الشهيد عبد الوهاب مصطفى (أبو عارف)
أخي عبد الوهاب:
وصلت إليّ رسالتك بعد ثلاثة أيام من اغتيالك، فتأثرت بما جاء في مضمونها، وأما قولك: ليس أمامنا إلا إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر... فقد نلت الشهادة، ورأيتَ مقامك عند ربك، ودفعت قسطاً من ثمن النصر، فعسى أن تلقى ثواب ذلك عند مليك مقتدر. أخوك الذي ينتظر
في الثاني عشر من شباط (فبراير) عام 1981م، اغتيل شهيدنا عبد الوهاب مصطفى، وشاءت الأقدار أن يختم له بالشهادة في الذكرى الحادية والثلاثين لاستشهاد الإمام حسن البنا – طيب الله ثراه – ولطالما كان يحدثنا عن البنا ونهجه، ويجهد أن يكون على دربه.
ولد الشهيد – رحمه الله – عام 1945م في مزرعة قرب قرية "الحسانية" وقضى سنيه الأولى في مدرسة القرية ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة "جسر الشغور" القريبة منها حيث تابع تعليمه الابتدائي في مدرسة "عبد الرحمن الناصر" ثم درس المرحلة الإعدادية في "الإعدادية الرسمية" وانتقل بعد ذلك إلى مدينة "حلب" منتسباً إلى "دار المعلمين" فتخرج فيها سنة 1965م، وعاد ليعمل في ميدان التربية معلماً للرياضة البدنية، لما كان يتمتع به من قابلية وهواية.
كان – رحمه الله – طويل القامة، عريض المنكبين، أسمر اللون واسع العينين، أسودهما.. يمتاز بالشدة والعزيمة في تمسكه بالحق، ومجابهة الخصوم دون مصانعة أو مواربة، يعتبر العمل من أجل توحيد كلمة الدعاة إلى الله من أعظم الأعمال، فكان يقضي الساعات الطوال والأيام المديدة متنقلاً بينهم لتوحيد الصف وجمع الكلمة، فأحبه الجميع، وعرفوا مكانته بينهم..
ومن حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان المنطلق (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) فكيف إذا كان هؤلاء إخوة وأصدقاء وأحبة يسجنون ويقتلون ويشردون.. لا بد من تحمل قسط من البلاء.
فيُلاحق الشهيد، ويُشَّددُ عليه الطلب، ويعلم أن الاستسلام لهؤلاء المجرمين – مهما كانت الوعود – خطأ في كل الأحوال.
ويمضي – رحمه الله – مجاهداً بماله، مجاهداً بنفسه، لم يبخل على دعوته ولم يضن على فكرته، باذلاً كل ما في وسعه من أجلها ولا سيما حينما نادى المنادي ودعا داعي الجهاد، وقرب القرية التي أحبها، وترعرع في بيادرها، وبين أشجار الصنوبر التي عرفها بالأمس نبتات، وعرفته اليوم رجلاً، امتدت يد الغدر الآثمة بدفع من مجرمي الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع الأسدية لتزرع رصاصات جبانة في الجسد الطهور عند مغيب الشمس من يوم الخميس، حيث تسحر مع إخوانه في فجره ولكنه أفطر على موعد آخر عند غروبه.
ويأتي المعزون بعيون دامعة إلى دكان أبيه وللعيون لغة خاصة تشي بما في القلوب فيهز المعزي رأسه، ويرد الأب الثاكل بهزة رأس مماثلة. ألا ما أكثر المترددين على الدكان في هذا الأسبوع، ألا ما أكثر من يحفظون الود! وما أكثر من لا يعدم حيلة في تعزية الأب المفجوع!!
فإن سنحت فرصة لحبيب أو صديق أن يلقي بكلمات التعزية على وجه السرعة قبل أن يراه مخبر أو يشك به فاجر أجابه الأب:
إذاً لماذا خرج عبد الوهاب ولماذا لوحق؟؟ "الموت حق يا ابني والشهادة شرف يا ولدي!"
وتشخص عيناه إلى السماء: اللهم ارض عن عبد الوهاب فإني عنه قد رضيت...
ويغدو الأب الصابر وقد حمل في "جيبه" اللعب الصغيرة وقطع الحلوى، وما إن يطل حتى يتراكض الحفدة الصغار هاتفين: جاء جدي.. جاء جدي.. فهذا يتطاول إلى جيبه، وهذه تمسك بطرف "قنبازه"! وتلك تعانق رجليه.. ولا عليك – يا أبا عبد الوهاب – أن تذرف دمعتين، ولكن بصمت فقد علمتنا – وأنت المؤمن الصلب – أن الرجال لا يبكون ولا عليك أن تعود بذاكرتك إلى سنوات خلت، يوم ودعت وحيدك لأول مرة في حياتك، وقد هم بالذهاب إلى "حلب" ليكمل دراسته، كأنك لا تصدق عينيك، وأنت تقول لأمه: "يشقُّ عليَّ فراقه، وعندي من الرزق ما يكفيه ولكني أريد منه أن يتعلم الاعتماد على نفسه".
وينطلق إلى حلب وتتفتح عيناه على حياة جديدة، ويعود إليك بعد أربع سنين، وتبقى حلب في الذاكرة، ويظل جامع "أبي ذر" وأَحبَّته في القلوب...
ويظل قلب أبي عبد الوهاب يهفو إلى حلب فقد خرجت وحيده من "دار المعلمين" معلماً، ومن جامع "أبي ذر" شهيداً...
وسوم: العدد 675