المهاجرة الصابرة رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم
حـكايــــات من بيت النبوة
يقول المستشرق (لامنس) :
" إن المؤرخين المسلمين تناسوا فاطمة بنت محمد ــ كما تناسوا بقية بنات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ــ فلم يحفلوا بها أول مرة حتى إذا ظهرت فكرة التشيع * في الإسلام عادوا يطلبون الحديث عنها وأخذت شهرتها تذيع و تنتشر على حين ظلت أخواتها وليس لهن ذكر و لا عنهن حديث."
--------------------------------------------------------------------
*إن فكرة التشيع هي فكرة دخيلة على الإسلام وليست من الإسلام كما يفهم من قول المستشرق وهي فكرة ضالة مبتدعة لا أصل لها في الإسلام ولا صلة لها بالإسلام من قريب أو بعيد لأن الله قد أكمل هذا الدين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل زيادة أو فكرة على هذا الدين فهي باطلة .. وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ( ألا أن كل محدثة بدعة .. وكل بدعة ضلالة .. وكل ضلالة في النار )
تــقـــدمــــــــة
لا شك أننا ـ نحن المسلمين ـ نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحب آل بيته المؤمنين الطيبين الطاهرين .. و لاشك أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضم جميع أزواجه أمهات المؤمنين وأولاده وبناته وأحفاده وحفيداته ونحن نحترمهم كلهم ونحبهم كلهم دون تفريق بين زوجة وبنت وبين حفيد وولد فكلهم من رسول الله وكلهم ينتسب إلى سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولكن ظهرت بعض الفرق والطوائف الضالة المنحرفة التي رفعت بعض آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درجة التقديس وأحيانا العبادة .. وخفضت بعضهم الآخر إلى درجة السب والشتائم ووصفهم بالكفر والفسوق والعصيان والفاحشة ظلما وكذبا وزوراً .. لقد خصص هؤلاء المنحرفون الضالون الأدعياء كل الحب والتقدير والتقديس للحبيبة فاطمة الزهراء حبيبة رسول الله وابنائها من بعدها .. بينما أهملت بقية أبناء وبنات وأزواج رسول الله صلى الله عابه وسلم بل ربما وصل الأمر إلى اتهامهن في دينهن وأعراضهن وسبهن ووصفهن بأشنع وأسفل الصفات ولا حول ولا قوة إلا بالله .. حتى أن بعض فساق الشيعة في البصرة لعنه الله لم يتورع أن يقول في خطبة على المنبر : ( روي عن أم الفاسقين عائشة لعنها الله .. ) بل لعنه الله بفسقه وفجوره .. وأنا حين أقرأ السيرة العطرة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحز الألم في نفسي حين أجد هذا التناقض وهذا الإنحراف الخطير في مفهوم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وأنني انتسب إلى هذه الشجرة الطيبة الطاهرة المباركة إلى سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لقد حز في نفسي أن تكثر الكتابات والأقوال والسير والتمجيد والتعظيم والتقديس للزهراء فاطمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهمل ذكر بقية آل البيت حتى لا نكاد نسمع عنهم شيئا .. رغم حبي الشديد للزهراء فاطمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم أبيها .. لذلك قررت الحديث والكتابة عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كل آل البيت .. عبر قصص هادفة موجهة تزيل الغبار والغبش والسخام الذي أثاره بعض المنحرفين الضالين عن آل بيت رسول الله الطاهرين الطيبين .. ورأيت أن أبدأ هذه السلسلة القصصية بأول ولد من أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم الحبيبة بنت الحبيب زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم وهذه هي القصة الثانية والتي أحببت أن أسميها المهاجرة الصابرة رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم .. أجل لقد كانت رقية الولد الثاني من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم واكبر أولاده لذلك كانت في مجموعتي القصصية هذه القصة الثانية التي تتحدث عن آل بيت رسول صلى الله عليه وسلم ..
أمر آخر دفعني و بشدة للكتابة عن رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو التأثر العنيف الذي كان ينتابني كلما قرأت سيرة رقية وما عانته من آلام ومصاعب ومصائب لم تعانيها بقية بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وجدت من هذه الأحداث المتتابعة السعيدة منها والأليمة مادة غزيرة للكتابة عن بنت من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم .. التي عاشت ومنذ فـي بداية حياتها حياة ملؤها الصعاب والأهــوال والإحن وهذه الأحداث هي الدافع الأول لكتابة هذه القصة ضمن هذه المجموعة القصصية التي تتحدث عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أمر ثالث دفعني وبشدة للبدء في قصة المهاجرة الصابرة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو الهدف في تصحيح الانحراف الفكري والعقيدي الذي وصل في كثير من الأحيان إلى حد التقديس والتأليه لفاطمة وزوجها وأبنائها عند بعض الطوائف الفاسدة المنحرفة الضالة وإهمال بقية آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فكان هذا الهدف في تصحيح الإنحراف العقيدي هو الدافع إلى كتابة هذه القصة والقصص التي تليها عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهذا كله مع حبي الشديد للزهراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وأبنائها الكرام الأجلاء وزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم وأسكنهم فسيح جناته .. ولا أريد أن بفهم من كلامي هذا أنني أتحامل على بعض آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين الطاهرين الطيبين ذلك لانتسابي إلى هذه الشجرة الطيبة فأنا منهم وهم مني ولكنني أردت أن أصحح خطأ تاريخيا أدى إلى كثير من الانحراف والضلال عند بعض الطوائف المنحرفة الضالة التي تدعى الحب لآل بيت رسول الله فأوصلهم التطرف والغلو في كثير من الأحيان إلى الانحراف والضلال عن منهج الله القويم وصراطه المستقيم .. بل ربما أوصل بعض الغلاة إلى الكفر والخروج عن الملة الإسلامية والعياذ بالله تعالى .. هذه هي الغاية والهدف من كتابة هذه السلسلة القصصية الهادفة وإنني لأتطلع إلى توفيق الله وعونه للوصول إلى هذا الهدف الذي لا أرجو منه إلا رضاء الله جل وعلا .. كما أرجوه جل وعلا أن تكون هذه السلسلة التاريخية عونا لأبناء هذه الأمة الخيرة على تصحيح الفكر وتقويم المسار والعودة إلى معين الإسلام الصافي بعد أن ران على قلوب كثير من المسلمين وأبصارهم الغبش والضباب .. وبعد أن دخلت كثير من الشبهات والافتراءات والأضاليل عقول أبناء المسلمين وأفكارهم .
وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر كل من ساهم في إخراج هذه القصة بهذا الشكل إلى القاريء الكريم راجيا من الله جل وعلا أن يعلمنا ماينفعنا وينفعنا بما علمنا وأن ينفع بهذه السلسلة القصصية التاريخية أبناء المسلمين إنه خير مسؤول ..
محمد ماهر مكناس
ميسيساغا- كندا
في .........
المهاجرة الصابرة
رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم
في بيت النبوة
في مكة المكرمة وبجوار بيت الله الحرام عاش الزوجان السعيدان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صاحب الحسب والنسب وخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الطاهرة صاحبة الحسب والنسب والشرف الرفيع في سعادة وهناء بعد أن رزقهما الله بالمولودة الأولى زينب .. وكانت خديجة بعد ولادتها بزينب قد تجاوزت الأربعين من عمرها وكان ظن نساء قريش أن خديجة دخلت سن اليأس ولم تعد تنجب وذلك بعد ولادتها الأولى بزينب ولكن إرادة الله اقتضت أن تستمر خديجة أم المؤمنين بالحمل والولادة رغم كبر سنها ورغم تجاوزها الأربعين من العمر وذلك لتقر عين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفرح قلبه ويأنس بالأولاد والأحفاد في حياته وحياة زوجته خديجة .. ولم يمض أشهر قليلة على ولادة خديجة بزينب حتى شعرت بالحمل من جديد فكادت تطير من الفرح فها هي تنتظر ولدها الثاني رغم كبر سنها وتجاوزها الأربعين من العمر .. آثرت خديجة أن لا تخبر زوجها محمد بن عبد الله حتى يتأكد حملها .. ولما بدأت آثار الحمل تظهر عليها هرعت إلى زوجها محمد بن عبد الله تزف له البشرى بمولود جديد وهنا عمت الفرحة من جديد بيت النبوة وطار الخبر إلى نساء قريش اللواتي نشرنه في كل بطاح مكة المكرمة وأخذت الغيرة تشتد وتحتد عند نساء مكة وشوابها عندما علموا أن خديجة التي ودعت عهد الشباب قد حملت بولدها الثاني .. وتمر الأيام والشهور وقد مضى على ولادة زينب عام كامل أو يزيد حتى جاءها المخاض من جديد لتضع ولداً ذكراً وهنا عمت الفرحة أرجاء مكة كلها فهذا هو المولود الذكر لمحمد بن عبد الله وللذكر في الجاهلية معنىً آخر وكان ذلك في العام الثاني والعشرين قبل هجرة المصطفى إلى المدينة .. فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الفرح وفرحت خديجة وأغدقت العطايا والهدايا على ذوي الحاجة وأقيمت الولائم وذبحت الذبائح فلم يعد في بطاح مكة جائع أو محروم في تلك الأيام السعيدة .. وكان هذا الولد هو القاسم الذي يكنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال له ( أبا القاسم ) .. لقد خفق قلب خديجة وزوجها لهذا المولود الجديد إذ كان يتوقع له أن يكون سيداً من سادات قريش في قابل الأيام .. ولقد كانت فرحة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد وأقوى لأن خديجة قد تزوجت سابقاً ورزقت من الأولاد فيما مضى .. أما محمد بن عبد الله فهذا هو الولد الثاني الذي وهبه اله لرسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم خاصةً وأنه جاء ولداً ذكراً ليخرس ألسنة الكفر والإلحاد التي كانت تصف الرسول بأنه أبتر لا عقب له .. وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم القاسم وكان يكنى به حتى بعد موت القاسم .. وتمر الأيام ويكبر الأولاد والرسول الكريم ينظر إلى زوجته وأولاده بمنتهى الغبطة والفرح والسرور خاصة وأن زوجته قد تعدت مرحلة الشباب وتجاوزت الأربعين من عمرها .. ولقد كان من عادة أشراف مكة أن يقذفوا بأبنائهم إلى المرضعات للعناية بهم ورعايتهم فلم تنس خديجة بنت خويلد أن تهيئ أفضل المرضعات للمولود الجديد القاسم بن محمد بن عبد الله .
ولكن فرحة الأبوين الكريمين بالمولود الجديد لم تكد تكتمل حتى مرض القاسم بن محمد مرضاً شديداً حاول الوالدان كل ما في وسعهما لانتشاله من المرض إلا أن إرادة الله اقتضت ولا راد لإرادته أن تنتهي حياة القاسم بن محمد ولم يتجاوز عمره سنة واحده .. حزن الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الحزن على ولده القاسم وحزنت خديجة أشد الحزن على وليدها القاسم ولبنها الذي كانت ترضع منه القاسم لم يجف أو ينقطع حتى بعد وفاته .. ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على زوجه خديجة بعد البعثة وهي تبكي ابنها القاسم فقالت يا رسول الله ( درت لبينه القاسم .. فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعته .. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن : له مرضعاً في الجنة تستكمل رضاعته .. فقالت : لو أعلم ذلك لهون علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أسمعتك صوته في الجنة .. فقالت : بل أصدق الله ورسوله ) .
ومن هذه الرواية نجد أن القاسم* بن محمد بن عبد الله قد مات صغيراً قبل أن يتم رضاعته وترك في الأسرة الكريمة حزناً شديداً ما لبث أن انقشع فيما بعد.. حينما شعرت خديجة بآثار الحمل من جديد فمسحت دموعها واستبشرت خيراً وطلبت من الله جل وعلا أن يعوضها فقيدها الرضيع بولد آخر تقر به عينها وعين زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأثناء الحمل كانت خديجة مثالاً رائعاً للأم الصابرة والزوجة المخلصة فلم يشغلها حملها ولا أولادها عن زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت خير زوجة لخير رجل على وجه المعمورة ولكي نعرف قدر هذه المرأة العظيمة ما روي عن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم أنه قال بعد وفاتها : ( والله ما أبدلني الله خيراً منها .. آمنت بي حين كفر الناس .. وصدقتني إذ كذبني الناس .. وواستني بما لها إذ حرمني الناس .. ورزقني منها الله الولد دون غيرها من الناس ) وتقول السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق ( ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة .. وما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما ماتت ) .
وتمر الأيام والأسابيع والشهور والسيدة خديجة تثقل في حملها وتقترب شيئاً فشيئاً من المخاض وما إن دخلت في حملها الجديد شهرها التاسع حتى بدأت تستبشر بالمولود الجديد وتخبر زوجها بأن المولود الجديد سيأتي إلى الحياة في وقت قريب وستعم الفرحة والبهجة ربوع مكة بأثرها .. وتمضي أيام قليلة في الشهر التاسع من الحمل وتستعد خديجة بنت خويلد لاستقبال المولود الجديد .. ولقد كان من عادة أشراف مكة أن يجلبوا المرضعات لأبنائهم للعناية والرعاية والتربية والسهر عليهم وتغذيتهم فلم تنس خديجة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم أن تهيئ للمولود الجديد أفضل المرضعات وجاء المخاض وكانت خديجة بنت خويلد في غرفتها في الجانب الشرقي من بيت النبوة بينما كان محمد بن عبد الله في غرفته يتفكر في ملكوت السماء والأرض يتعبد ربه على عقيدة التوحيد التي تعود إلى شريعة إبراهيم عليه السلام .. ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بل طوال حياته كلها لم يسجد لصنم قط .. لقد كان محمد بن عبد الله يقف في محرابه يدعو ربه .. وينتظر اللحظة المرتقبة الحاسمة بشوق ولهفه وقلق زائد وربما خوف من المستقبل المجهول في كثير من الأحيان حتى سمع صيحة عالية من زوجته خديجة تبعها صمت طويل ثم زغاريد الحاضرين فعرف من خلال ذلك أن زوجته خديجة أنجبت مولودها الثالث .. نعم لقد سمع محمد من الغرفة المجاورة أصوات الفرح تعلوا فتيقن باكتمال الولادة وجاءته البشرى وعمه الفرح والغبطة والسرور ، وما هي إلا دقائق معدودات حتى جاءت القابلة سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب تحمل بين ذراعيها المولود الثالث لمحمد وكانت أنثى فحملها محمد بن عبد الله بين ذراعيه والفرحة ترتسم على وجهه والغبطة والسرور تسريان في كل جوارحه واتجه بعد ذلك إلى غرفة خديجة ليطمئن على صحتها وليبارك لها بالمولودة الجديدة وسماها رسول الله ( رقية ) .. كانت خديجة في شبه غيبوبة من آلام المخاض والولادة ولما رأت زوجها الحبيب يقدم إليها حاملاً وليدته الجديدة .. أشاحت بوجهها قليلاً وقالت : إني وضعتها أنثى .. وليس الذكر كالأنثى خاصة في مجتمع جاهلي كان يقدس الأولاد الذكور ويحط من قدر الإناث بل ربما في بعض الأحيان يحتقر الإناث ويئدهن وهن أحياء حتى قال قائلهم :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا أبناؤهن أبناء الرجال الأباعد
أجل لقد أشاحت خديجة بوجهها وهي تقول لقد وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى .. هذه الكلمة قالتها امرأة عمران حين وضعت السيدة مريم أم نبي الله عيسى عليه السلام ( قالت ربي أني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى والله أعلم بما وضعت وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) فكانت هذه الأنثى مريم بنت عمران أفضل نساء العالمين .
استبشر بيت النبوة بالمولودة الجديدة وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رقية بنت محمد ) فأقيمت الأفراح ونحرت الذبائح وعم البشر والسرور كل أرجاء مكة فرحاً بالمولودة الجديدة ( رقية بنت محمد ) وكان ذلك في العام الحادي والعشرين قبل الهجرة على خلاف بين المؤرخين في تاريخ ميلادها .
