الشهيد عامر عمادي

ما كنت أصدق أن عامراً في الصف الأول الثانوي لصغر سنه وجسمه، بل تبدو عليه براءة الأطفال وحركة الأطفال التي جعلتني- على غير عادتي أتساهل معه في تحركه في الفصل وقد جلس إلى جانب أخ له شابهه تماماً في كل شيء فنقشا على المقعد والجدار شعارات الجهاد والتضحية التي ترجمها المجاهدون آنذاك إلى واقع ملموس.

وكنت أمعن في النظر إليها وقد ملأت الجدران في حماة- تلك السنة شعارات صريحة تؤجج المشاعر وتهيء النفوس فتدفعها في طريق الجهاد.

لا أبالغ إذا قلت: ذلك أفضل عام يمر على المسلمين في سورية في تلك الأونة حيث كان المجاهدون ينفذون حكم الله في عميل أو مخبر للسلطة كل يوم، وكان أذناب السلطة يعلنون انسحابهم من حزب الكفر والنفاق كل يوم فيتسارع الناس إلى مسجد السلطان أو الشيخ علوان يشاهدون الاعترافات من الناس الذين تلقوا إنذاراً من المجاهدين.. وأصبح مديرو المدارس سباقين إلى تخصيص حجرة كبيرة للصلاة في المدرسة وألغوا ترديد شعار البغي كل يوم وبدأت المدارس تنفذ تعليمات المجاهدين بدقة وبقي العلم الأخضر مكتوباً عليه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) يرفرف على ثانوية الحوراني ثلاثة أيام دون أن يجرؤ أحد على إنزاله.

في ذلك الجو عرفت الشهيد المرحوم عامر ياسين عمادي.

جاء متأخراً في أحد الدروس في الدوام المسائي فسألته: أين كنت؟

فأجاب في جرأة المؤمن وشجاعته: كنت أصلي.

وفي درس آخر رفع يده قبل أن تنتهي الحصة بقليل وقال: هل تسمح لي أن أخرج للوضوء، (والحمد لله أني سمحت له فأدخلت السرور على قلب شهيد بطل من شهداء المسلمين).

قال لي أحد أقاربه ذات يوم:

إننا قلقون على عامر، لأنه يغيب عن البيت كثيراً ويدعي أنه يشارك في إحدى الحلقات الصوفية فشجعته على ذلك، وقلت: لا بأس عليه فلينشأ صوفياً خير من أن ينحرف إلى الجاهلية وقد غاب المرشدون في هذا البلد.

رأيته مرة بعد الأنصراف يدور مع أحد إخوانه في الشارع المؤدي إلى المدرسة وكأنه يرصد أحداً وقد تلثما بالنقاب فأوقفتهما وقلت:

- لماذا لا تذهبا إلى البيت للغداء.

- (فقالا بصوت واحد): نحن صائمان اليوم

وقد ذبلت شفاههما من أثر الصيام وصفت عيونهما فشعَّ منها نور الإيمان حتى فاض الدمع في مقلتي فتابعت قولي:

- وأين تذهبان الان؟

فقالا: - إلى الزاوية

ودعتهما وأنا على أشد ما أكون من الغبطة لهما فقد فهمت ما هي الزاوية التي يذهبان إليها إنها الزاوية الحقيقية للمسلمين وإنها لنعم الزاوية.. غبطتهما على صدقهما مع الله وتمنيت لو أننا معشر المتقدمين في السن نكون مثلهما في الحماس والشجاعة والجرأة.

اشتد رجال السلطة والبغي في طلب عامر الذي صد إحدى هجماتهم على إحدى قواعد المجاهدين في حماة، وأصبح عمر يتغيب عن البيت خوفاً من القبض عليه ثم عزم على حسم البيع الذي باع فيه نفسه لله، فزار بيت أخته الزيارة الأخيرة وتقول أخته فيما بعد: إنه ضم ابنيها إلى صدره عدة مرات وكان يحبها حباً قوياً ثم خرح مسرعاً ولم يعد.

