الشهيد محمد أمجد سراقبي "أبو ظافر"

أن تُعرفَ مدينة ما برجل عظيم فكثيرة هي تلك المدن، أما أن تعرف برجال عديدين زادوا على العشرات والمئات، فتلك مدينة لا تقاس بها غيرها.

فشهيدنا "أمجد" هو من مدينة الشيخ الجليل "محمد الحامد" أو من مدينة المجاهد الشهيد "مروان حديد" أو من مدينة الشهاب الثاقب "عبد الستار الزعيم" أو من مدينة البطل المقدام "هشام جنباز" أو من مدينة الدكتور "حسن مخلوف" أو من مدينة الفارس "فيصل غنامة" أو من مدينة الدكتور "مصفى الأعوج" أو من مدينة الشاب المرعب "بسام أرناؤوط" أو من مدينة الشاب الجريء "مهدي علواني" أو من مدينة العالم المجاهد المنظّر "سعيد حوى" أو إلى أيهم نسبتها عرفت المدينة.. إنه من مدينة أبي الفداء وعرين الشهداء: حماة.

ولد فيها عام 1961، وتجرع مرارة اليتم ولما يتجاوز الأربعين يوماً، وبين ربوعها وفي أفياء مساجدها ترعرع، وفي الظلال الحانية لعلمائها وشبابها الإسلامي نشأ.

هو تلميذ الصف الأول الثانوي الذي يخترع جهازاً للتشويش، ويبتكر جهازاً يلتقط المكالمات اللاسلكية بين أجهزة القمع، إن أبصرته أبصرت فتى ذا دأب رفيع وبيان واضح، أعانه على ذلك حفظ كتاب الله.

تشعر وأنت تتفرس في وجهه أنك أمام رجل – لم تستطع ابتسامته  الطفولية البريئة أن تخفي ملامح قيادة مبكرة، وفكر ثاقب.

إن نظرت إليه رأيت فتى ما تجاوز العشرين، وهل كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا فتياناً وشباباً؟ وهل كان كثير من قادة الفتح إلا رجالاً ناهضين وهم في ريعان الشباب؟

هذا الفتى ذو الوجه الأبيض، والمظهر الهادئ، والخُطا الرتيبة، والقامة المعتدلة إن أردت أن تحدد شخصيته وجدت فيها التوازن – وكذلك المسلم – بلا ضعف، وكبرياء بلا غرور، وقوة بلا طيش.. لسان بليغ، وقول فصيح، وأدب عال رفيع، وعقل مفكر، وذهن وقاد، وثقافة ألمت باحتياجات العصر، وجسم قوي يدرب على أنواع الرياضات النافعة، وجنان امتلأ بالإيمان وذاق حلاوته، ونبوغ قل نظيره بين أقرانه، فهو الأول على محافظة "حماة" في الثانوية العامة والثالث على سورية.

ذو طموح يرتفع بصاحبه ليدفع به – وهو الشغوف باكتشاف المجهول، والاستفسار عن كل ما حوله – إلى مزيد من المعرفة النافعة.

لقد خولته الدرجات العالية التي حصل عليها الدخول في أرفع الفروع العلمية في الجامعة – وهو يعرف كيف يختار – فتقدم "لمعهد الأبحاث التكنولوجية في دمشق" وتوقع أن يكون من أوائل المقبولين، ولكنه فوجئ كما فوجئ الآخرون برفض الطلب لأنه غير منتم لحزب السلطة الحاكم، غير أنه اجتاز كل العقبات بعزيمة الواثق وبصيرة المؤمن، ودخل فرع الهندسة الكهربائية، ففيه إشباع لميوله ونفع لأمته.

ويبقى التوازن سمة في حياة الفتى: توازن بين الهواية والدراسة، وبين العبادة والرياضة، وبين الدعوة وتأدية الواجبات، وثقافة من المسموع والمقروء يحصلها ما بين جامع السلطان وكتب الإخوان.

لو أردت أن تقيس عمله إلى كلامه لوجدتهما في كفتين متعادلتين، يزينهما إخلاص لدعوته، وفهم واضح لفكرته، فكان جديراً بأن يكون موجهاً ونقيباً لأسرة يتتلمذ على يديه أشبال التحق بعضهم بالمجاهدين في سن مبكرة ... ولم يكن "أمجد" يكبرهم إلا بعامين اثنين.

وفي آذار "مارس" وفي محنة التمشيط التي أرادها الطاغية إرهاباً للشعب، وترويعاً للآمنين. اعتقل أمجد مع من اعتقل وما أكثر الأسباب التي يختلقها المجرمون للاعتقال: تشابه في اللقب، أو لحية خفيفة تزين وجه شاب مسلم، أو قامة مديدة وزنود مفتولة، أو وجه يترقرق فيه ماء الشباب والإيمان، أو كتاب تفوح من ثناياه دعوة الحق، وتنديد بالباطل، أو تفسير أنيق وضعه صاحبه على رف من رفوف مكتبته.

ويبقى "أمجد" يومين كاملين تحت سياط التعذيب:

أين هشام جنباز؟ وما علاقتك به؟ متى زرته آخر مرة؟..

وينكر أمجد أن يكون على معرفة بعرين هشام.

ويفرج المجرمون عنه، ثم بدا لهم أن المجاهدين كما قال أبو تمام:

ولا تسل كم جندل من عناصر البغي، فعند مسؤول المخابرات العسكرية بحمص الخبر اليقين.

ولا تسل كيف استشهد أمجد وإخوانه الأربعة فعند ملائكة البشارة نبأ عن الفتية المؤمنين وهي تردد:

"ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم، ولكم فيها ما تدعون، نزلاً من غفورٍ رحيم".