******* بناء الكعبة*
لقد كان من يمن هذه المولودة الجديدة رقية بنت محمد بن عبد الله أن صادف أيام حياتها الأولى حادثاً عظيما جليلاً في تاريخ مكة والبيت العتيق ذلك هو بناء الكعبة .. وهناك بعض الروايات تقول إن بناء الكعبة كان بعد ولادة ابنته الأولى زينب .. ولكن مهما يكن من أمر فإن هذه الحادثة قد وقعت مع اختلاف المؤرخين وكتاب السير في موعد وقوعها .. ومما كتبه المؤرخون أن الكعبة المشرفة قد أصابها ضرر كبير نتيجة حريق أحرق ستائرها وصدع بنيانها ونتيجة السيول والركام القادم من أعالي جبال مكة .. فتهدمت أجزاء من بناء الكعبة المشرفة .. ونظراً لمكانة الكعبة المشرفة عند العرب في ذلك الزمان والتشريف والتعظيم لها والذي توارثوه أبا عن جد من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أول من بنى الكعبة بيت الله الحرام في التاريخ .. يقول ربنا جل شأنه : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير" .. أجل لقد توارث العرب تعظيم بيت الله الحرام الكعبة المشرفة من لدن إبراهيم وتوارثوا هذا التعظيم جيلا بعد جيل وإن كانوا قد انحرفوا عبر الأجيال المتواترة عن عقيدة إبراهيم عليه السلام عقيدة التوحيد الخالص لله جل وعلا وخلطوها بعقائد الشرك والوثنية ولكن بقية من آثار إبراهيم وإسماعيل لا تزال باقية ومنها تعظيم وتقديس بيت الله الحرام الكعبة المشرفة .. ونظراً لأن إعادة بناء الكعبة لا بد له من هدمها أولاً ليتم إعادة البناء على أسس متينة سليمة .. ولكن من يتجرأ على هدم الكعبة المشرفة بيت الله الحرام المقدس المعظم عند العرب بشكل عام وعند قريش بشكل خاص .. خاصة وأن قصة الفيل وقصة أبرهة الحبشي الذي أراد أن يهدم الكعبة لا تزال راسخة في عقولهم وأفكارهم يتوارثونها أبا عن جد .. ولذلك أجمعت قريش أمرها على إعادة بناء الكعبة المشرفة وبذلت لذلك كل غالٍ ورخيص وكل مال يحتاجه هذا العمل المقدس الهام .. ولكنها في المقابل لم تجمع أمرها على هدم الكعبة لإعادة بنائها وتخوفت وتهيبت لهذا الأمر الجليل إذ لم يتجرأ أحد من عظماء قريش أن يبدأ بهذا العمل أو يبدأ بهدم حجر واحد من بناء الكعبة المشرفة .. وانتظرت قريش وطال بها الانتظار والتصدع ببناء الكعبة وجدرانها يزداد يوما بعد يوم دون أن يتجرأ رجل من رجالات قريش على المساس بحجر واحد من أحجارها حتى تلك المهدمة .. ووقف الناس في حيرة من أمرهم بل خوف ورهبة شديدة من الإقدام على هدم الكعبة نظراً للاحترام والتقديس والتشريف لبيت الله الحرام .. وترددت قريش وطال التردد .. وتهيبت وطال بها التهيب .. وتحرجت وطال بها الحرج الشديد .. وتخوفت وطال بها التخوف .. لقد كان لهذا البيت العتيق مكانة سامية مرموقة لدى العرب مما جعل مكة المكرمة مثابة للناس وأمنا وكانت الكعبة المشرفة مكان حجهم وعبادتهم ومهوى أفئدتهم مما أعطى قريشاً التي كانت تجاور بيت الله الحرام مكانة مرموقة ومنزلة سامية لا تدانيها منزلة قبيلة أخرى من قبائل العرب .. وتم الاستعداد لتجديد بناء الكعبة المشرفة وتسابقت القبائل وتنافست في جمع الأحجار والأخشاب وما يلزم للبناء وبذلت الأموال وقدمت الرجال لكنها توقفت فترة أخرى متهيبة هدم الكعبة المشرفة من أجل إعادة بنائها على قواعد وأسس قوية ومتينة حتى قام أحد عظماء قريش وهو الوليد بن المغيرة المخزومي والد خالد بن الوليد فأخذ المعول وصعد الكعبة وقال بأعلى صوته : ( اللهم إننا لم نزغ .. اللهم إننا لا نريد إلا الخير ) .. ثُم أهوى بمعوله على جدران الكعبة وبدأ بهدمها والناس حوله ينظرون بين الترقب والحذر خائفين مرتاعين من أن تصيبهم كارثةٌ كيوم الفيل أو صاعقةٌ أو عقابٌ شديد كأيام عاد وثمود .. فلما لم يصبه شيء من سوء استمهلوا أنفسهم تلك الليلة لعل أمراً سيحل بالوليد بن المغيرة هذا المساء .. ولكنه خرج في الصباح متوجها إلى الكعبة المشرفة لإكمال هدمها لم يصبه سوء ولم يمسه شيء من الشر فعندها اطمأن الناس وتقدموا معه لهدم الكعبة المشرفة ..
وبدأ البناء على بركة الله وتنافست القبائل على بذل المال والجهد وجلب الحجارة والأخشاب وكل ما يلزم لإعادة بناء أقدس بيت في الدنيا في أطهر بقعة في كل أرجاء المعمورة .. ولما ارتفع البناء وتمت القواعد والأسس بدأ الاختلاف يدب بين القبائل وذلك من أجل رفع الحجر الأسود ذلك الحجر المقدس الذي يجب وضعه في أحد أركان البيت تماما كما كان يوم بناه نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام .. وكانت كل قبيلة تريد أن تستأثر بهذا الشرف الرفيع لنفسها دون غيرها من القبائل .. واشتد الخلاف واحتدم النزاع مما أنذر بالوصول إلى تحكيم السلاح وتوقف البناء ومكثت قريش ومكثت القبائل الأخرى خمسة أيام ونذير الخطر يزداد يوماً بعد يوم .. وأصبحت القبائل العربية تعيش على شفير الصدام والحرب فيما بينها حتى قام أحد زعامات قريش أبو أمية بن المغيرة المخزومي عم خالد بن الوليد ووالد أم المؤمنين أم سلمه رضي الله عنها وكان أكبر الحاضرين سناً فخطب الناس وناشدهم السلم والتعاون على إكمال بناء بيت الله الحرام الكعبة المشرفة وقال لهم : ( يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه حكماً .. هو أول من يدخل إليكم من باب هذا الحرم فيقضي بينكم في خصومتكم هذه ) .. فقبل الجميع وتعلقت عيونهم جميعاً نحو الباب يترقبون الحكم المجهول ليقضي بينهم بالحق والعدل وينهي هذه الخصومة التي تكاد أن تشعل حرباً شعواء بين قبائل العرب ، وبينما هم ينظرون إلى الباب وينتظرون الحكم المجهول إذ أقبل رجل شاب بهي الطلعة نام الفتوة متزن الخطوات حسن الصفات رزين المشية في جد ووقار منقطع النظير وكان هذا الشاب هو محمد بن عبد الله فصاح الجميع لما رأوه : ( هذا الأمين .. هذا الصادق .. هذا محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رضينا به حكما فيما بيننا ) .. وتقدم الناس نحو محمد بن عبد الله ليشرحوا له ما اختلفوا فيه وتخاصموا عليه مما ينذر بنشوب قتال وخصام وحرب بين القبائل .. فطلب منهم ثوباً ثم تناول الحجر بيديه الشريفتين ووضعه فوق الثوب وقال لهم : (لتأخذ كل قبيلة بطرف من أطراف الثوب ثم ارفعوا الثوب ومعه الحجر جميعاً ففعلوا حتى إذا بلغ الحجر مكانه رفعه محمد بن عبد الله بيديه الشريفتين ووضعه مكانه ودعم بناءه وثبته في ركنه الركين وبذلك حكم بين القبائل بالعدل والحكمة والأمانة وذلك قبل نبوته عليه الصلاة والسلام .. وعادت القبائل العربية تتنافس في البذل والتضحية والعطاء وتتنافس في بناء الكعبة المشرفة بعد أن كادت تشتعل بينها الحرب بفضل حكمة النبي المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حتى قبل بعثته ونبوته ورسالته عليه أفضل الصلاة والسلام .
*********
الشقيقات الأربع
فرحت خديجة بمجيء المولودة الجديدة ( رقية ) وفرح معها رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بعد وفاة ابنها القاسم حيث عوضهما الله بمولودة جديدة أزاحت عنهما شبح الحزن والأسى بفقد ابنهما القاسم .. وكانت هناك في بيت النبوة زينب أول أولاد المصطفى من زوجته خديجة وكانت في عامها الثاني تحبو وترتع وتفرح وتمرح وإن كانت لا تدري لماذا تفرح ولكن ما لبثت أن كبرت قليلاً وعرفت أن لها أختاً تصغرها بعامين أو أكثر فكانت لا تفارق أختها رقية إلا في أوقات النوم .. لقد عرفت هذه الطفلة الصغيرة معنى المحبة والأنس منذ نعومة أظفارها خاصة وأن أباها محمد بن عبد الله في شغل شاغل عنها في تفكره وتحنثه وتعبده وبدأت الأيام تمر سراعاً وتكبر زينب وأختها رقية ويزداد تعلقهما ببعض وتزداد الألفة والمودة والمحبة بين الطفلتين السعيدتين في كنف الوالدين الحبيبين .
لقد عاشت الشقيقتان طفولة رائعة تظللها السعادة والمحبة والألفة حتى ظهرت آثار الحمل من جديد على خديجة بنت خويلد زوج الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وثقلت في حملها ثم جاءها المخاض لتلد بعد ذلك مولوداً جديداً وكانت أيضاً أنثى فكانت الابنة الثالثة في بيت النبوة والشقيقة الثانية للحبيبة بنت الحبيب زينب وللمهاجرة الصابرة رقية بنت محمد فسماها أبوها ( أم كلثوم ) حيث عاشت هذه المولودة الجديدة في كنف الأبوين الكريمين وفي صحبة الأختين العزيزتين أسعد حياة وأهنأ عيشة تظللهم السعادة والألفة والمحبة والمودة ولم تمض سنة أو سنتين حتى بدت آثار الحمل من جديد على خديجة مرة أخرى .. لقد كانت خديجة في سباق مع العمر فهي لم تعد صغيرة فقد تزوجت في بداية عقدها الخامس وبين الحمل والولادة والرضاعة والفطام للبنات الثلاث جعلتها تقترب من العقد السادس فإلى متى ستظل في نضارتها وإنجابها وهي تقارب الخمسين من عمرها وفي هذا الحمل بالذات كانت تتمنى لو رزقها الله بغلام ذكر قبل أن يدركها سن اليأس ولكن إرادة الله كانت غير ذلك ومشيئته كانت غير ذلك ولا راد لمشيئة الله فجاءت البنت الرابعة التي كانت أشبه ما تكـون بوالـــدها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام والتي سماها رسول الله ( فاطمة بنت محمد ) .. وبذلك اجتمع في بيت النبوة أربع شقيقات هن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وذلك خلال فترة لم تتجاوز عشر سنوات من عمر الزواج السعيد بين محمد بن عبد الله وخديجة بنت خويلد .. ولكن هل ظهر القنوط والتأفف على نفس خديجة أو على نفس الزوج الحبيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؟! .. وهل ولادة البنت الرابعة عكر عليهما صفو حياتهما في بيئة مجبولة على حب الذكور وتفضيلهم على الإناث بل في بيئة كان بعضهم يئد البنات أحياءً خشية العار في بعض الأحيان ؟! .
الحقيقة أن كلاً من خديجة وزوجها محمد صلى الله عليه وسلم كان راضيا أشد الرضا بما قسمه الله لهما وبما قدره الله من ولادة الشقيقات الأربع دون أن يرزقهما الله بولد ذكر .. وأقبل محمد عل زوجه خديجة مهنئاً بسلامة الحمل والولادة ثم استلم ابنته الرابعة ليدعوا لها ويبـارك لخديجة مـولودهـا الجديد الرابع .. عاشت الشقيقـات الأربـع زينـب ورقيـة وأم كلثـــوم وفاطمــة فـي بيت النبـوة فـي محبـة وألفـة وسعــــادة وترعرعن في كنف الأبوين الكريمين بل في كنف بيت النبوة ..
أما رسـول الله صلـى الله عليه وسلم فكانت قناعته بما قسمه الله تصرفه عن قالة الناس عن أبوته لبنات أربع أو وصفه بأبي البنات أو وصفه بالأبتر الذي لا عقب له في بيئه تعتبر أن الأبناء من الذكور فقط هم أبناء القبيلة وحماتها وحملة اسمها .. فكان يتطلع إلى السماء حامداً شاكراً راضياً مستبشراً بأن الخير كل الخير فيما قسمه الله له ومـا أراده الله له ، مما زاده محبـة وحنانـاً ورحمـةً ورعايـــةً لتلك الزهـرات المتفتحات اللواتي أضفين على بيت النبوة سعادة وبشرا وحيوية ورضاء بما قسمه الله ربما لم يعرفه زوجين آخرين في الوجود .. ولم تنقطع خديجة بنت خويلد عن الحمل والولادة فهي في سباق مع العمر حتى بعد الخمسين من عمرها على غير عادة النساء في ذلك الزمان إنما بقيت في حيويتها ونشاطها وإنجابها حتى بعد الخمسين من عمرها حيث ما لبثت أن حملت وأنجبت ولدها الذكر الثاني والذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم (عبد الله) والذي كان يسمى بالطيب أحيانا وبالطاهر أحيانا أخرى .. ولكن أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم الذكور لم يعيشوا طويلاً إنما وافتهم المنية ولم يتجاوزوا سن الرضاعة إلى سن الفطام. فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم. وحزنت خديجة حزنا شديداً على ولديها فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة بعد بعثته وهي تبكي على ولدها القاسم فقالت : ( يا رسول الله درت لبينة القاسم فلو عاش حتى يستكمل رضاعته ) .. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن له مرضعاً في الجنة تستكمل رضاعته فقالت خديجة : ( لو أعلم ذلك لهون علي) فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن شئت أسمعتك صوته في الجنة) فأجابت بل (أصدق الله ورسوله).
وتفيد روايات السيرة أن القاسم قد مات في سن الرضاعة قبل البعثة أما أخوه عبد الله الملقب بالطيب والملقب بالطاهر أيضاً فقد مات في سن الرضاعة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبذلك خيم الحزن المقرون بالرضا بما قسمه الله على بيت النبوة إذ لم تطل فرحة الرسول وآل بيته بولادة الغلامين القاسم وعبد الله حتى وافتهم المنية وجاءهم قدر الله حيث استرد الأمانة التي أودعها بيت النبوة وذلك في فترة قصيرة جداً .. ولعل مما كان يسيء إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته قالة السوء والاتهامات التي كانت ترد على ألسنة المشركين من زعماء قريش خاصة بعد بعثة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وبدء انتشار الدعوة إلى عقيدة التوحيد ونبذ الأصنام والأوثان وعقيدة الشرك فقد نعته بعضهم بأبي البنات وأنه لا عقب له ولا ذرية من الذكور في مجتمع جاهلي لا يعترف بالذرية إلا من قيل الذكور إضافة إلى بعض النعوت و الصفات الأخرى .. إلا أن قالة السوء التي صدرت عن العاص بن وائل السهمي أحد أشراف مكة حيث قال: ( دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له ولو مات لانقطع ذكره واسترحتم من أمره ) .. فأنزل الله في ذلك سورة الكوثر ( إنا أعطيناك الكوثر .. فصلِّ لربك وانحر.. إن شانئك هو الأبتر ) .
ومهما يكن من أمر ومهما بلغت دعاوى المشركين وأقوالهم واتهاماتهم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن أشد الإيمان ويثق أكبر الثقة بأن الله بالغ أمره وناصر رسوله .. ومخلدٌ دعوته حتى يرث الله الأرض ومن عليها .. وقدر الله سيأتي ودعوة الله سيتم أمرها وتنتشر عبر المكان والزمان دونما حاجة إلى أولاد ذكور يحملون هذه الدعوة من بعده كما كان يظن سفهاء قريش وكبراؤها في الجاهلية .. وهكذا كانت إرادة الله حيث انتشرت دعوة الإسلام لتعم الأرض كل الأرض وتنتشر في جميع بلاد الله الواسعة ويصبح عدد المسلمين يزيد على ثلث سكان الأرض قاطبة. وبذلك كان الأبتر هو العاص بن وائل الذي انقطع ذكره وانقطع أثره عبر التاريخ وصدق الله تعالى " إن شانئك هو الأبتر".
ولقد ظل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى آخر حياته يتوق إلى ولد ذكر ويلتمس في ذلك الوسيلة حتى إذا وهبه الله على الكبر غلاماً من زوجه مارية القبطية امتلأت نفسه غبطة وامتلأ بيت النبوة فرحا بقدوم إبراهيم الذي كان آخر أولاده ولكن إرادة الله الذي أعطى قدرت استرجاع الأمانة لحكمة بالغة وإرادة حكيمة فلم يلبث إبراهيم في حضن الأبوين السعيدين سوى عامين أو تزيد حتى قبضه الله إليه وهو لم يتجاوز العام الثالث من حياته فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم وحزن آل بيته الطيبين الطاهرين لفقد إبراهيم أشد الحزن فلم يكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألمه ولم يملك دموعه فبكى طفله الأخير إبراهيم وهو قانع مستسلم لقضاء الله وقدره الذي شاء لحكمة عظيمة سامية ألا يكون لنبيه المصطفى خلفة من الذكور فقال بقلب مليء باللوعة والأسى: " إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون لا نقول ما يغضب الرب" ..
