان (مجموع السنة).
أما مؤلفاته التي كتبها فهي:
1- الآراء الصريحة لبناء قومية صحيحة.
2- البابية والبهائية.
3- تحذير المسلمين من المتلاعبين بالدين.
4- تاريخنا القومي بين السلب والإيجاب.
5- تعليقات على كتاب إثبات الوصية لابن المطهر.
6- الرزية في القصيدة الأزرية.
7- خطاب إلى صاحبي السماحة: محمد الحسين آل كاشف الغطاء، ومحمد مهدي الخالصي.
8- تشريح شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
9- مقدمة ابن خلدون، دراسة ونقد.
10- نظرة ثانية في مقدمة ابن خلدون.
11- الوحدة الإسلامية بين الأخذ والرد.
12- تعليقات وحواشٍ على كتاب ابن سينا تأليف: رحيم صفوي.
13- حجة الخالصي، حلقة في مناقشته في آرائه.
14- حقيقة إخوان الصفا.
15- عبد الباقي العمري، سياحة فكرية في ديوانه: الترياق الفاروقي.
16- المجيز على الوجيز ومباحث أخرى.
17- دقائق وحقائق في مقدمة ابن خلدون.
18- النحلة الأحمدية وخطرها على الإسلام.
19- ... قائد الحج الأكبر.
ونلاحظ هنا أن أكثر هذه المؤلفات كتبها في الرد على الشيعة (3) – وبخاصة على محمد مهدي الخالصي الذي جاء إلى بغداد فأبطل الشهادة الثالثة في الأذان – (حيّ على خير العمل) وصار يصلي بالناس صلاة الجمعة ثم يخطب بهم في المسجد الصفوي في الصحن الكاظمي في بغداد.
أما الشيعة الآخرون – آنذاك – فلا يصلي أحد منهم صلاة الجمعة، وفي إحدى خطبه تعرض للصحابي معاوية بن أبي سفيان، وأساء فيه الكلام، في الوقت الذي كان يكتب مقالاته في (الوحدة الإسلامية) و(الجمعة الجامعة). وتصدى له عالمان فاضلان: جلال الحنفي ومحمود الملاح.
أما الشيخ جلال الحنفي، فصار يكتب مقالات متسلسلة بعنوان (أشواك في طريق الوحدة) يرد فيها على الخالصي وقد جمعت المقالات – فيما بعد – بكتاب يقع في مئتي صفحة أو يزيد.
وأما الملاح، فصار يكتب مقالاته المتسلسلة، أيضاً بعنوان (الوحدة الإسلامية) يرد فيها عليه وينقض بها عقائد الشيعة، وجمعت المقالات في كتاب أيضاً.
لقد تحدثت هذا الحديث عن الشيعة – لأبين السبب الذي جعل الملاح ينزل إلى ميدان الكتابة، فكتب أكثر كتبه في الرد عليهم.
أما عن شعر الملاح، فأقول: إن هذا الكلام الذي أتحدث به، إن هو إلا مقتطفات من جوانب شعره، وإلا فالحديث فيه يطول. ويحسن بمن يُقيم شعره أن ينظر إلى شعره على وفق العصر الذي عايشه ومعايير الشعر فيه.
لم يطبع ديوان الملاح في حياته، وأما بعد مماته، فقد احتفظ ورثته بمسودة الديوان، وحرصوا على أن لا يراه أحد، وحجتهم أنه تعرض في بعض قصائده لشخصيات من عوائل معروفة بالنقد، فهم لا يريدون أن يدخلوا بمشكلات مع أبناء وأحفاد تلك العوائل.
ومع ذلك، فقد قام الأستاذ أحمد دهش النعيمي بجمع قصائد للملاح أطلق عليها اسم (ديوان الملاح)، طبع سنة 2006 في دار القيروان في بغداد، وقد حصل على بعض الأوراق المخطوطة من الديوان كما يقول في هوامش عدد من القصائد. واطلع الشاب النبيل إسماعيل بن الشيخ إبراهيم المشهداني على الديوان المخطوط بعد محاولات عديدة لما كتب أُطروحته للماجستير الموسومة (محمود الملاح شاعراً). وقد حصلتُ على الجزء الثاني من ديوانه المطبوع، ويقع في ست وستين وأربع مئة من الصفحات، ولم أطلع على جزئه الأول، ووجدت في الجزء الثاني الذي حصلت عليه هفواتٍ وأخطاءاً ليست بالقليلة. ومع ذلك ففي هذا الجمع خير كثير، إذ لولاه لضاع قسم من شعره.
ويُعد الملاح من المكثرين في قول الشعر مع الجودة فيه، فبلغ عدد أبيات شعره ما يقرب من 6000 (ستة آلاف) بيت. لذلك نرى الأستاذ رؤوف الواعظ قد أدخله في أطروحته (الاتجاهات الوطنية في الشعر العراقي) في عائلة معروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري(4).
