الشهيد محمود ودعة (أبو عبده)

قضى محمود نحبه!

بكاه المسلمون، وتهدج صوت المفتي الشيخ "حمدي" خطيب جامع "بلغراد" وهو يتحدث عن "الموت والشهادة" وعن الغرباء الذين يقضون بعيداً عن ديارهم ولكنهم ينزلون في قلوب إخوانهم المسلمين حيثما حلوا أو ارتحلوا.

وخرجت جريدة "إكسبريس" في اليوم الثاني لاستشهاده – الجمعة 2/10/1981 بمقال يخضبه الأسى، ويصف الجريمة بأنها "الحادث الشنيع".

امتزج الحزن بالخشوع وخيم جلال الموت على النفوس، وغصت الحلوق بكلمات الحزن، فكانت مزيجاً من العربية واليوغسلافية.

مضى محمود.

لن يسمع مسلمو "بلغراد" بعد اليوم صوته الندي وهو يرتل القرآن، ويمدح النبي – صلى الله عليه وسلم – ويدعو إلى الصلاة، لقد ذوت ريحانةٌ كانت تعبق بأريج الإسلام فيجد منها مسلمو يوغسلافيا ريح مكة، وذكرى النبي.

هم بلهاء الذين يعتبرون الموت نهاية، وهم تعساء أولئك الذين يظنون رصاصة ذليلة تنهي وجود حقيقة!!

فمحمود سافر، ولم ينته، وسافر قبله كثيرون من أبناء سورية الجريحة، وهم في ديار الغربة، وكثيرون على أهبة السفر، ولئن أصبح الموت سفراً إن البقاء انتظار!! فمن هو هذا المسافر الجديد: محمود عبد القادر ودعة؟

ولد في "حماة" عام 1950، وفيها نشأ وترعرع، يتنسم من عبير دعاتها، ويستروح في حنايا مساجدها، فيدخل صفوف الجماعة الإسلامية في سن يكون فيها أمثاله رواداً لدور السينما وملتقى اللهو والعبث، ويعبر بحر مراهقته، ويجاوز أمواجها على الأيدي الحانية ليصل إلى بر الأمان، وهو طالب في الصف التاسع، والذي ما جاوز الخامسة عشرة.

ويتابع الشهيد دراسته في الثانوية الصناعية "بحماة" ويرى إخوانه أن يعمق اختصاصه، فيذهب إلى يوغسلافيا لدراسة الهندسة الميكانيكية في عام 1973.

وقد استطاع رحمه الله أن يجمع بين الدراسة والدعوة والتجارة.. يبيع الأجهزة الكهربائية، والساعات اليدوية متأسياً بإمامه الشهيد "حسن البنا" قولاً وفعلاً، ويجمع بين دراسته في كلية الميكانيك وبين الدراسة في المعهد المتوسط للميكانيك.

هذا الطالب التاجر الداعية، كان له في سيرة أجداده العظماء أسوة حسنة، فلقد طلب العلم كما طلبوه، ولو كان في أقاصي المعمورة، ودعا إلى الله على بصيرة حتى أتاه اليقين، واتخذ من بيع الساعات تجارة يكفي بها نفسه، وكفانا فخراً به – ونحن إخوانه الذين يعرفون صدق إيمانه – أن تصفه الجهات الرسمية اليوغسلافية "بالاستقامة والنزاهة فلم تؤثر عنه مخالفات شخصية، ولا رسمية".

فهنيئاً للإسلام الذي يُعرِّفُ رجاله به.

في الأول من الشهر العاشر 1981، أفاق محمود على ذكر ربه ليؤدي صلاة الفجر، ثم يسعى إلى الجامعة في السابعة والنصف باتجاه كليته لأداء امتحان الرياضيات، وفي الثانية عشرة والربع غادرها قاصداً كلية الحقوق، كان الجو ممطراً منذ الصباح، والشارع الفرعي الذي يربط بين الكليتين شبه خال، وكانت عيون المجرمين تراقب تحركاته، فتبعه واحد منهم يستتر بمظلة سوداء كقلبه، مشى خلفه، فلم يُعِرْهُ محمود أي انتباه، فمنذ سنوات وهو يعبر هذا الشارع. أدركه المجرم قبل المنعطف، أفرغ رصاصة جبانة من مسدس /9/ قبل المنعطف، وعلى بعد 10 سم من رأس الشهيد، ورصاصة الجبناء تأتي دائماً من الخلف!

سقط محمود يلون دمه ثرى يوغسلافيا بأرجوان الإسلام، ويعطر أنسامها المبللة بالمطر بعبق مدينة حماة المجاهدة، وانكفأ المجرم من حيث أتى تاركاً مظلته، واختفى عن الأنظار، حيث يقع منزلان قريبان لاثنين من موظفي سفارة النظام الطائفي المجرم، وتسللت اليد الآثمة الملطخة بدماء الأبرياء العزل لتختبئ في قفاز التمثيل الدبلوماسي، وهي ذاتها التي أراقت دم طالب فلسطيني، وطالب عراقي!! ومن قبل أراقت دم ثلاثة من طلاب فلسطين، وكأنها لم تكتف بما أراقت في "تل الزعتر" وتدمر وحلب وحماة، فامتدت أيدي السفارات السورية الآثمة إلى قتل عدد من معارضي النظام المجرم في العديد من الدول، مثل اغتيال الضابط المنشق عن النظام، الشهيد عبد الوهاب البكري في الأردن، والسيدة بنان الطنطاوي في ألمانيا، ومؤسس حزب البعث الذين يحكمون سورية الباسلة باسمه: صلاح البيطار في باريس، والزعيم اللبناني كمال جنبلاط، وسواهم كثير..

وتحرك رجال الأمن اليوغسلافي ليبحثوا عن الجناة ظناً منهم أن المجرمين أفراد أو مجموعة، فقد هالهم ما وقع على أرضهم، وأذهلهم أن تتحول السفارات إلى أوكار للجريمة!! فكيف بهم إذا علموا أن القتلة سخروا دولة وأجهزة داخل القطر السوري وخارجه للقتل الفردي والجماعي. نساءً ورجالاً دون تمييز.

انتهى انتظار محمود، فقضى نحبه.

وانتهى الشيخ "حمدي" من خطبة الجمعة، وقد بللت دموعه أعواد المنبر.

وخرج المصلون في الموكب الحزين.

وكان يوم حزن للإسلام الغريب في البلد الغريب..

فطوبى للغرباء، وطوبى للشهداء، وطوبى للذين سافروا بعد أن كانوا ينتظرون!!

"وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون".

وسوم: العدد 684