قرن على ميلاد غنيمي هلال؛ رائد الأدب المقارن العربي!
في زمن العقوق
القاهرة
مرَّت الذكرى المئوية؛ لمولد رائد الأدب المقارن العربي الدكتور/ محمد غنيمي هلال(18 مارس عام 1916- 27 يوليه 1968م)؛ فلم تسمع بها وزارة الثقافة المصرية، ولا وزيرها الهمام الصحفي/ حلمي النمنم، ولا المؤسسات الثقافية العديدة، ولا حتى جمعيتا النقد الأدبي، والأدب المقارن؛ لدرجة أن أقطاب الحداثة العربية، وأنصار التقليدية الجامدة .. لاذوا بالصمت المريب؛ فلم يكتب الوزير السابق/ جابر عصفور عنه مقالاً أو عبارة؛ بل اكتفي فقط؛ بتقريظ الأديبة الإماراتية ميسون صقر عن روايةٍ لها؛ بثلاث مقالات متواليات بجريدة الأهرام دفعةً واحدة، والبقية تأتي؛ وكأن عرفان فضل الرواد بات عملة شحيحة في هذا الزمن الأغبر! أمّا الناقد صلاح فضل؛ فاكتفى بالمصيف في الساحل الشمالي؛ ولم يتذكر أفضال أستاذه غنيمي هلال عليه وعلى أمثاله؛ حيث أخذ بأيديهم في دار العلوم؛ ووجَّههم نحو الآداب الغربية! وأمّا الدكتور الدرعمي/ محمد عبد المطلب؛ فقد نسيَ أستاذه في زحمة الجوائز والمناصب؛ فلم يتذكره في مقالاته الكثيرة؛ بجريدة"الأهرام"، ولا بمجلة"الأزهر"! وأمّا الناقد/ محمد بدوي رئيس تحرير مجلة "فصول" القاهرية؛ فهو مشغول في مجلته الحداثية؛ بالبحث عن أشياء أخرى؛ لا علاقة لها بالأدب والثقافة! وأمّا مجلة"ألف" المعنية بالأدب المقارن والتي تصدر عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ فهي؛ لا تعترف بجهود المدرسة الفرنسية ولا برموزها في مجال الأدب المقارن؛ وهكذا نظرة المتأمركين العرب للفرانكوفونيين العرب؛ فلا يمكن لكلٍ من؛ حمدي السكوت، ولا محمود الربيعي، ولا فاروق شوشة، ولا فريال غزولي، ولا سيزا قاسم، ولا هالة حليم؛ أن يكتب أيُّ منهم عن غنيمي هلال في هذه المجلة الليبرالية؛ ولو سطراً واحداً؛ بحكم سيادة العولمة المستطيلة؛ والنظرة الشوفينية العنصرية الأمريكية لغيرها من الثقافات! والغريب؛ أنَّ غنيمي هلال؛ قام بالتدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة أيام المرحوم الدكتور الكبير/ محمد النويهي! وأمّا كلية دار العلوم بجامعة القاهرة؛ حيث ترعرع غنيمي هلال؛ وانطلق منها مُؤصِّلاً للأدب المقارن العربي حسب المدرسة الفرنسية؛ فهي الآن في معمعات أخرى؛ شدَّ الله حيلها؛ لمعاركها الواهية! وأمّا جامعة الأزهرالشريف؛ حيث كانت بدايات غنيمي هلال حتى نال شهادة الثانوية الأزهرية عام 1937م؛ كما أنه قام بتدريس الأدب المقارن في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر في عام 1964م؛ فقد وقفوا في وجهه؛ بزعم؛ أنه غربي الثقافة والطريقة والحقيقة وما بعد ذلك!
اعتراف!
لكنَّ كل هذا العقوق والجحود والنكران؛ لم يمنع من اعتراف المنصفين؛ وما أكثرهم؛ بجهود غنيمي هلال؛ وسبقه مصرياً وعربياً؛ ففي رسالته الجامعية عنه، وهي بعنوان(الخطاب النقدي عند محمد غنيمي هلال بين النظرية والتطبيق) والصادرة مؤخراً عن مكتبة الآداب بالقاهرة؛ يقول الدكتور/ أحمد فؤاد أستاذ الأدب والنقد بتربية عين شمس بمصر: "محمد غنيمي هلال رائد الدرس الأدبي المقارن في مصر والوطن العربي؛ حقيقةٌ سائدة في الأوساط البحثية في ميدان الأدب المقارن. وهذه الحقيقة؛ يتناقلها كبار الباحثين والدارسين في هذا الميدان حتى الآن .. فدارسو الأدب المقارن؛ يشيرون دوماً إلى ريادته للدرس الأدبي المقارن في وطننا العربي؛ ويجدر بنا الوقوف عند شهادات كبار الدارسين في هذا الميدان؛ لترسيخ هذه الحقيقة؛ وإزالة ركام التجاهل والنسيان الآني الكثيف المُخاتل. يقول الدكتور/ الطاهر أحمد مكي في كتابه(الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه): "كان تأثير الدكتور محمد غنيمي هلال في تحديد مسار الأدب المقارن حاسماً؛ فأشاع منهجيته السليمة، وتناول موضوعاتٍ منه في أبحاثٍ مستقلة؛ كالمواقف الأدبية، والنماذج الإنسانية؛ وجعل منه علماً واضحاً مستقلاً".
وهناك شهادة أخرى؛ للدكتور/ علي عشري زايد؛ قال فيها في كتابه(الدراسات الأدبية المقارنة في العالم العربي): "يمكننا التأريخ للبداية الحقيقية للدراسات الأدبية العلمية المقارنة في اللغة العربية؛ بأوائل الخمسينيات من القرن الماضي؛ عقب عودة الدكتور محمد غنيمي هلال رائد الدراسات الأدبية المقارنة في العربية من بعثته إلى فرنسا؛ لدراسة الأدب المقارن، بعد حصوله على درجة الدكتوراه في هذا المجال في عام 1952م".
ويرى السوري الدكتور/ حسام الخطيب في كتابه(آفاق الأدب المقارن): "كان غنيمي هلال مؤهلاً كاملاً؛ لأن يكون مؤسس علم الأدب العربي المقارن؛ بما اجتمع له من شهادةٍ رفيعةٍ متخصصةٍ؛ وبما أتقنه، أو عرفه من لغات أجنبية(الفرنسية، والفارسية، والإنجليزية، والإسبانية)؛ وبما اتصف به من عقليةٍ منهجيةٍ وإخلاصٍ للحقيقة العلمية، وحماسةٍ ريادية، وأخيراً بما لزم به نفسه من الموازنة بين النظرية المقارنية وتطبيقاتها، وبين مبادئها الغربية، وتمثلاتها الشرقية أو الغربية".
وبجانب هذا الشهادة؛ نجد الحداثي الدكتور/ صبري حافظ؛ يؤكد فضل غنيمي هلال على الأدب المقارن في العالم العربي؛ فيقول: "كان الأدب المقارن قبل غنيمي هلال شيئاً غائماً في ذهن القارئ العربي، لا يعرف له تحديداً صحيحاً، وكانت الدراسات التطبيقية المتناثرة في هذا المجال؛ لا تقوم على أساسٍ علميٍّ متين، ولا تُعْنَى بأكثر من المشابهات الخارجية بين عملٍ فنيٍّ وآخر"!