عاشت رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم مع أخواتها زينب وأم كلثوم وفاطمة قبل النبوة حيث استمرت حياتهم في أنس وسعادة إلى ما بعد الهجرة حيث توفيت بناته الثلاث زينب ورقية وأم كلثوم في حياة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يبق له من الولد حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى إلا ابنته الزهراء فاطمة رضي الله عنهم جميعا .. لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أعظم أب في التاريخ أحب أبناءه بقوة وحنى عليهم بصدق وفارقهم بلوعة وأسى منقطعة النظير ولكنه وهو النبي المرسل من رب السماء والأرضين لم ينس لحظة واحدة أن الله هو الذي أعطى وأن الله هو الذي أخذ وأنه يحتسب كل المصائب والإحن عند الله جل وعلا ,, فلم يجزع ولم يدق الصدر ولم يمزق الثياب ولم يقم بطقوس للحزن جاهلية مبتدعة كما يفعل الكثيرون من المنحرفين والمخالفين والضالين والخارجين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما احتسب كل مصائبه بصبر وأناة عند رب لا يغفل ولا ينسى .. لقد مات القاسم ومات الطيب وهما لم يتجاوزا سن الرضاعة ومات إبراهيم فيما بعد وهو لم يتجاوز عامه الثالث وماتت خديجة فيما مضى من الأيام ومات عمه أبو طالب وجده عبد المطلب والرسول الكريم صابر محتسب وماتت بناته زينب ورقية وأم كلثوم والنبي الكريم صابر ومحتسب وآذاه المشركون أيما إيذاء وهو صابر محتسب يحتسب كل هذه المصاعب والمآسي والآلام عند رب كريم لا يضيع عنده مثقال ذرة في السماوات والأرض .
وهكذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تربى وسط الشدائد والمصائب والمحن فكانت هذه الشدائد والمصائب والمحن دروساً واجهها بالصبر في الشدائد والرضى بما قسمه الله له والتسليم بقضاء الله وقدره والتعالي على هموم الدنيا وزينتها كيف لا وأن هذه الدروس وغيرها هي زاده في طريق الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة السماء إلى الناس كافة .
ولعل من المفيد هنا ونحن نتحدث عن أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته أن نرد على شبهة المنحرفين في أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب فاطمة الابنة الصغرى ويفضلها على بقية بناته وبالتالي بنو على هذه الفكرة الباطلة أفكاراً وأوهاماً وانحرافات ما أنزل الله بها من سلطان معتقدين أن الخلافة والإمامة يجب أن تكون في نسل فاطمة من علي رضي الله عنهم أجمعين .. ونحن نحب فاطمة ونحب علياً ونحب أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين ونحب أئمة الإسلام المؤمنين الطاهرين الطيبين ولكننا في الوقت ذاته لا نفرق بين واحد منهم ولا نقدس أحداً منهم كلهم عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما .. نعم إن هذه الأفكار المنحرفة هي التي فرقت الأمة الإسلامية وهي التي ابتدعت في دين الله طقوساً ومبادئ وانحرافات عن دين الله ما أنزل الله بها من سلطان .. الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب جميع أولاده ولئن كان حب فاطمة أكثر فهو لأنها أصغر البنات ولأنها الوحيدة التي بقيت حتى آخر حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولأنها الوحيدة التي أنجبت وبقي نسلها حتى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وليس لفضل خاص بها يبنى عليه مثل هذه الانحرافات ولعل أصدق ما نرد به على هؤلاء المنحرفين الضالين قول الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع المرأة المخزومية التي سرقت : ( والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ). لا محاباة في الإسلام ولا تفريق في حب رسول الله لأبنائه فكلهم من أل بيته الطاهرين الطيبين ..
وهكذا عاشت الشقيقات الأربع في بيت النبوة في أكرم بيت على وجه الأرض من سلالة عريقة ونسب شريف أصيل لم تعرف الدنيا أعز منه ولا أشرف .. عاشت الشقيقات الأربع في بيت كريم معطاء لم تحظ به لداتهن من المجتمع القرشي في مكة المكرمة .. فكانت كل واحدة منهن تمثل زهرة متفتحة وثمرة طيبة لزواج طاهر عفيف سعيد قام على الحب والسكينة والمودة والرحمة فكن قرة عينه عليه الصلاة والسلام وكن أنسه وسكينته بعدما ذاق في طفولته من اليتم وما قاسى في فتوته من الحرمان وما لاقاه في شبابه من المصاعب والأهوال وأحداث الزمان .. لقد عاشت الشقيقات الأربع في طفولة سعيدة ناعمة بعيدة كل البعد عن الخشونة وشظف العيش والفقر والحرمان كيف لا وأمهن خديجة بنت خويلد المرأة الثرية التاجرة التي كانت تسير القوافل بتجارتها في رحلة الشتاء والصيف إلى بلاد اليمن وبلاد الشام .. ولكن خديجة تركت الدنيا وما فيها تركت المال والتجارة وتفرغت لزوجها وأولادها وأقبلت بكل طاقتها ترعى بيت النبوة كأحسن ما تكون الرعاية فكان كل جهدها منصب على رعاية هذا البيت الكريم وهذه الأسرة السعيدة الطيبة الطاهرة .. وهكذا عاشت الشقيقات الأربع في كنف الأم الحنون والأب الطيب الكريم وترعرعن في المنبت الطيب الطاهر .. وعلى الرغم من وجود الخدم والموالي فإن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت تتولى بنفسها مهمة تربية بناتها لتعدهن للمستقبل المنشود ..
شبت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحت في عون أمها خديجة التي جاوزت الخمسين فما كان منها ومن أختها زينب إلا أن تحملا مع أمهما أعباء البيت ومسؤولية العناية بأخواتها وخاصة الصغيرة فاطمة الزهراء .. مما زاد أواصر المحبة والألفة بين الشقيقات الأربع في بيت النبوة .. فكن شقيقات رفيقات يجمعهن الملعب المشترك والفراش الواحد والغرفة الواحدة والطباع المتشابهة والمزاج النابه الأصيل فكانت حياتهن رفيهة هنية حتى أصبحت زينب ورقية بنتا رسول صلى الله عليه وسلم عروسان متفتحتان واعيتان ذواتا أصل شريف وحسب ونسب فكانتا محط أنظار العرسان من أشراف قريش ..
********
رقية العروس الهاشمية
ما كادت زينب بنت محمد تزف إلى ابن خالتها أبو العاص بن الربيع وهي في ربيعها العاشر أو يزيد حتى طار عقل الهاشميين .. فهم يعتبرون أنفسهم أحق من بني أسد في بنات محمد رغم أن أبا العاص بن الربيع لا يقل عن الهاشميين أصلاً وحسباً ونسباً وشرفاً إضافة إلى أنه كان من أغنياء قريش وتجارها ولكن العادات والتقاليد الجاهلية كانت تقتضي أن تزوج الفتاة من أبناء عمومتها الأقربين ومن قبيلتها وعشيرتها خاصة وأن زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم كانت في قمة الشرف والأصل والحسب والنسب .. كانت هاشمية قرشية يمتد نسبها إلى عدنان حتى يصل إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام .. ولكن أسكتهم أن صاحب الحظ السعيد أبو العاص بن الربيع كان ابن أخت خديجة بنت خويلد الأسدية حبيبة محمد بن عبد الله .. وأصبحوا يشاورون على بنات محمد الأخريات رقية وأم كلثوم وفاطمة وهن لم يتجاوزن سن الطفولة إلى سن الفتوة والشباب .
كانت رقية عند زواج أختها زينب تزهو بربيعها التاسع أو العاشر وكان أختها أم كلثوم تصغرها بثلاث سنوات تقريباً على اختلاف بسيط بين المؤرخين .. ما إن بلغت رقية الحادية عشرة حتى بدأت أنظار أبناء قريش تحوم حولها لئلا تفلت من أيديهم فتزف إلى عريس آخر لا يمت إلى القرابة الهاشمية بصلة .
كانت رقية تنمو وتكبر وتزداد أنوثة ونضارةً وجمالاً ودلالاً إضافة إلى ما تمثله من الأصل والشرف والحسب والنسب .. كانت تشارك أمها التي تجاوزت الخمسين أعباء الأسرة ومسئولية البيت مما طبع شخصيتها بطابع الجد وتحمل المسئولية .. فأصبحت فتاة ناضجة واعية وهي لم تتعد مدارج الطفولة إلى سن الفتوة والصبا والشباب فهي في تلك الفترة من حياتها لم تتعد العاشرة من عمرها ولكن خوف أشراف مكة من أن تضيع منهم فرصة ثمينة لا تعوض في خطبة بنات محمد بن عبد الله بعد أن ضاعت منهم زينب فقد عجلوا إلى بيت محمد بن عبد الله وعلى رأسهم شيخ قريش أبو طالب بن عبد المطلب .
بعد زواج زينب بنت محمد بوقت قصير استقبل البيت المحمدي وفداً من آل عبد المطلب جاءوا يتلمسون مصاهرة ابن عمهم الأمين محمد بن عبد الله فقد خافوا أن يسبقهم إلى ذلك كفء كريم من شباب قريش .. كانت الشقيقتان الهاشميتان لا تزالان صغيرتين على الزواج وتحمل أعباء الزواج .. ولكن عندما طرق الباب وعلمت البنات أن وفد بني هاشم وعلى رأسهم أبو طالب بن عبد المطلب قد جاء لزيارة محمد بن عبد الله فخفق قلب الفتاتين الصغيرتين رقية وأم كلثوم وعلمتا أن الضيوف لم يأتوا إلا لأمر جلل .. فهم لا شك قادمون لخطبة رقية بنت محمد .. وجرى بين الفتاتين حوار هادئ :
أم كلثوم : أظن أنه جاء دورك يا رقيه ..
رقـيـــــــــــــة : ولكني لا أزال صغيرة على الزواج يا أختي الحبيبة .
أم كلثوم : ولكن شيخ قريش أبو طالب لا يمكن أن يقدم إلينا إلا لأمر جلل .
رقـيـــــــــــــة : ربما .. ولكني لا أزال صغيرة يا أختي الحبيبة .
أم كلثوم : لا عليك .. فلابد وأن نعلم بالخبر الأكيد بعد قليل .
دخلت عليهم والدتهم خديجة بنت خويلد وطلبت منهم المساعدة في إعداد واجب الضيافة لشيوخ بني هاشم وعلى رأسهم أبو طالب بن عبد المطلب فخفتا لمساعدة والدتهم .
كانت فاطمة بنت محمد تجلس في حجر والدها أثناء قدوم شيوخ بني هاشم ونظراً لصغرها فقد آثرت أن لا تفارق والدها بل بقيت تستمع لما يدور بينهم من حديث فسمعت شيخهم أبا طالب بن عبد المطلب يقول لوالدها ..
أبو طـالب : انك يا بن أخي قد زوجت ابنتك زينب أبا العاص بن الربيع وإنه لنعم الصهر شرفاً وحسباً ونسباً غير أن بني عمك لهم عليك مثل ما لابن أخت خديجة وليسوا دونه شرفاً وحسباً ونسباً .
فأجابهم محمد : ( صدقت يا عم .. ) .
أبو طـالب : ولقد جئناك نخطب ابنتينا رقية وأم كلثوم .. وما أظن أنك تضن بهما على ابني عمك .
كانت كلمة الشيخ أبو طالب مفاجأة محيرة لكل الحاضرين وخاصة للوالد الرحيم محمد بن عبد الله ذلك لأن رقية لم تتجاوز ر بيعها العاشر بينما أم كلثوم لم تتجاوز الثامنة من عمرها .. إنهما صغيرتان على الزواج .. صغيرتان على تحمل مسؤولية الزواج والبيت .. تفلتت فاطمة من حجر أبيها وهرعت تزف الخبر إلى أمها وأختيها وعندما دخلت غرفة الأختين سمعتهما تتحاوران ..
أم كلثوم : أنا أؤكد لك أن الشيخ أبا طالب جاء لخطبتك ..
رقـيـــــــــــــة : لا أظن ذلك فهو يعلم أنني لا أزال صغيرة على الزواج .
أم كلثوم : بل أؤكد على ذلك فأختنا زينب تزوجت ولم تتجاوز اثني عشر ربيعاً يوم زواجها .
وهنا دخلت فاطمة الصغيرة لتلقي بنفسها في حجر أختها رقية وتقول بشيء من الدلع المحبب ..
فـــاطمــــــة : عندي لكم الخبر اليقين ..
أم كلثوم : ماذا ..؟! خطبة رقية ..
فـــاطمــــــة : بشيء من الدلع والدهاء .. بل خطبتكما معاً ...
أم كلثوم : ماذا تقولين يا فاطمة ؟! .
فـــاطمــــــة : أجل خطبتكما معاً .. فلقد سمعت الشيخ أبا طالب يقول : ( وجئناك نخطب ابنتينا رقية وأم كلثوم ) .
رقـيـــــــــــــة : باستغراب وذهول .. رقية وأم كلثوم ؟! إننا لا نزال صغيرتان على الزواج.
أم كلثوم : أبهذه السرعة نتخطف من بيت والدينا ؟! .
رقـيـــــــــــــة : ولكن من هو صاحب الحظ السعيد يا فاطمة ؟!.
فـــاطمــــــة : تمط شفتيها متجاهلة .. لا أعرف هذا ما سمعته من الشيخ أبي طالب ولم أصبر حتى أسمع بقية الخبر بل هرعت إليكما لأزف لكما البشرى .
أم كلثوم : إنني صغيرة .. لا أزال صغيرة يا أختاي .
فـــاطمــــــة : أنا لا أريد الزواج .. سأظل عند أبي وأمي .
رقـيـــــــــــــة : تبتسم .. ليس هذا الأمر بيدك أو بيدي ..
أم كلثوم : لا بد لك من الزواج .. فهذه سنة الحياة .
فـــاطمــــــة : بل سأظل في حضن والديَّ ولن أتركهما أبداً .
رقـيـــــــــــــة : ( تضحك ) .. لا تزالين صغيرة على هذا الأمر يا حبيبتي .
وجمت الأختان الحبيبتان رقية وأم كلثوم لهذا الخبر المفاجئ الذي وقع عليهم كالصاعقة .. مفاجأة غير متوقعة وخيم على جو الغرفة صمت رهيب ووجوم شديد وراحت رقية وأم كلثوم تتبادلان النظرات الواجمة التي توحي بألف سؤال دون أي جواب ..
-لماذا التعجل في الزواج .. ؟ .
-ألسنا صغيرتين على الزواج .. ؟ .
-هل أستطيع حمل مسئولية الزواج والبيت .. ؟ .
-هل أستطيع فراق والدي الحبيبين .. ؟ .
-هل سيوافق أبوهما على هذه الخطبة المفاجئة .. ؟ .
ولفهما صمت ووجوم خيم على جو الغرفة .. كما أصاب الأختين الحبيبتين رقية وأم كلثوم شيء من الحيرة والخوف من المستقبل المجهول .. خاصة وأنهما لا تعلمان من هما العريسان القادمان وما هو طبيعة البيت الجديد الذي ستنتقلان إليه .. وهنا سمعت صوت والدتهما تناديهما لإعداد واجب الضيافة من المأكل والمشرب للضيوف من أشراف قريش .
أما فاطمة بنت محمد الصغيرة فقد أطرقت وهي وحيدة في الغرفة بعد أن هرعت أختاها لمساعدة أمهما في إعداد الضيافة لشيوخ بين هاشم .. أطرقت ساهمة تفكر فيما يحدث لهذا البيت السعيد .. لقد انتزعت زينب من هذا البيت منذ شهور .. وتركت في قلوب الأسرة الكريمة الوحشة والحزن وألم الفراق وعما قريب سيعود نفس المشهد القاسي من جديد حيث تفارق أختاها رقية وأم كلثوم وسوف يخيم على البيت من جديد أطياف الوحشة والحزن وألم الفراق .. بل هذه المرة سيكون الفراق أقسى والألم أشد ذلك لأن فاطمة الصغيرة ستبقى وحيدة فريدة في بيت النبوة لا أنيس لها ولا جليس فأخذت تبكي ألم الفراق قبل أن يحل الفراق وتندب حظها ووحدتها قبل أن تعيش هذه الوحدة .. لقد استطاعت فاطمة أن تعيش هذا الجو القاسي الأليم في خيالها قبل أن يتحقق في عالم الواقع .. أجل لقد بكت الصغيرة المدللة فاطمة وحق لها أن تبكي حين فقدت صحبة أختها زينب الكبرى وبكت أكثر وأكثر حين استشعرت فراق أختيها رقية وأم كلثوم وقد أزف وقت رحيلهما معاً حيث ستبقى وحيدة في بيت النبوة تكابد ألم الوحدة وقسوة الفراق وفي هذه الأثناء دخلت الوالدة الحنون خديجة بنت خويلد لتضم صغيرتها إلى قلبها وتمسح دموعها وتسألها وهي تعلم ما يبكيها ..
خـــديجــــة : ما يبكيك يا حبيبتي فاطمة .. ؟.
فـــاطمــــــة : لا شيء يا أماه .. لا شيء .
خـــديجــــة : بل هناك أشياء يا صغيرتي .. أخبريني يا فاطمة ما الذي يبكيك ..
فـــاطمــــــة : لقد أزفت لحظة الفراق يا أماه ..
خـــديجــــة : الفراق ... ؟! .
فـــاطمــــــة : أجل يا أمي الحبيبة .
خـــديجــــة : ماذا تقصدين يا فاطمة ؟ !.