يتسم شعر الملاح بالرصانة في اللغة، والدقة في التعبير، والمباشرة في الخطاب، وقد طرق في شعره الجوانب السياسية، والنقد الاجتماعي، ومحاربة المستعمرين، والرثاء وغير ذلك..
لقد رأى الملاح كيف جثم الاستعمار وهيمن على البلاد العربية والإسلامية، فكتب قصائده ليشحذ همم الشباب في مقارعتهم، وصبّ جام غضبه على المتعاونين معه وشنّع عليهم، وجعلهم صورة طبق الأصل (لأبي رغال الخائن)، فكتب قصيدته بعنوان (فخر الأنام) منها:
وينظر الملاح إلى الغرب الذي استعمر البلاد العربية والإسلامية، فيستنهض الهمم ليجمع المسلمون شملهم ويقفوا بوجه الغرب ليحصلوا على حقوقهم فيقول:
ويدعو الملاح، مرة أخرى، الضعفاء إلى أخذ القوة ليستردوا حقوقهم من المغتصبين فيقول:
عاش الملاح في مجتمع فيه ما فيه من التخلف، وينظر إلى أوضاع العالم العربي، فيراها سيئة، وقد هضمت حقوقه من هنا وهناك، فلا يكتفي بوصف الحال، ولا بتشخيص الداء، بل كان يصف العلاج الناجع للخروج من ذلك المأزق، والعلاج أن يكونوا موحدين تحت قيادة واحدة، حتى ولو لم تبلغ تلك القيادة القمة في تسيير سفينة المجتمع فيقول:
ويستمر في دعوته إلى وحدة الأمة، وعدم التواني والتخاذل فيقول:
وهذه الوحدة التي يدعو إليها الملاح، ينبغي أن يتولاها المخلصون الصادقون من ذوي الكفاية فيحذر فيها من شباب في مقتبل العمر، يرفعون شعار الوحدة، ويشتتون الشمل باسمها فيقول:
ويدعو الملاح أبناء العرب إلى أن يسلكوا طريق المجد الرفيع الذي شاده الآباء، منكراً عليهم التباعد الذي حلَّ بهم وهم أبناء لغة واحدة، وأراضيهم واحدة فيقول:
ويستنهض العرب فيقول:
ويتألم الملاح من سلوك أُناس محسوبين على أمتنا، يقومون بهدم ما شاده سلف الأمة، وقد كان هذا سبباً من أسباب طمع الأمم الغربية فينا وهضم حقوقنا وهؤلاء هم الذي ذبحوا أمتهم ويرمون غيرهم بالجرم، وفي حقيقة الأمر أنهم أشد الناس جرماً فيقول:
أما في مجال الرثاء، فقد كثرت قصائده فيه، ومن ذلك قصيدته في رثاء (إبراهيم هنانو) وقد عمل معه في مجلس إدارة ولاية حلب – وكان (هنانو) مديرها، ومطلع القصيدة:
ورثى شيخه عبد الله النعمة بقصيدة مطلعها:
ومنها:
ورثى عز الدين القسام بقصيدة منها:
توفي الملاح رحمه الله في الثامن عشر من ذي الحجة سنة 1388هــــــ، الموافق 18/ من آذار/ سنة 1969م.
أما مكتبته الخاصة، فقد وضعت في مكتبه الأوقاف العامة في الموصل. وقد أخبرني مدير المكتبة سالم عبد الرزاق أنه اطلع على كثير من تلك الكتب، ووجد فيها تعليقات كثيرة مهمة له فيها، ينتفع منها ذوو الاختصاص في عدد من العلوم، وبخاصة ما يتعلق بالعقيدة الإسلامية، والتيارات المنحرفة عن الإسلام.
(1) الملاح الشاعر تأليف محسن الحبيب التونسي ص17، مطبعة أسعد 1962، بغداد – العراق.
(2) ديوان الملاح 2/281 – 283، جمع وإعداد: أحمد دهش النعيمي، الطبعة الأولى 1427 – 2006 دار القيروان، بغداد.
(3) لا يقصد بالشيعة أولئك الذين أحبوا سيدنا علياً بن أبي طالب رضي الله عنه في حياته وبعد استشهاده، فإنَّ كل مسلم صحيح الإسلام يجب عليه أن يحبه، فلا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، لكنه يقصد الفرس الذين عزَّ عليهم انهيار الدولة الفارسية، فاتخذوا التشيع شعاراً لهم ليهدموا الإسلام من الداخل.
(4) الاتجاهات الوطنية في الشعر العراقي الحديث 1914 – 1941 تأليف: رؤوف الواعظ ص344، دار الحرية بغداد 1974م، نقلاً عن أطروحة إسماعيل إبراهيم المشهداني بعنوان محمود الملاح شاعراً، ولم تطبع..
وسوم: العدد 665