ويقول الدكتور/ أحمد فؤاد في أطروحته: "ومن هنا؛ يبدو من خلال شهادات الباحثين السابقة؛ أنها جميعا تردد فكرةً واحدةً؛ مؤداها أن غنيمي هلال رائد الدراسات الأدبية المقارنة في مصر والعالم العربي؛ وأن هذه الريادة لم تأتِ من سبقه لغيره في ترديد مصطلح الأدب المقارن، أو تقديم دراسةٍ هنا أو هناك؛ تمس هذا العلم من قريبٍ أو بعيد؛ وإنما تأتي الريادة من خلال تقديمه مفهوماً علمياً واضحاً عن الأدب المقارن؛ وإيراده أسساً منهجيةً صارمةً تجعله علماً قائماً بذاته، مستقلاً عن غيره من العلوم، وقيامه بدراساتٍ تطبيقيةٍ رائعةٍ .. وهذه الأمور جعلته في هذه المرتبة الرفيعة؛ باعتباره رائداً للدرس الأدبي المقارن العربي".
وفي رسالته(نظرية الأدب المقارن في كتابات المقارنين العرب) للباحث/ إبراهيم أنيس الكاسح؛ يشدد المقارن الفلسطيني الدكتور/ عز الدين المناصرة على (أن غنيمي هلال هو أول من أدخل هذا الحقل المعرفي بمنهجه الفرنسي( الحديث آنذاك) إلى العالم العربي فهو (رائد المنهجية)وقد أثّر - كتاب غنيمي هلال - على كل ما كُتب بالعربية في مجال الأدب المقارن في الخمسينيات والستينيات وعلى طريقة تدريسه في الجامعات العربية حتى في السبعينيات) ، وفي كتابه الأخير (علم التناص المقارن)، احتفظ الدكتور المناصرة بالتأكيد ذاته على ريادة الدكتور محمد غنيمي هلال لعلم الأدب المقارن في المجال الثقافي والفكري العربي، بل إنه جعل منه صاحب مدرسة في الأدب المقارن على المستوى العربي، وهو يشير بذلك إلى تبني الدكتور هلال للمنهج التاريخي في دراساته المُقارنة، وهو منحى استقلّ به، وعُرف عنه. (كما هي حال مدرسة غنيمي هلال في الأدب المقارن التي لعبت دوراً مهماً في ترسيخ المنهج التاريخي منذ عام 1952، وحتى مطلع الثمانيات من القرن العشرين، وقد تأثر بها معظم المقارنين العرب).
ظُلم علوش!
أمّا؛ الدكتورالمغربي/ سعيد علوش؛ فقد أسند إلى الدكتور محمد غنيمي هلال دور (أول مؤصل لهجرة المادة، ناقلاً بأمانة الآفاق الغربية التي وصل إليها الأدب المقارن، نظرية وتطبيقاً)، وأن كتابه(الأدب المقارن) يُعد(نموذجاً فريداً في تهجير الأفكار الغربية نحو الشرق، إذ يظهر على أن غنيمي لم يطور فيها شيئاً بل استمر على اجترار الدرس الفرنسي المقارن)! ونسيَ سعيد علوش نفسه؛ أن كل أفكاره المقارنة؛ تستدعي أفكار إخواننا على الشاطئ الآخر؛ فهو مجرد ناقل بضاعةٍ؛ ومستورد أفكارٍ؛ وليس صاحب نظرية، ينتخل فيها ما يجلبه، ولا يمتلك أية مُدارَسة مقارنة محترمة مع الآخر! فكل أفكار علوش منقولة من الغرب؛ ولا فضل له؛ لا في التأسيس، ولا في التأريخ إلا في الشرح والنقل والترجمة! فلماذا يظلم سعيد علوش ريادة الدكتور/ غنيمي هلال، ودوره العظيم عربياً؛ بهذا الإجحاف المقصود المُتجنِّي؟!