فـــاطمــــــة : لقد ودعنا زينب منـــذ شهــــــور إلى بيت زوجهـــا والآن .. ( تغلبها غصة قوية ثم موجة من البكاء الشديد ) ..
خـــديجــــة : والآن ماذا يا فاطمة ؟! .
فـــاطمــــــة : والآن جاء دور رقية وأم كلثوم دفعة واحدة ..
خـــديجــــة : ولكن زينب سعيدة في بيت زوجها وستكون رقية وأم كلثوم أيضاً سعيدتان في بيت زوجيهما أيضاً ..
فـــاطمــــــة : ولكني لست سعيدة بهذا الزواج .. سأظل وحيدة هنا يا أماه ..
خـــديجــــة : هذه سنة الكون يا بنيتي كل الفتيات مصيرهن إلى الزواج .
فـــاطمــــــة : ولكني لا أريد أن أغادر هذا البيت أبداً يا أماه .
خـــديجــــة : قلت لك هذه سنة الحياة غداً ستكبرين وستكونين عروساً محل أنظار أشراف قريش ..
فـــاطمــــــة : ( وهي تبكي ) .. لا يا أماه .. لا أريد أن أكون عروساً .. لا أريد أن ينتزعني أحد منك ومن أبي ..
خـــديجــــة : لا شك أنك عندما تكبرين ستغيرين رأيك .
فـــاطمــــــة : بشيء من العصبية والإصرار بل أريد أن أظل بقربكما فلست أطيق فراقكما .
خـــديجــــة : ( تبسمت ) .. أجل يا صغيرتي لن تتركينا حتى تريدي أنت .
فـــاطمــــــة : ( بعفوية وطفولية ) إنني لا أريد فراقكما أبداً يا أمـاه .
خـــديجــــة : هكذا كنا نقول في سالف الأيام ولكن الأيام غيرت أفكارنا ولا بد أن تغير أفكارك يا صغيرتي عندما يحين الأوان .
جلست خديجة بنت خويلد فهرعت إليها فاطمة لتجلس في حجرها وتعانقها عناقاً حانياً ثم أسيلت جفنيها تفكر وتسرح في حالها وعادت بها الذكرى إلى أيام طفولتها حيث كانت تنصرف بنفس الطريقة التي تراها في ابنتها فاطمة طريقة طفولية ساذجة بريئة .. عادت رقية وأم كلثوم بعد قيامهما بإعداد الضيافة لشيوخ بني هاشم وجلستا مع أمهما وفاطمة .. وساد جو الغرفة شيء من الصمت الرهيب والمفاجأة التي لم تكن بالحسبان وخجلت العروسان من سؤال أمهما عن العريسين الهاشميين القادمين بهذا الشكل المفاجئ ولكن الصغيرة فاطمة كان أكثر جرأة منهما فسألت أمها .. وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد ..
فـــاطمــــــة : يا أماه هل علمت سبب مجيء الشيخ أبو طالب مع شيوخ بني هاشم إلينا اليوم ؟ .
خـــديجــــة : طبعاً يا بنيتي .. وهل يخفى علي ما يسعون إليه ..
فـــاطمــــــة : ولكن كيف علمت بالخبر وأنا لم أخبرك بذلك .
خـــديجــــة : من يوم خطبة أختك زينب وشيوخ بني هاشم لا يقر لهم قرار ..
رقـيـــــــــــــة : ولكنك لم تخبرينا كي نعد أنفسنا لهذا الأمر ولا تصدمنا المفاجأة ..
خـــديجــــة : لم أرد أن أشغل بالكما حتى يتأكد هذا الأمر .. خاصة وأنكما لا تزالان صغيرتان على الزواج .
أم كلثوم : والآن يا أمي ؟.
خـــديجــــة : الآن قد تأكد ظني وجاء شيوخ بني هاشم لخطبتكما .
فـــاطمــــــة : ومن يكون الخاطبان يا أماه ؟! .
خـــديجــــة : لا أعلم بالضبط ولكن ....
رقـيـــــــــــــة : أكملي لماذا توقفت عن الكلام يا أماه .
خـــديجــــة : أظن أنهما عتبة وعتيبة أبناء العم عبد العزى فهما أكثر فتيان قريش حسباً ونسباً وغنىً .
أم كلثوم : ولكن يا أماه ... ؟.
خـــديجــــة : ماذا يا بنيتي .. هل هناك من أمر .. ؟ .
أم كلثوم : ولكن أمهما ..
رقـيـــــــــــــة : أجل أمهما ...
خـــديجــــة : أم جميل ..
رقـيـــــــــــــة : أجل أم جميل ..
خـــديجــــة : وماذا بها يا بنيتي ؟! .
رقـيـــــــــــــة : امرأة شديدة قاسية ..
أم كلثوم : سليطة اللسان يا أماه ..
خـــديجــــة : إنها من أصل شريف ونسب أصيل ولا شك أنها ستفرح بكما عروسان هاشميتان لابنيها ..
رقـيـــــــــــــة : أرجو أن لا يكون ذلك يا أماه ..
أم كلثوم : ألا يوجد في الهاشميين غير أولاد أم جميل بنت حرب ..
وهنا أشفقت خديجة على ابنتيها الصغيرتين وتمنت من قلبها أن لا يكونا أبناء أم جميل بنت حرب ذلك لأن خديجة أعرف الناس بأم جميل وفظاظتها وطول لسانها ولكنها كتمت هذا الأمر بنفسها لأنها لا تستطيع أن ترد طلب الشيخ أبي طالب الذي يعتبر الرجل الأول ليس على الهاشميين وحدهم ولكن على قريش والقبائل العربية كلها وهنا بدأت الدموع تتساقط من عينها شفقةً وحزناً على الزهرتين المتفتحتين الناعمتين رقية وأم كلثوم أن تقعا تحت تسلط أم جميل زوجة العم عبد العزى .
رقـيـــــــــــــة : ما بك يا أماه ؟ .
خـــديجــــة : لا شيء .. يا ابنتي ...
رقـيـــــــــــــة : وهذه الدموع ..
خـــديجــــة : تذكرت يوم فراق أختك زينب والآن أعد نفسي لفراق أصعب وأمر ..
رقـيـــــــــــــة : أصعب وأمر ؟! .
خـــديجــــة : أجل يا بنيتي ..
رقـيـــــــــــــة : ولماذا أصعب وأمر ؟! .
خـــديجــــة : لأنني الآن سأفارق ثلاثة بنات دفعة واحدة .
أم كلثوم : وهل هناك شيء آخر يا أماه ؟ .
خـــديجــــة : أجل يا بنيتي ..
أم كلثوم : ولا تريدين اطلاعنا عليه ..
خـــديجــــة : لا يا بنيتي .. ولكني فارقت زينب إلى بيت خالتها وابن خالتها وهم كما تعلمون من دماثة الأخلاق والطيبة وحسن المعشر .. وأنا مطمئنة عليها كما لو كانت عندنا ..
رقـيـــــــــــــة : وماذا بعد يا أماه ؟ .
خـــديجــــة : أما أم جميل بنت حرب فلا اعلم عنها إلا شراسة الطبع وسلاطة اللسان وسوء الخلق ..
رقـيـــــــــــــة : وماذا عن أبنائها عتبة وعتيبة ؟ .
خـــديجــــة : هما زينة فتيان بني هاشم ولا يعيبان بشيء .
رقـيـــــــــــــة : إذن مالنا وأم جميل بنت حرب مادام العريسان كما تصفين ؟!.
خـــديجــــة : لا شيء إنما أخشى أن تؤثر عليهما أو تقسو عليكما ولا يستطيعان ردها عما تقول أو تفعل فهي امرأة متسلطة على زوجها وأولادها .
رقـيـــــــــــــة : ولكننا لم نتأكد من ذلك .
أم كلثوم : لندع هذا الأمر حتى تستقر الأمور على شيء ثابت ومحدد .
فـــاطمــــــة : أذهب إلى غرفة والدي أجلس في حجره وأستطلع لكم الخبر ..
خـــديجــــة : لا حاجة لذلك فوالدك لن يقطع أمراً قبل أن يستشيرنا وخاصة العروسان رقية وأم كلثوم .
وهنا يظهر محمد بن عبد الله قادم من غرفته يدخل على زوجته وبناته بوجهه البشوش ليعلن للعائلة الكريمة عن الخاطبين الهاشميين عتبة وعتيبة ابنا العم عبد العزى .. وهنا أحست خديجة بنت خويلد بانقباض شديد من هذا الخبر رغم أنها لا تستطيع رفض مثل هذا الطلب الذي ربما فرق الأهل والعشيرة وأثار غضب الهاشميين عليها وهنا ما كان من خديجة إلا أن وافقت زوجها على خطوبة ابنتيها وتبعتها ابنتاها رقية وأم كلثوم بالموافقة على هذه الخطوبة رغم ما كانتا تضمرانه من خوف وحذر وترقب .
وهنا قعدت السيدة خديجة وحيدة في غرفتها بعد موافقتها على هذا القرار الصعب تفكر وقد شعرت بانقباض شديد لا تدري له سبباً سوى أنها لا تستريح إلى أم جميل بنت حرب بنت أمية بن عبد شمس زوجة العم عبد العزى بن عبد المطلب ذلك لما فيها من صلف أحمق وطيش أهوج وشراسة في الطباع وحدة في اللسان فهي صورة لا مثيل لها في الشريفات القرشيات اللواتي يتميزن بدماثة الأخلاق وحسن المعشر والاتزان والهيبة والوقار .. لذلك فقد أشفقت السيدة خديجة على ابنتيها الصغيرتين اللتين لا تزالان ترتعان في مراتع الطفولة .. خشيت أن تكون قد تسرعت وزوجها بإعطاء الموافقة على هذا الزواج غير المتكافئ والذي جاء بشكل مفاجئ بعيداً عن كل التوقعات .. خشيت خديجة على ابنتيها من معاشرة تلك الزهرتين المتفتحتين لأم جميل بنت حرب وبما تتصف به ولكنها رغم كل ذلك وافقت زوجها فما هي بالزوجة التي تفرق بين الأهل والأقارب والعمومة لقد همت خديجة أكثر من مرة أن تفضي إلى زوجها بما يعتلج في ضميرها من شكوك ومخاوف إلا أن محمد بن عبد الله كان في شغل شاغل عن أمور الدنيا كلها إنه منقطع في غرفته يتعبد ويتحنث وينتظر أمراً جللاً لا يعرف كنهه ومداه إلا الله رب العالمين .. عندها تراجعت خديجة عن رأيها لتترك الأمور تسير فالله معهم ولن يضيعهم وهو فوق كل العباد ونعم بالله .
جلست العروسان الهاشميتان في الغرفة المجاورة بعد أن خرجت خديجة تتجاذبان أطراف الحديث وقفت الصغيرة المدللة فاطمة ترقبهما عن بعد في شيء من الحيرة والترقب ذلك لأن الأمر لم يكن كما عهدت أثناء خطبة أختها الكبرى زينب .. فالأمر اليوم يختلف تماماً عما شاهدته من أختها زينب يوم إعلان خطبتها لابن خالتها أبي العاص بن الربيع لقد كانت زينب بادية البشر والإشراق ... كانت الابتسامة المشرقة لا تغادر ثغرها .. كانت تستعد للفرح في غبطة وسرور رغم حيائها .. أما رقية وأم كلثوم فقد علا وجههما الاكتئاب والقلق والوجوم ولم تستطع فاطمة الصغيرة أن تميز في ذلك الوقت بين زواج قام على الألفة والمودة والرحمة والتعاطف وزواج آخر تعقده أوامر القربى والعشيرة وهنا همست رقية إلى أختها أم كلثوم .
رقـيـــــــــــــة : ما بال الأسرة تتعجل زواجنا ..
أم كلثوم : أليس من الضروري أن نأخذ فرصة للتعرف على البيت الجديد والأسرة الجديدة .
رقـيـــــــــــــة : وقد التفتت إلى أختها تسألها باهتمام زائد .. إنك تعلمين أن أبانا لن يقضي هذا الأمر دون موافقتنا فماذا أنت فاعلة يا أم كلثوم .
أم كلثوم : لست بالتي تعق أباها فتعرضه للحرج أمام أهله وعشيرته وخاصة أعمامه شيوخ بني هاشم ..
رقـيـــــــــــــة : ولكن كيف لنا أن نعيش مع أم جميل ؟! .
أم كلثوم : لا عليك يا أختاه فسنكون معاً على أم جميل إن هي أساءت لنا ..
رقـيـــــــــــــة : تبتسم في وجه أختها وتقول .. أجل ستكون معاً على أم جميل إن هي أساءت لنا ..
*******
الزفــــــــــــاف
انتشر خبر خطوبة عتبة وعتيبة ابنا العم عبد العزى للعروسين الهاشميتين رقية وأم كلثوم بنتا محمد بن عبد الله في جميع أرجاء مكة .. وتلقت القبائل هذا الخبر بالفرح والرضا تارة وبالسخط والحقد تارة وبالغيرة والحسد تارة أخرى وكان فتيان قريش يتسابقون للتقرب من هذا النسب الشريف ولكن ضاعات منهم رقية وأم كلثوم كما ضاعت أختها زينب بنت محمد من قبل .. لقد تفاجأ الجميع لهذا الحدث الهام خاصة وأن رقية وأم كلثوم لا تزالان أقرب إلى الطفولة منهما إلى الفتوة والصبا .. وحسماً للموقف وإسكاناً للقيل والقال فقد آثر العريسان يدفعهما أبويهما عبد العزى وأمهما أم جميل بنت حرب للإسراع في هذا الزواج الميمون .. كان عتبة وعتيبة زينة فتيان قريش وشبابها شرفاً وخلقاً وثراءً إضافة إلى ما يتميزان به من جمال المنظر وأناقة المظهر ودماثة الأخلاق وحسن المعشر .
تهيأ البيت المحمدي لهذه المناسبة السعيدة خاصة وأن أم جميل أرادات أن تكون فرحتها بزواج ابنيها عتبة وعتيبة حدثاً هاماً لم تسمع القبائل العربية مثله خاصة وأن العم عبد العزى كان من أصحاب المال والتجارة .. وانتقلت الفرحة العارمة إلى البيت المحمدي فامتلأ البيت غبطة وفرحاً وسروراً وحركةً وضجيجاً حيث كان من عادة أشراف العرب إحداث مثل هذا الصخب والأهازيج عند إعداد العروس وزفها إلى بيتها الجديد .. بعث محمد بن عبد الله ليجهز ابنتيه بأزكى العطور وأنفس الألبسة الحريرية وبعثت خديجة بنت خويلد إلى التجار ليأتوها بأفخر ما لديهم من بضائع فارس وبلاد الشام واليمن من ألبسة ومتاع وحلي وزينة تليق بالعروسين الهاشميتين ، أما العم عبد العزى والد العريسين فقد فتح بيته في مكة للزوار الوافدين والمهنئين فكان يصرف بسخاء منقطع النظير فرحاً وابتهاجاً بزواج ابنيه عتبة وعتيبة خاصة وأنه كان من التجار الأثرياء المعروفين في مكة .
وجاء موعد الزفاف وحان موعد الفرحة ليس للعروسين الهاشميتين فحسب وإنما لجميع الأهل والأقارب وأخذت أجواء مكة تردد أصداء هذا الحفل المبارك وقام الرسول الكريم وزوجته خديجة بذبح الذبائح وإكرام الضيوف كما قام العم عبد العزى والد العريسين بذبح الذبائح وإكرام الضيوف ودعي كل أهل مكة إلى هذا الحفل الطيب المبارك المشهود .. وتمت زفة العروسين رقية وأم كلثوم في بيت النبوة وعم الفرح والسرور أرجاء مكة وعندما حل المساء صحبت الأسرة المحمدية العروسين الهاشميتين الصغيرتين إلى بيتهما الجديد لتزفان إلى عريسيهما حيث لبثوا هناك غير بعيد يباركون للعروسين وأزواجهما السعيدين .. هذا اللقاء المبارك الميمون ويغبطونهم بالفرحة والبشر ويهونون على العروسين الهاشميتين الصغيرتين آلام البعد والفراق عن الأهل والأخوات .. ثم عاد الجميع ليتركوا العروسان عند زوجيهما ينعمان بالألفة والمودة والسعادة خاصة وأن عتبة وعتيبة لم يكونا غرباء عن العروسين فهما أبناء العمومة الأقربين ..
عاشت رقية وأختها أم كلثوم في بداية حياتهما حياة سعيدة مرفهة مع زوجيهما ولكن هذه الحياة لم تكن تخلو من بعض المنغصات والكلمات الجارحة والتعليقات المستهجنة من حماتهما أم جميل بنت حرب إضافة إلى إرهاقهن بالطلبات المتكررة والأعمال الكثيرة في بيتها .. ولكن الأختين ظلا صابرتين مادام العريسان يعاملانهما بالحب والمودة والأخلاق الحسنة أما العم عبد العزى فكانت فرحته بالعروسين لا تقدر بثمن لدرجة أنه كثيراً ما يتلقى الاستهزاء والسخرية من زوجته أم جميل بنت حرب لإفراطه في حبه وتدليله للعروسين الهاشميتين رقية وأم كلثوم إلا انه كان يأخذ كلامهما على محتمل الدعابة والمزاح ويتجاهل سلاطة لسانها بشيء من الحكمة والصبر .
