الباحث الاستراتيجي جمال حمدان

د. أحمد محمد كنعان

شخصيات لها تاريخ

جمال حمدان (   ١٩٢٨-١٩٩٣ ) كان عالماً استراتيجياً من الوزن الثقيل، بالرغم من أنه في الأصل عالم جغرافيا ، إلا أنه امتاز برؤية استراتيجية نادرة استطاع  بفضلها التنبؤ بالكثير من الأحداث والوقائع التي حصلت بعد استشرافه لها بعشرات السنين، فلم تكن الجغرافيا لديه الا رؤية استراتيجية متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين جغرافي وبشرى وحضاري ، وكانت الجغرافيا عنده رؤية للتكوينات وعوامل قوتها وضعفها، فهو لم يتوقف عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية وإنما سعى إلى وضعها في سياق أشمل ذات بعد مستقبلي !!!

 ومن أجل هذه الرؤية الاستراتيجية المستقبلية عانى جمال حمدان كما يعاني عادة العباقرة أصحاب الرؤى المستقبلية بسبب عدم قدرة الآخرين على استيعاب ما ينتجونه من رؤى سابقة لعصرها، وقد كان جمال حمدان يمتلك قدرة فريدة على استشراف المستقبل من خلال بصيزة نافذة لحقائق التاريخ ووعي عميق بوقائع عصره، فعلى سبيل المثال، ففي عقد الستينات، وبينما كان الاتحاد السوفياتي في ستينيات القرن الماضي في أوج مجده، وكانت أفكاره الشيوعية الحمراء تنتشر في العالم شمالاً وجنوباً مشكلاً منها منظومة شيوعية ضاربة، تنبأ جمال حمدان أن تفكك هذه المنظومة واقع لا محالة، وهذا ما حصل فعلاً في عام ١٩٨٩، أي بعد إحدى وعشرين سنة من نبوءته، فقد  وقع الزلزال الذي هز أركان أوروبا الشرقية، وانهارت الكتلة الشرقية في أوروبا وانفصلت عن الاتحاد السوفياتي الذي لم يلبث أن انهار هو نفسه بعد عامين !!!!

 ولعل أكثر ما يحسب لجمال حمدان سبقه في فضح ترهات المشروع الصهيوني في فلسطين الذي يقوموعلى الوهم بأن اليهود الحاليين هم أحفاد بني إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال فترة ما قبل الميلاد، فقد أثبت حمدان في كتابه "اليهود أنثروبولوجياً" الذي نشره في عام ١٩٦٧، بالأدلة العلمية الدامغة أن اليهود المعاصرين الذين يزعمون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمي هؤلاء إلى إمبراطورية "الخزر التترية" التي قامت بين "بحر قزوين" و"البحر الأسود"، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي، وهذا ما أكده بعد ذلك بعشر سنوات الباحث الإنكليزي اليهودي "آرثر كوستلر" في كتابه " القبيلة الثالثة عشرة" الذي نشره في عام ١٩٧٦،

وبهذا الجهد العلمي العميق يعد جمال حمدان واحداً من ندرة نادرة من المثقفين المسلمين الذين نجحوا في حل المعادلة الصعبة بتوظيف بحوثهم ودراساتهم في خدمة قضايا الأمة، فقد خاض جمال حمدان معركة شرسة لتفنيد الأسس الواهية التي قام عليها "المشروع الصهيوني" في فلسطين، ما يجعلنا نرجح نظرية اغتيال هذا الباحث الكبير على أيدي "الموساد" الإسرائيلي كما تشير بعض الدلائل التي حصل عليها المحققون في حادثة وفاته الغامضة !!

فهذا الباحث الاستراتيجي الكبير جمال حمدان هو أول من هدم الأسس الأنثروبولوجية التي يقوم عليها المشروع الصهيوني، وهو المشروع الذي أكمل هدم أسسه الفكرية فيما بعد الباحث المصري عبد الوهاب المسيري (١٩٣٨- ٢٠٠٨) فقد أثبت جمال حمدان أن " إسرائيل"دولة استعمارية صرفة، قامت على اغتصاب غزاة أجانب لأرض لا علاقة لهم بها دينياً ولا تاريخياً ولا عرقياً، مشيراً إلى أن هناك "يهوداً" قدامى هم الذين ورد ذكرهم في التوراة، وهناك يهود محدثون لا صلة أنثروبولوجية بينهم وبين يهود التوراة الذين عاشوا ردحاً من الزمن في فلسطين أيام نبي الله موسى عليه السلام!!

