الشاعر الذي أبدع حماة الديار، خليل مردم بك
رجالات سورية
خليل مردم بك الشاعر والأديب والسياسي البارع، الوطني النبيل الذي أعطى سورية ذوب شعره وحياته، فكان للانتماء علامة لا تشبه غيرها، فأعطى وأعطى، ولم يتخلَّ عن خدمة سورية في كل مكان انتدب إليه تدريساً ومجمعية ووزارة، ولكن قمة ما أعطاه لسورية، وخلاصة بقائه حياً بيننا كان الشعر الذي أخلص فيه لسورية الوطن والإنسان والحب، فلم يهجُ، ولم يمدح، بل أحب ووصف، وبكى أحبابه والمخلصين من أبناء أمته، ولسورية كتب الأشعار الخالدة، وبالشام فتن واستقر، فيها ولد عام 1895، وفي أنحاء غوطتها رتع ووصف وأبدع، وبقي على حبه لوطنه وشامه وغوطته حتى رحل عن دنيانا بعد مرض أتعبه لشهور انتهت في الحادي والعشرين من تموز 1959، وذلك بعد أن شهد النضال ضد المحتلين، وغرس العلم في نفوس طلابه، ونهل من قبل العلم من أشياخ الشام وعلمائها، فكان من أساتذته الشيخ بدر الدين الحسني والشيخ المفتي عطاء الله الكسم، والشيخ عبد القادر الإسكندراني.. وكان من أصدقائه شفيق جبري، سليم الجندي، حليم دموس، جورج ريس، ماري عجمي، نجيب الريس، فخري البارودي.
أسس مع أصحابه «الرابطة الأدبية» وعقدوا جلسات علمية أدبية عالية، وأصدر مجلات، ومارس التعليم، وأخلص جلّ حياته لخدمة الشعر وإصدار دواوين الشعراء، ولم يثنه عن هذا الفعل اهتمامه بشعره، فأصدر ديوان ابن حيوس وديوان ابن عنين الدمشقي وديوان ابن الخياط الدمشقي، وديوان علي بن الجهم وغيرها من الدواوين.. عاش في بريطانيا سنوات، وعاش في الإسكندرية والقاهرة، لكن حنينه أبداً كان للشام وغوطتها وحياتها، فلم يغره أي شيء خارج الشام، فعاد ليكتب ويحقق وينشر إلى أن دلف بجثمانه العاشق للشام إلى مقبرة باب الصغير ليستقر هناك بعد رحلة طويلة بما قدمت، قصيرة بسنواتها. وهو من القلة التي جمعت الأدب والسياسة والكياسة، فكان محبوباً من القريبين والبعيدين، وها هو الدكتور العَلم الراحل سامي الدهان يقول عنه: «سرى نعيه في الأقطار العربية، وجزع الصحب، وهلعت قلوب الأحبة، ومشى الحزن في الصدور، فقد طوى الموت بفقده مزايا نادرة وصفات باهرة في الخلق والأدب والانتاج، وانحسر علم في الشام ظل مرفوعاً خفاقاً منذ أهلَّ القرن.. كان يلقى عند المستشرقين إكباراً وإعجاباً وثناء لو جمع في ذكراه لأغنى القائلين في مدحه، فتهافتت عليه المجامع العلمية والمدارس العالية تهدي إليه عضويتها، وتلتمس إليه قبول الانتساب إليها، فانتخبه مجمع اللغة بمصر عضواً سنة 1948، والمجمع العلمي العراقي عضواً سنة 1949، ومدرسة الدراسات الشرقية بلندن عضواً سنة 1951، ودائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين عضواً في تحريرها سنة 1951، ومجمع البحر المتوسط في باليرمو عضواً سنة 1952، والمجمع العلمي السوفياتي عضواً سنة 1958... كان في حركاته مثالاً للرجل الرصين الرزين الوقور، على مر السنين: فتى يافعاً، وأديباً ناشئاً، ومدرساً نافعاً، وعضواً عاملاً، ووزيراً متواضعاً، ورئيساً مخلصاً، تقلب في حياته على الغنى والجاه، وتنقل في المراتب والمناصب، فما أبطرته ولا أسكرته، لأنه فوق ما أعطته، ولأنها دون ما يستحق..». وفيه يقول صديقه الدكتور جميل صليبا: «إذا ذكر خليل مردم بك ذكر معه الصدق، والوفاء، ولطف الأخلاق، والإباء والمروءة، فقد كان رحمه الله زكي النفس، حسن العشرة، صادقاً في قوله وعمله، متودداً محبباً إلى كل من يكلمه... وهو كاسمه خليل وفي، لم يقدم نفسه على غيره في النفع... لا يميل إلى النقد والذم، ولا يلذ له الحديث إلا إذا كان منزهاً عن الإيذاء والنميمة...». أحب خليل مردم الشام وقاسيونها الشامخ وقال له:
على الزعازع والأهوال والباس لو مادت الأرض يبقى الشامخ الراسي
عاري المناكب إلا أن تظلله غمائم فهو معتّم بها كاسي
نأى بأعطافه من تيهه ورسا بأصله وسما بالأنف والراس
ترى النجوم إذا لاحت فرائدها كانت على رأسه تاجاً من الماس
يحكي السماء إذا أنواره لمعت برجاً ببرج ونبراساً بنبراس
قد قارع الدهر لم يخشع لصولته وجهاً لوجه ولم يركن إلى باس
قوافل الدهر صرعى في جوانبه ينبيك عنها بأجداث وأرماس
ولدمشق يشدو مردم بعفوية وبساطة:
أدمشق ما للحسن لا يعدوك حتى خصصت به بغير شريك
الحب برّح بي وأنت بعثته أإليك أشكو الحب أم أشكوك
أو ما عتبت على الزمان وريبه أمس بكل رزية يرميك
فرأيت من سعد الزمان ونحسه عزَّ المليك وذلّةَ المملوك
إني أرى بردى تفيض عيونه بدموعها حزناً على ماضيك
قالوا اترك الذكرى ولو طاوعتهم ما كنت منها قطّ بالمتروك
أنا لست أعنى بالسياسة إنما هي نفثة من ذي جوى منهوك
وفي آخر قصيدة قالها الشاعر قبل وفاته قال:
واهاً لأيام الشباب الغضّ ما كان أهنا العيش لو لم تمض
نعمت في ظلالها زماناً نشوان من سكر الصبا ريانا
تنفست كالرشأ المبهور وارتعشت كرعشة المقرور
وكان سلّ كفها من كفي كخطف كأس الشارب المشتف
وله في يوم ميسلون قصيدة هي من أشهر ما قيل في يوسف العظمة:
أدال الله جلق من عداها وأحسن عن أضاحيها عزاها
عرفنا يوم يوسف مبتداها فهل من مخبر عن منتهاها؟
أيوسف والضحايا اليوم كثر ليهنك كنت أول من بداها
غضبت لأمة منها معدٌ فأرضيت العروبة والإلها
فيا لك راقداً نبهت شعباً وأيقظت النواظر من كراها
ويا لك ميتاً أحييت منا نفوساً لا تقر على أذاها
فدًى لك بل لنعلك كل تاج تصرفه الطغاة على هواها
ومن غزله قوله الموجه إلى لمياء:
أيسرّها أني أموت بدائي من بعد ما علمت مكان دوائي
ما كنت أعلم أن من ذاق الهوى ميت يعدّ بزمرة الأحياء
عجباً لقلبك لا يرق لحالتي فكأنه من صخرة صماء
إن كان ذنبي أنني بك مغرم فعلام حسنك فتنة للرائي
هل تذكرين بسفح دمر ساعة فيها افترشت يدي وفضل ردائي
طارت بقلبي حيث لا أدري فمن لي أن يردّ علي ذاك النائي
وإن كان لشاعر أن يفخر، ففخر خليل مردم بك أن عشقه للشام وسورية الذي أخذ عليه مجامعه، ردته له سورية بأن كانت كلماته نشيد الوطن ما دامت الحياة، ذاك النشيد الذي نظمه في 12 أيلول 1931، وسمّاه «حماة الديار»، فكان النشيد الوطني الرسمي:
حماة الديار عليكم سلام أبت أن تذلّ النفوس الكرام
عرين العروبة بيت حرام وعرش الشموس حمًى لا يضام
ربوع الشآم بروج العلاء تحاكي السماء بعالي السناء
فأرض زهت بالشموس الوضاء سماء لعمرك أو كالسماء
رفيف الأماني وخفق الفؤاد على علم ضمَّ شمل البلاد
أما فيه من كل عين سواد ومن دم كل شهيد مداد
نفوس أباة وماضٍ مجيد وروح الأضاحي رقيب عتيد
فمنا الوليد ومنا الرشيد فلم لا نسود ولم لا نشيد
رحل خليل مردم بك وبقي نشيده يردد على المدى ما دامت الأرض، وما بقي الإنسان، رحل بعد أن قدّم شعره وشامه وكتبه ليكون الحب المثال للأدب والأرض.. وها نحن نردد من جميل شعره:
ذهب الهوى بشغاف قلب الموجع وأراق حبُّ العامرية أدمعي
لا غرو إن ملكت فؤادي خدعة إنّ الكريم متى يخادع يخدع
هي أولٌ إن ما هببت من الكرى وكذاك آخر خاطرٍ إن أهجع
فخيالها في ناظريّ وذكرها بفمي وطيب حديثها في مسمعي
قد ضاع مني القلب يوم نأت فهل من ناشد يوم النوى قلبي معي
وسوم: العدد 688