مؤلفات غنيمي هلال
في العربية؛ "الأدب المقارن"، وظهرت طبعته الأولى في عام 1952م، وكتابه"الرومانتيكية" عام 1956م، و"النقد الأدبي الحديث" 1958م، و"الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية" وهو دراسات نقدية ومقارنة حول موضوع: مجنون ليلى في الأدبين العربي والفارسي عام 1962م، و"دور الأدب المقارن في توجيه دراسات الأدب العربي المعاصر"عام 1962م، و"المواقف الأدبية"عام 1963م، و"في النقد المسرحي" عام 1963م، وفيه جمع مقالاته التي درس فيها مسرحيات قومية وعالمية. و"النماذج الإنسانية في الدراسات الأدبية المقارنة" عام 1964م، وبعد رحيله؛ ظهرت مؤلفاته: "دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده"، و"قضايا معاصرة في الأدب والنقد"، وفي النقد التطبيقي والمقارن"، و"دراسات أدبية مقارنة".
وفي الفرنسية؛ له رسالتاه: "تأثير النثر العربي على النثر الفارسي في القرنين الخامس والسادس الهجريين/ الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين"، و"موضوع هيباتيا في الأدبين الفرنسي والإنجليزي من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين". وعنهما نال دكتوراه الدولة في الأدب المقارن من السربون عام 1952م.
مترجماته
عن الفرنسية؛ ما الأدب؟ لسارتر، وفولتير للانسون، ومسرحية"رأس الآخرين" لمارسيل إيميه، ومسرحية"عدو البشر" لموليير، ومسرحية"بلياس وميليزاند" لماترلنك، وفشل استرتيجية الفنبلة الذرية لميكنييه.
وعن الفارسية؛ ترجم غنيمي هلال: مجنون ليلى لعبد الرحمن الجامي، ومختارات من الشعر الفارسي.
ومما يُحْمَد للدكتور أحمد فؤاد؛ أنه عثر على بعض المقالات المجهولة لغنيمي هلال، ومنها: "العودة من النبع الحالم لسلمى الخضراء الجيوسي"، و"أزمة النقد الأدبي".
وقد كانت هناك مشاريع كُتُبٍ أخرى؛ لغنيمي هلال؛ فلم يمهله القدر والمرض فرصةً لإتمامها؛ فقد كان يهدف من خلالها تعريف القارئ العربي بالاتجاهات النقدية الغربية حينها؛ وهي عن: الكلاسيكية، والرمزية، والأدب الوجودي.
وفور عودة غنيمي هلال إلى مصر؛ وجدناه قد انخرط في الحياة الأكاديمية أستاذأً للنقد والأدب المقارن في كلية دار العلوم جامعة القاهرة، وفي كلية الآداب جامعة عين شمس، واللغة العربية بالأزهر الشريف، كما تجاوب تطبيقياً مع التجارب الأدبية الجديدة للأجيال الجديدة، من خلال المسرحية والشعر والقصة القصيرة؛ فتناول مسرحيات: أحمد شوقي، وعبد الرحمن الشرقاوي، وتوفيق الحكيم، وعزيز أباظة، وبريشت، وسارتر، وإبسن، وزولا. وتناول قصص: محمد البساطي، وعباس خضر، وعبد العال الحمامصي.
كما تناول غنيمي هلال في نقده التطبيقي؛ تجارب الشعر الجديد على أيامه؛ كـ: حسين عفيف في ديوانه(الأرغن)، وفاروق شوشة في ديوانه(إلى مسافرة) وكيلاني حسن سند في ديوانه(في العاصفة)، وسلمى الخضراء الجيوشي في ديوانها(العودة من النبع الحالم)، وديوان عبد الرحمن شكري، و ميخائيل نعيمة في ديوانه(آفاق القلب)، وديوان إيليا أبي ماضي، وديوان العقّاد، وديوان نازك الملائكة.
والخلاصة؛ أن غنيمي هلال كان من أنصار الجديد؛ بحثياً ومعرفياً وإبداعياً في شتى المجالات والفنون؛ بشروطٍ؛ منها في الشعر الجديد: "توسيع المجال للموسيقى الإيحائية، ووصف الشعراء عن طريق هذا الإيحاء بالنغم؛ مالا يُوْصَف من المشاعر، وأحوال النفس"، والإتيان بالفريد موسيقياً وفكرياً وتصوراً جمالياً.
وسوم: العدد 706