وهكذا انتهج جمال حمدان منهجاً علمياً رصيناً في مواجهة هذا المشروع الاستعماري، ولم يستسلم للأصوات العربية الزاعقة التي اكتفت بالصراخ والعويل والمناداة بإلقاء إسرائيل في البحر، بل مضى من خلال أدواته البحثية المحكمة إلى فضح حقيقة إسرائيل، مؤكدا أن الدين "اليهودي " باعتباره ديناً سماوياً في الأساس لا يمكن أن يكون قومياً عنصرياً، مؤكداً كذلك أن اليهود المحدثين ليسوا عنصراً عرقياً بأي معنى من المعاني، وإنما هم "متحف" حي يتألف من خليط أجناس بشرية شتى، ومن ثمّ فإن احتلالهم فلسطين يجعل منهم ومن النزعة الصهيونية عملاً عنصرياً فاقعاً يمثل شذوذاً رجعياً في الفلسفة السياسية للقرن العشرين، ويعيد إلى الحياة حفريات العصور الوسطى ... عصور الظلام والهمجية !!

ولم يتوقف حمدان عند تفنيد هذا المشروع الاستعماري، وإنما اكتشف مبكراً من خلال تحليله العميق للظروف التي أحاطت بقيام هذا المشروع أن "الأمن" يمثل المشكلة المحورية لهذا الكيان اللقيط، وأن وجود هذا الكيان مرهون بالقوة العسكرية، ولهذا جعلت إسرائيل سكانها جيشاً ، ولهذا السبب - كما أكد حمدان -سوف تزول عاجلاً أو آجلاً ، وهذا ما يخبرنا به التاريخ عن كل أمة جعلت وجودها مرهوناً بالقوة العسكرية !

ويواصل حمدان بحوثه ورؤاه الاستراتيجية فلا يكتفي بفضح المشروع الصهيوني وبيان أبعاده العنصرية، ومألاته المستقبلية، وإنما تعداه إلى رؤى مستقبلية أخرى لا تقل أهمية، فقد توقع حمدان سعي الغرب إلى افتعال صراع بين الحضارات من أجل حشد أكبر عدد من الحلفاء ضد العالم الإسلامي، إذ يرى الغرب أن الإسلام يصادم مشروعه الاستعماري ، فقد أكد حمدان أن الإسلام بعد سقوط الفكر الشيوعي، وانهيار الاتحاد السوفياتي المنافس للغرب أصبح العالم الإسلامي هو المرشح الجديد ليكون عدواً منافساً، وقد تنبأ حمدان أن يعمد الغرب لاستدراج بقايا الشيوعية والملحدين إلى صفه لتشكيل حلف ضد الإسلام والمسلمين، على أساس أن هؤلاء يشكلون مع الغرب عدواً مشتركاً ضد العالم الإسلامي، وتنبأ حمدان أن الغرب لن يجد مشقة في تشكيل هذا الحلف، وأن الشرق الشيوعي سوف يأتي ليلقي بنفسه في أحضان الغرب ليقفا معاً في صف موحد ضد الإسلام والمسلمين، وهو ما تحقق بالفعل، وهو ما عرضه الباحث الأمريكي صموئيل هنتنجتون ( ١٩٢٧- ٢٠٠٨  ) في كتابه " صدام الحضارات " الذي أسس فيه للمنطلقات الفكرية العريضة لهذا الحلف الشيطاني، وسريعاً ما تولى المحافظون الجدد في البيت الأبيض إدارة معاركه الفعلية في إطار ما بات يعرف اليوم ب " الحرب على الإرهاب "التي هي في الحقيقة حرب شاملة على الإسلام .