كان عتبة وعتيبة يخرجان بين فترة وأخرى في تجارة أبيهما عبد العزى فيترك كل منهما عروسه الغالية وزوجته الحبيبة في كنف أهلها ليعودا بعد رحلة شاقة وهما أكثر شوقاً وأعمق محبة .. فلقد تعودت كل من رقية وأم كلثوم عند مغادرة زوجها إلى التجارة أن تنتهز هذه الفرصة لتنضم إلى بيت النبوة وإلى حضن أمها وأبيها وإلى أختها الصغيرة فاطمة فراراً من الوحدة أولاً ومن لسان أم جميل ثانياً والتماساً لذكريات الطفولة السعيدة مع أمها وأخواتها وكانت خديجة تنتظر مثل هذه الزيارات المتكررة من هذه البنت أو تلك بفارغ الصبر وذلك لتترك المجال لزوجها الذي كان يجلس وحيداً يتعبد إما في غرفته أو في غار حراء الذي أخذ يتردد عليه بشكل متكرر .
لقد كانت خديجة تحس بما ينتظر زوجها من النبوة والرسالة وذلك مما سمعت من ابن عمها ورقة بن نوفل الذي بشرها بأن زوجها هو نبي هذه الأمة وأنه هو الرسول الخاتم إلى البشرية جمعاء فكانت خديجة تراقب زوجها عن كثب وتترك له كامل الحرية في تعبده ووحدته لذلك فقد كانت تأنس لأية بنت تقدم إليها ..
كانت رقية تقضي وقتها في كنف العائلة الكريمة تشاركهم أفراحهم وذكرياتهم وتساعد أمها في تدبير شؤون المنزل وذلك عند تقدم إلى بيت النبوة خاصة وأن خديجة قد تداركها الكبر وأتعبتها مواسم الحمل والولادة المتكررة إضافة إلى رعاية زوجها الذي بدأت تظهر عليه إرهاصات النبوة وآثار الرسالة فكان من الواجب على خديجة أن تؤمن لزوجها الجو المناسب من الهدوء والرتابة والطمأنينة والسكينة انتظاراً لوحي السماء الذي لا تستطيع هي أن تدرك كنهه رغم اليقين الذي كان ينتابها بأنه قادم لا محالة .
******
الحدث الجلل
سارت الحياة في بيت رقية بنت محمد بن عبد الله رتيبة هنيئة هادئة ترفرف عليها أجنحة السعادة والمحبة والهناء ولا يعكر صفو هذه الحياة إلا بعض الترهات والكلمات والممارسات الخاطئة من أم جميل بنت حرب بين حين وآخر .. أما بيت النبوة فقد كان يشهد تحولاً جذرياً وإرهاصات تنذر بميلاد حدث عظيم وأمر جديد جلل لا يستطيع أحد أن يعلم مداه إلا خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي عرفت من ابن عمها ورقة بن نوفل ضخامة الحدث الذي ينتظر خديجة وزوجها .. لقد كان ورقة بن نوفل من أحبار النصرانية ويقرأ التوراة والإنجيل والكتب المقدسة ويعلم منها إرهاصات ظهور نبي جديد يعتبر خاتم الأنبياء والمرسلين سيظهر في هذا الزمان في منطقة جبال فاران التي تحف مكة من كل جوانبها .. لقد أخبرها ورقة بن نوفل أن بعثة نبي جديد قد حلَّ وقتها وأن النبي المرتقب لابد وأن يظهر في هذه المنطقة بالذات كما ورد في الكتب المقدسة والأخبار المتواترة وأنه يأمل أن يكون محمد بن عبد الله هو نبي هذه الأمة وهو النبي الخاتم لقد كان ورقة بن نوفل وخديجة بنت خويلد ينتظران هذا الحدث الجلل بفارغ الصبر ليؤمنوا بهذا النبي الخاتم ويؤازروه ويقفوا معه في دعوته إلى الله حين يعاديه أهله وعشيرته فضلاً عن القبائل العربية الأخرى التي ناصبت العداء الرسول الكريم عليه أفضل السلام وأتم التسليم العداء منذ اللحظة الأولى وكانت معاداتها سافرة جاهرة ظالمة لم تدع وسيلة من وسائل الظلم إلا اتبعتها مع هذا الدين الجديد ومع هذا النبي الكريم الخاتم .. كانت خديجة تعلم هذا الأمر وتنتظر وتترقب هذا الحدث الجلل الذي سيغير حياتها وحياة عائلتها وحياة المجتمع المكي بل حياة العالم بأسره .. وفي مثل هذه الظروف كانت رقية بنت محمد في زيارة أهلها بعد أن ودعت زوجها عتبة بن عبد العزى الذي سافر في تجارة والده إلى بلاد الشام .. فالتقت عند الباب بأمها فدخلت على عجل لترى أختها زينب وأختها فاطمة .. كانت خديجة تسير بتلهف واضطراب شديد فسألتها ابنتها رقية ..
رقـيـــــــــــــة : ما بالك يا أماه ؟! .
ولم ترد خديجة على سؤال ابنتها وإنما أسرعت باهتمام كبير ولهفة عظمى إلى غرفة زوجها تطمئن عليه ولما رأته واطمأنت عليه عادي إلى ابنتها رقية وقد عاودها البشر والهدوء وملأت وجهها البشاشة وأخذت خديجة تحدث ابنتها رقية حديثاً عجباً لم تعهده من قبل .. فلقد كانت خديجة عائدة لتوها من عند بن عمها ورقة بن نوفل الذي حدثته عن الحادث الذي حدث لزوجها محمد بن عبد الله في الأمس في غار حراء .. وهنا قاطعتها ابنتها رقية لتسألها :
رقـيـــــــــــــة : ولكن ما لذي حدث لوالدي يا أماه ؟! .
خـــديجــــة : لقد عاد يوم أمس مساءً من غار حراء .
زيــنـــــــــــب : وماذا في الأمر فهو دائماً يذهب إلى غار حراء يتعبد فيه ثم يعود بعد أيام ..
خـــديجــــة : لقد عاد بوضع غريب .. كان مضطرباً شاحباً يرتجف من الخوف .. كانت الرعدة تدب في أوصاله .. لم يسأل عن طعام أو شراب .. وسكتت خديجة لتأخذ أنفاسها ..
رقـيـــــــــــــة : أكملي يا أماه لقد أثرت شجوننا ..
خـــديجــــة : لم يسأل عن طعام أو شراب وإنما يقول بصوت خائف مضطرب زملوني دثروني .
فــــاطمـــــة : نعم لقد رأيته وخفت عليه كثيراً ..
زيــنـــــــــــب : وماذا بعد يا أماه ؟ .
خـــديجــــة : وبعد أن هدأت هذه الرعدة وزال عنه الخوف سألته ما الذي حل به فأخبرني ....
رقـيـــــــــــــة : ماذا أخبرك يا أماه .. لقد شغلت بالنا .
خـــديجــــة : أخبرني بأنه كان يتعبد وحيداً في غار حراء وإذ بطائر كبير جداً غطت أجنحته عنان السماء هبط عليه في غار حراء وغطه بجناحيه بشدة وقال له اقرأ .. فقال له : ما أنا بقارئ .. ثم غطته ثانية بجناحيه بشدة أكثر وقال له اقرأ .. فأجابه بخوف شديد ما أنا بقارئ .. ثم غطه ثالثة وبشدة أكبر وقال له : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق .. خلق الإنسان من علق .. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علـم الإنسان ما لـم يعلم ) .. ثم تركه وغاب وهو في حالة من الذعر أو الخوف الشديد .. ليعود إلى داره في مكة وهو يرتعد ويقول زملوني دثروني ..
كانت الفتيات الثلاث رقية وزينب وفاطمة يستمعون إلى والدتهم بإصغاء كامل وخوف شديد .. وساد جو الغرفة صمت شديد قطعته زينب وهي تقول ..
زيــنـــــــــــب : وماذا بعد يا أماه ؟! .
خـــديجــــة : لا شيء .. لا شيء !! .
رقـيـــــــــــــة : تبتسم .. بل هناك أشياء يا أماه اخبرينا فكلنا آذان صاغية ..
خـــديجــــة : قلت لا شيء بعد .. هذا ما حاصل لوالدكم .
زيــنـــــــــــب : وأين كنت ؟! لقد رأيتك تعودين إلى البيت وأنت في حالة من الخوف والذعر
خـــديجــــة : لقد ذهبت إلى ابن عمي ورقة بن نوفل لأقص عليه الخبر ..
رقـيـــــــــــــة : لماذا توقفت .. ؟! أكملي ماذا قال لك ابن العم ورقة بن نوفل فهو حبر من أحبار النصارى ويعلم علم الكتب المقدسة السابقة .
خـــديجــــة : قال لي إنه والله الناموس الذي نزل على عيسى وموسى من قبل .. وأقسم لي أنه إن صدق قولي هذا فإن محمداً هو نبي هذه الأمة المنتظر وهو النبي الخاتم وأن ورقة بن نوفل سيكون أوائل المؤمنين به وسيكون من عوناً للنبي الخاتم محمد وإن قومه سيكذبونه ويؤذونه ويخرجونه من مكة ويقاتلونه وإنه سيكون عوناً لمحمد إذا ما أدرك محنة الرسول محمد في مستقبل الأيام .. سكتت خديجة فترة من الزمن تلتقط أنفساها وأبنائها في وضع لا يحسدون عليه من الخوف والحيرة ولكنهم ينتظرون من والدتهم بقية الحكاية .. فقالت فاطمة الصغيرة ..
فــــاطمـــــة : أكملي يا أماه هل انتهت الحكاية ؟ .
خـــديجــــة : تضم صغيرتها إلى صدرها وتقبلها .. لا لم تنته بعد يا حبيبتي .. إنها ليست حكاية إنه حقيقة يا بنيتي فلقد سمعت من ابن عمي ورقة قولاً عجيباً وشعراً رقيقاً في والدكم الحبيب ..
زيــنـــــــــــب : هات أسمعينا ماذا قال ابن العم ورقة ؟ .
خـــديجــــة : لقد أنشدني هذه الأبيات وأنا في أشد حيرتي :
لججت وكنت في الدنيا لجوجا
لهـــــم طالـمـــا بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف
لقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين علا رجائي
حديثك إن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمداً سيسود فينا
ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور
تقوم به البرية أن تعوجا
فيلقى من يحاربه خساراً
ويلقى من يسالمه فلوجا
فياليتي إذا ما كان ذاكم
شهدت وكنت أولهم ولوجا
*******
وعندما انتهت خديجة من شعر ورقة بن نوفل أخذت الدموع تنهمر من عيونها لتمنعها عن الكلام فترة من الوقت .
لقد أنصتت زينب وهي أكبر البنات سناً وأنصتت أخواتها معها رغم حداثة سنهن إلى هذا الخبر العظيم خبر نزول الوحي من السماء على والدهن ولم يدركن بعد معنى الوحي أو معنى النبوة في عصر كله جاهلية مطبقة وأوثان وأصنام تعبد من دون الله أما موضوع النبوة أو موضوع البعثة أو الرسالة أو موضوع الوحي من السماء فهذه الأمور كلها لا علم لهم بها من قريب أو بعيد خاصة وأن يكون الوالد الحبيب هو النبي المنتظر لهذه الأمة وهو الرسول وهو ا لمبعوث رحمة للعالمين لقد كانت هذه الأمور كلها مفاجأة شديدة .. وكان أمر النبوة حدثاً عظيماً في تاريخ الأسرة لم تستطع عقولهم الفتية معرفة كنهه أو الوصول إلى أبعاده الحقيقية .. لبثت زينب في مكانها ساكنة هامدة شاردة الفكر لا تدري ما تقول ولا تعرف من أين تبدأ ولا إلى أين ستنتهي ولا تعرف بماذا تجيب والدتها عن هذا الخبر العظيم .. لقد كانت على العكس من والدتها التي كانت فرحة مسرورة بهذا الحدث العظيم .. أما زينب فقد استشعرت ببعد نظرها خطورة الموقف فقالت لأمها ..
زيــنـــــــــــب : حدث جلل ولكننا لا ندري إلى أين سيقودنا ؟ .
خـــديجــــة : إلى الخير طبعاً .. إلى خير الدنيا والآخرة .
زيــنـــــــــــب : ولكني سمعت ابن العم ورقة يذكر الأمر بشيء من الخوف والهلع على والدي ..
نظرت الأم خديجة إلى ابنتها ولم تعقب على كلامها وكأنها لم ترد من ابنتها أن تقطع عليها فرحتها بذلك الحلم السعيد بنبوة زوجها وبعثته ورسالته السماوية إلى الناس أجمعين .
زيــنـــــــــــب : لقد قال ذات مرة أن قريشاً ستعاديه وتحاربه وتضيق عليه وتخرجه من مكة إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً .
خـــديجــــة : ربما ولا ضير في ذلك فمحمد وراءه بنو هاشم وبنو أسد وبنو زهرة وهو الصادق الأمين الذي لم يطعن بصدقه وأمانته وشرفه وحسبه ونسبه ورجاحة عقله أحد من العرب قاطبة .
زيــنـــــــــــب : ولكن ابن العم ورقة بن نوفل قال إن هذا الأمر محدث عنه في التوراة والإنجيل وإن هذا الأمر هو سنة جميع الأنبياء والمرسلين حتى يظهرهم الله على من عاداهم .
خـــديجــــة : بشيء من الحزم .. وليكن ذلك فو الله لأقفن معه أنا وبنو أسد حتى آخر قطرة من دمائنا .
زيــنـــــــــــب : أرجو ذلك يا أماه وإن كنت أشفق على والدي من ظروف الأيام القادمة والمصائب والمحن التي تنتظر والدي الحبيب.
كان هذا الحوار يدور بين الأم وبناتها الثلاث زينب ورقية وفاطمة أما أم كلثوم فقد بقيت عند زوجها عتيبة لأنه آثر أن يبقى مع أبيه في مكة بينما سافر أخوه عتبة مع القافلة إلى بلاد الشام .. ولكنها رغم ذلك فقد اشتاقت إلى أهلها فاستأذنت زوجها ليوصلها إلى بيت أهلها تمكث فيه يومان أو ثلاثة مع أمها وأبيها وأخواتها وبينما خديجة وبناتها في هذا الحوار اللذيذ إذ قرع الباب ودخلت أم كلثوم لتنضم إلى العائلة الكريمة وليكتمل عقد الأسرة إلا من الوالد الحبيب الذي كان مشغولاً عن الدنيا باتصاله مع ربه وخالقه .. وبعد قدوم أم كلثوم سادت فترة من صمت رهيبة وكأن قدوم أم كلثوم قطع على العائلة الكريمة حديثها فبادرت تسأل أمها ..
أم كلثوم : أراكم صامتون .. هل هناك من أمر ؟! .
زيــنـــــــــــب : أجل يا أختي الحبيبة ..
أم كلثوم : أخبروني إذن .. واسمحوا لي أن أشارككم متعة الحديث .
زيــنـــــــــــب : لقد جاء الناموس إلى الوالد الكريم
أم كلثوم : الناموس ؟! .
زيــنـــــــــــب : أجل وأصبح والدنا نبي هذه الأمة .
أم كلثوم : الناموس .. نبي هذه الأمة .. ما هذه الكلمات التي لا أستطيع فهمها ؟!.
خـــديجــــة : لقد جاء الناموس الأكبر الذي نزل على نبي الله عيسى ونبي الله موسى على والدك يا أم كلثوم .. وهذا يعني أن محمد بن عبد الله أصبح نبي هذه الأمة وهو النبي الخاتم .. كما أخبرني ابن العم ورقة بن نوفل ..
أم كلثوم : لقد فاجأتموني بهذا الخبر السعيد .. لا شك أن بني هاشم سيكونون أول الناس إيماناً بالدين الجديد ..
زيــنـــــــــــب : بل ربما أبعدهم وأشدهم عناداً ومعاداة للوالد الحبيب.
أم كلثوم : دعونا من هذا الكلام فالمستقبل بيد الله ولا يعلمه إلا الله .
خـــديجــــة : ونعم بالله يا حبيبتي ..
رقـيـــــــــــــة : مالك يا زينب ؟ .. تعالي حديثنا أحاديثك العذبة ..
زيــنـــــــــــب : لا شيء ولكني أحسب أن هذا الحدث جلل وأن الأيام القادمة ستكون صعبة ومريرة وقاسية يا أختاه .
رقـيـــــــــــــة : أما تحبين أن تكوني ابنة نبي هذه الأمة ؟! .
زيــنـــــــــــب : بلى يا رقية .. وأي فتاة لا يفرحها مثل هذا الشرف العظيم ؟! .. ولكن ؟! ..
رقـيـــــــــــــة : ولكن ماذا ؟! .
زيــنـــــــــــب : أشفق على والدي الحبيب فالعرب كلهم سيحاربون الدين الجديد عن قوس واحدة كما ذكر الخال ورقة بن نوفل وهذا ما يخيفني ..
