الشهيد عمر سالم
عندما يتوافر على التاريخ للجهاد في سورية المؤرخون، ستكون بين أيديهم معطيات ونتائج وملاحظات، قد لا تكون واضحة اليوم... غير أن الذي نستطيع أن نجزم به، لما له من دلائل حية وشواهد كثيرة، أن الجميع سيقفون عند ظاهرة طيبة مباركة، هي ذلك العنصر الشبابي المتوثب الذي كان أساس العمل الجهادي وركنه الركين.
لقد سعى النظام بكل قوة، وتضافرت على مساعدته كل العوامل، وقدمت إليه كل التسهيلات.. ليصنع جيلاً بعيداً عن الإيمان، قصياً عن مكارم الأخلاق، واهي الصلة بأمته وتاريخه المجيد.. غير أن النتائج جاءت على غير ما يحب ويشتهي، وعلى غير ما خطط ورتب هو ومن وراءه... لقد نبت في سورية غرس الإيمان الأشم، فامتدت جذوره في باطن الأرض، وتفرعت أغصانه وتشابكت في الهواء، وشمخت إلى السماء... لقد تجدد شباب الإسلام، وتوثبت روح الإيمان، وهانت عند الشباب نفوسها، فداست ملذات الحياة بالأقدام... لقد ملأ الإيمان النفوس والعقول، وشغلت الأفئدة بحب الله والتطلع إلى الاستشهاد، فلا فراغ في العقل لجامعة، ولا هوى في النفس لزوجة، ولا مطمع في دنيا ولا مال... لقد حلقت الأرواح في أعالي السماء، ومدت أكفها لتلقى الأحباب في الجنان.. لقد كان لسان كل شاب يقول: أنا إلى حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل، فهل أظفر منه بشربة ماء لا أظمأ بعدها أبداً.
وشهيدنا عمر سالم رحمه الله تعالى واحد من هؤلاء الشباب ولكن في أمة! ولن تستطيع الكلمات مهما حملت من حرارة ودقة، أن تفي الشهيد عمر حقه، برغم أنه عندما استشهد لم يكن قد تجاوز عامه الحادي والعشرين، وقد كان طالباً في سنته الجامعية الثالثة.
* * *
انتسب عمر إلى الحركة الإسلامية وهو طالب في الصف الثالث الإعدادي، واستطاع خلال المرحلة الثانوية أن يقفز في حقل الدعوة قفزات هائلة، أزعجت بعض أقربائه الذين كانوا يريدونه شاباً مائعاً يلهث وراء لذاذات الحياة ليستفيدوا من ماله وبيته وسيارته فأغروا به أباه، ولكن عمر كان طوداً من الإيمان والكرامة لم يتزحزح، وتعرض عمر لألوان من الابتلاء في بيته ولكنه ظل ذلك الشاب الذي نشأ في طاعة الله، فأحب في الله وكره في الله، وباءت محاولات أولئك بالفشل. وازداد إيمان عمر بصحة طريقه، فاندفع فيه يبذل المال الكثير في سخاء من لا يخشى الفقر حقاً ليبذله لدعوته كما يبذله لإخوانه المعوزين.
وكانت المحنة في نيسان عام تسعة وسبعين، قد شملت بعض أساتذته وموجهيه، وعدداً كبيراً من إخوانه وخلصائه الذين وجدوا في عمر ملاذاً وأمناً وسنداً قوياً.
وكان عمر عند حسن ظن هؤلاء جميعاً، فتحرك بهدوئه العجيب، وقدم المساعدات الكبيرة في حيائه الذي لا أجد له مثيلاً في الأجيال التي عاصرناها، وراح ينقل المجاهدين وذخائرهم وأسلحتهم بسيارته التي كان اشتراها كما اشترى سواها من قبل لهذا الغرض، يقدم لهم المال والكساء والطعام ويبقى جوعان وعريان.
يقول أحد المجاهدين: جاءني الأخ عمر في الليلة التي سبقت استشهاده وطلب مني أن أطعمه لأنه جوعان وكان الإعياء الناجم عن الجوع قد أخذ منه مأخذه وعندما طلبت من زوجتي أن تعد لعمر طعاماً استحيت زوجتي أن تقدم لعمر ما عندنا من طعام الفقراء فاستلفت من جارتها عشر ليرات وطلبت مني أن أذهب لشراء دجاجة مشوية نقدمها له وتسللت من البيت مسرعاً قبل أن يغلق محل الفروج وعندما عدت إلى البيت لم أجد عمر ووجدت ثلاثة آلاف ليرة تركها لي وغادرنا وهو جوعان.
والحق أن كل من يعرف عمر سالم يحدثك عن الكثير من قصص الكرم أما عن دينه عن تقواه عن ورعه عن دعوته زملاءه وأقرباءه وأبناء حيه، فهو كما وصفه كثيرون من أساتذته وإخوانه كمصعب بن عمير.. من سائر الوجوه.. وكفى.
أما كيف انتهى عمر – وهو حي عند ربه بإذن الله- فهي ملحمة من ملاحم المجد والبطولة، وقصة تروى للأبناء والبنات، ففيها العزة، ومنها يتعلم الصبر وبها تسمو النفوس وترتفع إلى أعلى الدرجات...
لقد عرفت عناصر المخابرات أي رجل عمر، فراحت تتعقبه حتى ظفرت به، وأخضعته لتعذيب شنيع كاد يودي بحياته، لولا تدخل بعض أقربائه الذين دفعوا أموالاً طائلة لجلاوزة المخابرات العامة بحلب.. دفعوا لأليف الوزة ولعلي سعد الدين من فرع أمن الدولة ولحسن خلوف ولعدنان رام حمداني من المخابرات العسكرية، فأخلوا سبيله مما أغضب الجلاوزة الصغار الذين عرفوا أمر الرشوة الكبيرة التي قدمت للجلاوزة الكبار، وتابعوا عمر حتى ظفروا به من جديد، وأخضعوه لتعذيب شديد لم يتحمله جسمه النحيف النحيل، ففاضت روحه تحت التعذيب تشكو إلى بارئها ظلم أسد وزبانيته. وجاء الجلاوزة الكبار ليجدوه جثة هامدة، فأسقط في أيديهم، وخافوا من أن يصل أقرباء عمر بأموالهم إلى رفعت أسد، فحملوا جثته إلى مقبرة هنانو بحلب بالقرب من مسجد جده عمر سالم، وأحرقوها هناك وذلك في حزيران عام تسعة وسبعين، يوم كانت حلب تشتعل لتحرق حافظ أسد ونظامه العميل.
وحزن الناس.. حزنت حلب على الشاب التقي النقي عمر سالم، وبكاه كل من عرفه أو لم يعرفه وسمع به، فقد كانت سيرته وأخباره على ألسنة الناس كما كانت على ألسنة المجاهدين.
لقد كان عمر سالم رحمه الله رمزاً من رموز المجاهدين... رمزاً لكل من آوى ونصر وبذل وأعطى.. لقد كان رمزاً للشباب المؤمن المجاهد.
وسوم: العدد 694