الشهيد الدكتور مصطفى عبود
كثيرون هم الرجال الذين تلقاهم في حياتك القصيرة أو المديدة ولكن سريعاً ما يتلاشون من ذاكرتك بمجرد غيابهم عنك في سفر أو قطيعة أو موت أو نتيجة السباحة في تيار الحياة وأمواجها المتلاطمة ولكنهم قلة أولئك الذين ينطبعون في القلب والعقل والنفس، لا يغيبون عنك عندما تبتعد أشباحهم أو يطويهم الردى، ومن هذه القلة القليلة شهيد الرجولة المؤمنة الدكتور مصطفى عبود.
ولد الدكتور مصطفى عبود في بلدة الباب التابعة لحلب عام 1935م، ودرس فيها ثم انتقل إلى إستانبول لدراسة الطب ثم إلى ألمانيا الغربية ليتخصص في الجراحة العامة وكان في سني دراسته كلها من المتفوقين ومن الشبان المؤمنين المرموقين المعروفين بصدقهم وأمانتهم وإخلاصهم وإسلامهم.
وبعد انتهائه من دراسته العليا عاد إلى حلب مثال الأخ الملتزم بإسلامه العامل على خدمة دعوته من خلال خدمة الآخرين من مرضى ومعوزين يقدم لهم في سخاء عجيب، إذ لم تمتد إليه يد أو عين إلا كان سباقاً لسد حاجاتها وكفِّها عن السؤال في صمت لا يعرف إلا أمثاله من الصفوة.
أول ما تعرفت إلى الرجل عام سبعةٍ وسبعين وكنت أتشوق إلى معرفته لحاجة جهازنا الجهادي إلى أمثاله من الأطباء الجراحين جاءني زائراً مع أخ شيخ كان وما يزال له أثره فيمن يلقاه من الطلاب والزملاء وسائر الناس... وبعد ساعة من الزمن أحسست أنني وقعت على ضالتي.. خلوت به في غرفة أخرى وكان اتفاق.
لقد عرضت على الدكتور مصطفى ما عرضته على بعض الإخوة الأطباء فلم يستجيبوا لاعتبارات شتى. قلت له: عاهدني ألا تبوح بما سأعرضه عليك مدى حياتك إلا إذا أعفيتك من هذا العهد ذات يوم.. فعاهدني.
وعرضت عليه العمل معنا في جهازنا الجهادي ضمن اختصاصه إسعافاً ومداواة للإخوة الجرحى الذين يصابون أثناء التدريب فابتسم وهز رأسه موافقاً..
وكان الدكتور مصطفى منذئذٍ أخاً كبيراً وطبيباً للشباب يزورونه إذا ما أصيب واحدٌ منهم، أو إذا غبت عنهم واحتاجوا إلى مال يستعينون به على قضاء حاجات عملهم الجهادي.. وكان رجلاً.. وكان سخياً أسخى ما يكون الرجال.. حتى كانت الاعتقالات في عام تسعةٍ وسبعين وكان تَفجُّرُ الأوضاع في حلب وإذا المجاهدون الجرحى يتوافدون إلى عيادته وبيته وهم يحفظون كلمة السر التي يتعاملون به معه على الرغم من استشهاد الأخ محمود عزيز الذي كان صلة الوصل بيننا وبينه.. وأبو أيمن لا يدري ولا يعرف إلا تصرفاً واضحاً وهو أن يعطي ويعطي..
وعندما خشي من افتضاح أمره شاور أحد إخوانه الأطباء ممن كانوا معه في أسرة واحدة شاوره فيما يفعل ولكن أبا أيمن ما لبث أن استغفر ربه وطلب من أخيه أن يكتم هذا لأنه عاهد أخاه فلاناً ألا يبوح بهذا السر إلا إذا أعفاه منه.. وهو في المعتقل .. وظل يقدم ويقدم حتى اعتقل هو ومن معه في الأسرة وعذبه مدير المخابرات العسكرية العقيد المجرم عدنان رام حمدان، إلى أن قضى تحت التعذيب شهيداً ضارباً أروع الأمثلة في التضحية والجود بأغلى ما يحرص عليه الناس.
اجتمع عليه الزبانية: العقيد عدنان رام حمدان، والنقيب حسن خلوف من المخابرات العسكرية والمقدم علي سعد الدين، والرائد أليف الوزة، والرائد محمد بريمو – من المخابرات العامة – وحاوروه في علاقته بالتنظيم وفي صلته بالمجاهدين.
- متى انتسبت إلى الإخوان المسلمين؟
- منذ وعيت.
- ما الذي حببك بهم؟
- رأيتهم يدافعون عن المظلومين والمستضعفين في الأرض ويعملون على إرساء العدل السماوي في هذه البلاد، ويحاولون محو آثار الاستعمار السياسي والفكري والاقتصادي والاجتماعي الذي خلفها الاستعمار وراءه و..... قاطعه الرائد أليف الوزرة قائلاً:
- ثم ماذا يا ابن ال...؟ كمل محاضرتك.
قال الدكتور مصطفى في رباطة جأش:
- ورأيتهم بعيدين عن المنافع الشخصية يحبون الخير لسائر الناس كما يحبونه لأنفسهم.
قال النقيب حسن خلوف بعد سيل من السباب والشتائم:
- أما رأيتهم عملاء للإنكليز والأمريكان ول"إسرائيل".
أجاب الدكتور مصطفى في هدوء الواثق بربه:
- أنا أعرف أنهم هم الذين قاتلوا الإنكليز والصهاينة في مصر وفي فلسطين.
لطمه الجبان عدنان رام حمداني وقال:
- اخرس يا.....
وقال المقدم علي سعد الدين:
- لقد اعترف زعماؤكم بعلاقتهم بالكتائب وبإسرائيل.
وابتسم الدكتور مصطفى ساخراً ولم يجب بكلمة.. عندها انبرى له الوزة قائلاً:
- من نظمك؟
- .......
- من هم أعضاء أسرتك؟
قال الدكتور ساخراً:
- والدتي وزوجتي وأطفالي الأربعة.
وبإشارة من العقيد رام حمداني انهالت مجموعة من غلاظ الجلادين على الدكتور مصطفى وراحوا يضربونه كيفما اتفق على رأسه وفي بطنه وظهره وفي كل مكان من جسده و(المحققون الكبار يصرخون) اقتلوه.. اقتلوه... وهكذا استمر هذا (التحقيق) معه حتى أغمي عليه.
وتكرر التحقيق معه على هذا المنوال أربعة أيام وانتهى على الشكل التالي:
- حدثنا عن علاقتك بالمجرمين.
- أنا لم أرَ ولم أقابل مجرماً في حياتي.
- كنت تداويهم؟
- أنا ما داويت أي مجرم في حياتي؟
- اعترف أحدهم عليك.. قال إنك داويته بعدما ذكر لك كلمة السر، واعترف بأنك كنت تمدهم بالمال.
- أنا ما داويت أي مجرم في حياتي.. ولم أعطِ قرشاً واحداً لمجرم.
قال أليف الوزة:
- أما داويت بعض المجاهدين؟
قال الدكتور مصطفى:
- بلى.. داويت بعضهم.
قال رام حمدان مغضباً وهو يركله برجله:
- كيف تنكر قبل لحظات يا ......؟
والتفت إلى شيخو وجاسم من عتاة الجلادين وأمرهم:
- اضربوه.. اقتلوه.. يجب أن يموت الساعة.
وانهال الوحشان شيخو وجاسم على الجسم الواهن وما زالا يضربانه وهو يصرخ يا الله .. يا الله.. حتى ارتفعت روحه إلى عليين وكانوا قد كسروا له ثلاثة أضلاع من الجانب الأيسر لصدره كما كسروا له رجله اليمنى وأعطبوا يده اليمنى وأصيب بنزف داخلي.
ومع أن الدكتور مصطفى قد قضى شهيداً تحت التعذيب الهمجي فقد زعم الزبانية أنهم شكلوا له محكمة ميدانية حكمت عليه بالموت شنقاً وأخذوا جثته الطاهرة إلى السجن المركزي بحلب (المسلمية) وعلقوه على أعواد المشنقة وهو ميت كان ذلك في حزيران 1979م.
ولقد خلف الشهيد وراءه زوجة صابرة محتسبة وأربعة أطفال.
لقد كانت حياة الدكتور مصطفى مثالاً يحتذى مثالاً للطبيب المسلم الملتزم الواعي وظيفته في هذه الحياة.
كان زملاؤه يعجبون لحياته البسيطة ويظنون أنه يجمع ثروته في معزل عن الحساد، ولطالما سمعت بعض أولئك الأطباء يلومونه على حياة التقشف، ويدعونه إلى تعاطي التجارة وكان رحمه الله يبتسم ويقول:
صدق رسول الله: لو أن لابن آدم وادياً من ذهب، أحب أن يكون له واديان.. ولن يملأ فاه إلا التراب.
ولكن أنّى لمن غاص في أوحال الحطام وألهاه التكاثر وأدركه حُبُّه الزخرفَ أن يعي الأبعاد الإيمانية لدعوة مصطفى عبود!
هيه أبا أيمن.. أنت الآن في عليين بإذن الله تطل علينا من عليائك، تأسى لحالنا، وتتمنى لو تعود إلينا لتصلح ما فسد ولتضرب بنفسك مثلاً حياً آخر لمن درجوا على الكلام ونسوا العمل ولمن ظنوا أنك خسرت مستقبلك فيما أنت وإخوانك الشهداء تتقلبون في أحضان النعيم الذي هجرت سميه في دنياك.
لا عليك أبا أيمن، وهنيئاً لك استشهادك وهنيئاً لك ما تأسينا وتذوقنا حلاوة الإيمان التي جعلتك مع الأنبياء والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقاً وإلى اللقاء في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. والسلام عليك وعلى إخوانك الشهداء في الخالدين.
وسوم: العدد 704