الشهيدتان شفاء جولاق وخديجة عزت آغا
مثلما تعرض الجيوش الظافرة غنائمها من عتاد عدوها، وأسراها من رجاله، تقول للناس هذا دليل القوة لأنه لا يتم إلا بها، تعرض النفوس اللئيمة والقلوب الخائرة دليل لؤمها وخورها.. تقول للناس: هذا دليل وجودي لأنني لا أقوم إلا به..
في صباح الحادي عشر من شهر كانون الأول من سنة إحدى وثمانين وتسع مئة وألف.. كان الوحل يغطي شوارع مدينة اللاذقية كما يغطي الحقد والجبن قلوب رجال (أسد) فلا تجد لك في الطريق موطئ قدم. ولا يجد أصحاب تلك القلوب فيها نسمة حياة أو حياء..
وعلى الوحل، وحل الطريق، وأمام المؤسسة الكبرى في المدينة لحماية الأمن (مبنى المخابرات!!) مُدِّدتْ امرأتان شهيدتان!! أُريد منهما أن ترفعا المعنويات الخائرة، وتجبرا القلوب الكسيرة من رجال السلطة، وأن تقتلا القوة والأمل والنخوة في قلوب الناس...
تمددت امرأتان، في ثياب النوم، على وحل الطريق، لتكونا شاهداً على قوة النظام وبطشه.. فجاءتا شاهداً على عجزه ولؤمه وخسته..
كان العجز المتلبس بالقوة، المنتفخ بها ينادي: فما رأى أن أفعل هذا وكانت القوة المتحدية – رغم العجز – تنادي: هؤلاء النسوة، فأين الرجال؟!
وكان الرجال – رجال السلطة – مجتمعين حول الجسدين وقلوبهم شتى... كانت قلوب الذئاب تتلمظ، تتباهى بعجز القدرة وخسة الرجولة وذلة العنفوان...
وكانت قلوبٌ من قلوب القليل المستضعف من رجال السلطة تواري في ثناياها حسرة الرجال المحترقة... ليس حزناً على الشهيدتين ولا رثاء للجسدين، وإنما حزناً على ذاتها أن تتدنى وتذل وتخور فتعجز عن نصرة دواعي النخوة التي ورثت بقاياها بحكم الأصل والمنبت والجوار. ثم تتدنى وتذل وتخور فتعجز عن أن تجهر بكلمة تواري بها أجساد بنات الجار والوطن... ثم تتدنى وتذل وتخور فتعجز عن أن تحجم عن المشاركة في هذا العرض الذي يأتي شاهداً على موت الرجولة في الرجال!!.
على الوحل، وحل الطريق، تمددت امرأتان...
وتساءل أهل المدينة: ممن؟
- من آل جولاق..
- امرأتان من آل جولاق على وحل الطريق!!
أجهشت النساء.. أمسك الرجال قلوبهم يعصرونها بأيديهم.. ماذا يفعلون؟ قفزت القلوب إلى الحناجر فقرب الاختناق.. وأحرق الرجولة!! وأعجز الرجولة!! وأذل الرجولة... حدقوا بالجدر، طأطؤوا، تنهدوا.. أواه ما أجمل السلاح...
أغمض الجميع أعينهم، تجاوزوا الشارع، داروا حوله، لن يشمتوا السلطة بالنظر إلى ما تريد، فكان هذا بعض العزاء وما أوهاه من عزاء!!
كانت (شفاء) في الثامنة عشرة من عمرها.. تربت في بيت صون ودين فنشأت على ما ينشأ عليه أمثالها من بنات المسلمين حصاناً رزاناً.. عرفت حق الله في نفسها فصانتها بحشمة الإسلام، وزانتها بأخلاقه حتى غدت قدوة وأسوة للكثيرات من صبايا الحي..
وأدركت حق الله في فكرها، فكانت تتردد على المساجد تحضر الدروس فتفقه دينها، وتتابع أمور الدعوة لتلقنها من بعد لمن حولها من المسلمين والمسلمات.
وعرفت حق الله في أهلها، ونصيب الدعوة في أخيها وعمها وأبيها، فما هالها أن يعتقل أبوها، ولا أن يطارد عمها وأخوها... وإنما تلقت كل ذلك بثبات وصبر.. كانت وهي الصبية التي تستعد للزواج بعد شهر تدرك أن الحياة أكبر وأغلى من ثوب وحلي وحفلة... تدرك أن الحياة جهاد.. وكم يسعدها أن يسارع بنو أبيها إلى الجهاد، وأن تقوم بقسطها فيه، لقد وفرت وقتها على إخوتها وأبناء عمها، بعد أن غاب عنهم آباؤهم فكانت تأخذهم بآداب الإسلام، تلقنهم التعاليم، وتبسط لهم المفاهيم، وتعز في قلوبهم العقيدة...
كانت (شفاء) رحمها الله تدرك كل أولئك المعاني التي عجز عن إدراكها الذين جردوها من حليها، فظنوا أنهم جردوها من شيء ذي بال، ثم ألقوها على الوحل في الطريق ظانين أنهم قد أهانوها، وما دروا أن الدر لا يحقره الصدف، وأن الوحل الذي مرغوا به جسدها الطاهر هو طِيب العرس، ومسك الشهادة..
أما خديجة عزت آغا
فقد كانت لشفاء زوجة أخ.. فكانت لها كالتوأم من التوأم في أخلاق الإسلام والحرص عليه والتفهم له..
تربت في بيت أبيها عزت آغا المدرس في الثانوية الصناعية، فتربت على العفاف والصون والفضيلة.. ثم انتقلت إلى بيت زوجها لتصبح أماً وهي في العشرين من عمرها...
واعتقل أبوها وحموها، وطورد زوجها، فحدبت على صغيرها الذي لم يبلغ عامه الأول تبث فيه أصالة الأحرار ونبل الرجولة...
كانت خديجة وشفاء تعرفان كل شيء عن المعركة والجهاد، والذئاب.. ويوم تقحم الغادرون عليهم البيت وقفتا في وجوههم دون العتبات تصدان عن الحمى، وتصاولان عن الصون، وتصرخان في وجوه الأوغاد: أن اخرجوا يا أوغاد... ويفتح الأوغاد النار، وتسقط الشهيدتان تطهران عتبات الحمى بالدم، دم الأمومة الطهور..
وتُفتح على الأوغاد حمم ولظى.. فيتساقطون جميعاً كأنهم ما كانوا.. وتتدافع قوى الطغيان إلى البيت وتمعن في التخريب والبحث والتنقيب.. حرقوا.. حطموا.. نقبوا ولكن البيت خال إلا من الشهيدتين ورضيع عمره عشرة أشهر كانت نظراته تنكفئ عن جسد أمه المضرج بالدماء لتلذع وجوه الأشقياء بسياط من نار...
وحملت الشهيدتان والرضيع...
وعلى وحل الطريق وفي ثياب النوم ألقيت الشهيدتان.. بينما اقتيد الطفل الرضيع إلى قبو الجلادين للعذاب.. للاستجواب!!
رحم الله الشهيدتين وأسكنهما فسيح الجنان.
وسوم: العدد 675