رقـيـــــــــــــة : لا تخافي يا أختي مادام أبي نبي الله فالله هو الذي يحميه ويحفظه من كل مكروه .
زيــنـــــــــــب : أرجو ذلك .. ونعم بالله .. فلقد سمعت أمي تقول لأبي بعد نزول الوحي في غار حراء . ( الله يرعاك ويرعانا يا أبا القاسم .. أبشر يا بن العم وأثبت والله ما يخزيك الله أبداً .. إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ) .
رقـيـــــــــــــة : وقد ابتسمت وابتسمت معها شقيقاتها الثلاث زينب وأم كلثوم وفاطمة وهم يبتهلون إلى الله أن يحفظ أباهم .
وفي هذا الجو العاصف كانت خديجة في صمت ووجوم فقد أدركت صعوبة الموقف وشدة الأيام القادمة فالعرب لن يتخلوا عن دينهم ودين آبائهم وأجدادهم بسهولة حتى ولو كان على باطل ذلك لأنهم ورثوا هذا الدين وهذه ا لأصنام والأوثان منذ القدم وتوارثوه أباً عن جد فليس الأمر بهذه السهولة .. لا شك أن زوجها سيواجه المصاعب والشدائد في المستقبل القريب عندما يصدع بدعوته ويجهر بدينه ويدعو الناس كل الناس إلى الدين الجديد الذي جاء به من عند الله الواحد القهار .. لقد أحست خديجة بنت خويلد بالخطر الجسيم الذي ينتظر العائلة الكريمة فأخذت تفكر وتفكر بينما أولادها يفرحون ويلعبون ويمرحون بهذا الخبر العظيم خبر الوحي من السماء خبر الرسالة والنبوة خبر الدين الجديد وقد عجزت أفكارهن عن الإحاطة بهذا الحدث الجلل الذي سيهز الدنيا بأسرها .والوحيدة من البنات التي أحست بالخطر هي زينب أكبر بنات رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم التي عركتها الأيام وصقلتها المسؤولية فبدأ على وجهها شيء من الفتور والوجوم والكآبة والترقب للمستقبل المجهول الذي لا تعرف عنه أي شيء .
******
حديث ذو شجون
كانت رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم تشعر بالغبطة والسعادة في بيت الزوجية حتى لكأنها تظن أنه لا يوجد أسعد منها بين لداتها في كل أنحاء مكة المكرمة فقد كان ابن عم أبيها عتبة بن عبد العزى زينة شباب بني هاشم وكان خير زوج وحبيب وكان عمها عبد العزى يحبها ويعطف عليها ويرعاها وإن كان الأمر لا يخلو من بعض المنغصات التي تأتي من حماتها أم جميل بنت حرب ولكنها تبقى منغصات وقتية محمولة في جو الألفة والمحبة والغنى والرفاهية التي تخيم على بيت العم عبد العزى .. لقد كان عتبة دمث الأخلاق حسن المعشر يحبها ويحترمها ويجلها ولا يتصرف أي تصرف يسيء إليها أو يجرحها بل لقد كان يفتخر بين أقرانه بأنه حظي بالعروس الهاشمية رقية بنت محمد صاحبة الحسب والنسب والشرف الرفيع .. لقد كان عتبة بن عبد العزى في تلك الآونة خير زوج لخير عروس آنذاك في مكة المكرمة .
كان عتبة يسافر في قوافل أبيه للتجارة فتذهب رقية إلى بيت أمها وأبيها لتنعم بالألفة والمحبة مع أمها وأخواتها وما إن يعود زوجها من سفره حتى يستقبل زوجته الحبيبة وتستقبله زوجته الحبيبة رقية بنت محمد بمزيد من الشوق ومزيد من الحب ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً حيث أصبح يساورها الخوف والجزع عند سفر زوجها وأصبحت تفضل أن يكون دائماً بجانبها أو قريباً منها لما تراه من حالة والدها ولما تسمعه من أخبار من أمها .. لقد كانت رقية تحس أن أمراً جللاً سيحدث في بيت النبوة .. فقد كان أبوها في تلك الفترة يحب الاعتزال عن الناس حتى عن أهله .. كان يجلس في غرفته طويلاً يتعبد ويتحنث ويتفكر في ملكوت السموات والأرض وأصبح من عادته أن يذهب إلى غار حراء ويبيت الأيام والليالي هناك مكتفياً من زاد الدنيا ببعض الماء والرطب .. لقد أصبح محمد بن عبد الله بعيداً عن أهله حتى عن أحب الناس إلى قلبه خديجة بنت خويلد وبناته زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة .. كانت رقية ترجع إلى بيت زوجها وحبيبها عتبة بن عبد العزى إذا ما عاد من سفره وتجارته فتفضي إلى زوجها بما يساورها من خوف وقلق وترقب وتصف له حالة أبيها من العزلة والابتعاد عن الناس كما تذكر له حديث والدتها وحديث خالها ورقة بن نوفل عن النبي المنتظر الذي يأملان أن يكون هو محمد بن عبد الله ونظراً لهذا التغير المفاجئ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه للعزلة والتعبد المستمر والتفكير الطويل في ملكوت الله فقد زادت الإرهاصات والدلائل على أنه هو النبي المنتظر المبعوث رحمة للعالمين ولكن الإنسان دائماً يخاف ما يجهل وهذا ما كان من رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم أما عتبة بن عبد العزى زوجها فكان دوره تطييب خاطرها وبث الثقة والطمأنينة بقلبها وإعادة البسمة إلى ثغرها والاشراقة إلى وجهها وهذا كله قبل أن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بالدعوة إلى الله وينذر عشيرته الأقربين .
سافر عتبة بن عبد العزى في تجارة والده إلى بلاد الشام فهرعت رقية إلى بيت النبوة ولكنها عند الباب تفاجأ بأمها عائدة وهي في حالة من الرهبة والاضطراب فسألتها رقية .
رقـيـــــــــــــة : ما بالك يا أماه ؟! .
خـــديجــــة : وقد تابعت طريقها إلى مخدع الزوج الأمين محمد صلى الله عليه وسلم لتطمئن عليه دون أن تنبت ببنت شفة .
رقـيـــــــــــــة : ما بالك يا أماه ؟ وأين كنت ؟ ! .
خـــديجــــة : بعد أن اطمأنت على حياة زوجها .. لا شيء يا بنيتي لقد كنت عند خالك ورقة بن نوفل .
رقـيـــــــــــــة : خالي ورقة بن نوفل ؟! .
خـــديجــــة : أجل خالك ورقة بن نوفل .
رقـيـــــــــــــة : وما الأمر إذن ؟! ولماذا الهلع والخوف والاضطراب ؟! .
خـــديجــــة : لقد عاد أبوك اليوم من غار حراء وهو في حالة من الذعر والهلع والخوف كما المرة الماضية .
رقـيـــــــــــــة : وماذا بعد ؟ .
خـــديجــــة : دخل غرفته وهو يصيح زملوني دثروني .. فاستلقى على فراشه فدثرته بغطاء كما أمر وتركته لينام .
رقـيـــــــــــــة : أكملي يا أماه .. فلقد أثرت فـيّ مخاوفي وأشجاني .
خـــديجــــة : لقد جاءه الوحي جبريل في غار حراء .
رقـيـــــــــــــة : وماذا يعني هذا يا أماه ؟! .
خـــديجــــة : لقد تحققت نبوة خالك ورقة بن نوفل .
رقـيـــــــــــــة : نبوءة خالي ؟! .
خـــديجــــة : أجل يا بنيتي .. وأصبح والدك نبي هذه الأمة أرسله الله برسالة السماء إلى الناس كافة .
رقـيـــــــــــــة : وكيف عرفت ذلك يا أماه ؟! .
خـــديجــــة : لقد كنت عند ورقة بن نوفل فقصصت عليه ما جرى لوالدك فابتسم وبشرني وقال : ( والله إنه الناموس الذي نزل على عيسى وموسى وجميع الأنبياء من قبل ) .
رقـيـــــــــــــة : تستمع إلى أمها في خوف وذهول .. وماذا بعد يا أماه ؟.
خـــديجــــة : لا شيء بعد لقد نزل الوحي من الله جل وعلا وأصبح والدك نبي هذه الأمة ونحن ننتظر وحي السماء وتعاليم الدين الجديد في الأيام القادمة .
وبدأ الوحي ينزل من السماء على رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى : ( يا أيها المزمل .. قم الليل إلا قليلا .. نصفه أو انقص منه قليلا .. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا .. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا .. إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلا ) فكانت هذه الآيات الكريمة تكليف من الله جل وعلا لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة وتكليف له وحده بالعبادة وقيام الليل .. ثم توالت الأيام حتى نزلت الآيات بتكليف الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الدين الإسلامي الجديد على أقربائه وعشيرته الأقربين ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) .. ثم توالت الأيام ليأتي التكليف بإنذار الناس من حوله .. ( يا أيها المدثر قم فأنذر .. وربك فكبر وثيابك فطهر .. والرجز فاهجر .. ولا تمنن تستكثر .. ولربك فاصبر ) .
ثم توالت الأيام ليأتي الأمر الإلهي إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة إلى دين الإسلام جهرة علانية على رؤوس الأشهاد ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين).
وفي مثل هذه الأجواء كانت الأحاديث تدور في بيت النبوة .. وكانت الشقيقات الأربع يتجاذبن أطراف الحديث عند كل لقاء بشيء من الاضطراب والخوف من المستقبل المجهول .. كانت رقية تزداد خوفاً واضطراباً لما كانت تسمعه من خالها ورقة بن نوفل من الصعاب والتكذيب والمشاكل والأذى التي ستواجه النبي المنتظر فكان الأمر في الأيام السالفة لا يعنيها أما اليوم وقد أصبح والدها هو النبي المنتظر فقد أصبح هذا الأمر يمسها ويمس عائلتها بشكل مباشر .. لقد كانت تحس بالخطر القادم المحدق وتحس بالمسؤولية الواجبة عليها وعلى أمها وأخواتها وكانت ترتعش لمجرد تصور تلك الأحداث والصعاب القادمة من بعيد .. ولو كان ذلك بعد حين وعندما يجتمع شمل الأسرة كثيراً ما يدور بين أفراد الأسرة حديث ذو شجون عن هذا الحدث الجلل الذي قلب كيان الأسرة بشكل كامل ..
رقـيـــــــــــــة : ما بالك يا زينب ؟! أراك حزينة .
زيــنـــــــــــب : لا شيء .. أفكر في والدي بعد أن أصبح نبي هذه الأمة .
رقـيـــــــــــــة : وماذا في الأمر يا أختي الحبيبة .. ألا يسرك أن تكوني بنت نبي هذه الأمة ؟! .
زيــنـــــــــــب : لا يا أختي الحبيبة .. الأمر ليس كذلك .. وإنما أحس بالمخاطر التي ستحدق بوالدي الحبيب بعد إعلان الدعوة والرسالة على قومه .. إن قريشاً لن تتخلى عن مجدها وزعامتها للقبائل ولن تتخلى عن دينها التي ورثته أباً عن جد بمثل هذه السهولة .
رقـيـــــــــــــة : لا عليك فإن الله لا يضيعنا .
زيــنـــــــــــب : ونعم بالله يا أختي الحبيبة ..
ابتسمت زينب وابتسمت أخواتها فهم الآن واثقون كل الثقة أن الله سيحفظهم ويرعاهم ولن يضيعهم أبداً ..وفي مثل هذه الأجواء الساخنة المتوالية كانت خديجة وبناتها في حيرة من أمرهم ولكن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قام بدعوة أهله أولاً .. خديجة وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة فآمنوا به جميعاً .. ثم قام بدعوة عشيرته الأقربين أعمامه أبي طالب وحمزة والعباس وأبنائهم .. ثم ما لبث أن آمن به ابن عمه علي بن أبي طالب .
عاد عتبة بن عبد العزى من سفره ليجد مكة وقد تغيرت وبدا له أن أمرً جللاً قد حدث في مكة كان يلمحه في كلام الناس وهمساتهم ونجواهم وكل ما استطاع فهمه أن نبياً جديداً قد ظهر في مكة المكرمة .. لم يدر بالاً لهذا الأمر بادي ذي بدء ولكن لما سمع أن نبي هذه الأمة هو محمد بن عبد الله قد جعله في حيرة من أمره وذهب إلى بيته ليرى زوجته وقد علا وجهها الذهول والوجوم .. لبثت رقية مكانها ساكنة شاردة على غير عادتها لا تدري ماذا تقول ولا من أين تبدأ الحديث .. كانت عادتها أن تستقبل زوجها الحبيب بالبسمة والبشر والفرح والسرور .. ولكن ماذا حدث في هذا اليوم ؟ وما الذي قلب حال زوجته الحبيبة رقية ..
عــــتـــبـــــــه : ما بك يا رقيه ؟ .
رقـيـــــــــــــة : لا شيء وسكتت وهي تسرح بأفكارها وكأنها تسبح في بحر لجي من الأحلام يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب فلا تدري بماذا تجيب زوجها الحبيب .
عــــتـــبـــــــه : بل هناك شيء كبير قد حصل يا رقيه .. أجيبيني أيتها الحبيبة ما الذي حصل ؟.
رقـيـــــــــــــة : لقد نزل الوحي من السماء على والدي ..
عــــتـــبـــــــه : الوحي ؟! وماذا تعنين بالوحي يا رقيه ؟! .
رقـيـــــــــــــة : الناموس الذي ينزل على الأنبياء من السماء ..
عــــتـــبـــــــه : وهو يبتسم .. الناموس ؟!! .. لقد عقدت المسألة أكثر أوضحي يا رقيه .
رقـيـــــــــــــة : لقد أصبح والدي نبي هذه الأمة .
عــــتـــبـــــــه : (يبتسم بشيء من السخرية ) نبي هذه الأمة ..!! محمد بن عبد الله الفقير اليتيم نبي هذه الأمة ؟! .
رقـيـــــــــــــة : في فرحة غامرة واعتزاز وفخر عندما سمعت زوجها يردد ( محمد نبي هذه الأمة ) دون أن تتكلم بكلمة واحدة .
عــــتـــبـــــــه : (في ذهول شديد يردد هامساً ) محمد بن عبد الله نبي هذه الأمة !! ثم يضحك بأعلى صوته لا شك أنك واهمة يا رقية .
رقـيـــــــــــــة : بل لست واهمة يا عتبة .. محمد بن عبد الله نبي هذه الأمة وأنا على ثقة تامة من ذلك .
عــــتـــبـــــــه : بشيء من السخرية والشدة .. لا شك أنك واهمة وأبوك أيضاً واهم يا رقيه ؟ .
رقـيـــــــــــــة : إنني أؤكد لك أن الوحي من السماء قد نزل على والدي .
عــــتـــبـــــــه : أبعدي عن رأسك هذه الأفكار السخيفة .. فلقد انتهى عهد الأنبياء والمرسلين يا عزيزتي ..
رقـيـــــــــــــة : أتعتقد أن محمد بن عبد الله كاذب يا عتبه .
عــــتـــبـــــــه : ليس بالضبط .. فما علمت عليه من كذب وإنما ربما كان واهماً أو أصابه مس من الجنون .
رقـيـــــــــــــة : اسمع يا عتبه .. إنني أدعوك إلى الدين الجديد دين الإسلام الذي آمنت به لتحظى بخيري الدنيا والآخرة .
عــــتـــبـــــــه : بشيء من الحدة والعصبية .. أفعلتها يا رقيه ؟! .
رقـيـــــــــــــة : نعم لقد أسلمت يا عتبة وأسلم كل من في بيتنا والدتي وأخواتي .
عــــتـــبـــــــه : لا بد أن يكون لهذا الأمر رد ستجدينه قريباً يا رقيه.
رقـيـــــــــــــة : اسمع مني يا بن العم فلقد آمن عدد من رجالات قريش .
عــــتـــبـــــــه : وهل فكرت يا رقيه بعد تصرفك هذا بمصير زواجنا؟.
رقـيـــــــــــــة : وما علاقة زواجنا بما أدعوك إليه من الحق ؟! .
عــــتـــبـــــــه : هل فكرت يا رقيه حين أسلمت وتبعت الدين الجديد ماذا سيحدث لو أن بقيت على دين آبائي وأجدادي .
رقـيـــــــــــــة : نعم فكرت وأرجو أن تكون من السابقين إلى الإسلام يا بن العم ..
وهنا صمت عتبة بن عبد العزى بعد أن سمع من زوجه هذا الكلام فترة ما لبث أن هب مسرعاً وخرج من بيته متوجهاً إلى دارة الندوة بينما بقيت رقية وحيدة تنتظر ما يؤول إليه حال زوجها على أحر من الجمر .
