شخصية الإمام محمد رشيد رضا في الشعر الإسلامي الحديث
(1282- 1354ه )
( 1865 - 1935 م)
تمهيد :
كلما ضعف هذا الدين، وذبلت أوراقه، ولان عوده بعث الله له من يجدد شبابه ويعيد إليه نضارته وحيويته، ويصلح شأنه، ويقوّم اعوجاج الناس عنه، ويردهم إلى دينهم وعقيدتهم وعبادة ربهم .
وقد قام ورثة الأنبياء من العلماء- وهم مصابيح الهدى- في بيان الحق من الباطل والهدى من الضلال والخير من الشر والنور من الظلام .
فألفوا الكتب، وخطبوا بين الناس، ودعوا إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة ..فهتفوا بالرجوع إلى أصل هذا الدين، ونادوا بالعودة إلى نقاوة هذه العقيدة لتكون بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك .
لقد استيقظ الناس في ظل الاحتلال الأجنبي للوطن العربي والعالم الإسلامي على أصوات تنادي بالإصلاح والصفاء، وتهيب بالمسلمين بالرجوع إلى ماضيهم المشرق واستعادة مجدهم التليد .
وكان بين أولئك الأعلام المبرزين والأئمة المشهورين السيد محمد رشيد رضا الذي حمل على عاتقه أمر الإصلاح فصنف، وكتب، وألف، وألهب، وأنشأ المنار، فكانت مناراً للعلم والأدب، مدحها المخلصون، وعاداها المبغضون،........
فلماذا أضفي التعتيم على حياة ومؤلفات السيد رشيد رضا ؟ بينما ضجت رفوف المكتبات بالفكر المنحط ودعاة التغريب وأدب الانحلال ؟؟
ولماذا لم تلقَ مؤلفاتُ السيد رشيد رضا نصفَ الاهتمام الذي لاقته غيرها ؟
وما هي علاقة السيد بأعلام عصره ؟ وهل مدحه أحدهم، وأثنى عليه مخلصهم ؟ وما هي جهوده في الإصلاح...كلُّ هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها هذه الصفحات .....
أ – حياة الإمام محمد رشيد رضا ، ودوره في التربية، والإصلاح :
كان الشيخ رشيد رضا أكبر تلامذة الأستاذ الإمام محمد عبده، وخليفته من بعده، حمل راية الإصلاح والتجديد، وبعث في الأمة روحًا جديدة، تُحرِّك الساكن، وتنبه الغافل، لا يجد وسيلة من وسائل التبليغ والدعوة إلا اتخذها منبرًا لأفكاره ودعوته ما دامت تحقق الغرض، وتوصل إلى الهدف.
وكان (رحمه الله) متعدد الجوانب، والمواهب، فكان مفكرًا إسلاميًا غيورًا على دينه، وصحفيًا نابهًا ينشئ مجلة "المنار" ذات الأثر العميق في الفكر الإسلامي، وكاتبًا بليغًا ، ومفسرًا نابغًا، ومحدثًا متقنًا في طليعة محدثي العصر، وأديبًا لغويًا، وخطيبًا مفوهًا تهتز له أعواد المنابر، وسياسيًا يشغل نفسه بهموم أمته وقضاياها، ومربيًا ، ومعلمًا يروم الإصلاح ، ويبغي التقدم لأمة.
وكان واحدًا من رواد الإصلاح الإسلامي الذين بزغوا في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وعملوا على النهوض بأمتهم؛ حتى تستعيدَ مجدها الغابر، وقوتها الفتية على هدى من الإسلام، وبصر بمنجزات العصر.
المولد ، والنشأة :
دراسته ومراحل تعليمه :
بعد أن تلقى مبادئ القراءة والكتابة على والده ، انتقل السيد رشيد رضا إلى طرابلس، ودخل المدرسة الرشيدية الابتدائية، وكانت تابعة للدولة العثمانية، وتعلم النحو، والصرف، ومبادئ الجغرافيا، والحساب، وكان التدريس فيها باللغة التركية، وظل بها رشيد رضا عامًا، ثم تركها إلى المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس سنة (1299هـ = 1882م)، وكانت أرقى من المدرسة السابقة، والتعليم فيها بالعربية، وتهتم بتدريس العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية، وقد أسس هذه المدرسة وأدارها الشيخ "حسين الجسر" أحد علماء الشام الأفذاذ ومن رواد النهضة الثقافية العربية، وكان يرى أن الأمة لا يصلح حالها أو ترتقي بين الأمم إلا بالجمع بين علوم الدين، وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوربية مع التربية الإسلامية الوطنية.
ولم تطل الحياة بتلك المدرسة فسرعان ما أُغلقت أبوابها، وتفرّق طلابها في المدارس الأخرى، غير أن رشيد رضا توثقت صلته بالشيخ الجسر، واتصل بحلقاته ودروسه، ووجد الشيخ الجسر في تلميذه نباهة وفهمًا، فآثره برعايته وأولاه عنايته، فأجازه سنة (1314هـ = 1897م) بتدريس العلوم الشرعية والعقلية والعربية، وهي التي كان يتلقاها عليه طالبه النابه، وفي الوقت نفسه درس "رشيد رضا" الحديث على يد الشيخ "محمود نشابة" ، وأجازه أيضًا برواية الحديث، كما واظب على حضور دروس نفر من علماء طرابلس، مثل:
- الشيخ عبد الغني الرافعي:
وهو من مشاهير القطر الشامي في عصره. وقد حصل العلوم والفنون الدينية واللغوية في طرابلس ودمشق الشام، وكان فيها يومئذ نفر من أكبر علماء الإسلام. وقد امتاز بين فقهاء عصره بالجمع بين النبوغ في علوم الشرع والتصوف والأدب. ولي الإفتاء في طرابلس، وهو أعلى منصب لرجال العلم آنذاك، وولي قضاء اليمن ، واستفاد من إقامته هناك فوائد عظيمة، منها أن مذاكرته ومناظراته لعلماء الزيدية قوى في نفسه ملكة الاستقلال في الفهم، وهناك عثر على كتاب "نيل الأوطار" للشوكاني، ولما عاد إلى طرابلس كان يقرأه درساً للنابغين من طلابه.
وأدركه الشيخ رشيد رضا، وهو في شيخوخته، وحضر عليه بعض دروسه في نيل الأوطار لكنه لم يكن ـ لكونه مبتدئاً ـ يفهم الاصطلاحات الأصولية والحديثية فيه ـ لذلك لم يستفد منه شيئاً يذكر.
- ومحمد القاوجي :
ويصفه الشيخ رشيد بأنه "العالم المحدث العابد الشهير". أخذ عنه الشيخ رشيد كتابه في الأحاديث المسلسلة، ومنها المسلسل بالأولية. وكتابه "المعجم الوجيز" في الحديث. وكان الشيخ القاوقجي من أهل الطريقة الشاذلية. وتأثر به الشيخ رشيد في هذا الاتجاه أول الأمر .
- ومن الشيوخ الذين تلقى العلم عنهم الشيخ محمد الحسيني،... وغيرهم.
مذهب رشيد رضا الفقهي:
لقد درس الشيخ رشيد مذهب الشافعية على شيخه العلامة "محمود نشابة". لكن لم يلبث الشيخ رشيد أن حمل على التقليد والمقلدين، فقد ظهر للشيخ رشيد " تحريم التقليد والأخذ فيه بآراء البشر ... ". وأن " التقليد في الدين باطل لأنه ينافي أصل العلم اليقين. فإن المقلد في الدين هو من يعتمد في دينه على قول من يثق به من أهله وقومه أو معلمه، وليس على علم ولا بصيرة".
وأما الأدلة على بطلان التقليد، فيورد الشيخ رشيد عند كل مناسبة ما يمكنه من أدلة يرى أنها تدل على بطلان التقليد، وبالجملة: "فكل ما ورد ... من القرآن أو السنة من كون هذا الدين علماً مؤيداً بالحجة وبصائر للناس وآيات بينات فهو مبطل للتقليد، وكل ما ورد فيهما من النعي على الكفار وعيبهم بالجهل وعدم العلم، ووصفهم بالصم البكم العمي، وبكونهم لا يعقلون فهو مبطل للتقليد.
وكل ما فيه من مطالبتهم بالدليل على ما يدعون وبالعلم والعقل فكذلك ... ". ويذهب إلى أن الاستدلال هو من الفطرة، وأن التقليد مفسد لها.
ويرى الشيخ رشيد أن التقليد ليس من العلم في شيء، والمقلد لا يكون عالماً ولا مفيداً للعلم ولا مستفيداً له.
ويشير إلى مساوئ التقليد وأثره على المقلد، فيقول: " ومن رزئ بالتقليد كان محروماً من ثمرة العقل وهي الحكمة ومحروماً من الخير الكثير الذي أوجبه الله لصاحب الحكمة، فيكون كالكرة تتقاذفه وسوسة شياطين الجن وجهالة شياطين الإنس، يتوهم أنه قد يستغني بعقول الناس عن عقله وبفقه الناس عن فقه القرآن "
ومن مساوئ التقليد ـ كما يرى الشيخ رشيد ـ أن "الاختلاف هو أثر طبيعي للتقليد، والانتصار للرؤساء الذين اتخذوا أنداداً ... إذ لولا التقليد لسهل على الأمة أن ترجع في كل عصر أقوال المجتهدين والمستنبطين إلى قول واحد يعرضه على كتاب الله وسنة رسوله ... ".
أخلاقه وصفاته:
نشأ الشيخ رشيد في هذه البيئة على محاسن الأخلاق، فكان حيياً متعبداً متنسكاً، مواظباً على قراءة القرآن والأذكار. ولم تتعلم نفسه عادة من العادات السيئة المضرة. وكان الشيخ رشيد ـ وقت شبابه ـ شجاعاً جريئاً في مواطن الحق، على الحكام والعلماء. يقول الشيخ رشيد عن نفسه:
"نشأت في حجر العبادة، فألفها وجداني، ونشطت فيها أعضائي من الصغر، فخفت علي في الكبر، كنت من سن المراهقة أذهب إلى المسجد في السحر، ولا أعود إلى البيت إلا بعد ارتفاع الشمس ... ".
وكان الشيخ رشيد أول أمره يتعبد على طريقة الصوفية، إلا أنه رجع عن ذلك واستبدلها بالسنة.
بداية الإصلاح في قريته :
شغف السيد محمد رشيد رضا بكتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، فأخذه شيء من التصوف، وكان هذا في مبدأ الطلب، ولكنه وفق إلى ترك الضار منه، فلم يأخذ به مثل عقيدة الجبر، والتأويلات الأشعرية، والصوفية، والغلو في الزهد، والغناء، وبعض العبارات الباطنية والمبتدعة، ومع ذلك استمر في طريقة ورياضة الصوفية إلى حين، ثم ظهر أثر تغيره بعد المرحلة المصرية .
اتخذ الشيخ رشيد رضا من قريته الصغيرة ميدانًا لدعوته الإصلاحية بعد أن تزود بالعلم، وتسلح بالمعرفة، وصفت نفسه بالمجاهدات والرياضات الروحية، ومحاسبة نفسه، وتخليص قلبه من الغفلة وحب الدنيا، فكان يلقي الدروس والخطب في المسجد بطريقة سهلة بعيدة عن السجع الذي كان يشيع في الخطب المنبرية آنذاك، ويختار آيات من القرآن يحسن عرضها على جمهوره، ويبسط لهم مسائل الفقه، ويحارب البدع التي كانت شائعة بين أهل قريته.
وثار على المنكرات المتفشية في ذلك الزمان بين أهل قريته وبلده، فأعلن إنكاره لما يحدث في مجالس الذكر لجماعة المولوية، وكان يقرأ الدروس في المسجد بطريقة سهلة بسيطة، بعيدة عن المماحكات اللفظية، والتقعرات المنهجية، ويحث في خطبة الجمعة على الإصلاح بل يذهب إلى المقاهي، وينصح من فيها بأداء الصلوات، ويبسط في تعليمهم أبواب الفقه، ويقرب في قواعده للعامة، ويحذر من التبرك بأصحاب القبور، ويأمر بقطع الأشجار التي يتبرك بها العوام .
ولم يكتف الشيخ رضا بمن يحضر دروسه في المسجد، فذهب هو إلى الناس في تجمعاتهم في المقاهي التي اعتادوا على الجلوس فيها لشرب القهوة والنارجيلة، ولم يخجل من جلوسه معهم يعظهم، ويحثهم على الصلاة، وقد أثمرت هذه السياسة المبتكرة، فأقبل كثير منهم على أداء الفروض والالتزام بالشرع والتوبة والإقبال على الله، وبعث إلى نساء القرية من دعاهن إلى درس خاص بهن، وجعل مقر التدريس في دار الأسرة، وألقى عليهن دروسًا في الطهارة، والعبادات، والأخلاق، والحجاب وشيئًا من العقائد في أسلوب سهل يسير.
الاتصال بالأستاذ الإمام : نقطة تحول في حياته :
في الفترة التي كان يتلقى فيها رشيد رضا دروسه في طرابلس، وبعد برهة من طلبه للعلم، وجدّه في تحصيله، وقع في يديه عددان من مجلة (العروة الوثقى) التي كان يصدرها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، فكانت نقطة تحول بالنسبة له .
ولنترك السيد رشيد رضا يصف هذا التحول حيث يقول عن هذين العددين : ( فقرأتهما بشوق ولذة، ففعلا في نفسي فعل السحر ) .
ولنصغ إليه، وهو يقول:
( كان همي قبل ذلك محصوراً في تصحيح عقائد المسلمين ونهيهم عن المحرمات وحثهم على الطاعات، وتزهيدهم في الدنيا، فتعلقت نفسي بعد ذلك بوجوب إرشاد المسلمين عامة إلى المدنية والمحافظة على ملكهم، ومباراة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات وجميع مقومات الحياة فطفقت استعدّ لذلك استعداداً ).
وامتداداً لهذا التحول، كان من الطبيعي أن يحاول السيد رشيد رضا أن يتصل بالأفغاني، ومحمد عبده، وبالفعل كتب للأفغاني، وهو في الآستانة كتاباً أبدى له فيه محبته وتأييده، وسأله إن كان يقبله مريداً يتلقف الحكمة منه، وتلميذاً يقوم ببعض الخدمة .
وعندما كان الشيخ محمد عبده قد نزل بيروت للإقامة بها، وكان محكومًا عليه بالنفي بتهمة الاشتراك في الثورة العرابية، وقام بالتدريس في المدرسة السلطانية ببيروت، وإلقاء دروسه التي جذبت طلبة العلم بأفكاره الجديدة ولمحاته الذكية، وكان الشيخ محمد عبده قد أعرض عن السياسة، ورأى في التربية والتعليم سبيل الإصلاح وطريق الرقي، فركز جهده في هذا الميدان.
وعلى الرغم من طول المدة التي مكثها الشيخ محمد عبده في بيروت فإن الظروف لم تسمح لرشيد رضا بالانتقال إلى المدرسة السلطانية والاتصال بالأستاذ الإمام مباشرة، والتلمذة على يديه، وكان التلميذ النابه شديد الإعجاب بشيخه، حريصًا على اقتفاء أثره في طريق الإصلاح، غير أن الفرصة سنحت له على استحياء، فالتقى بالأستاذ الإمام مرتين في طرابلس حين جاء إلى زيارتها؛ تلبية لدعوة كبار رجالها، وتوثقت الصلة بين الرجلين، وازداد تعلق رشيد رضا بأستاذه، وقوي إيمانه به وبقدرته على أنه خير من يخلف "جمال الدين الأفغاني" في ميدان الإصلاح وإيقاظ الشرق من سباته.
وحاول رشيد رضا الاتصال بجمال الدين الأفغاني والالتقاء به، لكن جهوده توقفت عند حدود تبادل الرسائل وإبداء الإعجاب، وكان جمال الدين في الآستانة يعيش بها كالطائر الذي فقد جناحيه فلا يستطيع الطيران والتحليق، وظل تحت رقابة الدولة وبصرها حتى لقي ربه سنة (1314هـ = 1897م) دون أن تتحقق أمنية رشيد رضا في رؤيته والتلمذة على يديه.
الرحيل إلى القاهرة :
لم يجد رشيد رضا مخرجًا له في العمل في ميدان أفسح للإصلاح سوى الهجرة إلى مصر والعمل مع محمد عبده تلميذ الأفغاني حكيم الشرق، وكان وقتها قد نال شهادة التدريس العالمية من شيوخه في طرابلس، وعارض والد السيد رشيد رضا فكرة ذهابه إلى مصر، فلم يزلْ به حتى أرضاه، فسافر عن طريق البحر من بيروت، فنزل الإسكندرية في مساء الجمعة (8 من رجب 1315 هـ = 3 من يناير 1898م)، وهو وقتها في أول العقد الرابع من عمره، وقد اكتملت معارفه الأولية، ونذر نفسه للإصلاح، وبعد أيام قضاها في زيارة بعض مدن الوجه البحري نزل القاهرة في يوم السبت 23 رجب سنة 1315ه، واتصل على الفور بالأستاذ الإمام محمد عبده في ضحوة الأحد، وأخبره بغرضه في الهجرة، وهي تلقي الحكمة عنه، وأنه بقية رجاء المسلمين في السعي إلى الإصلاح، والاضطلاع به، ثم عرض على محمد عبده أن يبدأ في إلقاء بعض الدروس في التفسير، وبعد إلحاح كبير وافق الإمام محمد عبده، وبدأت الدروس في غرة المحرم سنة 1317ه، وانتهى منه بوفاته في منتصف المحرم سنة 1323ه عند تفسير قوله تعالى : (( وكان الله بكل شيء محيطاً )) من الآية 125 من سورة النساء .
وأكمل رشيد رضا التفسير حتى وصل الآية / 101/ من سورة يوسف وطبعه في المنار نهاية الآية / 53/ من سورة يوسف .
وكان منهجه في التفسير يختلف عن منهج شيخه في الجملة حيث بينه بقوله : (( هذا وإني لما اشتغلت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه – رحمه الله – بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة سواء كان تفسيراً لها، أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات، والجمل اللغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة، وفي بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها .
وبدأتْ في مصر رحلة جديدة لرشيد رضا كانتْ أكثر إنتاجًا وتأثيرًا في تفكيره ومنهجه الإصلاحي.
ولم يكد يمضي شهر على نزوله القاهرة حتى صارحَ شيخه بأنه ينوي أن يجعل من الصحافة ميدانًا للعمل الإصلاحي، ودارت مناقشات طويلة بين الإمامين الجليلين حول سياسة الصحف وأثرها في المجتمع، وأقنع التلميذ النجيب شيخه بأن الهدف من إنشائه صحيفة هو التربية والتعليم، ونقل الأفكار الصحيحة لمقاومة الجهل والخرافات والبدع، وأنه مستعد للإنفاق عليها سنة أو سنتين دون انتظار ربح منها.
مجلة المنار :
كان من أغراض السيد رشيد رضا الباعثة له على الانتقال من الشام إلى مصر إنشاء صحيفة إصلاحية إلا أنه أحب أخذ موافقة أستاذه، فالتقى محمد رشيد رضا في مصر بالإمام محمد عبده في 6 شعبان سنة 1315ه، وكشف له عن الغاية التي قدم لأجلها، وهي أنه يريد إصدار جريدة تعنى بشؤون المسلمين، وترمي إلى إصلاحهم وترقيتهم .
وإذ يحبذ الشيخ محمد عبده الفكرة، يضع رشيد رضا بين يديه عدداً من الأسماء التي يزمع بأن يطلق واحداً منها عليها .
وكان اسم ( المنار ) بينها، وبعد نقاش وحوار، وقع اختيار محمد عبده عليه، مشترطاً عليه أموراً ثلاثة :
1-أن لا يتحيز لحزب من الأحزاب .
2-أن لا يرد على جريدة من الجرائد التي تتعرض له بذم أو انتقاد .
3-أن لا يخدم أفكار أحد من الكبراء .
وعلى هذه الشروط تمّ اتفاقهما، فكانت المنار والتي قامت مقام (العروة الوثقى )، وامتازت عليها بأنها مكثت زمناً طويلاً، فارتفع بها صوت الإصلاح في هذا الزمن الطويل، وهو يمتدّ إلى وفاة السيد رشيد رضا عام 1935م .
وكان الشعار الذي اختاره صاحبه له، يقول : ( إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق ) .
وهو يتفاءل بأن تكون ( المنار ) مبينة لصوى الإسلام، وناصبة لأعلامه، وموضحة لنور الحقيقة التي نحتاج إليها في حياتنا الملية والاجتماعية .
أما الهدف الرئيس من إنشاء ( المنار) فكان يتمثل في إرشاد المسلمين إلى النظر في سوء حالهم، وتنذرهم بالخطر المهدد لهم في مستقبلهم، وتذكرهم بما فقدوا من سيادة الدنيا وهداية الدين، وحرص الشيخ رشيد على تأكيد أن هدفه من المنار هو الإصلاح الديني والاجتماعي للأمة، وبيان أن الإسلام يتفق والعقل والعلم ومصالح البشر، وإبطال الشبهات الواردة على الإسلام، وتفنيد ما يعزى إليه من الخرافات.
وأفردت المجلة إلى جانب المقالات التي تعالج الإصلاح في ميادينه المختلفة بابًا لنشر تفسير الشيخ محمد عبده، إلى جانب باب لنشر الفتاوى والإجابة على ما يرد للمجلة من أسئلة في أمور اعتقادية وفقهية، وأفردت المنار أقسامًا لأخبار الأمم الإسلامية، والتعريف بأعلام الفكر والحكم والسياسة في العالم العربي والإسلامي، وتناول قضايا الحرية في المغرب، والجزائر، والشام، والهند.
ولم يمض خمس سنوات على صدور المجلة حتى أقبل عليها الناس، وانتشرت انتشارًا واسعًا في العالم الإسلامي، واشتهر اسم صاحبها حتى عُرف باسم رشيد رضا صاحب المنار، وعرف الناس قدره وعلمه، وصار ملجأهم فيما يعرض لهم من مشكلات، كما جاء العلماء يستزيدون من عمله، وأصبحت مجلته هي المجلة الإسلامية الأولى في العالم الإسلامي، وموئل الفتيا في التأليف بين الشريعة والعصر.
وكان الشيخ رشيد يحرر معظم مادة مجلته على مدى عمرها المديد، يمده زاد واسع من العلم، فهو عالم موسوعي ملم بالتراث الإسلامي، محيط بعلوم القرآن، على دراية واسعة بالفقه الإسلامي والسنة النبوية، عارف بأحوال المجتمع والأدوار التي مر بها التاريخ الإسلامي، شديد الإحاطة بما في العصر الذي يعيش فيه، خبير بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية.
وفي ما يتعلق بالأسلوب الذي أخذ به رشيد رضا في سنوات ( المنار) الأولى فليس باستطاعتنا أن نصفه بغير الأسلوب الخطابي الممتلئ حماساً .
فهو يتوجه إلى القراء معرّفاً بمجلته، فيقول: ( ..وهاكم هذه المجلة التهذيبية، الخادمة لجامعتكم الملية والوطنية، تنتقي لكم ما هو أمسّ بمصلحتكم، وأقرب – إن شاء الله – لمنفعتكم، وأدعى بفضل الله إلى نهضتكم، وأرجى بتوفيق الله لجمع كلمتكم ) .
ويقول في مكان آخر، وبأسلوب خطابي جلي، ( حسبك ..حسبك، هبّ من سباتك، واستيقظ من هجوعك، فقد ولّت حنادس الجهالة، وأشرقت شمس المعرفة ..لا يهولنك ما تسمع، ولا يردعنّك ما ترى، واعلم أن هذا العصر عصر العلم والعمل ) .
أما مصدر هذا الأسلوب الخطابي الذي اعتمده في افتتاحياته لـ ( المنار)، فيردّه إلى القرآن الكريم حيث ( اقتبسنا أسلوب الإجمال قبل التفصيل، وقرع الأذهان بالخطابات الصادعة، من القرآن الحكيم، فأكثر السور المكية لا سيما المنزلة في أوائل البعثة قوارع تفحُّ الجنان، وتصدع الوجدان ) .
وكان رشيد يهمه ألا يظل صوته مسموعاً من قبل أبناء الضاد، وإنما يتوقع بأن يطيّره البخار، ( فيتناوله التركي والفارسي ..) .
منهجه في الإصلاح :
كتب السيد رشيد رضا مئات المقالات والدراسات التي تهدف إلى إعداد الوسائل للنهوض بالأمة وتقويتها، وخص العلماء والحكام بتوجيهاته؛ لأنهم بمنزلة العقل المدبر والروح المفكر من الإنسان، وأن في صلاح حالها صلاح حال الأمة، وغير ذلك بقوله: "إذا رأيت الكذب والزور والرياء والنفاق والحقد والحسد وأشباهها من الرذائل فاشية في أمة، فاحكم على أمرائها وحكامها بالظلم والاستبداد، وعلى علمائها ومرشديها بالبدع والفساد، والعكس بالعكس".
واقترح رشيد رضا لإزالة أسباب الفرقة بين المسلمين تأليف كتاب يضم جميع ما اتفقت عليه كلمة المسلمين بكل فرقهم، في المسائل التي تتعلق بصحة الاعتقاد وتهذيب الأخلاق وإحسان العمل، والابتعاد عن مسائل الخلاف بين الطوائف الإسلامية الكبرى كالشيعة، وتُرسل نسخ بعد ذلك من هذا الكتاب إلى جميع البلاد الإسلامية، وحث الناس على دراستها والاعتماد عليها.
وطالب بتأليف كتب تهدف إلى توحيد الأحكام، فيقوم العلماء بوضع هذه الكتب على الأسس المتفق عليها في جميع المذاهب الإسلامية، وتتفق مع مطالب العصر، ثم تُعرض على سائر علماء المسلمين للاتفاق عليها، والتعاون في نشرها، وتطبيق أحكامها.
وانطلق صوت الحق من المنار، فجاء منه التحذير من البدع والخرافات السائدة في المجتمع، وبين السيد رشيد أن الإسلام بريء منها، وحمل العلماء مسؤولية انتشارها ووجوب قلعها من جذورها وبين أن العلماء والحكام، بمنزلة العقل المدبر والروح المفكر من الإنسان، وأن صلاح حالهما يصلح حال الأمة، وأن العلماء هم القائمون على الطب الروحاني الذي هو تهذيب الأخلاق لا تقويم العادات وبين لهم الطريق إلى ذلك بأنها طريقة الوعظ والتعليم والخطابة على المنابر، وفي أماكن البدع نفسها، وتحمل المشاق المترتبة على ذلك مع تحلي الدعاة بالأخلاق الفاضلة، والآداب الإسلامية السامية .
ورغم أن الإمام محمد عبده كان يثني على المنار، ويزكيها إلا أنه أخذ عليها وعلى السيد رشيد رضا أموراً عدة منها :
1- الشدة في إظهار الحق .
2-كون المنار في موضوعه ولغته بحيث لا يفهم أكثر ما فيه إلا الخواص، فينبغي أن يكون بحيث يفهمه الجميع، وقد تحرى المنار العمل بهذه النصيحة فيما بعد السنة الأولى .
3- الخوض في سياسة الدولة العثمانية التركية .
أهم أعماله :
1- في ميدان الفكر، والتربية، والتعليم :
أ- إصلاح المدارس :
كان الشيخ رشيد رضا من أشد المنادين بأن يكون الإصلاح عن طريق التربية والتعليم، وهو في ذلك يتفق مع شيخه محمد عبده في أهمية هذا الميدان، "فسعادة الأمم بأعمالها، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها".
وحذر الراغبين في إصلاح المدارس من تقليد المدارس الحكومية السائدة، إذ إن هدف تلك المدارس إعداد تلاميذها للوظائف (( ومن يرمي بتعليمه إلى هذا الغرض فهو خاسر، وأجدر بتعليم هذا شأنه أن يسعى في إزالته )).
وحدد "رشيد رضا" العلوم والفنون التي يجب إدخالها في ميدان التربية والتعليم لإصلاح شئون الناس، ودفعهم إلى مسايرة ركب العلم والعرفان، مثل: علم أصول الدين، علم فقه الحلال والحرام، والعبادات، التاريخ، الجغرافيا، الاجتماع، الاقتصاد، التدبير المنزلي، والحساب، وحفظ الصحة، وعلم لغة البلاد، والخط.
ب- إصلاح الأزهر :
نادى السيد رشيد رضا بإصلاح الأزهر، وكان عمله امتداداً لعمل أستاذه محمد عبده، وازدادت مسؤوليته في ذلك بعد وفاة أستاذه محمد عبده .
وتكالب عليه خصوم أستاذه، فأصبحوا خصوماً له بالتبع، مما اضطره أن يكتب كتابه ( الأزهر والمنار ) في سنة 1352ه شرح فيه آراءه، وخلاصة تجاربه في هذا الميدان، وما اعترضه من عقبات .
ونادى بالتحرر من ربقة التقليد، وعقد محاورات بين المقلد والمصلح، ناصحاً الأزهر أن يأخذ طريقه في الإصلاح، ولا يكون عقبة في مساره .
ومما نادى به لإصلاح الأزهر هي محاولة تغيير طريقة تدريس الفقه وتحديث مصادر جديدة، وتصفية الكتب القديمة من الدخن، وكان الهدف بيان يسر الشريعة، وحكمت التشريع، وكون الاجتهاد رحمة للأمة .
ج-عهد الدعوة والإرشاد :
ولم يكتف بدور الموجه والناصح، وإنما نزل ميدان التعليم بنفسه، وحاول تطبيق ما يراه محققًا للآمال، فأنشأ مدرسة دار الدعوة والإرشاد ؛ لتخريج الدعاة المدربين لنشر الدين الإسلامي، وجاء في مشروع تأسيس المدرسة أنها تختار طلابها من طلاب العلم الصالحين من الأقطار الإسلامية، ويُفضل من كانوا في حاجة شديدة إلى العلم كأهل جاوة والصين، وأن المدرسة ستكفل لطلابها جميع ما يحتاجون إليه من مسكن وغذاء، وأنها ستعتني بتدريس طلابها على التمسك بآداب الإسلام وأخلاقه وعبادته، كما تُعنى بتعليم التفسير والفقه والحديث، فلا خير في علم لا يصحبه خلق وسلوك رفيع، وأن المدرسة لا تشتغل بالسياسة، وسيُرسل الدعاة المتخرجون إلى أشد البلاد حاجة إلى الدعوة الإسلامية.
زار السيد رشيد رضا الآستانة لطلب الترخيص بالمدرسة، وحصل على الموافقة عليه.
غير أن المدرسة كانت في حاجة إلى إعانات كبيرة ودعم قوي، وحاول رشيد رضا أن يستعين بالدولة العثمانية في إقامة مشروعه واستمراره لكنه لم يفلح، ثم جاءت الحرب العالمية لتقضي على هذا المشروع، فتعطلت الدراسة في المدرسة، ولم تفتح أبوابها مرة أخرى منذ سنة 1916م .
ولما أغلقت "دار الدعوة" تفرق طلابها في البلاد الإسلامية بعد أن تشبعوا بأفكار منشئها، ورضعوا من لبان مدرستهم خمس سنين، وتحمسوا لأهدافها، فكان منهم المشتغل بالوعظ والإرشاد ، والمتصل بالملوك ورجال السياسة، ومن هؤلاء الطلاب:
أ) الشيخ يوسف ياسين.
ب) الشيخ أمين الحسيني – من علماء فلسطين .
ج) الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي الهندي.
د) الشيخ محمد بسيوني عمران من جاوة بأندونيسيا.
هـ) الشيخ محمد بهجت البيطار. من سوريا.
و) الشيخ محمد حامد الفقي، مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية.
ز) الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة. من أئمة الحرم المكي.
ح) الشيخ عبد الظاهر أبو السمح من أئمة الحرم المكي.
ط) الشيخ عبد السميع البطل. من علماء مصر.
وغير هؤلاء كثير يصعب حصرهم قد تأثروا بالدعوة السلفية التي ألقى الشيخ رشيد بذرتها في مصر، وانتشرت في العالم بواسطة مجلة المنار، وتابعها من بعده، الشيخ حامد الفقي وتلامذته، وجمعية الشبان المسلمين، وجماعة الإخوان المسلمين .
وأما المدرسون في "دار الدعوة" فقد كان يدرس فيها بجوار رشيد رضا الشيخ محب الدين الخطيب الذي هاجر إلى مصر سنة 1909م.
وأنشأ فيها المكتبة السلفية الشهيرة.
د- مشاركاته الأدبية والعلمية :
كان له مشاركات في كثير من الجمعيات الإسلامية والثقافية، فكان عضواً في المجمع اللغوي الذي تأسس في سنة 1922م .
وشارك في الجمعية الخيرية في دمشق، والتي نشأت سنة 1878م، وكان يعمل معه فيها شكيب أرسلان، وجمال الدين القاسمي، وكان السيد رشيد رضا يخطب في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية بمصر .
كما كان رئيس الرابطة الشرقية في عام 1922م وكذا كان مؤسس جمعية السلم العام في بلد الله الحرام سنة 1924م والتي كان من أهدافها نشر الفنون والعلوم .
2-في ميدان السياسة :
كان أولُ نشاط سياسي له مع مطلع العدد الأول من المنار حيثُ كتب في مقدمته بيان ما للأمة على الإمام، وما للإمام على الأمة، فما كان من أستاذه محمد عبده إلا أن حذره من الخوض في السياسة والتدخل فيها .
وكان محمد عبده يكبح جماحه، ويمنعه من الانطلاق نحو السياسة إلا أنه كان يضطر للدخول فيها اضطراراً .
وبعد ذلك نشر تباعاً طبائع الاستبداد، وأم القرى للكواكبي فساعد ذلك على ترويج المنار .
وبعد وفاة محمد عبده دخل رشيد رضا ميدان السياسة، فانتقد الدولة العثمانية، وأنشأ في القاهرة (( جمعية الشورى العثمانية ))، وتولى رئاستها .
ويُقال إنه ساعد في الانقلاب على السلطان عبد الحميد بشكل سري .
كما شارك في حزب اللامركزية العثمانية وذلك بعد سقوط البلقان، وكان يشاركه السادة : رفيق العظم، ود. شبل شميل، واسكندر عمون، وحقي العظم، والسيد محب الدين الخطيب .
وأنشأ جمعية الجامعة العربية وذلك بعد عودته من الآستانة سنة 1909م، وكان يسعى لمنع الشقاق بين أمراء جزيرة العرب، وكان يدعوهم إلى عمران البلاد والدفاع عنها، ويعمل على إيجاد الصلات بين الجمعيات العربية في سورية والعراق ...وغيرهما .
والذي نرجحه أنه لم يساعد على سقوط الخلافة بل كان يهاجم أموراً من الفساد والانحطاط في سياسة بعض الولاة العثمانيين .
كما انتقد سياسة الدولة العثمانية في حروبها مع إيران؛ لأن ذلك يضعف المسلمين ويقوي الغرب الصليبي ، وكان بذلك داعية للتقريب .
ولم يكن راضياً عن سياسة عبد الحميد وما فيها من استبداد وظلم وفساد وفرح بقدوم محمد رشاد وخلع السلطان عبد الحميد .
وبعد سقوط الخلافة حاول السيد رشيد رضا عقد مؤتمر للصلح بين ملوك العرب في مصر واليمن ونجد والحجاز، وكان يميل للملك عبد العزيز بن سعود وقبلها للشريف حسين بن علي .
وكانت له علاقة ودية مع محب الدين الخطيب ومجلة القبلة .
وكان يقاوم التدخل الأجنبي بكل قواه، ويحذر منه .
فانتقد التدخل الإيطالي في ليبيا وساند ثورة عمر المختار .
وانتقد سياسة الإنجليز في الحجاز، وفضح العملاء، ووصف الإنجليز بأنهم أعداء الخلافة .
وسعى لإزالة الخلاف بين العرب والترك فلم يفلح .
ووقف ضد أطماع اليهود في فلسطين .
وقصد سورية أيام الملك فيصل، وانتخب رئيساً للمؤتمر السوري فيها، ثم غادرها إثر دخول الفرنسيين عام 1920م، واتهم فرنسة بسياسة تنصير المسلمين .
وثار على الاتحاد والترقي التي انقلبت على السلطان عبد الحميد، ووصفها بأنها جمعية الأحمرين : الذهب والدم، ووصف أتاتورك بالإلحاد والمروق من الدين، ثم تأسف على الخلافة الضائعة، وأخذ يدعو لعودتها، وألف كتاب (( الخلافة أو الإمامة العظمى )) .
ودعا إلى مؤتمر الخلافة الذي انعقد فعلاً في مصر سنة 1343ه، وتمّ انعقاده بلا نتيجة مشجعة .
مؤلفاته :
امتاز الشيخ رشيد بقدرة كبيرة على الكتابة، فكان يكتب في الساعات ما لا يقدر أن يسوده غيره في أسابيع، حتى لو قيل إن محصول قلمه قد يتوزع على عشرة كتاب كبار ونصيب كلٍّ منهم نصيب وافر لم يكن في ذلك أدنى غلو.
ومن أهم مؤلفاته :
1-مجلة (المنار) - أصدر منها 34 مجلداً .
2-"تفسير المنار" - الذي استكمل فيه ما بدأه شيخه محمد عبده الذي توقف عند الآية (125) من سورة النساء، وواصل رشيد رضا تفسيره حتى بلغ سورة يوسف، وحالت وفاته دون إتمام تفسيره، وهو من أجل التفاسير ، ويقع في 12 مجلداً .
3- الوحي المحمدي .
4- نداء للجنس اللطيف .
5-تاريخ الأستاذ الإمام .
6- الخلافة .
7-السنة والشيعة .
8-حقيقة الربا .
9- مناسك الحج.
10-يسر الإسلام وأصول التشريع العام – ط .
11-الوهابيون والحجاز – ط .
12-محاورات المصلح والمقلد – ط .
13-ذكرى المولد النبوي – ط .
14-شبهات النصارى وحجج الإسلام – ط .
15- فضائل القرآن – ابن كثير – تحقيق .
16-ترجمة القرآن .
17- الهدية السنية والتحفة الوهابية – ابن سحمان – تحقيق .
18-الوسائل والمسائل – ابن تيمية – تحقيق .
19- التوسل والوسيلة – ابن تيمية – تحقيق .
20-إنجيل برنابا – تعليق .
21- المسلمون والقبط .
22-الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية .
23- مسائل أحمد لأبي داود – تحقيق .
24- المغني – ابن قدامة – تحقيق .
25- الفروع – ابن مفلح – تحقيق .
26- المولد وخلاصة السيرة .
27- شكيب أرسلان : رحلة إلى الحج – تحقيق .
28-الوحدة الإسلامية .
29- المنار والأزهر .
30- مساواة الرجل بالمرأة .
31- دلائل الإعجاز – الجرجاني – تحقيق .
32- أسرار البلاغة – الجرجاني – تحقيق .
33- فتاوى السيد رشيد رضا – جمع صلاح الدين المنجد .
34- عقيدة الصلب والفداء .
35- رسالة في حجة الإسلام الغزالي .
36- المقصورة الرشيدية: وهي أبيات شعرية عارض فيها مقصورة ابن دريد .
وكتب عنه :
وبعد ذلك كله لقد خص رشيد رضا ببحوث علمية كان هو موضوعها ومحورها في عدة مسائل من العلم. منها في التربية ، والتفسير، والإصلاح، والسياسة والصحافة، والدعوة.
لقد فاقت البحوث التي كتبت عن رشيد رضا ما كتب عن أستاذه عدداً وموضوعاً.
ففي مجال التربية كتب عنه بحثان، الأول:
- قدم في جامعة أم القرى بعنوان "الفكر التربوي عند محمد رشيد رضا" .
- وبنفس العنوان قدمت رسالة أخرى لجامعة الأزهر .
وفي التفسير قدم حبيب السامرائي لجامعة الأزهر حول:
"رشيد رضا المفسر" ، وحصل به على درجة الدكتواره.
وفي نفس الجامعة قدم يوسف عبد المقصود بحثه عن "محمد رشيد رضا وجهوده في خدمة السنة" ، وفي جامعة الأزهر أيضاً قدم أحمد الشرباصي بحثه للدكتوراه بعنوان "رشيد رضا عصره وحياته وجهوده الأدبية واللغوية".
وهناك أيضاً قدم جودة أحمد جودة بحثه عن مجلة المنار بعنوان "مجلة المنار وأثرها في قضايا الفكر الإسلامي" ، وفي مدينة الإسكندرية وكلية الآداب قسم اللغة العربية وآدابها قدم إسماعيل شتا بحثه للدكتوراه بعنوان "محمد رشيد رضا في تفسير المنار وموقفه من حركة التجديد الديني" ، بإشراف أستاذي محمد بدري عبد الجليل.
وفي جامعة عين شمس بالقاهرة في كلية الآداب فرع التاريخ قدم أحمد الشوابكة بحثه للدكتوراه عن "محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية.
وفي الرياض جامعة الإمام، كلية العلوم وقسم التاريخ، قدم محمد السلمان بحثاً قيماً عن "رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" وحصل به على درجة الماجستير.
وفيما يتعلق بالعقيدة؛ فقد تقدم عبد الله بن رجاء العصيمي ببحث تكميلي في جامعة الإمام بعنوان "الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي" وكما هو واضح أن هذا البحث في موضوع خاص وكتاب خاص.
وأيضاً ـ في العقيدة ـ أو بالأحرى "علم الكلام" قدم خليفة عبد الرؤوف بحثاً للماجستير في قسم "الفلسفة الإسلامية"!! بعنوان: "موقف الشيخ رشيد رضا من القضايا الكلامية".
ويبقى هنا كتاب واحد لا يصنف مع البحوث العلمية ـ باعتراف كاتبه ـ ولم أكن أنوي ذكره هنا ـ هذا الكتاب وباعتراف صاحبه ليس بحثاً علمياً رغم أنه كتب على طرته أنه بحث للماجستير حول رشيد رضا: طود وإصلاح دعوة وداعية، جهاده في خدمة العقيدة، وأثره في الاتجاهات المعاصرة". وأقول إنه ليس بحثاً علمياً لأنه لم يخضع للإشراف العلمي في أي جامعة علمية في العالم. وأيضاً لأنه باعتراف صاحبه ـ افتقر إلى أهم عنصرين في البحوث العلمية وهما: الوقت والتفرغ والرجوع إلى المصادر الأصلية في موضوع البحث.
فإدخال هذا الكتاب ضمن البحوث العلمية ينطوي على التدليس.
وفاة الشيخ :
ولقد دفن الشيخ رشيد بجوار شيخه "محمد عبده" في مقابر المجاورين بالأزهر.
وكانت آخر عبارة قالها في تفسيره: "فنسأله تعالى أن يجعل لنا خير حظ منه بالموت على الإسلام".
قالوا عن الإمام رشيد رضا :
أثنى عليه الشيخ مصطفى صبري، ومصطفى المراغي، وبهجة البيطار، وشكيب أرسلان، وقال عنه د. إبراهيم العدوي : (( ويقف السيد رشيد رضا وسط عصره وأهله كأنه علم في رأسه نار تأتمّ به الهداة ....)) .
تصدير :
كتب فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر كلمة في صدر مجلة المنار بعد رحيل الإمام رشيد رضا وتولي الإمام حسن البنا لتحريرها :
((كانت مجلة المنار مرجعًا من المراجع الإسلامية العالية، تُحل فيها مشاكل
العقائد، والفقه، وتحيط بالمسائل الاجتماعية الإسلامية، وأخبار العالم الإسلامي
وما فيه من أحداث، وأمراض، وعلل، وكان صاحبها السيد رشيد رضا - رحمه
الله - رجلاً عالمًا عاملاً غيورًا مخلصًا للإسلام، محبًّا لكتاب الله وسنة
رسوله وآثار السلف الصالح. وقف حياته لخدمة دينه والأمم الإسلامية، وكان
شجاعًا في الحق، لا يهاب أحدًا، ولا يجامل، ولا يحابي.
نشأ على هذا واستمر فيه إلى أن لقي ربه واحتجبت بعد ذلك مجلة المنار،
فأحس العالم الإسلامي بفداحة الخطب وشدة وقع المصاب؛ فإنه لا يوجد - فيما
أعلم الآن - ذلك الرجل الذي له من سعة الاطلاع، وحسن التدبير، وحكمة الرأي، وقوة الإدراك في السياسة الشرعية الإسلامية ما يضارع به المرحوم السيد رشيد.
ذلك ماضٍ جليل نودعه من الفخر به والأسى عليه، والآن قد علمت أن الأستاذ
حسن البنا يريد أن يبعث المنار ويعيده سيرته الأولى، فسرني هذا؛ فإن الأستاذ
البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع
الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس اتصالاً
وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي على
الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة.
(وبعد) فإني أرجو للأستاذ البنا أن يكون على سيرة السيد رشيد رضا، وأن يلازمه التوفيق كما صاحب السيد رشيد رضا، والله هو المعين، عليه نتوكل، وبه نستعين.
مصاب المسلمين في أعظم علمائهم وأعقل حكمائهم
وكتب الشيخ محمد علي إبراهيم لقمان رئيس نادي الإصلاح العربي بعدن في حفلة تأبين السيد محمد رشيد رضا يقول :
أمات السيد رشيد؟ ! أقضى نحبه وتولى؟ ! أتزلزل ذلك الطود الراسخ؟ !
أطوى ذلك العَلم الشامخ؟ ! أيموت العلم وتتضاءل الحكمة؟ ! أتدري أيها الناعي
من نعيت؟ أتعلم أنك تنعي حجة الإسلام وعلامة الزمان وفخر الأمة المحمدية بين
الأنام، يا لهول المصاب، ويا لفداحة الخطب، فقد جار الزمان واستبد، وعبثت
الأيام بهذه الأمة التي أناخت عليها الويلات بكلاكلها، أفي كل يوم تُمنى برُزْء جسيم
وبموت رجل عظيم؟ ! أفي كل يوم نصاب في الصميم؟ !
أيها الدهر الخؤون، لقد جرت في حكمك اليوم واشتدت قسوتك، أطفأت
سراجًا وهاجًا كان يهتدي به المسلمون في ظلمات هذه الحياة، ويسيرون على
ضوئه في دياجي الليالي الحالكات، أتعمد إلى ذلك النور فتخمد أواره وتشاهد هذا
الحال فتهتك أستاره؟ ! تولَّ أيها الموت، كيف تجاسرت على اختطاف تلك
الروح الكبيرة والاقتراب من ذلك الجسم المتأجج بحب الإسلام؟ ! ألم يخيفك ذلك
الاشتعال؟ ! ألم تقف ولهانًا حائرًا أمام تلك النفس التي تسيل جزعًا على تقطع
المسلمين أوصالاً، فتنفث في كل طرفة عين من الحكم البالغة ما لو وعاه المسلمون
لاستعادوا مجدهم الداثر وحظهم العاثر؟ ! ألم تستهوك تلك الحكم النيرات؟ ! ألم
تتريث لتأخذ درسًا في الرحمة والإخلاص؟ ! ألم ترهبك تلك النفس التي كانت
تغلي مراجلها في ذلك الصدر الفسيح الذي لم يتسع لغير الدين الصحيح فوعى
أصوله وضبط فروعه؟ ! ألم تفزعك تلك الحشرجة وكلها نيران ألم وصدى
أوصاب على تقهقر المسلمين وتأخرهم؟ ! بالله كيف استطعت أن تحمل تلك الروح
وقد ناء بحملها العالم الإسلامي بأجمعه؟ !
تالله إني لم أكن يومًا لأشعر بفراغ في جانب المسلمين لا أرى من يسده، كما
أشعر في هذه الساعة، وكل من يعرف إلى أي درك وصل المسلم إليه في
الانحطاط الديني والأخلاقي والأدبي والسياسي، وكيف أضاع حيثيته ومركزه -
يدرك أن السبب الجوهري في هذا التأخر المشين هو جهل المسلم بحقيقة دينه القويم ,ويفهم أن العالم الإسلامي لم ينجب عالمًا دينيًّا منذ أربعين سنة يصل إلى درجة
حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا، ولذا فلا بدع أن تتقرح الجفون حزنًا،
وتسيل الدموع أودية على نبراس الفضائل، وسراج المعرفة ومنار السنة ونصير
الحقيقة والصادع بالحق في وجه الباطل، وستثبت الأجيال القادمة من هو السيد
رشيد رضا.
لا أدري من أين أبدأ في سرد أعماله الخالدة، ولا ماذا أقول! وإني لفقير من
المعاني وعاجز عن التعبير أن يوفى الفقيد العظيم حقه، غير أن الواجب يقضي على
أن أقول كلمتي التي إن دلت على شيء فلا تدل سوى على تقديري لخسارة
العالم الإسلامي بموت هذا العلامة القدير والحبر الجليل.
ولا أستطيع أن أحدد أعظم عمل قام به الراحل الكريم وكل أعماله عظيمة،
فالمنار مجلة العلم والدين والحكمة والأخلاق والإرشاد والسياسة والتاريخ والإصلاح
والدفاع عن حقوق المسلمين المهضومة والأدب، مجلة كافحت تيارات الزمان
واستمرت تفسر من القرآن ما أشكل على المسلمين من آياته، وتحمل من حِكمه
وبيناته، وتنشر إعجازه وغريبه، وتقرر أحكامه التي وضعها الله لعباده، وتأتي
بفصول من أحاديث القرون الغابرة للذكرى والاعتبار، كم استورى الناس زنادها
فأورت، وطلبت الارتشاف من معينها فأروت، أفادت جميع المسلمين لا فرق بين
العرب والهنود والإيرانيين والأتراك والجاويين والإفريقيين والإفرنج والصينيين،
عرَّفتهم أصول دينهم، وأفهمتهم واجباتهم، وأنارت طرقهم، ومهَّدت لهم السبل للسير
في نور الهداية، وذكَّرتهم بعظمة رجالهم، وترجمت حياة الكثيرين منهم فخدمت العالم
الإسلامي من أول يوم صدورها إلى اليوم الذي أغمض الموت فيه عيني صاحبها، فمن لنا بمن يستمر في إصدارها. أليس الخطب - بربكم - جسيمًا؟ !
من سيدافع عن المسلمين إذا ما وصمه أعداؤه بالتعصب الذميم، ونسبوا إليه
السخافات المرذولة والخرافات المشئومة؟ من سيحيي لنا ذكر عظماء المسلمين،
ويحل مشاكلنا الدينية من غير أن يعتصم بمذهب دون مذهب ويتقيد برأي دون رأي؟
من هو المفتي اليوم وقد تولى رشيد وانقضت أيامه، وفي الليلة الظلماء يُفتقد
البدر؟
لا أدري أأبكي موت رشيد أم أندب إيصاد أبواب المنار؟ فقد مات بموت
السيد رشيد علمان، ورشيد عالم يتدفق علمًا كالسيل الجارف في اندفاعه من أعالي
الجبال، وقد وعى كتاب الله وفهم أسراره، ودرس درسًا تحليليًّا سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فعرف صحيحها ونبذ غثها، فشرع يبحث عن أمراض المسلمين
حتى شخصها وأخذ يصف لهم الأدوية، فمنهم من واظب على الدواء فشفاه الله،
ومنهم من أهمل فأخزاه، كم ناضل وجاهد، كم جالد وكابد، وأخيرًا مات فقيرًا، لم
يأخذ من هذه الدنيا الفانية سوى الذكر الخالد والعمل الصالح؛ ولكنه خلَّف للمسلمين تركة كبيرة وتراثًا ثمينًا ضخمًا؛ خلف لهم أعداد المنار لجميع ما مضى من سني حياتها، وخلَّف لهم تفسير القرآن، ذلك التفسير الذي اتبع الفقيد في أبحاثه القيمة فيه أساليب العلم الصحيح، فأثبت أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وما تفسير " عبده " إلا نتيجة البحث والتنقيب في معاجم العلوم وكتب المعارف واستنتاجات العلماء الدينيين في جميع العصور الماضية مقرونة بالآراء القويمة والأفكار السليمة، حذف منه الإسرائيليات، وأثبت المحمديات، وأحيا به سنة سيد المرسلين، فاستوجب من الله الرضوان وفسيح الجنان.
يا ليت شعري، أي تلميذ في هذا الوجود أخلص لأستاذه كما أخلص السيد
رشيد للشيخ محمد عبده؟ فلم تكن تخلو رسالة من رسالاته من نسبة الفضل فيها إلى الأستاذ الإمام حتى توج كل ذلك في تاريخ حياته في كتابه الضخم الذي سيطغى على الأيام ويجتازها إلى القرون القادمة شاهدًا إلى الأبد على مروءته النادرة
واعترافه بالفضل والجميل، وأين التراجم التي عهدناها من ترجمة السيد رشيد
لحياة أستاذه الإمام، فليست هذه الترجمة بتاريخ حياة فرد من أفراد الأمة؛ ولكنها
خلاصة لتاريخ أمة تمثلت في شخص الشيخ محمد عبده، خاض فيها فقيدنا البحث
وطرق المواضيع العلمية والأخلاقية، والفلسفية والدينية والتاريخية، وأتى في
المقدمة بكلمة عن موقظ الشرق أستاذ أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، وكأنه
وضع للناس حديث النهضة الحديثة في الشروق، ورجالها وأسبابها وصورهم
في شخص الرجل الذي لا يفتر عن ذكره، ولا يمل التفكير في آرائه الصائبة
واستنتاجاته البقية ببقاء الزمان.
ولقد كنت أقرأ هذا التاريخ يومًا في بربرة الصومال وعندي صديق يستمع،
فوقفت فجأة وانحدرت دموع عيني كالوابل الهطل، بعد لحظة سألني الصديق عن
سبب بكائي، فأجبته: (إنما بكيت كيف تصل يد الموت إلى عالم كهذا لا يستطيع
الزمان أن يبقى حتى تنفذ مادته؟) اقرأ بربك كتابه (نداء الجنس اللطيف)
فتعرف عظمة الفقيد؛ إذ أثبت ما للمرأة في الإسلام من مركز ومقام، وأفهم العالم
أن الإسلام لا يهضم حقوقها بل جعل لها من حماية الرجل وحماية الشرع ما
تستطيع أن تعيش معهما سعيدة موفورة الكرامة، يالك من كاتب قوي الحجة،
سريع الخاطر، حاضر الذهن، لا تعيقك عن إثبات الحق البراهين المعقدة، تدلي
بالآراء القوية والحقائق العقلية والنقلية حتى ترجع النفوس الظامئة إلى الحق وقد
ارتوت بما أفهمتها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والاستدلالات المنطقية
التي لا تقبل الجدل ولا النقض، ولكن واهًا لك يا رشيد واهًا؛ فقد ذهبت وأخليت
الديار، وأصبحت مع الأخيار في دار الأبرار، وأين نحن منك وقد بعد الدار وشط
المزار، واأسفاه على ذلك الرجل العظيم، ذلك العلم الخفاق، فقد خَفَتَ ذلك
الصوت الداوي الذي طالما رنَّ رنينه في الآفاق، فاستفز الأرواح بعد خمولها،
وبث فيها نشاطًا وأوجد فيها حياة، ويشهد أبناء النيل أني في قولي لصادق، وتشهد
الجزيرة العربية وتشهد جاوا والهند، ويشهد العالم الإسلامي بفضل عالم قلمه السيال
طالما صر فوق الطروس، فحفز النفوس، وزلزل العروش وهذَّب المبادئ، وكوَّن
الأخلاق، وطيب الأعمال وأرشد إلى حسن المآل.
ولو لم يؤلف السيد رشيد إلا كتابه (الوحي المحمدي) لكفاه ذلك فخرًا واجبًا
له إلى الأبد ذكرًا، ولكن مؤلفاته أكثر من أن تحصى وهي أكثر من كثير أو تذكر
في كلمة تأبين كهذه أكثر كلماتها زفرات، وجل جملها أنات من قلب حزين يندب حظ المسلمين، ويعرف أنه كما اختفت جريدة المؤيد في مصر ستختفي المنار، وكما لم يقم أحد بديلاً عن عبد الكريم الريفي ولا عن محمد عبد الله حسن الصومالي، ولا عن المهدي، ولا عن عرابي باشا، ولا عن جمال الدين الأفغاني، ولا عن مصطفى كامل وسعد زغلول والشيخ محمد عبده، فكذا لن يقوم أحد مقام السيد رشيد رضا.
