الشهيدة غَنيَّة حمدو
هل سمعت (بمرج الخوخة) تلك القرية الغائرة في تلافيف الجبال والذاكرة فلا يكاد يعرفها غير أهلها ومن حولهم من سكان المنطقة (الحفة) في جبال اللاذقية.
من تلك القرية المغمورة المجهولة وأمثالها تفجرت ينابيع العقيدة بالبطولة والأبطال. وفي تلك القرية المغمورة المجهولة ولدت (غنية) لأبيها الذي لم يرغب عن قريته، فعاش للشقاء والكدح في سبيل تحصيل لقمة العيش لأولاده..
وتدخل (غنية) مع أبيها مدرسة الأرض، وتحصل على شهادة الكدح، وتنال مكافأة الرضا.
وتعلو صيحة الجهاد تملأ السهل والجبل: فيا خيل الله اركبي، ويلبي شباب ريف اللاذقية النداء، وينطلقون بأسلحتهم وعددهم، يثأرون لشرف الأمة، ويذودون عن حمى العقيدة..
هنا وعلى قمة الجبل امرأة جاوزت السبعين، تسترجع ذكرياتها أحداثاً واقعة حية، تنظر إلى حفيدتها (غنية) تروح إلى الجبل وتغدو وتحمل إلى الأبطال الزاد والخبر، فتبتسم من وراء عينيها الغائرتين، فها هي صبية من جديد، تتحرك بقلبها ونفسها مع حفيدتها، تود لو أسعفتها القوة لتنضم إلى الركب.. ركب الجهاد..
وتحتمي (غنية) ببسمة جدتها من أراجيف المرجفين، وتحذير المحذرين، فتكون بسمة العجوز الغائرة، أقوى في نفسها من كل الدعاوى والأراجيف.. كانت إذا هددها المشفقون أجابت:
لن يصلوا إلي، إنني أريد الشهادة!!
أنت يا ابنة الريف.. من أغراك بهذا؟!
من روى لك حديث الشهادة ومن أين سمعته؟!
وتسترجع (غنية) آيات الله من كتاب الله حفظتها من تلقين جدتها وأبويها:
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).
وتمضي (غنية) بنت الثامنة عشرة، كما مضت من قبلها (أسماء) تحمل على عاتقها الزاد والخبر، راضية بما تعمل، مبتسمة للنتائج كلما لاحت لبالها، وتتبعها عيون المخبرين، ترصد حركاتها..
فتاتان في الثالثة عشرة، وصبية في الثامنة عشرة يتحركن على طريق الجهاد تمضي الفتيات الثلاث في أشرف مهمة تقوم بها امرأة، في عصر الشهداء. وتحاصر الأعين الخائنة الفتيات، وتشعر (غنية) أن ساعة الحصاد، قد اقتربت وأن المجرمين لا بد قادمون، فتنطلق مع صاحبتيها إلى مغارة بعيدة عن القرية.
ويشتد الطلب على (غنية)، وتمر سبعة أيام بلياليها و(غنية) تحرس نفسها ورفيقتيها في مغارة في الجبل ثم لا يلبثن أن يتحولن إلى بيت في مزرعة قريبة.
وفي فجر أحد الأيام، تتوقف عقارب الساعة، لترمق عشرات الرجال المدججين بالسلاح، يحيطون بالبيت. وتصوب عشرات البنادق من زنود الرجال (لتتصدى) لامرأة و (لتصمد) لبندقيتها!!
ويرفع أحدهم صوته مطالباً بالاستسلام. فترد غنية عليه بطلقات صائبة فلا خوف ولا وجل ولا اضطراب. وتحتدم المعركة وتطول. غنية ترمي، وصاحبتاها تملآن المخازن، وتمضي ست ساعات كانت طويلة رهيبة في القلوب المتقطعة.
وتدور سخريات شامتة على أفواه أهالي القرى المجاورة، الذين كانوا يرقبون المعركة مشدوهين لبطولة الفتاة وصمودها، ولعجز الجبناء وخورهم.
وتبتسم (غنية) للشهادة وتطبق أجفانها على الحلم والأمل، حين يخضب عنقها عقد عقيقي حلمت يوماً أن يطوق عنقها في الجنة.
وتهوي اللبؤة، ولا عيب فيها، غير أن صمودها أذل الرجال. يتوقف إطلاق النار، وتستسلم الطفلتان، ويدخل الجنود على جثث أصحابهم مزهوين بالنصر:
فليفخر الجيش العظيم بنصره وبكسرهنه
وينطلق صناديد الأقبية ليبحثوا عن الرجال الذين كانوا يقاتلونهم طوال ست ساعات، فلا يجدون أمامهم سوى جثة فتاة لا حراك فيها.
وتحمر الحدق، ويشتد الغيظ، هل يكفي أن تستشهد (غنية)؟
لا بد من الثأر للشرف والكرامة ولو من الكوخ الذي نشأت فيه (غنية).
ويهرع المدججون بالسلاح لينهبوا كل ما في البيت الريفي الفقير من أثاث ومتاع.
وتمتد يد الأم الثكلى لتخفي في ثوبها الفضفاض منديلاً كان آخر ما طرزته يد (غنية)، ويصرخ بها عتل زنيم:
ماذا سرقت أيتها العجوز؟
فتجيب أم غنية العجوز بسخرية بالغة:
لسنا لصوصاً لنسرق منكم ما أخذتموه منا، هذا منديل طرزته (غنية) أشمه فهو من رائحتها، وترفع المنديل إلى أنفها، وتعبق منه ريح الولد، وريح الشهادة، وريح الجنة.
وتمتد يد الزنيم لانتزاع المنديل، فتتشبث العجوز به:
لن أعطيه لكم ولو وضعتموني إلى جوار (غنية).
فيطرق الزنيم رأسه ذلاً لا خجلاً، وتنسكب على المنديل المطرز من عيني العجوز دمعتان حارتان.
وسوم: العدد 671