الشهيد جمعة ربيع الحسن
شاب في الثلاثين من العمر.. أسمر اللون، ذو شعر أسود مسترسل وعينين سوداوين، متين البنية معتدل القامة، دمث الأخلاق، كريم زكي، ولد في قرية منغ من قرى اعزاز عام 1949 وشب وترعرع فيها. عاش مع والديه عيشة بسيطة، قاسى فيها من ألون الفقر والحرمان وشظف العيش ما زاده صلابة، وطبعه على تحمل المشاق.
قضى سني شبابه موزعة بين عمله في القرية مع والده وبين الحياة العسكرية في الجيش، وبعد تسريحه انتقل إلى مدينة الطبقة، حيث يقام سد الفرات هناك فعمل موظفاً.
ويشاء الله أن تنشط حركة الدعاة إلى الله في هذه البلدة الناشئة، فيكون جمعة من أوائل الذين باركوها وانضموا إليها، وسارعوا إلى العمل بما يرضي الله ورسوله.. لقد لبى داعي الحق إذ دعاه، واستجاب لما يرضى مولاه، فانقلب بين عشية وضحاها من غافلٍ غارق في ملاذ الحياة ومسراتها، إلى ملاك رائع في رياض الجنة، يضوع منه العبير الطيب أينما حل وحيثما رحل.
وينطلق.. ولا ينطلق إلا في كوكبة من الدعاة، لاتنقل خطاها إلا فيما يرضي الله، من كلمة طيبة، أو نصيحة خالصة، يبتغون بها مرضاة رب العالمين وتفيق مدينة الطبقة بأحيائها وأشيائها فإذا شبانها أحاديث تروى على كل شفة ولسان وينتفض أبو القعقاع فيعلنها مدوية من فوق المنابر وفي حلقات الدرس والذكر إخوانية إسلامية متميزة ومنفصلة عن ركب أسد وزمرته الخائنة فيغدو حديث القوم، فأينما سرت وحيثما حللت لا تكاد تسمع غير ذكر أبي القعقاع الشاب التائب إلى الله.
ويشاء الله أن تتحرك كتائب الرحمن ملبية أذان الجهاد، معلنة بدء المعركة بين السلطة الباغية التي اتخذت من الشيطان نصيراً لها، وبين جنود الحق الذين رفضوا أن تقوم للباطل في بلادهم دولة فينتظم في تلك الصفوف من ينتظم، ويكون من أوائل المجاهدين أبو القعقاع جمعة ابن محمد الربيع.
ثلاثة أيام حفظها الشعب للمجاهد البطل، وهي وإن مضى عليها ما مضى لا تزال منقوشة على صفحات القلوب المؤمنة بعضها يبعث الألم، وبعضها يبعث الفخر.
فأما اليوم الأول، فهو يوم بلاء رهيب تنشب النار فتلتهم زوجته الورعة التقية، وتستنجد وما من أحد إلى جانبها غيره، وهو مختف عن عيون السلطة. فيهرع إليها، وينكب عليها يحاول إخماد النار المضطرمة فيمسه منها مايمسه ويصيبه من الحريق ما يصيبه فلا يزيده إلا إيماناً واحتساباً بينما تسقط زوجته جثة هامدة تعاني من آلام الحريق، ثم لاتلبث أن تفارق الحياة، فيحتسبها صابراً، ويلجأ إلى إخوانه المجاهدين بينما يمسي ولداه القعقاع والخنساء، وقد حرما من حنان الأم والأب.
وأما اليوم الثاني فهو بطولة وفداء، دُوهمت قاعدته بحي الميدان بحلب، واستطاع صاحباه الخلاص من الطوق المضروب تحت حماية نيرانه بينما كتب عليه أن يخوض المعركة وحيداً فكان الرجل الكفء في المأزق الصعب. أفلت من الحصار بعد أن أصاب مقتلاً من أزلام السلطة فاتجه إلى حيث النقطة الطبية الأولى للمجاهدين، فضمد جراحه ثم انطلق، وكان عليه أن يسرع فالسلطة المحمومة وراءه استوقف سيارة عادية، وما كاد يصعد فيها، حتى عرف أنها سيارة للمخابرات وما إن انطلقت السيارة حتى سأله رئيس الدورية:
- من أين أنت؟
- أنا من غباغب
- وهذه الجروح؟
- حادث.
- فما تعمل هنا؟
- تاجر زيت.
- لا أنت كذاب أنت حرامي.
وضبط أبو القعقاع أعصابه ولم يجبه، فعاد رئيس الدورية يسأله:
- معك سلاح؟
- نعم.
- هاته
أخرج أبو القعقاع مسدسه من عبه وقدمه لرئيس الدورية برباطة جأش الآمر الذي أطمع فيه قائد الدورية الذي التفت إلى السائق قائلاً:
- إلى المركز
إلا أن التفاتته هذه أعقبتها التفاتة إلى المجاهد الهادئ المتزن، فانتابته قشعريرة سرت في جميع بدنه فقال فزعاً:
- ماهذه التي بيدك؟
فأجابه بهدوء:
- ستعرف ماهي أمام المركز.
وهنا لم يتمالك رئيس الدورية نفسه فصرخ:
- قنبلة قف.. قف ياسائق
ثم التفت إلى أبي القعقاع قائلأ:
- من أنت يا رجل؟
- أنا من المجاهدين هل سمعتم بهم.. أنا من الذين قرروا أن يموتوا لتحيوا أعزاء فهل يرضيكم هذا؟ لقد ثرنا من أجل خلاصكم، فخاصمتونا، وانحزتم لأعدائكم.
وهنا استيقظ الضمير النائم, فإذا رئيس الدورية يمد له يد المعونة، ويضمد جراحه، ويعيد إليه سلاحه ويُبلِّغه مأمنه، ويعاهده على العمل مع المجاهدين ماوسعه إلى ذلك سبيلاً.
وتلتئم الجراح، فيعاود الكرة إلى الميدان وهو أشد تصميماً وأصلب عزيمة وأخصب حيوية فيخوضها معارك ضارية، لا تزال ذكراها منقوشة في كل منعطف وشارع، تحكي قصة مجاهد بطل.
ويجيء اليوم الثالث، فتكون الخاتمة التي تطلع إليها أبو القعقاع منذ زمن. ففي صباح ذات يوم غائم، لا يخلو من لسعات بادرة وزخات مطر خفيف وفي تمام الساعة السادسة من صباح اليوم السابع والعشرين من شباط عام 1980 اصطدمت سيارته بأزلام السلطة الأسدية في ساحة الملح بحلب حيث كان يجتاز مع الأخ المجاهد الشهيد وضاح غنام حاجزاً كبيراً للسلطة فقاتل قتال الشجعان إلى أن آذنت مشيئة الله بتحقيق ما تمنى فما أروعها من أمنية: استشهاد في معركة بطولية من أشرف المعارك قتل فيها عدداً من عناصر الحاجز ثم استشهد مع زميله وأخيه المجاهد وضاح غنام. لقد كان رحمة الله عليه مثال المجاهد المسلم وعنه كتب في سجلات السلطة الأسدية:
مقاتل شرس ظهر في أكثر من موقعة وأفلت من أكثر من كمين.
رحم الله المجاهد البطل، وجعل من ذكراه العطرة حافزاً لكل صابر ومحتسب من أبناء شعبنا المنكوب يترسمون خطاه مجاهدين أبطالاً، إلى أن يأذن الله بالنصر المبين على الطاغية أسد وعصابته الخاسرة.
وسوم: العدد 708