ولست أقول: إن العالم الإسلامي لا يكتف رجالاً أعلامًا ونباريس أولي فهم
وإدراك، ولكني أقول: إن النفوس متضائلة والأحلام حقيرة، وأنه لا يوجد رجل
يضحي بنفسه في سبيل مبدئه الديني، ويعرِّض صدره لسهام الانتقادات المُرة الكَرَّة
تلو الكَرَّة كما فعل السيد رشيد رضا، ونحن في عدن كنا نستنير بمناره ونسترشد
بعلمه، وطالما كتب - رحمه الله - المقالات وحبَّر الفتاوى لإرشادنا، ولا يسعنا إلا
أن نستمطر الرحمات من لدن العلي الأعلى على روحه الطاهرة - آمين.
وقال علامة الجزائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في معرض حديثه عن الشيخ العلامة محمد رشيد رضا ـ رحمة الله عليهما ـ:
((لقيته ـ رحمه الله ـ ببلدة دمشق على إثر انتهاء الحرب العظمى، وقد جاءها ليتصل بالهيئات العاملة لخير العرب، وليزور أهله في القلمون من لبنان الشمالية.
ونزل ضيفاً على صديقنا العالم السلفي الشيخ بهجت البيطار. وبيت آل البيطار في دمشق هو مبعث الإصلاح ومطلعه. ولعميدهم الشيخ عبد الرزاق البيطار ورفيقه الشيخ جمال الدين القاسمي صداقة باذخة الذرى، وصلة وثيقة العرى بالأستاذ الإمام، تجمع الثلاثة وحدة الفكرة والرأي والسلفية الحقة والاستقلال في العلم.
والبيطار والقاسمي عالمان جليلان لم أدركهما حين دخلت دمشق.
ولكني قرأت من آثارهما في الكتب التي كتباها، و رأيت من آثارهما في النفوس التي ربياها، ما شهد لي أنهما ليسا من ذلك الطراز المتعمم الذي أدركناه بدمشق، ولثانيهما آثار مطبوعة هي دون قدره، و فوق قدر علماء مصره.
كنا نذهب ليلاً إلى دار صديقنا البيطار للسمر مع الشيخ رشيد. ورفيقي إذ ذاك الأستاذ الشيخ الخضر بن حسين، المدرس الآن في الأزهر.
وأشهد أنها كانت ليالي ممتعة يغمرنا فيها الأستاذ رشيد بفيض من كلامه العذب في شؤون مختلفة. وإن أنس فلا أنس إحسانه في التنقل ولطف تحيله في الخروج بنا من معنى آية إلى شأن من شؤون المسلمين العامة.
وكان في الليالي التي اجتمعنا به فيها يستولي على المجلس ويملك عنان القول، فلا يدع لغيره فرصة للكلام إلا أن يكون سؤال سائل، مع اشتمال المجلس على طائفة عظيمة من أهل الأفكار المستقلة والألسنة المستدلة، وأخبرني عارفوه أن تلك عادته، فإن كان ما قالوه حقاًّ فهي غميزة في فضله وأدبه.
وبمناسبة لقائي للشيخ رشيد، فأنا ذاكر قصة لها تعلق به، وهي تنطوي على ضروب من العبر وتكشف عما يضمره العلماء الجامدون للعلماء المصلحين من كيد وسوء نية، وما يصمونهم به من عظائم، مما لا يصدر من مسلم عامي فضلاً عن عالم. وإنني أذكر القصة، بدون تعليق.
صادف قدوم الشيخ رشيد إلى الشام عزمي على الرجوع إلى الجزائر، وخرج الشيخ رشيد إلى القلمون فخرجت بعده إلى بيروت في وجهتي إلى المغرب. وكان من رفاقي في هذه الوجهة الأستاذ محمد المكي بن الحسين شقيق الشيخ الخضر المتقدم.
فاجتمعنا ذات صباح بالشيخ يوسف النبهاني الخرافي المشهور في دكان أحد التجار، و كان النبهاني سمع بي فجاء مسلما قاضياً لحق الجوار بالمدينة المنورة، إذ كنا قد تعارفنا فيها، فإنا لكذلك إذ مر بنا الشيخ رشيد ولم يرنا ولم نره. وما راعني إلا النبهاني يلفت رفيقي، ويسأله: أتعرف هذا ؟ فأجابه: وكيف لا ؟ هذا الشيخ رضا. فما كان من النبهاني إلا أن قال: هذا أضر على الإسلام من ألف كافر، فكان امتعاض قطعت نتائجه سرعة الانفضاض)) اهـ، ''الآثار'' (1/ 180).
وصدق أديبنا الإبراهيمي حين قال عن الشيخ رشيد: ((كان طول حياته بلاء مسلطاً على طائفتين: دعاة التدجيل من المسلمين، ودعاة النصرانية من المسيحيين)) اهـ، ''الآثار'' (1/ 179).
وقال عنه الإمام (حسن البنا) تحت عنوان (في الميدان من جديد) نشرها في المنار :
بعونك اللهم وفي رعايتك وتحت لواء دعوتك المطهرة وفي ظل شريعتك القدسية وعلى هدي نبيك الكريم العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تستأنف هذه المجلة ( المنار ) جهادها وتظهر في الميدان من جديد .
رحمة الله ورضوانه ومغفرته ( للسيد محمد رشيد رضا ) منشئ المنار الأول ومشرق ضوئها في الوجود، فلقد كافح وجاهد في سبيل الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وجمع كلمة المسلمين وإصلاح شئونهم الروحية والمدنية والسياسية، وهي الأغراض التي وضعها أهدافًا لجهاده الطويل حتى جاءه أمر ربه بعد أن قضت المنار أربعين عامًا كانت فيها منار هداية ومنهج سداد .
ولقد ترك السيد رشيد فراغه واسعًا فسيحًا، وقضى وفي نفسه آمال جسام، وشاهد قبل وفاته تطورًا جديدًا في حياة الأمة الإسلامية، فاستبشر بهذا التطور الجديد، وشام منه خيرًا وأمل فيه كثيرًا، وعزم على أن يساير هذا التطور بالمنار ودعوة المنار، وأن يجعل منها في عامها الجديد ( الخامس والثلاثين ) لسان صدق لجماعة جديرة ( بالدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين ) تخلف جماعة الدعوة والإرشاد .
وتقوم على الاستفادة بالظروف الجديدة التي تهيأ لها المسلمون في هذا العصر، وقد كتب - رحمه الله - في هذا المعنى في فاتحة هذا المجلد ما نصه : ( سيكون المنار منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين، أنشئت لتخلف جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها أو فيما عدا التعليم الإسلامي المدرسي منه الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له وتولي النهوض به فتركه لمن يعده التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته، ولا يصلح له غيرهم … ) .
ثم ذكر بعد ذلك طرفًا من تاريخ مدرسة الدعوة والإرشاد وما لقيت من عقبات ومعاكسات انتهت بالقضاء على فكرتها الجليلة ، ثم قال بعد ذلك : ( وجملة القول إنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر مشتركي المنار، وعلى ما أقرّ به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة والعامة بالأولى، وعلى دخولي في سن الشيخوخة وضعفها لم أزدد إلا ثقة ورجاء بنجاح سعيي لأهم أصول الإصلاح الإسلامي وتجديد أمر الدين بما يظهره على الدين كله حتى تعم هدايته وحضارته جميع الأمم، ولم أيأس من قيام طائفة من المسلمين بذلك تصديقًا لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ( لا يزال في أمته طائفة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة ) رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما بألفاظ من عدة طرق .
وهذه الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة، وإنني منذ سنتين أكتب عناوين خيار الرجال المتفرقين في الأقطار الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم، لمخاطبتهم في الدعوة إلى العمل، وأرجو من كل من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب إلينا عنوانه وما هو مستند له من العمل معهم إلى أن ننشر دعوتهم الرسمية، وأهم ما يرجى من الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا العصر الذي تقارب فيه البشر بعضهم من بعض فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على أمر الله وتعاونها على نشر الدعوة وجمع كلمة الأمة بعد وضع النظام لمركز الوحدة الذي يرجى أن تثق به، فهي لا ينقصها إلا هذا، وقد طال تفكيري فيه وعسى أن أبشرها قريبًا بما يسرها منه .
وأعجل بحمد الله - تعالى - أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي ولشيخنا الأستاذ الإمام ( قدس الله روحه ) من الرجاء في مركز الأزهر، وهو الذي يعبر عنه في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد أمره إلى الشيخ محمد مصطفى المراغي عظيم .
كان الأزهر كنزًا خفيًّا أو جوهرًا مجهولاً عند أهله وحكومته وعقلاء بلده، لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان إصلاح العالم الإسلامي كله به والاستيلاء على زعامة الشعوب الإسلامية في الدين والأدب والفقه بإصلاح التعليم العام فيه؛ ولكن تعليم الأستاذ الإمام - رحمه الله - وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في طائفة من شيوخه والاستعداد في جمهور طلابه، ولم يبق إلا الجد، ولله الحمد . انتهى .
هكذا قضى السيد محمد رشيد حياته وفي نفسه هذه الآمال الجسام : أن يكون المنار بعد سنته هذه لسان حال جماعة للدعوة إلى الإسلام، وأن تتألف هذه الجماعة من ذوي العقل والدين والمكانة في الشعوب الإسلامية، وأن يشد الأزهر أزر هذه الجماعة، وتشد أزره، فيكون من تعاونهما الخير كله .
ولقد كان السيد - رحمه الله - صادق العزم مخلص النية في آماله هذه فاستجابها الله له، وشاءت قدرته وتوفيقه أن تقوم على المنار ( جماعة الإخوان المسلمين ) وأن يصدره، ويحرره نخبة من أعضائها، وأن ينطق بلسانها، ويحمل للناس دعوتها .
يا سبحان الله، إن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة التي كان يتمناها السيد رشيد رحمه الله .
ولقد كان يعرفها منذ نشأتها، ولقد كان يثني عليها في مجالسه الخاصة، ويرجو منها خيرًا كثيرًا، ولقد كان يهدي إليها مؤلفاته، فيكتب عليها بخطه : من المؤلف إلى جماعة الإخوان المسلمين النافعة؛ ولكنه ما كان يعلم أن الله قد ادخر لهذه الجماعة أن تحمل عبئه وأن تتم ما بدأ به، وأن تتحقق فيها أمنية من أمانيه الإصلاحية وأمل من آماله الإسلامية، لقد تمنى السيد رشيد رضا في الجماعة التي اشترطها أن تقوم بأعلى مقصدي جماعة الدعوة والإرشاد أي ما عدا التعليم المدرسي، ثم رجا أن توفق الجماعة الجديدة لهذا أيضًا، وستحقق جماعة الإخوان المسلمين هذا الرجاء بتوفيق الله، فإن إصلاح التعليم المدرسي الرسمي من أخص مقاصدها وإن أثرها في طلاب الجامعة المصرية والمدارس المدنية من ثانوية وخصوصية لعظيم، وسنواصل الجهد حتى نصل إلى الغاية - إن شاء الله – ويصبح التعليم كله مركّزًا على أصول سليمة مستمدة من روح الإسلام وسماحة الإسلام وتعاليم الإسلام وحضارته ومجده ، والله المستعان .
ولقد أدرك الإخوان المسلمون منذ نشأتْ دعوتهم أهمية التواصل بين عقلاء المسلمين، فأخذوا يعملون لهذا، وأصبح لهم - بحمد الله - عدد عظيم من كل قطر يعطف على فكرتهم، ويؤيد دعوتهم، ولقد اقترح علينا أخونا المفضال السيد أنيس أفندي الشيخ من وجهاء بيروت أن نعمل ما عمله السيد رشيد فنجمع عناوين ذوى المكانة من عقلاء العالم الإسلامي، ونتصل بهم، ونكتب في جرائدنا عنهم حتى يتعرف بعضهم إلى بعض، والآن ننتهز هذه الفرصة فنوجه الرجاء الذي وجهه صاحب المنار من قبل إلى كل من يأنس من نفسه الغيرة على الإصلاح الإسلامي والاستعداد للعمل له من رجالات المسلمين أن يكتب إلينا عن الناحية التي يؤمل أن يعمل فيها، وحبذا لو تكرم، فأضاف إلى ذلك إرسال صورته الشخصية، وسنفرد لنشر هذه العنوانات والصور صحيفة خاصة بالمنار نسميها ( صحيفة التعارف ) بين أنصار الدعوة إلى الإسلام، حتى إذا تكامل جمع يعتمد عليه فكرنا في الطريقة المثلى لتبادل الآراء والأفكار .
ولقد أدرك الإخوان كذلك منذ نشأت دعوتهم ما للأزهر من شخصية معنوية، وأنه أعظم القوى أثرًا في الإصلاح الإسلامي لو توجه إليه، فاعتبروا أنفسهم عونًا له في مهمته، وتوثقت الروابط القوية بينهم وبين شيوخه وطلابه، وكان من هؤلاء الفضلاء ما بين علماء وطلبة طائفة كريمة لها أبلغ الأثر في نشر دعوة الإخوان وخدمة فكرتهم التي هي في الحقيقة أمل كل مسلم غيور وواجب كل مؤمن عاقل .
وإننا لنرجو أن نكون أسعد حظًّا من صاحب المنار - رحمه الله - في حسن معاملة المشتركين فيها، فإن مال الدعوة مهما كثر قليل بالنسبة لنواحي نشاطها، وتشعب أعمالها، فليقدِّروا هذه الحقيقة، وسيجدون ما ينفقون في هذه السبيل عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا .
ستعود المنار - إن شاء الله - إلى الميدان تناصر الحق في كل مكان، وتقارع الباطل بالحجة والبرهان، وشعارها الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وجمع كلمة المسلمين والعمل للإصلاح الإسلامي في كل نواحيه الروحية والفكرية والسياسية والمدنية . ولقد كان للمنار خصوم وأصدقاء شأن كل دعوة إصلاحية، فأما أنصارها، فنرجو أن يجدوا في مسلكها الجديد ما يعزز صداقتهم لها وصلتهم بها، وأما خصومها فإن كانت خصومتهم للحق بالحق فإننا على استعداد تام للتفاهم معهم على أساس كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل لخدمة هذه الحنيفية السمحة.
لم يكن الشيخ رشيد - رحمه الله - معصومًا لا يجوز عليه الخطأ فهو بشر يخطئ، ويصيب، ولسنا ندعى لأنفسنا العصمة فنحن كذلك، وما من أحد إلا ويؤخذ من كلامه، ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا نريد أن نعرف الحق بالرجال ولكننا نريد أن نعرف الرجال بالحق ومتى كان ذلك رأينا جميعًا ومتى كان شعارنا أن نرد التنازع إلى الله ورسوله كما أُمرنا، فقد اهتدينا ووصلنا إلى الحقيقة متحابين، وانقضت الخصومة وولى الباطل منهزمًا زهوقًا . على هذه القواعد ندعو الأمة والهيئات الإسلامية جميعًا إلى التعاون معنا، سائلين الله - تبارك وتعالى - أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً، ويرزقنا اجتنابه، والله حسبنا ونعم الوكيل .
شخصية الإمام محمد رشيد رضا في الشعر الإسلامي الحديث
نشأ الإمام محمد رشيد رضا في أسرة تنتسب إلى فرع الحسين – رضي الله عنه – وهي واحدة من بيوت الأشراف . وهذه الصفة تكفي وحدها لتضعه في درجة مرموقة من السلم الاجتماعي .
ولكنه نشأ محباً للعزلة، فتركت أثراً في نفسيته، حيث ابتعد عن عشرة السوء، ولم يتقن السباحة بالرغم من وقوع بيت العائلة على شاطئ البحر، كما أنه لم يهوَ الصيد، والبراري تحيط بالقرية من بعض جوانبها .
وهذه العزلة صانت لسانه من القول البذيء، فلم يقدم في حياته الإساءة لأحد في ما تحدث به أو كتبه .
وكانت طريقته في التعامل مع الآخرين تعتمد على الخلق الرفيع والتهذيب الجم .
ومن سلبيات هذه العزلة أنه كان لا يتعرف على رفاقه في المدرسة، وينسى أسماءهم.
وكان أديباً ذوّاقة، وشاعراً موهوباً، له قصائد في الوعظ والإرشاد، وكتب القصيدة ( الجمالية ) التي ناجى فيها الإمام جمال الدين الأفغاني، ومدحه فيها، ودافع عنه، حيث يقول :
لئن هام في حبِّ الحسان فإنني بحبِّ جمال الدين لا الجسم هائم حكيم بأفق الشرق لاح فأشرقت بأنواره تلك في الغرب تلك المعالم وطافَ بقاع الأرض طائر صيته فنعمت خوافي ريشــــــــــــــه والقوادم وجاء لدين الله بالحق حجة تقصر في البرهان عنها الصوارم دنت منه أفنان الفنون يوانعاً فنال جنى جناتها وهــــــــــــــــــــــو ناعم أحاذر أن آتيه بعض حقوقه فتفطن بي عـــــــــــــــــــذّالنا واللـــــــــــــــــــوائم
ثم راح يمدحه، ويثني عليه وعلى جهاده وإصلاحاته وآثاره ودروه في الفكر والثقافة والسياسة ...
ليالي مِنى :
سافر السيد رشيد رضا إلى الحج، وكتب عن مناسك الحج كتاباً، ونظم قصيدة صوّر فيها مشاعره في منى حيث قال :
رفقًا بـهـا يـا أيـهـا الزّاجـــــــــــرُ قـد لاح سَلْعٌ وبـدا حـــــــــــــــــاجِرُ وخلِّهـا تسحـبُ أرْسـانَهــــــــــــــــــا عـلى الرُّبـا لا راعَهــــــــــــــا ذاعِر واذكرْ أحـاديثَ لـيـالــــــــــــــي مِنى لا عُدِم الـمذكـورُ والـــــــــــــــذّاكر لهْف نفسـي للـيــــــــــــــــــالٍ سلفَتْ آهِ لـو تـرجعُ هـاتـيكَ اللـيـالـــــــــي لا تقـلْ لـي بِمِنًى تُعطَى الـمـــــــــــنى بِمـنًى كـان مـن القـوم انفصـالـــــــــي صَحْبـي مضـوا فـمَدامِعـــــــــــــــــــي مُنهلَّةٌ فـي إثْرِ صَحْبـــــــــــــــــــــي مـا فَوَّقَ الهِجْرانُ سهـــــــــــــــــــــ ـمًا فـانثَنى عـن قصْدِ قـلـبـــــــــــــي كلا ولا نـــــــــــــــــــــادَى الجَوى إلا وكـنـتُ أنـا الـمُلــــــــــــــــبِّي ولقـد وقفتُ عـــــــــــــــــــــلى مِنًى لـولا الـمُنى لقضـيْتُ نَحْبـــــــــــــــي
الجاذبية :
ويكتب قصيدة في الغزل والجاذبية، ويصور سحر العيون، والجمال القاتل، فيقول :
أيَّ حُسنٍ نرى بـهـذي الغوانــــــــــــــي كلُّ عضْــــــــــــوٍ كآلةٍ حـربــــــــــــــــــــيّهْ؟ مـا لنـا نحسَبُ الـحِسـان ظبــــــــــــاءً ولهـا فتكةٌ بنـــــــــــــــــا قَسْـــــــــــــــــــــــــوريّه؟ ونُسمِّي خدْرَ الفتـاةِ كـنـــــــــــــــاسًا ونرى الغابَ يـدّعـــــــــــــي الأوْلَويّه؟ ونذوقُ الغرام عذبًا وإن كـــــــــــــــا نَ عذابًا لـدى النفـوس الأبـــــــــــيَّه؟ يـا رقـيـقًا لِذاتِ خـصرٍ رقـيــــــــــــقٍ برئتْ مـنكَ ذمَّة الـــــــــــــــــــحُريّه قـد أذلَّتْك نسـوةٌ يـتبرَّجْـــــــــــــــــ ـنَ دلالاً تبرُّجَ الجـاهلــــــــــــــــيّه تلك سلـوى أن الـتخـيُّلَ يـدعــــــــــــو رقَّةَ العقـل رقةً طبْعـــــــــــــــــــيَّه كـم تُنـاجـي الـدُّجى ومـا أنــــــــت ممَّن يَفتـري عـن ضلـوعه الــــــــــــــمفْرِيَّه وتصـيـخُ الآذان تستـرقُ السَّمْـــــــــــــ ـعَ جـوابًا يأتـي مـن العـامــــــــــريَّه قـد أقـامتْ لك الأمـانــــــــــــيُّ سلْكًا لأداء الرسـائلِ الـبرقــــــــــــــــيَّه ولكَمْ أنـت فـي عتـابٍ وشكــــــــــــــوى لـحـبـيبٍ ديـــــــــــــــــــارُه مقْصِيَّه إن نأى يُدْنِه الخـيـالُ مـن الـتَّمْـــــــــ ـثـيل فــــــــــــــــــي آلةٍ له رَصْديّه
ويعجب من الوقوف على الأطلال وذرف الدموع على منازل الأحبة بعد خلا ربعها :
وعـلامَ الـوقـوف حـول رســــــــــــــومٍ دارسـاتٍ مـا ثَمَّ مـنهـا بقـــــــــــــيّه تُمطرُ السحـبُ مـن عـيـونِك مـا ثـــــــــا رَ بُخـارًا عـن نـارِكَ القـلـبـــــــــــيّه بحـرُ دمعٍ وفلْكُ جسمِك فـيــــــــــــــــه سـيَّرتْه أنفــــــــــــــــــاسُك الصَّدريَّه خلِّ عـنك الـتـمـويـهَ بـالغـيـدِ واسلــــمْ إنمـا الـحـبُّ لـذةٌ وهـمـــــــــــــــيّه قـد أقـامتْ عـلى الـحقـائق ستـــــــــرًا فـاستسـرَّتْ نجـومهـا الـدُّرِّيـــــــــــــه حجـبتْ عـنك شمسَهـا بسحــــــــــــــــابٍ ظلُّه قـام صــــــــــــــــــــورةً شمسِيَّه أنـت اشعـلـتَ نـار قــلبك بـالـتَّحْــديـقِ نحـو الـحدائقِ الــــــــــــحُسْنِيّه صـاد رسمُ الـحـبـيب طرْفَك مـنهــــــــــا بـانعكــــــــــــــــاسِ الأشعَّة النُّوريّه فسـرَى مـن زُجـاجَةِ العـيْن للقـلْــــــــــ ـبِ شُعـاعٌ كجذوةٍ نـــــــــــــــــــاريّه
العيدُ الذهبي :
وكتب السيد رشيد رضا موشحاً في الحب والغزل يقول فيه :
أسَقـيـطُ الطَّلِّ فـي نـبْتِ الـحِمـــــــــــى أم لآلٍ فــــــــــــــــــوق بُسْطِ السُّندُسِ أم نجـومٌ تتـراءى فـي السَّمـــــــــــــا أم ثُغورٌ زُيِّنـت بـــــــــــــــــــاللَّعَس يـا عُريْبًا تَخِذوا نــــــــــــــبْتَ اللَّمَى عـند فَقْدِ الـحـرْث مـنه بـــــــــــــدلا وبقـلـبـي قـد تـركتـم ألَـمــــــــــــا لـم يغادر لنجـاتـي أمــــــــــــــــلا لـيَ مـنكـم غادةٌ لـم يـدْرِ مــــــــــــا بفؤادي طرْفُهـا قـد فعـــــــــــــــــلا حـيث قـالـت حـيـن زارتْ ريثـمــــــــــا تقفُ الأنجـمُ بعــــــــــــــــــد الغَلَسِ احذرِ الأُنس بـغـيري إنمــــــــــــــــا كـنـتَ إنســــــــــــــــانًا لفرْط الأنَسِ إنَّ نجـمَ الكأس فـيـمـا قـد حــــــــــوى هـزَّ مـنهـــــــــــــــا العِطْفَ إذ تغتبقُ غربتْ شمسُ الطّلا لـمـا هـــــــــــــــوى فبـدا فـي وجنـتَيْهـــــــــــــــا الشفق وبجفـنَيْهـا لأربـابِ الهـــــــــــــــوى إن تأمَّلـتَ عـــــــــــــــــــــدوٌّ أزرق دائمًا يفخرُ فـي سفْك الـدِّمــــــــــــــا ويُبـاهـي بــــــــــــــــــهلاك الأنفسِ يسلـب الروحَ برفْقٍ مـثلـمـــــــــــــــا تسـلبُ الراحةُ عقـلَ الـمحتســــــي
إلى الله المشتكى :
وكتب قصيدة يشتكي فيها إلى الله ما أصاب الأمة ، ويصور الأمراض التي أضعفت الأمة وأصابتها في مقتل ، فها هو يقول في مطلعها :
عفَى الـديـارَ ديـارَ الـحُكْم والـــــــحَكَمِ فَقدُ الرجالِ رجـالِ الـسيفِ والقلمِ وغادر الأرضَ أرض الـديـنِ مُجــــــــــدبةً قحْطُ الكرامِ ومـــــــــــوتُ الجُود والكرم حـيث الـمشـاعـرُ مضروبٌ لهـا مــــــــثلا «بئرٌ معطَّلةٌ دارٌ بــــــــــــــــلا أَرِم» حـيث الشعـائرُ أمستْ وهْي مـنــــــــــتكِسٌ أعـلامُهـا كـانـتكـاسِ الظلِّ للقــــــــدم حـيث الـــــــــــــمدارس طرّاً وهْي دارسةٌ أضحتْ مـرابضَ للأنعـــــــــــــامِ والغنم فلا رعى الله قـومًا لا عهـودَ لهــــــــم ولا ديـانةَ خَوّانـيـن للــــــــــــــذِّمم مـن كل مُتَّبعِ الأهـواء مـنهــــــــــــمكٍ فـي السُّكْرِ بـالشـرِّ والإشـراك معتصــــــم لا مُدَّ بحـرٌ جـرَتْ فـيـه سفـائنُهـــــــــم لا بـالشــــــــــــــــــــــرائعِ بـل بـالنـــــــار والضَّرَم جـاءوا جـيـاعًا لُـحـومُ الجِيف قـوتُهـــــمُ تُمسـي النسـورُ لهـم لـحـمًا عــــــلى وَضَم يذلِّلـون سَراةً عَزَّ مشـربُهــــــــــــــــم ويُولغون كلابًا فـي حـيــــــــــــــاضهِم
ويصور انقلاب موازين القوة لصالح الأعداء، وكيف أصبح سادة الدنيا من الخدم، ويبين أن الله لن يغير حال المسلمين حتى يغيروا ما بأنفسهم، ويهجروا العلم، ويتسلحوا بالعلم، ويهجروا الكسل، وينهضوا إلى العمل :
سبحـانَه تلك أيـامٌ يُداولهــــــــــــــا فـي النـاس وفق أصـول العـدْلِ والـــــحكَم ولا يُغـيِّر مـا بـالقـوم ربُّهــــــــــــمُ إلا بتغْيـيرِهـم مـا فـي نفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوسِهِم فإن هـم رفعـوا للعـلـم رايـــــــــــتَه يرفعْهـمُ لسمـاءِ العزِّ فـــــــــــي الأمم وإن هـمُ خـفضـوه فهْو يـخـفضُهـــــــــــم فـي هـوَّةِ الـذلِّ والأنكـادِ والعــــــــدَم بـالعـلـم قـد جـاءنـا الإسلام مـنــتصرًا فأخرج العـرْب مـن أشْراك شـــــــــــركِهِم والرومُ فـي لُـجَّةٍ غاصت سفـيـنَتُهـــــــــا والفرسُ مـن فتـنةٍ صـمّاءَ فــــــــــي ضَرَم وقـد محـا جهلُهـم سـيـمـاءَ نـوْعِهـــــــم وكـاد يفصلُ عـنـــــــــــــــــهـم فصْلَ جنسِهــــــــــــم حتى أنـار الـورى فـانْجـاب ظلــــــــمتَه شـروقُ ديـنِ الهدى فـي الأعصُر الــــــدُّهُم
دمعة حرّى في رثاء الإمام :
شخصية الإمام محمد رشيد رضا التي أحاطت بالمجد من جميع أطرافه، كانت مهوى أفئدة الشعراء، حظيت بالتقدير والاحترام، فرثاه العديد من محبيه وعارفي فضله، ونسعى جميعاً لنتفيّأ في ظلال تلك الشجرة الباسقة التي تجذّرت أصولها، وسمت فرعوها تطاول عنان السماء .
صرح هوى :
كان رحيل الإمام فاجعة هزت المشاعر، ووقعت على نفوس الشعراء وقع الصاعقة، حيث كتب الأستاذ الشاعر ( محمد الهراوي ) قصيدة في رثاء الإمام محمد رشيد رضا – رحمه الله – يقول في مطلعها:
أي صرح هوى وحصن حصين ولواء طـــــــــــــــــــــــــوته أيدي المنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــون وكتاب في الرشد يهدي إلى الر شـــــــــــــــــــــــــــد وسيـــــــــــــــــــف مهند مســــــــــــنون مـات رب المنــار والأمــــــــــــــــــــــر لله وما مات غير داع أمين
إنه صرح من صروح الإسلام هوى، وهو حصن حصين، وحرز متين لهذه الأمة، عاش مخلصاً لله، وأنشأ مجلة المنار، فلما مات الإمام انطفأ نورها، وكان داعية مأموناً في الدين، ومجاهداً في سبيل الله :
عـاش لله مخلصًا في جـهاد نصف قـــــــــــــــــــــــرن مبـــــــــــــــــــــــارك في القرون ومضى باليراع يدعو إلى الحق وبالقـــــــــــــــــــــــــلب واللســـــــــــــــــــــــــــان المبيــــــن لا يطيق السكون في حرج الديـ ـن ويمضي يرح أهل السكون لم يدع راحة له أي حـين وهو في حاجة لها كل حين طاح بالقلب حين أودى به الجهد وجهد الغيور نار أتون فقــد العلم منه أي كتاب فقــــــــــــــــــــــــــــد الدين فيـــــــــــــــــــــــه أي معـــــــــــــين شــعر الناس باحتياج إليه بعـــــــــــــــــــــــــــــد أن لم يـــــــــــــــــــــــروا له من قرين
لقد مات رشيد رضا، وكل الناس محتاج إلى علمه، فهو نظير وحده، لا قرين له، ولا يدانيه مخلوق .
ويتحدث الشاعر عن مولده ونشأته في ( القلمون ) في لبنان، تلك البلدة التي قدمت للعالم نجوم الهدى، وأسود الإسلام، أمثال الإمام رشيد رضا، فيقول :
عز عن صاحب المنار حمى الشام وعــــــــــــــــز الأحســــــــــــــــــــــــاب في ( قلمون ) بلدة في ذرى طــرابلس قرت مــــــــــــــــن طــــــــــــــــــرابلس غـــــــــــــــرة في الجبين بلدة أنجبت إلى الشرق قــومًا هم نجوم الهدى وأسد العرين لسمـاءِ غـاب عنها مــــــــــــــــــنارها فتوارت من جوى الحزن بالسحاب الجون بعثتني جماعة الفضل في مصر رســـــــــــــــــــــــــول القريض في التأبين بعثتني لأندب العلم والدِّين وأبكيهما بدمـــــــــــــــــــــــــــــــع ســخين بعثتني وساقَها حسـن ظن في ضعيف ينوء تحـــــــــــــــــــــت الظنــــــــــــــــــون
إن رحيل الإمام ترك ثلمة في العلم والدين، لذا بكى الشاعر على فقده، وراح يندبه بدمع سخي، هتون، ويعترف الشاعر بعجزه عن الوفاء بحق الإمام .
ويتحدث الشاعر عن العلاقة الحميمة التي كانت تربطه بالإمام رشيد رضا، فقد كان حفياً بالشاعر، ودوداً معه، لم تزدهم الإيام إلا حباً واحتراماً، ويفصح مشاعر الأسى والحزن التي انتابته عند وفاة الإمام، فيقول :
ولعمري لو لم تكن بعثتني لرأتني بالدمــــــــــــــــــــــــــع غيــــــــــــــــــــــــــــــر ضنــين فلقد كان بي حفيًّا وكانت بيننــــــــــــــــا عـــــــــــــــــــــــروة الوداد المــــــــــــــــــــتين عقـدت بيننا المودة قربى زاد توثيقها توالى السنين شيبتني مواقف الحزن تترى ورثاء الخدين إثر الخدين ووقوفي على الربوع الخوالي وبكائي المكان بعد المكين والتياعي على أيامي تخلت عن حماها يد الكفيل المعين ويتامى تذوق في العيش بؤسًا بعــــــــــــــــــد خفض مــــــــــــــــــــــن الزمـــــــــــان ولين برح الحزن والجوى بفؤادي قرَّح الدمــــــــــــــــــــــع والبكا مــــــــــــــــــن جفوني مَـــــــــــــن مجيري مِـــــــــــــــــــــن بعدها ومقيلي مــــــــــــــــــــــــــــــن وقــــــــــــــــوفي بطرْف باكٍ حزين
ويتحدث عن قدوم الإمام إلى مصر، ومدى الاحترام الذي لقيه من أهلها، فيقول مصوراً تلك الحفاوة التي حظي بها :
يا غريب الديار لم تفقد الأهل فمــــــــــــــــــا مــــــــــــــــــــــــصر غيـــــــــــــــر أم حـــــــنون جئتها عالمًا وطالب عـــــــــــــــــــــــــــــــلم فتلقتك في الحــــــــــــــــــــــشى والعيــــــــــــــــــــــــون يا ربيب الإمام في مجــلس العلم وفي موطن الهدى واليقين كنتَ أوفَى بنيه حفظًا لذكـــــراه وأبقى على الوفاء المصون لم تفــارقه في الحياة وميتًا لم تفارقه في الثرى المسكون فســلام عليك حيَّا وميتًا وسلام على الإمام الدفين ويتامى تذوق في العيش بؤسًا بعــــــــــــــــــد خفض مــــــــــــــــــــــن الزمـــــــــــان ولين برح الحزن والجوى بفؤادي قرَّح الدمــــــــــــــــــــــع والبكا مــــــــــــــــــن جفوني مَـــــــــــــن مجيري مِـــــــــــــــــــــن بعدها ومقيلي مــــــــــــــــــــــــــــــن وقــــــــــــــــوفي بطرْف باكٍ حزين
لقد نشأ رشيد رضا في كنف الإمام محمد عبده، وتربى في حلقة العلم بين يديه، فكان أبرّ تلاميذه وأذكاهم، لم يفارقه حياً وميتاً إلى أن لحق به .
فقيد الأمة :
وكتب (الشيخ إسماعيل الحافظ ) قصيدة في تأبين السيد الإمام محمد رشيد رضا - رحمه الله – يقول في مستهلها :
داعٍ إلى الحق غـــــــــالت صـوتَه النوبُ أصيب في فقـــــــــــــــــــــده الإســـــــلام والعرب وكوكب من سماء الفضل حين هوى هــــــــــــــوى منار الهــــــــــــدى وانثالت الكرب وأصبح المجد مهجور الحمى وبكى من ثكله شرف الأعراق والنسب
إن رحيل الإمام كان فجيعة هزت الأكوان، ومصيبة عمّت العرب والمسلمين، فهو ( منار الهدى )، وشرف الأمة الذي تداعى، وضاع برحيله المجد، واكتأب وجه الحق، واسودّ وجه الحزن والصبر، فلنستمع إلى الشاعر، وهو يقول :
قضى الإمام فوجه الحق مكتئب ممــــــــــــــــــــــــــا دهاه وطرف الهدي منتحب والحـــــــــــــــــزن مســـــــــــــــتعر النيران متصل والصبــــــر منقطع الأوصــــــــــــال منقضب والزهد والرفد والإرشاد في ترحٍ والبر والدين والأخلاق والأدب ومعقل العلم والعرفان مضطرب يكاد من برحاء الهول ينقلب والشرق يندب والأقطار واجفة كأنما دب فيها الويل والحرب يا ناعي الحي حق ما رويت لنا أن الإمام حواه الترب أم كذب ويح الردى كيف أخبى نجمَه ومتى كن المنـــــــــــــــايا مـــــــــــــــن الأفلاك تقترب
ويسأل ناعي الحي، هل خبر وفاة الإمام حق أم كذب، إنه لا يصدق أن الموت قد اغتال ذلك العالم الفذ، الذي كان نجماً ينير طريق طلاب الحقيقة، والنجم قد يأفل والقمر قد يغيب ، ولكن لفرط محبة الناس له أوشكوا أن يضلوا ويشكوا في موته ، فهل هو يسير مع الشهب ، أم يمشي مع السماوات، أم استتر وراء الحجب ، ويرد عليهم ، فيقول إنه أتعب، وذهب للراحة الأبدية :
كادت تضل عقول فيه من جزع تقول : هل مات أم دارت به الشهب أم راح يبغي سماء عن سمـــــــــــــــــــــاوته أم استسر فقـــــــــــــــــــــــــامت دونه الحجب لا تنكروا رقدة الهادي الرشيد فقد أعيــــــــــــــا وقد يستريح الدائب الدرب دعاه ومذ لبت الألباب دعـــــــــــــــــوته هفـــــــــــــــــــــــــــــــــــا بها لمغاني قــــدسه الأرب والبدر مهما تناهى في تنقــــــــــــــــــــــــــــله في الفلك فهـــــــــــــــو إلى مغناه منقلب
وأشاد الشاعر بأخلاقه النبيلة، وصفاته العلية ، فصوره ساعياً إلى الخير، راهباً في الليل، لا يفتر عن عبادة ربه، وهو يبذل قصار جهده لفهم الكتاب العزيز ، والسنة المطهرة، وينير بفكره المعضلات ، فها هو الشاعر يقول :
لئن طوت فضله أيدي الردى فطوت مساعيًا لم تزل تُرجى وتُرتقب فرُب ليل طواه كله نسك نســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك ورُب يوم قضــــــــــــــــــاه كله قُرَب ورُب خافية الأعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام نائية يعيى بها الفكر إدراكًا ويضطرب ألقى عليها شعاعًا مــــــــــــــــن بصيرته بدت به وهي في عين النهى كثب ورُب سنة هدى قــــــــــــــــــــــــــــد تكنفها وهـــــــمٌ ورانت على أنوارها الريب أعـــــــــــــــــــــــــــــادها برزة للناس هــــــــــادية كما انجلت عن سنا أقمارها السحب
لقد رحل ذلك الإمام الذي كان يقضي أوقاته بالقربات والطاعات ، والذي أحيا السنة وأمات البدعة، وكشف أسرار القرآن، وأوضح مشكلات التنزيل فصارت جلية للناس ، وشن الغارات مظفرة على أعداء الله والحق، ثم رحل عن الدنيا بعد أن رفع راية الحق عالية خفاقة :
ورُب آيات تنزيل سرائرها ظلت زمانًا عن الألباب تحتجب سما إليها وعانى سترها فبدا للمستريبين من تفسيرها عجب يعنو لها العلم منقادًا ويأخذه من روعة الحق سلطان فيتئب وغارة في سبيل الله ظــــــــافرة يهفو لها المجد والإسلام والحسب قد شنها منه ماضي العزم ينجده من حزمه وحجاه جحفل لجب دارت على محور البرهان دورتها حتى تجلت وهو في أرجائها قطب ثم انثنى وهو مخفوض الجناح تقي والحق مرتفع الرايات منتصب
لقد رحل الإمام الذي واجه شبهات الأعداء بعزيمة لا تعرف الخور، وإرادة لا تعرف الفتور، إنه يرضى، ويغضب لوجه الله، ويتساءل الشاعر عن الركن الركين، والملاذ الذي سيأوي إليه المسلمون بعد رحيل الإمام، فيقول :
في ذمة الله نفــــس مـــــــــــــــــــــــــــــا ألم بها رضا لغير رضا الخلاق أو غضب وهمة ما نأى عن باعها أمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل ولم يفتها مــــــــــــــــــــــــــن العلياء مطلب لهفي على القائم الهادي إذا خفيت معالم الحق أو ضنت به العصب ومن إذا نابَتِ الإســـــــــــــــــــــــــــــــلامَ نازلة عــــــــــــــــــــلا به الجد والإقدام والدأب
إنه قلعة يأوي إليها المسلمون إذا نزلت الخطوب، فهو القانت العفيف، والمسارع في نجدة الملهوف، الذي أوتي لساناً صادقاً، وقلباً طاهراً، لم تدنسه أطماع الدنيا وزخارفها، وهدفه الإصلاح والنهضة على أساس الإيمان وعقيدة التوحيد، والعمل الصالح :
وإن دجا الخطب واسودت جوانبه بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدت لنا فيه من آرائه شهب القانت العف والأطماع دانية والمقدم الندب والأهوال تصطخب والمؤثر الجد يقضي ليله سهدًا فيه إذا جد بالمستهتر اللعب والقائل الصدق لا يدنو به رغب في قوله لا ، ولا ينأى به رهب فما أطبت قلبه الدنيا بزخرفها ولا ثنى عـــــــــــــــــــــزمه مــــــــــــــــــــال ولا نشب غايات مبدئه الإيمان في عمل وروح نهضته الإقدام والغلب
وفكر الإمام مستنير يشبه الشهاب الذي يبدد ظلمة الجهل والخطوب السوداء، ويشيد بسجايا الإمام فهو عفيف قانت، وجادٌّ لا يعرف السخرية واللهو، ولا يستهتر حين المحن والصعاب، يقول الصدق، وينطق بالحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، لا تحركه الأطماع، والمخاوف، ولا تثني عزمه الأموال والمناصب، وغايته الإيمان والعمل والنهضة والإصلاح .
جهاده وتبحره في العلوم :
إن الإمام رشيد رضا جمع بين العلم والعمل، بين النظرية والتطبيق، فهو عالم رباني، ومجاهد مخلص، وإن كنت في شك مما أقول فاسأل الليل، واسأل العلم والعرفان، واسأل الوطن الحزين عن عطفه وحنانه، وقلمه أمضى من السيف البتار :
سائل به الليل هل شقت غياهبه ... عن مجاهد مثله لله يحتسب
وسائل العلم والعرفان : هل رفعت ... لمثله في ذرى عليائهما الرتب
وهل شكا الوطن المحزون نكبته ... إلا ولباه ذاك المشفق الحدب
يا صاحب القلم الكافي بفتكته ... يوم التناضل ما لم تكفه القضب
إذا انبرى فهو طورًا في الحشا ضرم ... وإن جرى فهو حينًا في المها ضرب
( أما وقتك ظبى الأقلام مشرعة ) ... أما توافت لك الآثار والكتب
أما إقـــــــــــــــــــــــــــالتك أيــــــــــــــــــــــــــــــام محجلة ... يبلى المدى وهي في آثارها قشب
ويشيد بمواقف الإمام الخالد التي يتباهى الزمان بها، فهي وسام يزين صدر التاريخ، لقد سرت مواعظه مسيرة الفلك ، وشعت أنواره وأفكاره في الآفاق :
لك المواقف يختال الزمان بها ... والباقيات على الأيام والخطب
السائرات مسير النيرات هدى ... والساطعات وآفاق النهى كهب
والخالدات فما إن فاتها زمن ... والدائبات فما إن مسها نصب
والملقيات على سمع الورى عبرًا ... تمشي على ضوئها الأجيال والحقب
إن فكر الإمام محمد رشيد رضا وكتبه خالدة على مرّ العصور لأنها تنطق بالحق والحق لا يبلى ، والديان لا يموت .
صاحب المنار :
ولعل مجلة المنار تعتبر من أكبر منجزات الإمام حيث صدر منها / 34 / مجلد، فصارت منارة للخير والهدى والإصلاح، وأما تفسير المنار فهو نبع من الإلهام :
منار هـــــــــــــديك برهـــــــــــــــــــان يقـــــــــــــــــــــوم على ... أشكله عمد الإصــــــــلاح والطنب
وغيث تفسيرك المـــــــــــأثور سلســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــلة ... من منبع الوحي والإلهام ينسكب
ذخران للدين والدنيا إذا جليا ... للناس حفهما الإعـــــــــــــــــجاب والعـــــــــجب
قم وانظر الشرق يصغي السمع ملتمسًا ... هـــــــــــــداهما وعيون الدهر ترتقب
هيهات قد خمد النور الذي يرتقبـــــــــــــــــــــــــوا ... وقد مضى ذلك العهد الذي طلبوا
وما زال أبناء الشرق يتطلعون إلى النهضة التي خطها المصلحون من أمثال رشيد رضا وغيره من الدعاة إلى الخير .
ويصور حزن العرب والمسلمين على رحيل الإمام، فيقول : تبكيك أبناء عــــــــــدنان وإخــــــــــــــــــــوتهم ... والمســــــــــــــــــــلمون إذا مستهم النوب
كنت الرجاء لهم إن عوزت عــــــــــــــدد ... تحمي العقيدة والأخلاق أو أهب
وكنت سيفا على الإلحاد ذا شطب ... مـــــــــــــــــــــن الجهـــــــــاد على أفرنده ندب
يبكون نعيك في تأليف وحـــــــــــــــدتهم ... تقيم في نظمـــــــــــــــــــها طــــــــورًا وتغترب
ركبت في مبتغاهم كل ســـــــــــــــــــــــــــابقة ... واليوم بعـــــــــــــــــــدك لا ســـــــرج ولا قتب
فدتك من عثرة الأيام شــــــــــــــــــــــــــرذمة ... رامــــــــــــــــــــــوا علاك فما نالوا ولا قـــــــربوا
جروا وراءك حتى حُــــــــــــــــــــــــــــــزتها رتبًا ... أوفت سموًّا على هام السهمي انقلبوا
مقصرين فلم يقضوا حياتهم ... كما قضيت ، ولم تذهب كما ذهبـــــــــــــــــــــــــــــــــوا
لقد كان الإمام رشيد رضا حكيماً ، صامداً ثابتاً على الحق، فإذا نزلت مصيبة تفاعل معها الإمام، وهو في قبره ، فراح ينتحب حزناً على ما أصاب المسلمين :
ذهبت كالغيث ولَّى بعدما رُويتْ ... منه البطائح واهتزت به الهضب
ذهبت برا بأوطـــــــــــــــــــــــــان وفيت لها ... تكاد إثرك عـــــــــــــــــــن أوطانها تتب
غـــــــــــــــــــــــــادرتها وهي أوزاع ممــــــــــــــــــــــــزقة ... يعيـــــــــث منتدب فيها ومغتصب
تدعوك للنجدة الغــــــــــــــــــــــــراء رازحة ... يؤدها المضنيان الهــــــــــــــــم والوصب
إذا رأت بعــــــــــــــــدك الآمال مخفقة ... طغى من الوجد في أحشائها لهب
تؤم قبرك مثوى رحمة وهــــــــــــــــــــــــــــدى ... للبر في لحده مغنى ومضطرب
كنز من الحكمة العلياء قد ضربت ... من الجلال على أركانه قبب
يكاد حين تحييه ضمــــــــــــــــــــــــــــــــــائرنا ... يصبو إليها صدى منه وينجذب
إذا أطافت به أوحى لهـــــــــــــــــــــــــا مثلاً ... من الثبات وشملاً ليس ينشعب
وإن شكَت خطبها كادت جوانبه ... تئن للخطب إشفاقًا وتنتحب
إنه غيث لا ينقطع خيره، ويثني الشاعر على إيمان الإمام العميق، وإخلاصه، ويعترف بفضله عليه أيام طلبه للعلم :
يا أكمل الناس إيمانًا وأخلصهم ... ودًّا وأكرمهم جزمًا إذا انتسبوا
من لي بأيامك اللاتي نعمت بها ... دهــــــــــــــــــــــرًا يظللني من دوحها عذب
أيام أرشف من صفو الرسائل أو ... نجـــــــــــــــوى الحديث كئوسًا ما بها لغب
واهًا لها ، قد مضت فاليوم لا رسل ... تفي أمـــــــــــــــانة نجوانا ولا كتب
أحس أن نميز الماء في كبـــــــــــــــــــــــــــــــدي ... يحيله الحزن جمرًا فهـــــــــــــــــــو يلتهب
وأن ســــــــــــــــــــــــــوداء قلبي حين أذكرها ... تفـــــــــــــــــــــور من مقلتي دمعًا وتنسرب
سأحفظ العهد ، فاحفظه ، وأنثر من .فيض الشـــــــــــؤون رثاءً ليس ينقضب
ولو نظمــــــــــــــت الثريا في رثائك ما ... قضيت للحق إلا بعض ما يجب
ويعاهد الإمام أن يبقى وفياً لنهجه ، سائراً على دربه ، لا يحيد عن مبادئه .
وانطفأ المنار :
وكتب ( الأستاذ عبد الله عفيفي ) قصيدة يرثي فيها الإمام رشيد رضا، صاحب المنار، الذي كسفت الشموس والأقمار لرحيله ، فيقول :
مكانك لا يلج بك العثار تراخى الليل وانطفأ ( المنار )
وغابت في مغاربها الدراري ... وحجب طلعةَ القمر السرار
أردد في ديار الحي صوتي ... وقد أعيت فلم تجب الديار
أطاف بأهلها الساقي فمالوا ... وأذَّن فيهم الحادي فساروا
وفرَّق بينهم صدع الليالي ... وليس لصدعة الزمن انجبار
أخِلاي الذين سروا تباعًا ... أما لليل بعدكم نهار
برغمي أن يهز الشوق جسمي ... وقد عز المزار فلا مزار
فراقد عالم كانت منـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاه ... أحالت نورها البيد القفار
نعمر ما نعمر ثم نطــــــــــــــــــــــــــــــــوي وأهون ملبس ثوب معار
ونسلك للغنيمة كل صــــــــــــــــــوب ونخرج لا شعار ولا دثار
رويدك يا زمــــــــــــــــــــــــــــــــان وما رويد تهاوى الدوح وانتهت الثمار
ثوت بالكوكب الهادي العوادي وطال بكاتب ( الوحي) السفار
فوالهفاه هل بين المنايا وبين حماة هذا الدين ثار ؟
لقد عدت عليه المنية بعواديها ، ويسأل الشاعر هل هناك ثأر لدى الموت ضد الدعاة والمصلحين ؟؟ !! ....
جهاد الإمام محمد رشيد رضا :
وبعد هذه المقدمة يتحدث عن الإمام رشيد رضا، ويصفه بأنه سيف من سيوف الحق، وقلمه نور ونار، وهو إنسان كريم، لا يعرف الظلم، ولا يحب الجدال، ماضي العزيمة لا يتردد :
رشيد ! وكنت إذ تدعي يلبي ... يراع فيضه نور ونار
حسام من سيوف الحق تلقي ... إليه قيادها البيض القصار
من الفردوس يسطع من شباه ... سنًا ينهل أو نقع يثار
كريم لا يجور ولا يماري ... رشيد لا يحور ولا يحار
تجرد للجهاد فلم ترعه ... كتائب للضلالة تستثار
تلقاها بعزم أحوذي ... فلا وهن ولا قلب مطار
فصال موفقًا ومضى حميدًا ... ولم يلحق به دنس وعار
ويصور حزن العرب والمسلمين على رحيل الإمام محمد رشيد رضا، ويحمله رسالة إلى الإمام محمد عبده، تحمل في طياتها التحية والسلام، فالأمة عرفته بعد مرور الأعوام ، وقدّرت جهاده، وفضله :
رشيد تفجع الإسلام حزنًا ... وناحت يعرب وبكت نزار
قوى قد كنتَ مِن أمضى شباها ... وكان لهـــــــــــــــــا بمغناك ازدهار
إذا جئت ( الإمام ) فقل سلام ... من القوم الذين عليك ثاروا
همو عرفوك بعد هوى مضــــــــــــــــــــــل ... وهم بعد الثلاثين استناروا
ومن تثبت شريعته تســــــــــــــــــــــــــــــاوى ... لدعــــــــــــــــــــــوته التلبث والبوار
وأفضل مصلح رجل حـــــــــــــــــــــــــلاه ... بلاء واصطبار وانتظار
وما يخزى المجاهد أن يجــــــــــــــــــــــــازى ... بسوء إنما العار الفرار
سلام يا محمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد من وفي ... له من ذكرك النخب المدار
إن العرب والمسلمين حزنوا على فقد الإمام رشيد رضا، ويطلب الشاعر من رشيد رضا أن يوصل سلاماً إلى الأستاذ الإمام محمد عبده من الذين ثاروا عليه؛ لأنه عرفوا الحقيقة بعد رحيله، وندموا على ما فعلوا بحقه . فقيد الفضل والعرفان :
كتب ( عبد الرحمن بن زيدان ) ... نقيب الأسرة المالكة في المغرب الأقصى، قصيدة يرثي فيها فقيد الفضل والعرفان، ويفصح فيها عن مشاعره تجاه الإمام، فيقول :
لقد فقد الهدى أسمى فقيد ... بعصر ليس فيه سوى ( رشيد )
فماد لفقده الإســـــــــلام حزنًا ... وفقد ( مناره ) الزاهي المشيد
وود ( فؤاده ) لو كان يُفدى ... فقيد بالطــــــــــــــــــــــــريف وبالتليد
ولو يعطى ســــــــواد العين فيه ... ليرجع هـــــــــــــان في حق الفقيد
فقيد ما له خلف يضاهي ... جلالة علمه الهامي المديد
إن مصيبة الأمة بفقد الإمام لا يمكن تعويضها ، لقد ترك مكانه شاغراً يندبه، فهو إمام كان سبباً في نهضة الإسلام، وحصناً حصيناً للأمة، إنه ماجد فاق جميع العلماء، فلا يدانيه شيخ، ولا يعادله عالم، فقال :
إمام كان منه الشرع يُجلى ... ودين الله يسمو في صعود
إمام كان للإسلام حصنًا ... حصينًا صار رمزًا للخلود
إمام فاز بالقدح المعلَّى ... وحصل السبق والشأو البعيد
إمام لا يجارى في المعالي ... وما له في المعارف من نديد
لقد أحيا الأنام حياة علم ... وأرشدهم إلى القصد السعيد
( بنبل ) علومه الفياض روَّى ... عطاشًا في الصدور وفي الورود
أجمعت الأمة على جلالة قدره، ونبله، وفضله، فبكت لفقده جميع المذاهب، وسائر فئات الشعب :
فأصبحت المذاهب منه ثكلى ... تقول لعينها بالدمع جودي
وتعلن أنه قد كان فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــردًا ... يعــــــــــــــــز نظيره في ذا الوجود
وأن له على الفقــــــــــــــــــــــــهاء طرًّا ... أيادي جددت خير العهود
وأن له على الأفكار فضــــــــــــــــــــــلاً ... يرد به أخا الفكر الشرود
وأن له لدى العظمــــــــــــــــــــــــــــاء ذكرًا ... يرجع مثل ترجيع النشيد
إذا ذكرت ذوو الإصلاح يومًا ... فإن فقيدنا بيت القصيد
رسا بثباته فوق الرواسي ... وفي وثباته حتف العنيد
ولم يعبأ بما قد كان يلقى ... من الأزمات والدهر الشديد
أيُجهل فضله في الناس يومًا ... وفضله ما عليه من مزيد
ويصور عظم المصيبة، وكيف يطيب العيش بعد فقد الإمام، فيقول :
وهل بعد الرشيد يطيب عيش ... ويغتر المميز بالوجود
فــــــــــــــــــــــــــــــــآه ثم آه ثم آه ... على طود تغيَّب في اللحود
ولكن لا مرد لحكم مولى ... مضى طبق المشيئة في العبيد
وهل يجدي سوى التسليم عبدًا ... يفر لدى المصاب إلى السجود
ويرجع عند ذاك إلى التأسي ... بمثل فقيدنا الركن العميد
عليه رضا المهيمن ما تجلت ... على مثواه أنوار الشهود
وفي دار النعيم يقـــــــــــــــــــــــــــــــــر عينًا ... بما يرجوه من غانٍ مجيد
ورحمة الله ربنا تُلقى عــــــــــــــــــــــــــــــــــــليه ... أتم مطارف الذكر الحميد
حجة الإسلام :
كتب أمير البيان ( شكيب أرسلان ) قصيدة يتحدث فيها عن رفيقه الإمام رشيد رضا، فيقول مستهلاً قصيدته بالبكاء والدموع :
تَحَدَّري يا دُموعي بِالمَيازيبِ وَعارِضي السُحبَ أَسكوباً بإسُكوبِ
وَأَدرِكي كَبِداً لَجَّ الأُوارُ بِها عَن مارِجٍ في صَميمِ القَلبِ مَشبوب
هَيهاتَ أَيُّ الرَزايا بَعدَ تَرمِضُني وَأَيُّ داهِيَةٍ دَهيـــــــــــــــــــــــــــــــــاءَ تَلوي بي
وَأَيُّ خَطبٍ مَلّى أَن أَقولَ لَهُ يا عُمري اِنفَضَّ أَو يا مُهجَتي ذوبي
مَضى الَّذي كانَ فيهِ مُنتهى أَمَلي وَمَن نَشَدَت لِتَعليمي وَتَهذيبي
وَمَن عَنِ الأَخذِ عَنهُ شَدُّ راحِلَتي وَمَن لِلُقياهُ إِسآدي وَتَأويبي
شَعَرتُ إِن خِلتُ الدُنيا بِمَصرَعِهِ لَم يَكفِني طولَ تَشريدي وَتَغريبي
فَمَن أَناجيهِ بَعدَ اليَومِ في حَزَني وَمَن أَرى بَثُّهُ بَثّي وَتَعذيبي
يبين الشاعر شكيب أرسلان – رحمه الله- علاقته الحميمة بالإمام الراحل، ويصور مدى حزنه وأسفه على فراقه، ويندبه بأحر العبارات، وأشجى الجمل، فيقول :
واهاً عَلى حَجَّةِ الإِسلامِ حينَ خَبا ذاكَ الشِهابُ بِلَيلاتٍ غَرابيبِ
واهاً عَلى عِلمِ الأَعلامِ حينَ هَوى فَلا تُصادِف قَلباً غَيرَ مَنخوبِ
هَوى وَكُلُّ جِبالِ العِلمِ دانِيَةٌ عَن شَأوِهِ فَهيَ مِنهُ كَالأَهاضيبِ
أَينَ الَّذي كانَ إِن أَجرى يَراعَتُهُ في أَيِّ فَنٍ أَتانا بِالأَعاجيبِ
هَذا المُصابُ الَّذي كُنّا نُحاذِرهُ نَظَلُّ نَلبِسُ مِنهُ جِلدَ مَرعوبِ
مِن قَبلُ رَزناهُ فَقداً غَيرَ ذي عَوَضِ وَكَم حَسِبناهُ صَدعاً غَيرَ مَرؤوبِ
حَتّى إِذا حَلَّ لَم تَعقِد مَناحَتُهُ إِلّا عَلى حادِثٍ مِن قَبلُ مَرهوبِ
فالسيد رشيد رضا كان جبلاً من العلم ، إذا جرّد قلمه فهو أمضى من السيف، ويأتي يراعه بالمعجزات والأعاجيب ...