كان أشراف قريش مجتمعون في دار الندوة يتدارسون ويتشاورن تلك الشائعات والأقاويل عن ظهور نبي في مكة وأن محمد بن عبد الله هو نبي هذه الأمة وفي هذا الوقت بالذات صعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى الصفا وأخذ ينادي بالقبائل قبيلة قبيلة ليجتمعوا إليه ليحدثهم بأمر هام وأخذا الحاضر يبلغ الغائب حتى اجتمع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف فيهم خطيباً .. روي في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله تعالى قوله : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الصفا فصعد عليه فهتف : ( يا صباحاه ) فقالوا من هذا .. قالوا : محمد فاجتمعوا إليه فقال : ( أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ ؟) قالوا ما جربنا عليك كذباً .. قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) قال عمه عبد العزى : تباً لك يا محمد ما جمعتا إلا لهذا .. فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : ( تبت يدا أبي لهب وتب .. ما أغنى عنه ماله وما كسب .. سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حب من مسد ) ومنذ ذلك اليوم أصبح اسم عبد العزى بن عبد المطلب ( أبي لهب ) وأصبح اسم زوجته أم جميل بنت حرب ( حمالة الحطب ) وهنا بدأ العداء السافر بين قريش وغيرها من القبائل العربية وبين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .
عاد عتبة إلى بيته بعد منتصف الليل واجماً مطرقاً يعلو سيماه الهم والحزن والأسى فاستقبلته زوجه بنفس همه وحزنه وأساه ولم تزد في كلامها على كلمة الترحيب المعتادة .
رقـيـــــــــــــة : أهلاً بك يا عتبه .
عــــتـــبـــــــه : بصمت قليلاً .. لقد لقيت أباك ..
رقـيـــــــــــــة : بلهفة عارمه .. وماذا جرى بينكما .
عــــتـــبـــــــه : لا شيء .. لقيته في الكعبة ودعاني ..
رقـيـــــــــــــة : أكمل يا عتبه .. دعاك إلى ماذا ؟ .
عــــتـــبـــــــه : دعاني للدخول في الدين الجديد .
رقـيـــــــــــــة : وبماذا أجبته ؟ .
عــــتـــبـــــــه : وهـــل أدخل في دينه وأدع أشراف العرب يتحدثون عني؟!! .
رقـيـــــــــــــة : أشراف العرب !! يتحدثون عنك ! .. ولماذا يا عتبة ؟!!.
عــــتـــبـــــــه : سيقولون عتبة بن عبد العزى الهاشمي القرشي ترك دين آبائه وأجداده ليتبع زوجه وأبيها .
رقـيـــــــــــــة : سامحك الله يا عتبه .. وهل تترك الحق والصدق من أجل قالة الناس .
عــــتـــبـــــــه : دعينا الآن من هذا الحديث .
صمت عتبة في وجوم وذهول وأشاح بوجهه عن زوجته الحبيبة وسكت عن الكلام وسكتت رقية عن الكلام وابتعدت عنه لتجلس في ركن آخر بعيداً عن زوجها فلقد كانت تحلم أن يستجيب زوجها فور سماعه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وأن يكون عتبة بن أبي لهب عوناً للرسول صلى الله عليه وسلم وسنداً له في الأيام العصيبة القادمة يوم يكذبه قومه ويؤذونه ويحاربونه ويحاصرونه ولكن ويا للأسف لقد آثر أن يبقى على دين قومه دين الشرك ويترك الانصياع للحق المبين الذي جاء به خير المرسلين رغم حبه الشديد لزوجته رقية ورغم حبه الشديد لابن عمه محمد بن عبد الله الذي يعرف عنه أنه الصادق الأمين .. أجل لقد كان الموقف بين الزوجين الحبيبين عصيباً صعباً فلقد كان أمل رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون زوجها الحبيب من السابقين إلى الإسلام وتوقعت منه أن يلبي داعي الله ولا يقف في صف المشركين عبدة الأصنام والأوثان خاصة وأنها تعرف عنه شرفه وعراقة أصله ورجاحة عقله وانصياعه للحق إذا استبان له الحق .. إضافة إلى هذا أو ذاك قرابته من والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنها في هذه المرة أخطأ ظنها فيه فلقد آثر الحفاظ على مركزه وشرفه وعلو نسبه في المجتمع المكي وترك الحق والصدق والنبوة .. وفي كل يوم يجري بين الزوجين الحبيبين حديث ذو شجون ما يلبث أن يتبعه صمت طويل ملئ بالحزن والأسى ..
رقـيـــــــــــــة : يا بن العم ..
عــــتـــبـــــــة : لبيك يا رقيه .
رقـيـــــــــــــة : هل تشك بصدق أبي ؟ .
عــــتـــبـــــــة : ما كنا نشك في صدقه قبل هذا الوهم الذي جاء به هذه الأيام .
رقـيـــــــــــــة : والله أن أبي لصادق وليس بواهم يا عتبه .
عــــتـــبـــــــة : ولكن الأمر الآن قد تطور إلى مدى آخر .
رقـيـــــــــــــة : وكيف ذاك ؟ !.
عــــتـــبـــــــة : لقد قال إنه جاءه الوحي بكلام فيه هجاء لأبي وأمي.
رقـيـــــــــــــة : ولكن من الذي بدأ الهجاء يا عتبة ؟ .
عــــتـــبـــــــة : لا أدري ولكن أباك الآن قد أشعل الحرب بيننا وبينه.
رقـيـــــــــــــة : أليس والدك الذي قال لابن أخيه أمام أشراف مكة كلها : ( تباً لك يا محمد ألهذا دعوتنا ) .
عــــتـــبـــــــه : وليكن .. فلقد قام بهجاء أبي وأمي يا رقيه .
رقـيـــــــــــــة : أليست أمك هي التي تمشي بين الناس وتكيل لوالدي أحط الشتائم .
عــــتـــبـــــــه : .......
رقـيـــــــــــــة : أليست والدتك هي التي كانت تضع الشوك والأقذار في طريق أبي إلى الكعبة المشرفة .
عــــتـــبـــــــه : ........
رقـيـــــــــــــة : أليست أمك هي التي حاولت أن تضرب والدي بفهر من حجر لولا أن أعمى الله بصيرتها عنه .
عــــتـــبـــــــه : ........
رقـيـــــــــــــة : أليست ...
عــــتـــبـــــــه : بشيء من العصبية .. كفى .. كفى .. يا بنت محمد .. إنني لأظن أن البيت لم يعد يسعنا معاً يا رقيه .
رقـيـــــــــــــة : سامحك الله يا بن العم فما أردت إلا أن تنصاع للحق المبين وللدين الجديد ولك بعد ذلك عز الدنيا والآخرة .
عــــتـــبـــــــه : يخرج من بيته والهم والغم والعصبية تكلل هامته .
******
الفراق
أصر عتبة بن أبي لهب على عناده وبقي على دين آبائه وأجداده .. واستمرت الغمة على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. واستمرت الجفوة بينها وبين زوجها .. إذ كيف يعيش الحب والود بين قلب مسلم مؤمن بالله مؤمن بالدين الحق .. وبين قلب كافر مشرك يؤمن بعبادة الأصنام والأوثان .. وكيف تكون المودة والرحمة بين قلب اهتدى بنور الله وبين قلب ران عليه ظلام الجاهلية والشرك .. لا شك أن الفارق كبير والبون شاسع خاصة وأن قريشاً والقبائل الأخرى قد ناصبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء وأخذوا يحاربون المسلمين في دينهم وأموالهم وأرزاقهم وحتى طردهم وإخراجهم من ديارهم .. كيف تستقيم المودة والحب بين رقية وزوجها وهو يتآلف مع هؤلاء الناس الظالمين الأشرار .. لقد طالبت قريش بني هاشم أن يسلموهم محمداً ليقتلوه لأنه سب آلهتهم أصنامهم وأوثانهم وسفه أحلامهم وخرج على دين الآباء والأجداد وجاء بدين جديد إلا أن عشيرة النبي الأقربين من بني هاشم رفضوا وبشدة هذا الأمر بل على العكس من ذلك وقفوا معه وآزروه ونصروه ودافعوا عنه ضد جميع القبائل التي لا تزال على الشرك ..
ولقد بدأ عداء قريش للرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم منذ اللحظة الأولى منذ أن قام ينذر عشيرته الأقربين كما أمره ربه ومنذ أن قام يصدع بالحق المبين كما أمره ربه أمام الناس جهاراً نهاراً حتى بدأت موجات العداء والإيذاء للرسول الكريم وللمسلمين الصابرين حتى من أقرب الناس إليه من عمه أبي لهب وزوجة عمه حمالة الحطب .. لقد اجتمع أشراف قريش في بيت الندوة ليتشاوروا في أمرهم في موضوع محمد وما جاء به من الدين الحديد فكان أول قرار ظالم يصدر عن دار الندوة التي أنشئت خصيصاً لنصرة المظلوم على الظالم حيث اتفقوا على طلاق بناته الثلاث زينب ورقية وأم كلثوم وإعادتهم إلى بيت أبيهم .. فقاولوا : ( إنكم قد فرغتم محمداً من همه فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن ) .. ومشوا إلى أصهاره فكان أولهم أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت محمد وطلبوا منه أن فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة تشاء من قريش فأجابهم أبو العصا بن الربيع وما ذنب زوجتي وأولادي إذا أنتم عاديتم محمد بن عبد الله .. أما صهري الرسول صلى الله عليه وسلم عتبة زوج رقية وعتيبة زوج أم كلثوم فلم يكن يصعب على أمهم حمالة الحطب أن تقنعهم بالطلاق فوافقوا على هذا الطلب الظالم الجائر .. لقد قامت حمالة الحطب أم جميل بنت حرب بإثارة حفيظة زوجها أبي لهب على العروسين الهاشميتين بعد أن أقسمت أمام الناس ألا يظلها وبنتي محمد سقف واحد .. وهكذا ظلت أم جميل تثير حفيظة زوجها أبي لهب حتى قال لأولاده أمام ملأ من أشراف مكة : ( رأسي من رأسيكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد ) وقد كان الظن بابني العم ألا يفعلوا أسوة بأبي العاص بن الربيع .. بل كان الظن بالعم أن لا يقف هذا الموقف المشين من حفيدتي أخيه عبد الله وابنتي محمد الذي كان أشد الناس ابتهاجاً وفرحاً بولادته فأعتق جاريته التي بشرته بولادة محمد بن عبد الله .. ولقد كان الظن بالعم أبي لهب وزوجته حمالة الحطب أن يكتفيا بطلاق رقية وأم كلثوم إرضاء لزعماء قريش من المشركين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لقي من عمه أبي لهب ومن زوجته حمالة الحطب كل سوء وشر فما كان أحد أشد عداوة منهما للنبي صلى الله عليه وسلم ولا بلغ أحد من إيذائه قدر ما بلغاه . ولا سمع أن أحداً من بني هاشم ظاهر قريشاً على حفيد هاشم كما فعل أبو لهب وزوجته حمالة الحطب .. وعلى النقيض مما فعله أبو لهب فقد وقف الهاشميون جميعاً في صف النبي الهاشمي حتى أولئك الذين بقوا على دين الشرك وعلى رأسهم عمه أبو طالب إلا أنهم آزروه ونصروه ووقفوا سداً منيعاً في وجه قبائل العرب كلها بل لقد نالهم من الظلم والحصار والمقاطعة وهم مشركون تماماً كما نال محمداً وأصحابه المسلمين فقعدوا مع محمد وأصحابه في شعب أبي طالب وطبق عليهم الحصار بشكل كامل إلا أبا لهب الذي كابر وظاهر المشركين ضد ابن أخيه محمد وضد عشيرته الأقربين من بين هاشم ..
ولعل من المفيد هنا أن نذكر قصة إسلام عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب ونقارن موقفه المشرف بموقف العم الآخر أبو لهب الذليل المخزي السافل إذ وقف مع الظالمين ضد ابن أخيه وترك الوحوش تنهش لحم ابن أخيه
ذكرت كتب التاريخ أن عم الرسول المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب أقبل من رحلة صيد ذات يوم متوشحاً قوسه فلقيته امرأة من قريش تقول له : ( يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً أبي الحكم بن هشام ؟! لقد رآه ها هنا جالساً فآذاه وسبه وسفه دينه وبلغ منه ما يكره فاحتمل حمزة بن عبد المطلب الغضب ولم يكن قد أسلم وقت ذاك واندفع في الطريق بشده حتى عثر على أبي الحكم بن هشام جالساً في القوم بالبيت العتيق فأقبل إليه ومسكه من تلاليبه وهزه هزةً عنيفة ثم أخذ قوسه وضربه على رأسه فشجه شجةً منكرة ثم قال له : أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ، فرد ذلك علي إن استطعت ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه وأسلم من يومه هذا .
إن البون شاسع جداً بين الأخوين حمزة بن عبد المطلب وعبد العزى بن عبد المطلب .. حمزة آمن وصدق فكان من المؤمنين السابقين إلى الإسلام فكان سيد الشهداء وكان من المبشرين بالجنة أما عبد العزى فقد أنزل به قرآناً يقرأ مدى الأزمان فهو أبو لهب الذي سيصلى ناراً ذات لهب .
عادت رقية بنت محمد مع أختها أم كلثوم إلى بيت النبوة بعد طلاقهما من زوجيهما عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب .. وقد تم إعلان هذا الطلاق أمام زعماء قريش في دار الندوة إمعاناً في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراراً لعداوة أبي لهب لابن أخيه محمد بن عبد الله .. عادت رقية بنت محمد إلى بيت النبوة كسيرة الخاطر حزينة القلب فقد كانت تنتظر من ابن العم أن يكون شهماً كريماً يرفض الظلم تماماً كما تصرف ابن خالتها أبو العاص بن الربيع مع أختها زينب .. ولكن أبا لهب ووراءه زوجته حمالة الحطب كانوا للعريسين عتبة وعتيبة بالمرصاد فأقسم أبو لهب وهو وأحد زعماء قريش وأحد رؤوس الكفر على ابنيه أن طلقا بنتي محمد .
ومهما يكن من أمر ومهما تحدث المؤرخون عن خلاص رقية وأم كلثوم من بيت حمالة الحطب ومن سلاطة لسانها وفحش قولها فإنني مع هذا الحادث الأليم أرى غير ما تحدث به المؤرخون حيث كانوا يصفون هذا الزواج زواج كريمتي رسول الله من عتبة وعتيبة بأنه كارثة أو مصيبة إلا أنني أرى أن عتبة وعتيبة ابنا العم عبد العزى كانوا من خيرة شباب بني هاشم وكانوا على درجة عالية من دماثة الطباع وحسن الخلق وكانت رقية وأختها سعيدتين فرحتين مسرورتين في بيت زوجهما كما أنني أستشف فرحة العم أبي ولهب بهذا الزواج المبارك الميمون فلولا رغبته الجامحة بالاستئثار ببنتي محمد بن عبد الله لما قدم بنفسه مع الشيخ أبي طالب لخطبة العروسين الهاشميتين .. إنني لا أظن أن عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب ما كانا ليطلقا بنتي محمد لولا القسم الذي أقسمته أمهما حمالة الحطب فكل منهما كان يحب زوجته ويتعلق بها ويحترمها ويعزها إلا أن إلحاح حمالة الحطب وقسمها أمام الأشهاد ألا يظلها وابنتي محمد سقف واحد دفع العم أبو لهب وهو يحب حفيدتي أخيه أن يقسم أمام الأشهاد على ابنيه لكي يطلقا ابنتي محمد وهو كما أظن كاره لهذا الأمر .. لأنه لن يجد بعد رقية وأم كلثوم في العرب كافة من تماثلهما شرفاً وحسباً ونسباً إضافة إلى النضارة والجمال والتربية الراقية والأخلاق السامية فلقد قام العم أبو لهب تحت ضغط اجتماعي قوي بهذه الخطوة الظالمة مارسها عليه رؤوس الكفر أمثال أبي جهل بن هشام وغيره .. ومهما يكن من أمر فإن الطلاق صعب سواء للرجل أو المرأة ولكنه للمرأة أصعب خاصة في مجتمع الجاهلية في تلك الفترة من الزمان ولقد عادت رقية وأختها إلى بيت النبوة حزينتين مكسورتي الخاطر تندبان حظهما فاحتسبتا هذه المصيبة عند الله الذي لا تضيع عنده المظالم .. لقد عز على العروسين الهاشميتين في بداية زواجهما أن تتركا بيت النبوة وهما صغيرتين ولكن عودتهما الآن مطلقتين لهو أشد وأصعب وأقسى مهما تحدث الناس عن صعوبة العيش مع حمالة الحطب .. لقد كان زواجهما تجربة صعبة إذا انتزعتا من حضني أبويهما وهما صغيرتان أما طلاقهما فقد كان صفعة قاسية لكل معالم الود والقربى .