ومن الرؤى المستقبلية التي طرحها جمال حمدان وتبدو في طريقها إلى التحقق، تنبؤه بانهيار الولايات المتحدة، فقد كتب في بداية التسعينيات من القرن الماضي يقول : "‏أصبح من الواضح تمامًا أن العالم كله والولايات المتحدة باتا تبادلان الحقد والكراهيـة علنًا، والعالم الذي لا يخفي كرهه لها ينتظر بفارغ الصبر لحظة الشماتة العظمى فيها حين تسقط وتتفكك كما حصل للاتحاد السوفياتي، وعندئذ سوف نرى الولايات المتحدة تتصرف ضد العالم كالحيوان الكاسر الجريح‏، ومضى حمدان يقول : ‏"‏لقد صار بين الولايات المتحدة والعالم ‏"‏تار بايت‏"‏ فهي الآن في حالة ‏"‏سعار قوة‏"‏ سعار سياسي مجنون ... جنون القوة، وجنون العظمة، وقد تسجل مزيدًا من الانتصارات العسكرية في مناطق مختلفة من العالم في السنوات القادمة، لكن هذا السعار سيكون مقتلها في النهاية‏".

ويلفت حمدان إلى أن "‏الولايات المتحدةط تصارع الآن للبقاء على القمة، ولكن الانحدار لأقدامها سارٍ وصارمٍ والانكشاف العام قد حصل فعلاً ، والانزلاق النهائي بات قريباً جدًا في انتظار أية ضربة من المنافسين الجدد ـ الاتحاد الأوروبي، ألمانيا، اليابان‏"‏‏

وتوقع حمدان "أن ما كان يقال عن ألمانيا واليابان استراتيجيًا سيقال عن الولايات المتحدة قريبًا، ولكن بالمعكوس، فألمانياواليابان عملاق اقتصادي وقزم سياسي - كما قيل - بينما تتحول الولايات المتحدة تدريجيًا إلى عملاق سياسي وقزم اقتصادي‏"‏‏ وهذه الرؤية الاستراتيجية من حمدان تبدو في طريقها إلى التحقق - ولو ببطء - بدليل حالات الإفلاس المتكرر والركود الشديد اللذين يعاني منهما الاقتصاد الأمريكي، مقابل نمو اقتصادي متسارع للاتحاد الأوروبي واليابان، ولم تكن مفاجأة أن العملة الأوروبية الموحدة " اليورو " حققت معدلات قياسية مقابل الدولار الأمريكي خلال فترة وجيزة.

ومن الاستشرافات الاستراتيجية المهمة التي تضمنتها أوراق جمال حمدان، تلك المتعلقة ‏بعودة الإسلام ليقود من جديد، حيث يقول ‏"‏يبدو لي أن عودة الإسلام أصبحت حقيقة واقعة في أكثر من مكان، عودة الإسلام حقيقة دالة جدًا، أصبحت ملء السمع والبصر "‏، ويلفت إلى أن الإسلام اليوم يتحرك نحو أراض جديدة،‏ فقديمًا كان الإسلام يتقلص في تراجع نحو الجنوب في جبهته الأوربية وجنوب جبـهته الإفريقية، أماالآن فهناك عودة الإسلام إلى قلب أوروبا‏.‏

وأخيراً، نقول : من المؤسف بعد كل هذا العطاء العلمي الأصيل من هذا الباحث المجتهد نجده يعاني من تجاهل ونسيان لأكثر من ثلاثين عاما قضاها منزويا في شقته الضيقة، ينقب ويحلل ويعيد تركيب الوقائع والبديهيات، وحتى عندما مات بشكل ماسأوي غامض، خرج من يتحدث عن قدرة خارقة لحمدان على التفرغ للبحث والتأليف بعيداً عن مغريات الحياة، كما لو كان هذا الانزواء قراراً اختيارياً وليس عزلة فرضت عليه لمواقفه الوطنية الصلبة، وعدم قدرة المؤسسات الفكرية والمثقفين العرب على التعاطي مع أفكاره الاستراتيجية السابقة لزمانها !!!

وسوم: العدد 668