قضى الإمام :
ويصور مصيبة الأمة المسلمة بفقد الإمام، فلو علم الناس فضل الفقيد العظيم للبسوا عليه ثياب الحداد :
قضى الإِمامُ الَّذي كانَت مَكانَتُهُ بَينَ الأَئِمَّةِ في أَعلى الشَناخَيبِ
لَو كانَ أَنصَفَهُ الإِسلامُ يَومَ ثَوى لَبّاتٌ يَرفُلُ في سودِ الجَلابيبِ
كانَ المُقَدَّمُ في عِلمٍ وَفي عَمَلِ وَالجَمعُ ما بَينَ مَنسوبٍ وَمَكسوبِ
لَهُ شَمائِلَ أَمثالَ النَسيمِ سَرى وَيَكرَهُ العَفوَ أَن يَأى عَنِ الحوبِ
لَم تَعرِفِ الحِقدَ في يَومِ سَريرَتُهُ وَلا وَعى سِرُّهُ شَيئاً سِوى الطيبِ
كَم قَد تَلَقّى أَعاديهِ وَقَدَ كَشَحوا بِفَضلِ ذَيلٍ عَلى الآثامِ مَسحوبِ
يَلقونَهُ حَملاً حَتّى إِذا عَبَثوا بِالدينِ أَصبَحَ كَالبَزلِ المَصاعيبِ
هُناكَ لا هُدنَةً يَدري وَلا خَصمِ إِلّا سَيَأخُذُ مِنهُ بِالتَلابيبِ
هُناكَ أَعظِم بِفَحلٍ غَيرَ ذي نَكلِ لَدى اللِقاءِ وَسَيفٌ غَيرَ مَقروبِ
يَصولُ صَولٌ عَلَيَّ في وَقائِعِهِ فَلَيسَ يَعرِفُ قَرناً غَيرَ مَكبوبِ
يرى الأعداء لطفه فيستخفون بالدين وعند ذلك ينقلب كالجمل الهائج، ويأخذ بالتلابيب، ولا يهادن، ولا يساوم خصماً ..........
الإمام العبقري :
لقد كان رشيد رضا عالماً فذاً، وإنساناً عبقرياً، فهو فارس المنابر، والخطيب المصقع ، وكأنه قس بن ساعدة الإيادي في بلاغته، وقد تسلح بالحجة والبرهان، وعرض أفكاره بأحلى الأساليب، وأنصع البيان :
عَدا عَلى عَبقَرِ مَن لَيسَ ذا صِلَةٍ مَعَها عَلى الرُغمِ مِن نَعتٍ وَتَلقيبِ
فَالعَبقَرَيَّةُ وَصفٌ في رَشيدِ رِضا وَالعَبقَرِيَّةُ لَيسَت بِالأَكاذيبِ
قِس كُلَّ صاحِبٍ فَضلٌ مَعَ رَشيدٍ رِضا قَيسَ الرُهامِ إِلى الطَيرِ المَناسِبِ
تَسمو المَنابِرُ إِعجاباً بِوَطأَتِهِ لَها وَتَخضَعُ أَقواسَ المَحاريبِ
سُبحانَ مَن زادَهُ عِلماً وَأَلهَمَهُ تِلكَ البَراهينِ في أَحلى الأَساليبِ
رُبَّ الوَفاءِ الَّذي اضربى بِشُهرَتِهِ حَقّاً عَلى مِثلٍ في العَهدِ مَضروبِ
مَقَلَّةً مِن أُصولِ الشَرعِ أَشرِعَةً تَمشي مَعَ العَقلِ تِسيارُ الأَصاحيبِ
منار الحق :
أسس الإمام رشيد رضا ( المنار ) ليصدح من فوقها بالحق، ويدحض الباطل، ينصر الدين، ويبطل دعاوى الملحدين، وبذل جهده ووقته لتكون مركز إشعاع وإصلاح:
كانَ المَنارُ لِحِزبِ الحَقِّ مُعتَصِراً يَهديهِم بِشُعاعٍ غَيرَ مَحجوبِ
غَدَت بِهِ مِلَّةُ الإِسلامِ حَجَّتَها شَهباءَ في حازِبٍ مِنها وَمَحزوبِ
جَميعُ أَجزائِهِ تَأتي عَلى نَسقٍ مِثلَ اِطِّرادِ العَوالي بِالأَنابيبِ
تَجري بِآذانٍ مَن يَصغي لِقارِئِها لَحنَ السَريجي في سَمعِ المَطاريبِ
ما بِالمَنارِ ضِياءٌ غَيرَ مُقتَبَسِ وَلَيسَ فيهِ هِلالٌ غَيرَ مَرقوبِ
وأشاد بأفكاره التي بثها في كتبه حيث نال إعجاب الشباب المثقف في شتى أنحاء الدنيا :
وَكَم كِتابٌ لَهُ غَيرَ المنارِ غَداً فَوقَ الكَتائِبِ في حَشدٍ وَتَكتيبِ
مَواقِفٌ لَن تَرى مَن يَستَقِلُّ بِها وَلَن تَرى طــــــــــــــــــــــامَعاً مِنها بِتَقريبِ
سَر نَحوَ رَبِّكَ مُبَكِّياً بِكُلِّ دَمٍ قانٍ عَلى صَفحَةِ الخَدَّينِ مَصبوبِ
وَاِنعَم لَدَيهِ بِما قَدَّمتُ مِن عَمَلٍ وَفُز بِقِســــــــــــــــــطِكَ مِن بِرٍّ وَتَثويبِ
وَاِترُك ثَناءً كَنَفحِ الطيبِ لَيسَ يَنى يَملَأُ البِلادَ بِتَشريقٍ وَتَغـــــــــــــــــــــريبِ
قَد يَغلِبُ الحُزنَ أَقوامٌ بِصَبرِهِم لَكِن حُزنُكَ عِندي غَيرَ مَغلوبِ
أُبكيكَ ما دُمتَ في الدُنيا وَما بَقيتُ إِلّا بَقِيَّةَ عَيشٍ غَيرَ مَحبوبِ
لي مَعَكَ عَهدٌ فَآبى أَن أَخيسَ بِهِ حَتى أَصيرُ إِلى لَحـــــــــــــــــــــــــدٍ وتتريبِ
وإذا اقترن الكتاب بالكتيبة ، واللسان بالسنان جاء النصر ، ومحق الباطل ، وزال الظلم والطغيان ، ويعاهد الشيخ ألا ينسى فضله وتعاليمه وأن يبقى وفياً لفكره المستنير حتى يفارق الحياة ، ويدفن في قبره ....
هجاء رشيد رضا :
هذا الإمام الذي حظي بشبه الاجماع ، لم يسلم من النقد، فهو بشر غير معصوم رغم جلالة قدره ...ولكلّ ساقطة في الحي لاقطة، وقد أثرت عن الشيخ بعض الاجتهادات الخاطئة ومن هذه الآراء التي ناقشه العلماء حولها :
- اجتهاده في تذكية الحيوان بالصعق الكهربائي فإنه ذهب إلى جوازه معتمداً على فقهه هو مخالفاً للفقهاء راداً لأقوالهم. ولكن الشيخ رشيد في ذلك لم يأت ببينة من الشرع وإنما اعتمد على استحسانه فقط.
-ومنها أيضاً: نكاح الوثنيين فذهب إلى جواز نكاح نسائهم
-ومنها: العمل بالحساب في الرؤية الشرعية.
-ورأيه في صندوق التوفير.
-وأهم هذه الاجتهادات: اجتهاده في إباحة ربا الفضل، لأنه ـ كما يقول ـ مُنع سداً للذريعة إلى الربا الجاهلي، فيباح للضرورة .
ولنستمع للشيخ رشيد رضا إنه يقول: "إنه ليس في ديننا شيء ينافي المدنية الحاضرة المتفق على نفعها عند الأمم المترقية إلا بعض مسائل الربا، وإني مستعد للتوفيق بين الإسلام الحقيقي، وكل ما يحتاج إليه العثمانيون لترقية دولتهم مما جربه الإفرنج قبلهم وغير ذلك، ولكن بشرط ألا ألتزم مذهباً من المذاهب بل القرآن والسنة الصحيحة .
وما قرأت أن أحداً هجا الإمام محمد رشيد رضا سوى الشيخ يوسف النبهاني – رحمه الله – حيث شنّ هجوماً كاسحاً على دعاة مدرسة الإصلاح : جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، ومحمود شكري الألوسي ..وغيرهم من دعاة السلفية الإصلاحية الجديدة، ونحن هنا نوجر أبياتاً تخص الشيخ رشيد رضا، يقول فيها :
وَأمّا رشيــــــــــــــــــــــــــد ذو المنارِ فإنّهُ أَقلّهمُ عَقلاً وأكثرهم شرّا
أَتاني ببيروتٍ بشرخٍ شبــــــــــــــــــــــــــــــابهِ بِمُقلتهِ السودا ووجنتهِ الحمرا
لَه لحيةٌ مقصوصةٌ من جذورها تُترجِمُ عنهُ أنّ في نفسهِ أمرا
وَكانَ وليُّ الأمرِ عنديَ جالساً نُصوحي جزاهُ اللَّه عن نصحهِ خيرا
فَوبّخهُ مُستقبحاً ما أتى بهِ وَأَبدى لهُ مِن سخطهِ النظرَ الشزرا
وَقد غابَ عنّي خمسَ عشرة حجّةً وَعادَ ولَم يَزدَد شعوراً ولا شعرا
وَشاهدتُ منهُ الوجهَ أغبر مظلماً كأنَّ عليهِ مِن ضلالتهِ سِترا
وَذلكَ مع ما فيهِ أهون أمـــــــــــــــــــــــــــــرهِ إِذا ما بهِ قيسَت فظائعهُ الأخرى
فهو يحكي أن رشيد رضا – رحمه الله – جاءه في بيروت، وهو في شرخ شبابه، مقصوص اللحية، ثم غاب عنه فترة طويلة من الزمان، فلما التقى به وجده لم يتغير عن ضلاله، وأبصر في وجهه ظلمة تدل على ضلاله، وأما أفعاله فحدث، ولا حرج:
وَأفعالهُ تُبدي قبيحَ ضــــــــــــــــــــــــــــــــــلالهِ وَتكشفُ عَن مكنونِ إِلحادهِ السِترا
وَأطوارهُ في حُكمها قَد تَناقضت بِحكمِ هــــــــــــــــــــــــواهُ كلّ وقتٍ ترى طورا
فَكَم ذا أرادَ النصبَ في درس جامعٍ فَأولاهُ أربابُ التُقى الخفضَ والجرّا
وَكم قامَ يَتلو في الكنيسة خطبــــــــــــــــــــــــةً بِها نابَ عن قسٍّ وعانقهُ جَهرا
وَكَم قامَ في وسطِ المجامعِ خاطبــــــــــــــــــــــــاً وَقد مَزج الإيمانَ بالخلطِ والكفرا
إنه قبيح الأفعال، متقلب الأطوار، يلقي الدروس في الكنائس والمساجد، ويعانق القسس، ولو أن الذي فعل ذلك غير الإمام رشيد رضا لمدحوه بأنه داعية من دعاة الوحدة الوطنية ، ويدافع عن حقوق الأقليات ، ولا يتعصب لدين بل متسامح ، ولكن الشاعر المتصوف يوسف النبهاني، يتهمه بأنه يخلط الإيمان بالكفر، ويدعي أنه شريف النسب مثل شيخه جمال الدين الأفغاني، ولكن هيهات لأن أعماله وأخلاقه لا يدلان على نسبه الطاهر :
لهُ كجمـــــــــالِ الدينِ نسبة كاذبٍ بِها زادَ في طُنبوره نغمةً أخرى
وَقَد سَمِعَت أُذنايَ قول اِبن عمّه مُجيباً بأن لا نِسبة لهمُ تُدرى
وَكيفَ يكونُ اِبن النبيِّ عــــــــــــــــــــــدوَّهُ فَأعظِم به زوراً وأعظم به وزرا
صاحب المنار :
وصارت مجلة ( المنار ) التي تعتبر مفخرة للصحافة الإسلامية في العصر الحديث ( منار السوء )، ويعيب على الإمام رشيد رضا خروجه من لبنان مهاجراً إلى مصر، فيقول :
وَهذا منارُ السوءِ مرآة مجــــــــــــــــــــــــــــدهِ وَقَد أظهرَت في موضعِ الشرفِ الشرّا
أَتى مصرَ مَطروداً وقد خانَ دينهُ وَدولتهُ يا لهــــــــــــــــــــــــــفَ قلبي على مِصرا
أَتاها وَقَـــــــــــــــد مصّ الثَرى في بلادهِ منَ الجـــــــــــــــــــــــــــــــوعِ لا بِرّاً حواهُ ولا بُرّا
تلميذ الإمام محمد عبده :
تتلمذ رشيد رضا على الإمام محمد عبده، وتشبع منه بالعقيدة السلفية، وفتح له مجلة المنار، ونشر فيها مقالاته، وأخباره :
فَآواهُ في أكنافهِ الشيخ عبــــــــــــــــدهُ وَأشبـــــــــــــــــــعهُ خبراً وأشبــــــــــــعه خسرا
وعلّمهُ مِن عــــــــــلمهِ شـــــــــرّ صنعةٍ بِها ربِحَ الدُنيا وقد خسر الأخرى
وَهذا منارُ الســــــــــــــــــــــــوءِ أسّسه له وَلقّنهُ التضليلَ سطراً تلا سطرا
فَدامَ على ما أسّسَ الشيخ ثابتاً وكَم فوقهُ قَد شادَ مِن بدَعٍ قصرا
وَلَم تخلُ منهُ نسخةٌ من ضَلالةٍ عَلى لعنهِ تُغري الوَرى كلَّما تُقرا
رؤية في المنام :
ويقسم الشيخ يوسف النبهاني أنه رأى في المنام رشيد رضا أسود الوجه، قد انقلب ( المنار ) عليه ناراً :
وَواللَّه إنّي في المنـــــــــــــــــــــــــــــامِ رأيتهُ بَدا حبشيَّ اللـــــــــــونِ أَسودَ مُغبرّا
رَأيتُ سَوادَ اللونِ قَد عمّ وجههُ وَعَهدي بهِ مِن قبلُ أبيضَ مُحمرّا
وَأَدركتُ في رُؤياي أنّ منــــــــــــــــــــــــــــــــارهُ عليهِ غَـــــــــدا ناراً ونالَ به الخُسرا
فَذاكَ الّذي من أجلهِ اِسودّ وجههُ فَأصبحَ فَحماً كانَ مِن قبله جمرا
غَدا ناشِراً فيهِ ضلالات شيخهِ كَما نَشَر الزرّاعُ في أرضهِ البَعرا
وَلفّقه من كلِّ بدعة مارقٍ منَ الدين لا يَدري الصوابَ ولا يُدرى
وَكَم ضلَّ رَأياً مِن سَقامةِ فهمهِ بِأمرٍ صحيحٍ مِن شَريعتنا الغرّا
فمجلة المنار التي صارت مدرسة في الإصلاح ، يقول عنها النبهاني بأنها صارت ناراً سوداء شوهت وجه رشيد رضا في الدنيا والآخرة لما حوته من بدع ومنكرات .