في ظهر أحد الأيام كنت ماشياً في شارع المرابط ومازال الحزن يخيم على حماة إثر استشهاد البطل بسام أرناؤوط فاتسخت الأرض بعناصر الوحدات الباغية الجبانة وأسره المواطنون على إغلاق محالهم وهرعوا إلى بيوتهم حيث عملت قوات العملاء على عزل منطقة شرق السوق الطويل وركزت هدفها على مسجد الأحدب حيث تقدمت مجموعات الاقتحام يقودها رائد جبان هرب أكثر من مرة أمام اليهود على الجبهة وكلما هرب مرة كانت تعطى له رتبة جديدة حتى وصل إلى هذه الرتبة.

ولغير ما سبب واضح اعتصر الألم قلبي وارتسم أمام نظري خيال الفتى عامر ممسكاً (بالكلاشن) التي تكاد تصل إلى هامته لكن... هرعت مثل باقي القطيع إلى بيتي وأغلقت بابه ظناً مني أن إغلاق الباب ينجيني كما ظن الكثيرون وقد خاب الظن كما تعلمون عندما دق الكلاب الأبواب بعد سنتين فقط فقتلوا الرجال وسلبوا المال والنساء واستوى عندهم الموالي والمعارض والمحايد وكل من يسكن هذه المدينة؟

تقدمت مجموعات الاقتحام من زقاق فرعي يوازي سوق الطويل وما إن اقتربت من المسجد حتى انهالت عليها طلقات صغيرة قليلة العدد لكنها كانت تصيب مقتلاً منهم وتصرعهم أمام بيت الله عز وجل قبل أن تدنسه أقدامهم.

كان ثلاثة من المجاهدين الصغار كلهم دون سن العشرين بحوزتهم مسدس واحد وبندقيتان وقليل من الرمانات اليدوية قد توزعوا على نوافذ الرمي ينفذون ما رسموه في أذهانهم منذ أيام حيث قرروا أن يدافعوا عن القاعدة إذا ما دوهمت حتى الرصاصة الأخيرة ثم تكون الرمانات اليدوية كما يقولون (عليَّ وعلى أعدائي يا رب)

انهمر رصاص السلطة الذي اشترته بعرق الشعب على المسجد والمنازل المجاورة له وبالخصوص على غرفة كانت في المسجد وصارت أنغام الرشاش تتناوب مع طلقات منفردة بعضها عيار (7) مم، وسط أنين نواعير حماة الجريحة الذي اشتد بسبب السيول في فصل الربيع وكأنها تنوح على فلذات أكبادها الذين صارت أنياب السلطة الغادرة تلتهمهم بوحيشة وغدر.

صرخ الرائد الجبان في جهاز الاتصال مخاطباً رئيسه:

- سقط معظم العسكر في مجموعات الاقتحام أكثر من ستة عشر فرداً بينهم ضابطان والخسائر كبيرة لا أستطيع الاستمرار بهذا الشكل...

- فأجابه عدو الله: دمر (بالأر. بي. جي)، ولا يهمك اضرب المسجد أو أي بيت تظن فيه مقاومة دمر رأس أهله ادفنهم أحياء نفذ بسرعة.

وانهالت قذائف (الأر. بي. جي) على قبة المسجد وعلى الغرفة التابعة له فتحطمت جدرانها وتكسرت قضبان الحديد وتناثرت أجساد الملائكة الصغار قطعاً بين الركام.

وبعد أن أوقف العسكر رمياتهم هدأ الجو وانقطع الرمي ولم يبق إلا أنين النواعير ينتحب ويزمجر وبعد أن انجلت سحب الغبار والدخان تقدم العسكر يبحثون فوجدوا قطعاً من أجسادهم الطاهرة تفوح منها رائحة المسك وتقدم أحد الخونة المخبرين إلى رأس أحدهم وقال:

- هذا هو عامر، الذي كلفنا بالقبض عليه منذ شهر.

كانت الأرض قد ازينت بالأزهار وقد تناثرت أزهار الربيع في كل مكان وتسابقت الأزهار والرياحين في تزيين الأرض التي ستضم رفاتهم الطاهر إلا أن حور العين كانت أسبق إليهم من ازهار الربيع وقد ملت الانتظار وما طاقت أن يمكثوا في الأرض أكثر مما مكثوا فهنيئاً لهم صحبة الأنبياء والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقاً.