الشهيد محمد هيثم شماع
عالم الشهادة رحب جميل، لا يتفيأ ظلاله إلا المؤمنون الألى انبجست في قلوبهم معاني حياة قدسية، يجوب رحابها شهداء من مختلف الأزمنة والأمكنة عبر تاريخ الأمة الإسلامية.
إنهم يدخلون ذلك العالم الفسيح، كل بطريقته الخاصة، فهذا يقتحم المصاعد والشدائد بجرأة وشجاعة نادرتين، وذاك يدافع عن عرض أو شرف، فتصيبه ضربة، فيقضي بها شهيداً، وذلك يرفع ظلماً عن ضعفاء أو مساكين، فتناله يد الظالم، ليذهب إلى ربه شهيداً، يثيبه على معروفه، وآخر يؤثر أخاه على نفسه، ويحقق بذلك المعاني الجمة العظيمة والدلالات الرائعة، من إشراقة في النفس، ويقظة في عالم الضمير، ووعي كامل لمعاني الإسلام، ومآثر الأخوة فيكرمه الله – عز وجل- بالشهادة.
وشهيدنا الأخ محمد هيثم شماع من هذا الطراز الرفيع من البشر. إنه يفهم الإسلام عزة وصلابة، وجندية في سبيل الله، يلتزم بالإيمان الذي يحدثه مع كل نبضة من نبضات فؤاده: "إنما المؤمنون إخوة"، وهو يتصور أنه لو نزل بلاء بي أو بأخي المسلم، فالأمر سيان، عملاً بقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" وقوله – عليه السلام- في وصف الصف المؤمن: "يَدٌ على مَنْ سواهم". وعزوفاً عن الدنيا، وطمعاً في الحياة المثلى امتدت يد (هيثم) إلى عنصر المخابرات الذي كان يقارع الأخ الشهيد (عصام مواصلي) وحسم الموقف، فنجا عصام و....
* * *
في محلة (الأنصاري) بينما كانا يسيران جنباً إلى جنب وقفت سيارة المخابرات خلفهما، وترجل عناصرها، وتوزعوا في أرجاء الشارع. كانوا يريدون إلقاء القبض على عصام، وتقدم أحدهم، وجذب عصاماً من أكتافه إلى الخلف يبغي إلقاءه أرضاً، وقفز عصام قفزة مفاجئة في الهواء، واستدار صوب خصمه، وتعاركا بعنف، حتى بدا أن كلاً منهما مدرب على مبادرات الآخر. تأهب هيثم ليحسم الموقف، وتسمر الناس في كل مكان، ومن جملتهم عناصر المخابرات المنتشرون، وتوقف سير العربات.
نظر هيثم إلى رجل المخابرات، وهو يشهر مسدسه ليطلق عيارات نارية على عصام أخيه في الإسلام – أيموت عصام، وأبقى أنا حياً، لا بل سأموت أنا، ويحيا أخي. ولم تمض هنيهة حتى دوى في المكان وقع جثة. لقد استقرت الطلقة في رأسه، وسقط عدو الإسلام على الأرض يلهث، وانقطع الأنين.
أسرع هيثم صوب عصام ينفض عنه غباراً ألم به، وشغل بتفقد أخيه ويهنئه على نجاته وإذا أوغاد المخابرات يغتنمون الفرصة، فيختبئ أحدهم خلف (صندوق القمامة)، ويوجه مدفعه الرشاش تجاههما، ويفتح النار بكثافة بالغة، فيصاب هيثم بعدد من الطلقات، ويكاد يسقط، لكن عصاماً يتداركه، ويحتضنه بين ذراعيه، ويتلوى هيثم، ويطلب التمدد على الأرض، ينهض عصام كالصاعقة المتوهجة، ويبدأ بمقاومة أذناب السلطة الباغية، ويطاردهم في المنطقة، فيولون الأدبار، وينقلب إلى أخيه الجريح هيثم.
- هيثم، هيثم، كيف أنت يا أخي؟
فيجيبه هيثم: لا عليك يا أخي انج بنفسك.
- لا يا هيثم، لن أتركك، وسآخذك معي.
وبرفق بالغ يحمل عصام أخاه على كتفه، وينطلق به من شارع إلى آخر، وهيثم بين الصحوة والإغماء يرجوه:
أخي، لا تتعب نفسك، اتركني هنا، هيا أنزلني، ولتذهب إلى إخواننا قبل أن يلحق بنا العملاء. اذهب إلى إخواني، أحبابي، قل لهم: إن هيثم يخطو الآن خطوة في الطريق الذي يوصله إلى ربه. قل لهم: إن هيثم يقرئكم السلام، وإذا لقيت أبي، فقبله عني وأقرئه السلام مني. أتعرف أبي؟ إنه محمد نجيب. وكذلك لا تنس أمي وإخوتي.
وتعلو البسمات فوق الوجه الطاهر المؤمن، ويشع نور جديد من محياه، ويسمع في المكان رفرفة تحط ثم ما تلبث أن ترتفع، ويغيب عصام في حلم طيب، لكنه لا يتمالك نفسه، فتغرقه الدموع وينتظر استكمال وصية هيثم، لكن صوت هيثم يغيب في عالم بعيد، ويظنه عصام أنه قد أسلم روحه إلى بارئها، فيسند رأسه إلى صدره، وينكب عليه، فتسقط دمعة من عينيه على وجه هيثم، فيرتعش رعشة خفيفة: يا الله، إنه حي.
وهنا ينهال الرصاص من كل حدب وصوب، ويملأ ضجيج المخابرات والإسعاف والنجدة الفضاء، فينسل عصام، ونفسه تزخر بالمشاهد، وهو يقول: كان هيثم بمنأى عن أن يقع في الخطر الذي حاق بي، لكنه آثر أن لا يفر، آثرني على نفسه، فرجع حتى أريق دمه، رغبة بما عند رب العزة الذي يقول لملائكته: "انظروا إلى عبدي، رجع رغبة فيما عندي، وشفقاً مما عندي، حتى أريق دمه. أشهدكم أني قد غفرت له)
هذا هو هيثم الأشم، المجاهد المصابر، الذي وهب حياته، كل حياته للدعوة عندما انتسب إلى جماعة (الإخوان المسلمين) على يد الشهيد حسني عابو عام 1976م، وضمه حسني إلى مجموعة الشهيد زهير زقلوطة، ولطبيعة دراسته في كلية (الطب البيطري) سنة ثالثة بحماة.. عمل بمهمات كثيرة، وكان مثال النشاط والحركة.
وفي سنته الرابعة والعشرين ودعنا (هيثم).
ودعنا بعد أن جاهد في الله حق الجهاد.
ودعنا بعد أن جرح جراحاً ثخينة، وذاق مرارة السجن، وقساوة التعذيب الوحشي، وانتزاع الاعترافات بالقوة وبالإهانة والتعذيب المتوحش.
وغدا باسم الثغر إلى جوار ربه، فكان من القوم الذين قال فيهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : "والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل".
وسوم: العدد 678