جاهل متكبر :
وصف أمير البيان شكيب أرسلان رشيد رضا بحجة الإسلام، وهذا اللقب لم يصل إليه في تاريخ الإسلام إلا الإمام الغزالي، ورشيد رضا، أما الشيخ يوسف فيصوره جاهلاُ متكبراً لا يفقه شيئاً، وللناس فيما يعشقون مذاهب :
وَلَو سألَ الأشياخَ أدرك سـرّه وَلكنّه مــع جهلهِ قَد حَوى كِبرا
وَمِنه حديثُ الشمسِ بعدَ غُروبها فَتسجدُ تحتَ العرشِ تَستأذنُ السيرا
بِآخرِ شهرِ الصومِ من عام سبعةٍ وَعشرينَ قــد أَبدى المنارُ له ذِكرا
رَواهُ الإمامانِ البخاري ومسلمٌ فَصِحّتهُ كالشمسِ قَد طَلَعت ظُهرا
وَما شكَّ في صدقِ الحديثِ وإنّما رَأى خبَر المُختارِ مـا طابقَ الخُبرا
وَصــَرّح فيهِ أنّه غير واقـعٍ وَأنّ رَســولَ اللَّه لم يعرفِ الأمرا
فَهل بعدَ ذا التكذيبِ يحتاجُ كفرهُ لإثباتهِ بينَ الوَرى حجّةً أخــرى
وهنا لابد لنا من وقفة عند هذا ( التكفير )، وثقافة اللعن والكراهية، فإذا افترضنا أن رشيد رضا أنكر سجود الشمس عند المساء، وأنها تستأذن ربها في سيرها، وهب ْ أنه أنكر حديثاً صحيحاً في البخاري ومسلم، ولكنه ليس في أصول العقيدة، وليس قطعي الدلالة والثبوت، فلو أنكر (رشيد رضا ) مثل هذا الحديث يكون مخطئاً، وليس كافراً :
وَفي جزءِ شَعبانٍ من العامِ نفسهِ بِبيروت للإسلامِ قد جوّزَ الكفرا
أَباحَ لهُـم أَن يعبدوا بكنيسـةٍ عِبادةَ أَهليها بمــدرسةٍ كبرى
وَقلّدهُ مَــن لَم يُبـــــــــــالوا بدينهم لِكَيما يقولَ الناسُ إنّ لهم عذرا
وَلا عذرَ للأبناءِ عندَ بُلوغهم وَآبائِهم مـع شيخهم كَفروا طرّا
وَمَن قلّدَ الشيطانَ في أمر دينهِ يَنالُ بهِ مِن دينهِ الخزيَ والخُسرا
فَتاويهِ في الأحكامِ طوعُ اِختيارهِ تَصــــــــــــــرّفَ كالملّاكِ في دينهِ حـرّا
فَيحظرُ شَيئاً كان بالأمسِ واجباً وَيوجبُ شَيئاً كانَ في أمسهِ حظرا
فَتــحريمهُ تَحـــــــــــــــــــــــــــــــــليله باِشتهائهِ بأَهـــــــــــــــــــوائه أحـكامُهُ دائماً تطرا
لقد أباح رشيد رضا للمسلمين أن يصلوا في الكنيسة ؛ لأنها أرض طاهرة، وراح طلابه يقلدونه على جهله وضلاله، وإن فتاوى الشيخ خاضعة لهواه ومزاجه ، فهو يحرم الأمر حيناً، ثم يستحله حيناً آخر، وأما مذهبه فهو يقوم على العناد والجهل والجدال :
وَمــــــذهبهُ لا مــــــــــــــــــــــــذهبٌ غير أنّه يُجادلُ عَن أهوائِه الشهرَ والدَهرا
يُجادلُ أهلَ العـــــــــــــــــــلمِ بالجهل مملياً عَلى فكرهِ إبليسهُ كلّ ما أجرى
وَيَبقى على ما قَد جَرى من كلامهِ مُصرّاً ولَو أَجرى بألفاظهِ كُفرا
فَهَل بعدَ هذا الزيغِ يعتبُ مُسلمٌ إِذا خاضَ مِن أَوصاف تَضليلهِ بَحرا
ويحرض الشاعر يوسف النبهاني المسلمين في مصر لكي يقمعوا الإمام رشيد رضا، ويخرسوا صوته، ويعجب من صبرهم على فجوره وضلاله، فيقول :
فَيا أمّةَ الهادي لَقد طـــــــــــــــالَ صَبركم عَلى فاجر بالدينِ والمُصطفى أزرى
وَيا أهلَ مصرٍ كيف صــــــــــــــــــــارَ عدوّهُ يُكذّبهُ مــــــــــــــــــــــــــا بينَ أظهركم جهرا
وَعَهدي بكُم لِلدين أُسداً فما الّذي لَكُم قَـــــــــد جَرى حتّى تهيّبتمُ الهرّا
أهل الشام يطردون رشيد رضا من مساجدهم :
ويرجو النبهاني من أهل مصر أن يطردوا رشيد رضا من مساجدهم، وأن يغاروا على الدين، ويفعلوا به كما فعل أهل طرابلس والشام، حيث تصدى له بعض المسلمين، وأهانوه في المسجد، وضربوه، ثم أخرجوه مهاناً مدحوراً :
ألا غَيرةٌ كالشامِ أَشـكرُكم بها فَلَستُ أؤدّي ما حييتُ لَها شُكرا
أَتاها وقَد عـمّ الورى نارُ فتنةٍ عَلى ملّةِ الإســــــــــــــلامِ قَد زَفَرت زَفرا
وَأعظِم بِها ناراً بِها قَد تقطّعت سَلاسِلهُ مِن بعـــــــــــــــــــــــدِ تَقييدهِ دَهرا
طَرابلُسٌ مِن غَيظها بسَـمت له كَما أظهرَ الضِرغامُ من غيظهِ البشرا
وَقَد بَرقت كالسيفِ أرجاؤُها له فَجاءتهُ بعــــــــــــــدَ البرقِ صاعقةٌ كُبرى
وَساقَ لهُ الفاروقُ مِن نسلِ بنتهِ مُقــــــــــــــــــــــــــــــــدّمَ قَومٍ كادَ يُسكنهُ القَبرا
عَلى رأسهِ اِنصبّت عَصاهُ كأنّها قَناةٌ لهُ شقَّــــــــــــــــــــــــــت وأَجرت بهِ نَهرا
عَليهِ سَطا كالليثِ شتّت جمعهُ ففـــــــــــــــــــرّوا جَميعاً عنهُ إِذ سَمِعوا الزَأرا
وَأدماهُ منهُ فتكةٌ عُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمريّةٌ أَراد بِهـــــــــــــــــــــــــــــــــا ذاكَ الهزبرُ لهُ زَجرا
أَرادَ بِها إرغامهُ لا حمــامهُ كَما أرغمَ الليثُ الغضنفرُ سِنّورا
أَرادَ بها إيقاظهُ مــن سباتهِ وَكانَ بِخمرِ العُجبِ مُمتلكاً سكرا
أَرادَ بِها تَحذيرهُ مــن ضلالهِ فَكانَت لهُ مِن عُظمِ شِقوتهِ إِغرا
وفي دمشق لقي نفس المصير حيث أوذي من قبل بعض المتعصبين، وأخرج من المسجد، وضرب بالعصي حتى سال دمه :
وَجاءَ دمشقَ الشام مِن بعدُ يَبتغي دِراســة شَــــــــــــــــــــــــــــوكٍ قد توهّمه بُرّا
أَتى المســـــــــــــــــــجِدَ المَعمورَ ينشرُ فرثهُ وَقَد طبّقَ الأرجاءَ مِن أرضِهِ جَأرا
فَلمّا عَلا في السامِعينَ جـــــــــــــــــــؤارهُ وَشاهدَ أُسدَ الدين هاجَت بهِ فرّا
وَكانَ بِها مِن تونس الغربِ صالحٌ شَــــــــــــــــــــــــــريفٌ فلمّا فاهَ أَلقمهُ فِهرا
مَحا ظلماتِ الغيِّ نــــــــــــــــــــــــــــــور بيانهِ وَأَخمـــــــــــــدَ مِن نيرانِ إِلحادهِ الجمرا
رَماهُ بِسهمٍ من كنانة عـــــــــــــــــــــــــــــــــلــمهِ فَخـــــــــــارَ وَمِن أَعلى منصّته خرّا
وَأولاهُ مِن آل الخطيبِ خطيبهم فَتى العلمِ عبدُ القادر الصدمةَ الأخرى
لَهُ سلّ مِن أفكارهِ خير صارمٍ وَقبلَ ظُهورِ الفتكِ ولّى له الظهرا
كَذا فلتَكُن ساداتُنا آل هاشمٍ كَذا فَلتَكُن أبناءُ فاطمةَ الزهرا
أُولئـــكَ أَبنــــــــــــــــــــــــــــــــــاءُ النبيّ وإنّهم لَأولى الوَرى أن ينصروا دينه نصرا
بِهم قَـد تَذكّرنا عـــــــــــــــــــــــليّاً وحمـزةً بِغزوةِ بدرٍ لا عَدِمنا بهم بدرا
وَلَم يحتجِ الشيخانِ في الدرس ناصراً عَلى كثرةِ الأنصارِ للسنّةِ الغرّا
وَمِن بعدِها كَم شهبِ حقٍّ تساقطت عَلى ذلكَ الشيطانِ أَلقَت بهِ البَحرا
جَزى اللَّهُ أهلَ الشامِ خير جزائهِ وَتابَ على مَـن تابعوا ذلكَ العيرا
وفي حمص لقي الصعاب والأهوال، وهدده أهل حماة بالويل والثبور إن هو قدم على مدينتهم:
وَجاءَ إِلى حمصٍ، فخابَ، وأرسلت إِليه حمـــــــــــــــــــاةٌ إِن أتى أرضَها النذرا
فَعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادَ إِلى مثواهُ في قلــمونهِ وَمِن خوفهِ كالضبِّ قَد لزمَ الجُحرا
فَكانَت له في عمرهِ شرّ رحــــــــــــــــــــــلةٍ بِهـــــــــا بينَ تجّارِ الهُــدى ربحَ الخُسرا
العودة إلى مصر :
وبعد جولة حافلة بالأحداث، استطاع خلالها بذر فكرته ونشرها بين ربوع الشام، حيث وقف معه أنصار الإمام جمال الدين القاسمي، والشيخ طاهر الجزائري، وأنصار السلفية، عاد رشيد رضا إلى مصر ليواصل نشاطه الدعوي والصحفي :
وَعادَ إِلى مصرٍ من الشامِ هارِباً يُنفِّضُ عن أعطافهِ الموت والذعرا
وَلَو كانَ ذا عقلٍ لكانَ عقــــــــــــــاله وَلا سيّما مِن بعد أَن شاهد العقرا
وَلكنّهُ لا يَستحي مــــــــــن ضلالةٍ وَمَهما تكُن عـــــــــــــاراً يراها له فخرا
وَينشــــــــــــــــــرُها بينَ الوَرى مُتبجّحاً كَما شمّ من أَرجاسهِ الجعلُ العِطرا
وهو تلميذ محمد عبده الذي سبق أن كال له التهم يوسف النبهاني حيث يواصل الهجاء، فيقول :
وَقَد كانَ في شيخيهِ أعظمُ زاجرٍ لَدى الموتِ لو شاءَ الإلهُ له زجرا
وَمِن نحوِ عامٍ جاءَني فنصحتهُ كَما تنصحُ الثعبانَ أو تنصحُ الفأرا
فَقلتُ له لو كاِبن سينا زَعمتمُ وَعــــــــــــــــــــــــــــــالم فارابٍ وأرفعهم قدرا
لَقُلنا لكم حقّاً وإن كان باطلاً وَلَم نرَ مِــــــــــن هذا على ديننا ضرّا
وَلكنّكم مع تركهِ الحجّ مــــــــــــــــــــــرّةً وَحجّ لِباريزٍ ولنـــــــــــــــــــــــــــــــــــدرةٍ عشرا
وَمَع تركهِ فرضَ الصلاةِ ولم يكن يسرُّ بِذا بَل كانَ يَترُكها جهرا
ويكرر الشاعر اتهام الشيخ بأنه ماسوني، وهذه تهمة كبيرة، ولعل للشيخ عذراً وأنت تلوم ، فأهداف المحفل الماسوني كانت خفية على الناس، وشعارات العدل، والإخاء، والمساواة ، والحرية، ربما ينخدع بها الإنسان، حتى لو عرف الإنسان حقيقة المحفل ، ربما هددوه، فخاف، وبقي معهم مكرهاً :
وَمع كونهِ شيخَ المسون مجاهراً بِذلك لا يُخفي أخــــــــــــــــــــــوّتهم ســـــــــــرّا
وَمع غيرِ هذا من ضلالاتهِ الّتي بِها سارَ مثلَ السهمِ للجهةِ الأخرى
تَقولونَ أُستاذٌ إمــــــــــــــــــــــــــامٌ لديننا فَما أكذبَ الدعوى وما أقبحَ الأمرا
وَنحنُ نراهُ عِندَنا شرّ فاســـــــــــــــــــــــــقٍ فَيقتلُ فِســـــــــــــــقاً بالشـــــــريعةِ أو كفرا
رَضينا بحُكم اللَّه فينــــــــــــــا وفيكم وَحكمِ رسولِ اللَّه والشرعةِ الغرّا
ودعا السيد النبهاني خصومه إلى المباهلة، فقال :
تَعالوا نُباهلكم فنلعن مَن غدا بِنــــــــــــــــا وبكُـــــــــــــــــم أولى بلعنتهِ أحرى
فَيا ربّنا اِلعن شــــــــــــــــــــرّنا وأضـرّنا بِتحكيمهِ في الدينِ مع جهلهِ الفكرا
وَخُصَّ رَشيداً ذا المنار وشيخهُ وَشيخَهما إن شئتَ بالحصصِ الكبرى
ثَلاث أثافٍ تحتَها نــــــــــــــــار فتنةٍ وَمِن فوقــــــــــــــــــها الإلحادُ صارَ لها قدرا
وَقَد دَخلوا حزبَ المسونِ بهمّةٍ بِها حــــــــــــــــــــلّ كلٌّ من محافلهِ الصدرا
وَمَذهبُهم حكمُ الدياناتِ واحدٌ تَساوى بهِ الإسلامُ والمللُ الأخرى
فَلو ثمَّ دينٌ لَم يجوّز دخــــــــــــــــــــولهم وَلكنّه مِـــــــــــــــــــــــــن قبلِ ذلك قد فرّا
مَضى اِثنان للأُخرى بأسوأِ عبرةٍ وَمُقــــــــــــــــــــــــــــــلة إبليسٍ لموتِهما عَبرى
وَثالثهم ما زالَ مع شرِّ عصبةٍ على ملّةِ الإســــــــــــلامِ آفاتُهم تَترى
فَمَن ماتَ منهم ماتَ أقبحَ ميتةٍ فَلا رحـــــــــــمَ الرحمنُ سحنتهُ الغبرا
وَمَن عاشَ مِنهم عاش نحو جهنّمٍ يحثُّ على آثارِ أشيـــــــــــاخهِ السَيرا
فَيا ربِّ أَصلِحهم وإن لم ترد لهم صَلاحاً فلا تنجِح إِلهي لهم أَمرا
ويصورهم النبهاني بأنهم شرارُ الناس، كما يصور إبليس وحزنه على موت الأفغاني ومحمد عبده، ويدعو لهم بالهداية والصلاح، وإلاّ فالويل لهم والهلاك ..
وبعد :
رحم الله الإمام محمد رشيد رضا فقد كان مصلحاً من طراز فريد، جمع بين العلم والفهم، عرف الواقع، وغاص في أسرار الشريعة، فاستخرج الدرر، شخص المرض، وطرح الحلول، وأفتى، وكان في حاجة الناس، فأنشأ الجمعيات الخيرية، وشيد المدارس ، وكتب المقالات الرائعة في التفسير، والحديث والسيرة والفكر والسياسة، وكان شاعراً أديباً فصيح العبارة جزل الأسلوب، وكان مجاهداً بقلمه وفكره، وأنار طريق المجاهدين، وقاوم التغريب، وحارب الخرافة، ودعا إلى التوحيد الخالص، ونبذ الشرك والبدع والخرافات ، وأحيا طريقة السلف، ورد على المتصوفة، وميز بين الغث والثمين، وألف الكتب، ونشر الأبحاث، وحقق، ودقق ، وعلق ، وحرّر المنار، وكان نبيلاً في أخلاقه، مهذباً في ألفاظه، يقول الحق، ولا يخشى أحداً إلا الله ، وخدم دينه بقدر الطاقة، فإن هفا هفوة فالرب غفّار، وإن زلة به القدم فحسبه أن لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة، وأي الناس تصفو مشاربه، وقد حظي بالإجماع من جميع العلماء، فقد مدحه الشيخ مصطفى صبري، وأثنى عليه أمير البيان شكيب أرسلان، ولقبه حجة الإسلام، وكتب عنه الإمام حسن البنا مقالاً يفيض بمشاعر الإعجاب، ونظم فيه الشعراء قصائدهم، ولم نسمع من ينتقده سوى الشيخ يوسف النبهان، وهب أنه قد أخطأ فله أجر لأنه مجتهد، وإن أصاب فله أجران، وحسبه أنه عاش حميداً، ومات سعيداً، ورحل إلى أرحم الراحمين، وسوف يوفيه حسابه ...
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
بقلم
عمر محمد العبسو
عضو رابطة أدباء الشام
7 / 4/ 2016م
مصادر البحث :
1- ديوان شكيب أرسلان .
2- مجلة المنار – المجلد 35 ، الصادر في أوائل ربيع الأول سنة 1355هـ ، وأواخر شهر مايو سنة 1936 م ، إشراف حسن البنا .
3- موسوعة الشعر العربي – قرص حاسوب – إصدار مؤسسة محمد بن راشد بدبي
4- أحمد الشرباصي: رشيد رضا صاحب المنار - إصدارات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة.
5- إبراهيم العدوي - رشيد رضا الإمام المجاهد - المؤسسة المصرية العامة للتأليف - القاهرة - بدون تاريخ.
6- أنور الجندي - أعلام وأصحاب أقلام - دار نهضة مصر للطبع والنشر - القاهرة - بدون تاريخ.
7- وللأمير شكيب أرسلان كتاب في سيرته سماه (السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة - ط) .
8- رشيد رضا : الإصلاح يبدأ بالصحافة والتعليم (في ذكرى وفاته: 23 من جمادى الأولى 1354هـ)- أحمد تمام
9- معجم الشيوخ 1: 91 - 93 .
10- النهضة العلمية - خ. لابن زيدان .
11- إتحاف المطالع – خ لابن سودة.
12- موقع إسلام أون لاين : www.islam-online.net .
13-محمد رشيد رضا : طود وإصلاح ، دعوة وداعية – رسالة ماجستير – تقدم بها الطالب الشيخ خالد بن فوزي آل حمزة ، المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عام 1408ه ، ونجحت بدرجة ممتاز ، وقد أشرف عليها د. عبد العزيز الحميدي عميد كلية أصول الدين في جامعة أم القرى سابقاً، وناقشها د. مصطفى حلمي ، ود. علي جريشة .
وسوم: العدد 671