الشهيد النقيب سعيد جركس
في حرب رمضان أو في حرب تشرين كما يحلو للأسد الرجيم أن يسميها ظهرت بطولات فذة لعدد من ضباطنا الأشاوس ولو لم تكن تلك الحروب مؤامرة مبيتة لبرزت بطولات أخرى وكتبت بمداد الرجولة العربية المسلمة ولكنها المؤامرة التي كبلت رجال جيشنا ولم تسمح لهم بالانطلاق الحر ليؤدوا واجب الرجولة المسلمة في تصديهم لأعداء أمتنا بني صهيون.
من هذه البطولات الفذة ما قام به النقيب الطيار سعيد جركس الذي نفذ العديد من المهمات القتالية الناجحة وكان من أبرزها ضربه لمصفاة البترول في حيفا مرتين..
نفذ المهمة الأولى بصحبة رائد طيار طائفي ولكن الطيارتين لم تكادا تدخلان الأجواء التي يحتلها الصهاينة حتى انطلق من إحدى القواعد الدفاعية الصهيونية صاروخان استطاع النقيب سعيد التخلص منهما بينما أصاب الآخر طائرة الرائد فأحرقها وقائدها، وضرب النقيب سعيد مصفاة حيفا وأصابها إصابة مباشرة ثم أقلع بسرعة هائلة ونجا من شبكة النيران الدفاعية المحيطة بالمصفاة وعاد إلى المطار العسكري الذي انطلق منه قرب دمشق.. وكان في انتظاره هناك محمد الخولي قائد مخابرات القوى الجوية واللواء ناجي جميل قائد القوى الجوية واستقبله محمد الخولي بالسباب واللعنات وهو يسأل عن الرائد الذي احترق في طائرته بينما أقبل عليه اللواء ناجي جميل معانقاً ومهنئاً وواعداً إياه بأن يكون بطل الجمهورية في حرب تشرين.
وتدخل محمد الخولي بحماقة ليرسل النقيب سعيد جركس في مهمة قتالية أخرى وأبى محمد الخولي إلا أن تكون ضرب مصفاة حيفا مرة ثانية لأنه لم يدمرها في المرة الأولى وحاول ناجي جميل صرف الخولي عن إصراره هذا فرفض الخولي وانصاع قائده ناجي جميل وكلف النقيب سعيد جركس مرة ثانية بضرب مصفاة حيفا.
ابتسم النقيب سعيد وأحس بسعادة غامرة لهذا التكليف وتلا سورة "ياسين" وكتب وصيته وانطلق كالصاروخ في طائرته باتجاه مصفاة حيفا وتمكن من الانقضاض عليها مخترقاً النيران الكثيفة التي وجهت إليه وضربها ضرباً مباشراً ثم أقلع عائداً بأقصى سرعة تستطيعها طائرته ولكن النيران تمكنت هذه المرة من إصابته وجاءته الأوامر بأن يلقي بنفسه من الطائرة ولكن النقيب البطل أبى أن يفرط بالطائرة فتحامل على نفسه، وقادها بمهارة هائلة، وهبط بها في المطار والنار تشتعل في بعض أجزائها.. واستقبله ناجي جميل بدموع الفرح، وهنأه بالسلامة وأكد له أمام زملائه الضباط، بأنه سيكون بطل الجمهورية.. بينما أشاح محمد الخولي عنه بوجهه، وسب اليهود وسب القدر..
وتنتهي الحرب المؤامرة ويوزع أسد الأوسمة والنياشين على فئة معينة من (المقاتلين) الذين لم يدخلوا معركة قط، ولا أطلقوا رصاصة واحدة في تلك الحرب، ولم يكن للنقيب سعيد جركس أي ذكر في تلك الحرب وكأنه لم يقاتل قط، وكأنه لم يضرب مصفاة حيفا مرتين، ولم ينقذ طائرته من الدمار، ولم ينفذ العديد من المهمات القتالية في تلك الحرب المؤامرة.
لقد كانت مخابرات الخولي تعرف أيَّ رجل مسلم شهم سعيد جركس، وأي ضابط فذ، تفوق على أقرانه في سائر الدورات التي اشترك فيها في الوطن وفي البلدان الأجنبية.. كانت تعرف فيه المسلم الغيور على دينه الجريء في الذود عنه المتصدي لكل من ينتقصه، الضابط المقدام لا يهاب طائفياً مهما كانت رتبته.. فمكر الخولي وزبانيته له، ولم يستطع ناجي جميل الذي وعده مرتين أن ينفذ أي وعد له.. ولم يسكت سعيد.. لأنه ما تعود على السكوت، ولا عرف الخنوع قط.. لأن مدرسة الإسلام التي تربى في أحضانها علمته الجرأة في الحق، ولو كان على حساب نفسه التي بين جنبيه.
ويكلف النقيب سعيد بطيران ليلي بعد أربعة أشهر من الحرب المؤامرة، ويحس بأن أجله قد حان، فيتوضأ ويصلي ركعتي الشهادة، ويكتب وصيته ويسلمها لزوجته ويودع زملاءه وهم في ذهول ودهشة لهذا التصرف من سعيد ويلح عليه أحد إخوانه أن يعتذر عن مهمة الطيران الليلي هذه المرة ما دام يحس بهذا الإحساس، ولكن سعيداً يأبى.. يأبى الهرب من قدره.. ويقلع بطائرته فتنفجر الطائرة به بعد إقلاعها بقليل، ويستشهد النقيب سعيد.. ويتظاهر المجرمون الطائفيون بالحزن عليه، ويحملون جثمانه في طائرة هيلوكبتر ويصحبونه ببضع طائرات إلى قريته (الدانا) قرب حلب، حيث مثواه.
لقد ضرب البطل سعيد جركس مثلاً عالياً في البطولة والتضحية والفداء، وكان نموذجاً فذاً لرجالنا الأبطال عبر الزمان.. كما كان أسد والخولي وزمرة الطائفيين الحاقدين، أمثلة حية على الخيانة والخسة واللؤم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وسوم: العدد 690