عادت رقية وأم كلثوم من بيت الزوجية مطلقتين تحملان همومهما إلى بيت البنوة ولكن بيت النبوة لم يعد كما كان فقد تغيرت الحياة فيه بشكل عام .. الوالد الكريم مشغول بتعبده ودعوته للناس ، مشغول بتلقي الوحي بين فترة وأخرى .. مشغول بالأعباء والتكاليف التي فرضها عليه ربه جل وعلا .. .مشغول بدعوة عشيرته الأقربين .. مشغول بالعداوة الشديدة التي أبداها قومه قريش وغيرهم من القبائل العربية .. لقد كان بيت البنوة كما عهدناه سابقاً بيت الألفة والمحبة والراحة والهدوء ، أما الآن فقد مضى عهد الراحة والهدوء ومضى عهد الصفاء والرخاء وأقبل عهد الجد والعمل والصبر والمصابرة والمقاومة والمجادلة والدعوة إلى الدين الجديد الذي أنزله الله على نبيه المصطفى محمد بن عبد الله ولذلك كان محمد يقوم الليل كله إلا قليلاً أو نصفه إلا قليلاً يتفكر في ملكوت السموات والأرض ويتعبد الله جل وعلا .. يناجي ربه في كلمة الليل عندما يكون الناس نيام ويخاطب زوجته خديجة فيقول لها ( قد مضى عهد النوم يا خديجة) أجل لقد مضى عهد النوم .. وجاء عهد السهر والاضطهاد والامتحان والابتلاء والعذاب في سبيل الله لقد كان الوالد الحبيب يعود إلى بيته مهموماً حزيناً مما يلاقيه من عنت قريش وعداوتهم وصدهم عن سبيل الله .. ليلقى زوجته الحبيبة خديجة بنت خويلد تمسح دمعته وتجفف عرقه وتهون عليه مصائب الدنيا وتقوي عزيمته وتدفعه إلى الإصرار والصمود في وجه كل العقبات حتى يزول ما به من حزن وهم وأسى .
لقد عادت رقية وأم كلثوم لتشاطرا أبويهما ما يلقيان من صعوبات وعقبات في سبيل الله .. لقد أراد المشركون أن يشغلوا رسول الله بإعادة بناته إليه ولكن الله أراد أن تعود العروسان الهاشميتان إلى بيت النبوة لتساعدا أبويهما وتقفا معهما في هذه المحنة العصيبة فكانتا خير معين للأبوين الكريمين في اشد الأيام محنة وقسوة وصعوبة .
*********
الزواج الميمون
خاب ظن مشركي قريش وخاب ظن أبي لهب حين قال لأبنائه ( رأسي من رأسيكما حرام إذا لم تطلقا بنتي محمد ) .. وخاب ظن حمالة الحطب زوجة أبي لهب حين أقسمت على أبنائها أن لا يظلها وابنتي محمد سقف واحد فلقد كانت عودة العروسين الهاشميتين عودة محمودة هادئة رتيبة .. دون صخب أو مضض .. هنا شاءت إرادة الله أن يبدل العروس الهاشمية رقية بنت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بزوج خيراً من عتبه .. أبدلها الله زوجاً صالحاً كريماً من النفر الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة .. أبدلها الله بأفضل شباب مكة حسباً ونسباً .. أيدها الله بشاب بهي الطلعة جميل الملامح فخم السمات رضي الخلق موفور المال .. ذلك هو عثمان بن عفان ابن أبي العاص بان أمية بن عبد الشمس أعزه الله في الجاهلية فكان من أعرق فتيان قريش نسباً وشرفاً وعزةً .. يلتقي نسبه مع الرسول الكريم من جهة الأب عند عبد مناف بن قصي وينتهي نسبه إلى الرسول الكريم من ناحية الأم عند عبد المطلب بن هاشم فجدة عثمان لأمه هي البيضاء بنت عبد المطلب جد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .. قال بن مسعود رضي الله عنه يصف عثمان بن عفان : ( كان عثمان أوصلنا للرحم وكان من الذين آمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) .
وفي جو الحزن والكآبة الذي خيم على رقية بنت محمد بعد طلاقها تقدم عثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله شرف المصاهرة ضارباً في ذلك أحلام قريش وآراءها وخططها عرض الحائط فلقد كان من يمن رقية بنت محمد أن تترك بيت الكفر والشرك والضلال ليتلقفها بيت النور والهداية والإيمان فوافق الرسول الكريم محمد بن عبد الله على هذا الزواج الميمون وبارك للعروسين السعيدين زواجهما وحياتهما الجديدة .
ونكاية بالمشركين من قريش فقد قام عثمان بن عفان صاحب المال الوفير وهو من أكابر تجار مكة قام بإعلان زواجه في حفل دعى له القاصي والداني حيث أقيمت الولائم وذبحت الذبائح وجاء الناس من كل حدب وصوب ليباركوا هذا الزواج الميمون ولقد كان حظ النساء في هذه المناسبة أكبر وأوفر حتى أن النساء كانوا يغنين في حفل الزواج الميمون هذا ..
أحسن شخصين رأى إنسان رقية وبعلها عثمان
كان عثمان بن عفان من أشراف قريش وتجارها المعدودين وشبابها المشار إليهم بالبنان امتلك النسب العريق والحسب الشريف فهو من علية القوم شرفاً وحسباً ونسباً فهو وإن لم يكن هاشمياً فهو أعز وأكرم من كثير من الهاشميين الذين خذلوا رسول الله وظاهروا أعداءه من المشركين وأخيراً طلقوا بناته وأعادوهم إلى بيت أهلهم لا لذنب اقترفوه أو جريمة جنوها وإنما بدافع من الحقد والكراهية لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقيدة التوحيد التي سفهت آلهتهم وأصنامهم .
لقد كان عثمان بن عفان صاحب خلق رفيع ودماثة في الطباع وسمو في الأخلاق وكان محبوباً في قومه وعشيرته حتى المشركين منهم فقد كان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين في كثير من الأحيان كان صادقاً أميناً تقياً ورعاً كريماً جواداً سباقاً إلى الخير .. كان عثمان بن عفان من التجار الأثرياء المعروفين في مكة المكرمة والمعروفين بكثرة تجارتهم فقد كان يسير القوافل إلى بلاد الشام واليمن في رحلتي الشتاء والصيف وإن كان سفره ضمن هذه القوافل قليلاً إذ كان يؤثر المبيت في مكة ويرسل غيره في تجارته .. كان عثمان بن عفان يتميز على أقرانه من شباب مكة بالجدية والحزم وقوة الشخصية وسعة فـي الخبرة وكثرة في المال وجمال في المنظر وأناقة في المظهر قل أن تجد مثل هذه الصفات تجتمع لشاب من شباب مكة بل لشاب في كل القبائل العربية .. وعلى الرغم من حضور كل المسلمين وعدد وفير من المشركين حفل زواج عثمان بن عفان من كريمة الرسول صلى الله عليه وسلم رقية إلا أن زعماء قريش من المشركين آذاهم هذا الزواج الميمون وسفه أحلامهم وكسر كلمتهم فلم يحضروا هذا العرس الكريم بل باتوا بغيظهم وحقدهم يتهامسون عن هذا الخصم العنيد الذي يزداد قوة ومنعة كلما ازدادوا طغياناً وعدواناً .
انتقلت رقية بنت محمد إلى بيت زوجها الكريم القرشي الأموي عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه لتجد هناك سعة في الرزق ورخاءً في العيش ورفاهية وكرماً وجوداً .. وفوق هذا وذاك قلباً مؤمناً طاهراً محباً رحيماً .. لقد كانت مثل هذه الصفات حلماً يداعب مخيلة أية فتاة مؤمنة وقلما تجتمع في شخص واحد ولكنها اجتمعت في عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس كانت رقية بنت محمد تشعر بالغبطة والسعادة في بيت زوجها عثمان بن عفان حتى لكأنها تظن أنه لا يوجد أسعد منها ضمن لداتها في كل أنحاء مكة المكرمة بعد أن أبدلها الله زوجاً خيراً من عتبة بن حمالة الحطب .. لقد كان عثمان رضي الله عنه خير زوج وحبيب لخير فتاة هاشمية قرشية في مكة .
اشتد أذى قريش على المسلمين المؤمنين الذين اتبعوا الدين الإلهي الجديد فكانت كل قبيلة تحاول أن تفتن غلمانها المؤمنين عن هذا الدين الجديد واشتد الأذى وعم البلاء ووصل الأمر إلى حد السجن والضرب والتقييد بالسلاسل وأحياناً التعذيب حتى الموت كما حدث لأم عمار سمية أول شهيدة في الإسلام حيث قام عدو الله أبو جهل فبقر بطنها وهي حامل فماتت ومات الجنين معها فكانت أول شهيدة في الإسلام ولقد كان رسول الله يمر على أصحابه وهم يُعذبون وليس لديه من قوة ترد الضرر والأذى عن هؤلاء المؤمنين الطيبين الطاهرين فكان يدعو لهم الله أن يحتسب لهم أجر هذا الأذى يوم القيامة فكان يقول لسمية وزوجها وابنها وهم يُعذبون في الحر الشديد على بطحاء مكة ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) ..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حماية الهاشميين وعلى رأسهم عمه أبو طالب .. وفي حماية بني أسد وعلى رأسهم خديجة بنت خويلد الأسدية وفي حماية أخواله وأقارب أمه من بني زهره فلم يتجرأ المشركون في تلك الفترة من التاريخ أن يصلوا إليه بالأذى والتعذيب إذا ما استثنينا بعض الشتائم والبذاءات التي كانت تصدر عن سفهاء قريش إلا أنه بشكل عام كان يتحرك بكامل حريته وملء إرادته .. وكان يبذل جهداً كبيراً شاقاً من أجل الدعوة إلى الله ونشر دين الله بين قبائل العرب .. وكان ينتهز الفرص والمناسبات التي تجمع القبائل العربية وخاصة موسم الحج لتبليغ الرسالة وتأدية الأمانة .
ومن يركب سيارة اليوم ويتوجه إلى مكة المكرمة إلى مدينة الطائف عبر طرق ممهدة مزفته ليصعد الجبال ويهبط الوديان يستطيع أن يستشعر كيف ذهب محمد رسول الله من مكة إلى الطائف ماشياً عبر المسالك الوعرة ليصل إلى مدينة الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام فيأبوا إلا أن يسلطوا عليه غلمانهم وسفهائهم ويضربوه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين .. فنزل جبريل عليه السلام وقال ( يا محمد إن الله يقرئـك السلام وقـد أ رسل معي ملك الجبال فلو أمرتـه أن يطبق عليهم الأخشبين لفعل ) .. فقـال الرسول الكريم ذو القلب الرحيـم ( بل استأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده ويعبده ) هذه العظمة وهذه النفس السامية وهذه الروح الطيبة الرحيمة الشفوقة الحريصة على نشر الدين في كل بقعة يمكن أن يصل إليها ، لا يمكن أن تتحقق إلا لنبي مرسل من عند الله بل إلا لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
******
الهجرة الأولى إلى الحبشة
وفي خضم هذه المصاعب والظروف القاسية وفي خضم هذه المحنة الشديدة والأذى من قريش لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن رسول الله لمن أرادوا من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأنه لا يقدر أن يمنعهم فقال لهم : لو خرجتم إلى أ رض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد .. وهي أرض صدقٍ حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه ) .
فكان عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من بادر إلى الهجرة إلى الحبشة ثم تبعهم عدد من أصحاب رسول الله .. لقد ترك عثمان بن عفان ماله وتجارته وترك داره وترك عشيرته وأصحابه وترك حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطحب زوجته رقية بنت رسول الله ولم يكن قد مضى على زواجهما زمن بعيد .
جهز عثمان راحتله وراحلة زوجته رقية وحمل فيها ما استطاع حمله من مال ومتاع ومؤونة الطريق إلى الحبشة ولما أزفت ساعة الوداع ودع مع زوجته رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لهما ، أما رقية فلم تستطع حبس حزنها وألمها على فراق أهلها وبلدها فأجهشت بالبكاء وهي تعانق أباها وأمها وأخواتها وتودعهم وداعاً لا تدري معه متى اللقاء من جديد .. ثم ركبت راحلتها وتبعت زوجها الحبيب عثمان بن عفان .. سارت القافلة ونظر رقية معلق بالبيت العتيق ومعلق ببيت البنوة الذي عاشت فيه أيامها السالفة .. ولم ترفع نظرها حتى غابت مكة عن نظرها في الأفق البعيد .. توقفت القافلة في الطريق منتظرين أن يجتمع شمل المهاجرين فشربت الإبل وتزودت بما تلزم وانطلقت القافلة على بركة الله وهي تسمع صوت الحادي ينشد بصوته الرخيم :
قوافل الإيمان تسير فـي أمان
تعطر الأكوان وتعبد الرحمن
......................
قوافل الإيمان تغادر الأوطان
لتهجر الأوثان وترضي المنــان
......................
قوافل الإيمان لواؤها القــــــرآن
وتطلب الغفران من ربها الرحمن
......................
أما رقية فلما سمعت صوت الحادي ورأت الإبل تسير في طريقها المرسوم هزها الشوق والحنين وأثارها الحزن والفراق فأخذت الدموع تنهمر من عينيها غزيرة .. ولكنها نظرت خلفها لترى زوجها الحبيب يسير على راحلته فمسحت دمعتها واستبدلتها بابتسامة الحب والرضى بما قسمه الله لها .. وهون عليها ألم الغربة والفراق أن زوجها عثمان بن عفان الفتى القرشي الأموي يسير معها جنباً إلى جنب لا يفارقها قيد شبر واحد .
ابتدأت هجرة الحبشة بأحد عشر رجلاً وأربع نسوة كما تذكر أغلب الروايات التاريخية وكلهم من السابقين الأولين إلى الإسلام ولقد سرَّ رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخفف عنها ألم الغربة والفراق وجود عدد من أقاربها وأقارب زوجها ضمن الفوج الأول من المهاجرين إلى الحبشة فكان من أقرباء زوجها أبو حذيفة بن عتبة وزوجته سهلة بنت سهيل .. وعمر بن سعيد بن العاص وزوجته وخالد بن سعيد بن العاص وزوجته وأقربائها خال رقية الزبير بن العوام بن خويلد .. ابن عمة الرسول عبد الله بن عبد الأسد وزوجته هند بنت زاد الركب وابن عمها جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء بنت عميس وكان مصعب بن عمير من أقرباء رقية وعثمان في نفس الوقت .
توقفت قافلة المهاجرين المؤمنين إلى الحبشة لأداء الصلاة وكان أمامهم الصحابي الجليل عثمان بن مظعون الجمحي رضي الله عنه فلما قضوا الصلاة توجهوا بالدعاء إلى ربهم الذي يعلم حالهم أن ينصر دينه ويعز جنده ويحمي رسوله والمؤمنين معه من أذى قريش والقبائل المتحالفة معها ثم تابعوا طريقهم نحو الجنوب متوجهين إلى الحبشة .. وقد طاب لهم السفر والهجرة والغربة مادام ذلك في سبيل الله وبأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رحبت الحبشة بالمهاجرين المسلمين الأولين وأوسعت لهم في أرضها مكاناً رحباً سهلاً كانوا نواة للهجرة الأولى إلى الحبشة ما لبثت أن توالت الوفود من المسلمين المعذبين المضطهدين لأنهم رأوا في نجاشي الحبشة رجلاً حكيماً وقوراً متسامحاً طيب القلب وكان على دين النصرانية دين المسيح عيسى عليه السلام وصدق الله العظيم إذ يقول : ( ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ولتجدن أقربهم مودةً الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن فيهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ) وصدق الرسول الكريم حين قال عن نجاشي الحبشة ( إن فيها ملك لا يظلم عنده أحد ) وهكذا تتابعت وفود الإيمان إلى الحبشة لينضموا إلى إخوانهم المؤمنين السابقين إلى الهجرة حتى وصل عدد المهاجرين إلى الحبشة من المؤمنين إلى ما يقارب المائة بين رجل وامرأة وطفل .. كانت رقية تعيش حياة هنيئة سعيدة بعيداً عن صخب قريش وعدائها للمسلمين وعدائها لوالدها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعيداً عن الأذى والضر والاضطهاد والإيذاء والاعتداء من قريش للصابرين المؤمنين وما كان ينقص سعادتها إلا خوفها على والدها ووالدتها وأخواتها من أذى قريش وبقية قبائل العرب من المشركين ، كانت تعيش ضمن كوكبة من النساء المؤمنات التقيات يذكرن الله كثيراً ويقرأن ما يصلهن من آيات القرآن الكريم بل ويحفظنها ويطبقن أوامرها ويبتعدن عن نواهيها حتى أصبحوا متخلقين بخلق القرآن واعين لأوامره ونواهيه متعبدين ذاكرين الله كثيراً في جو إيماني رفيع فيه من السمو الروحي مثلما فيه من التطبيق العلمي .
وفي يوم من الأيام بينما كان المهاجرون إلى الحبشة يتباحثون في أمر هذا الدين ويقرءون آيات القرآن الكريم إذ وصلت كوكبة جديدة من المهاجرين المؤمنين أحاط بهم المهاجرون الأولون يسألونهم كيف تركوا نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم وكيف حال المؤمنين الصابرين في مكة وكيف حال الأهل والأصحاب والأحباب في مكة المكرمة ؟ ومن آمن من المشركين وانضم إلى الإسلام .. فحدثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتقد أنباء ابنته رقية حتى أتت امرأة قادمة من الحبشة وأخبرته أنها رأت رقية وزوجها عثمان وهم على خير ما يرام عندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( منحهما الله .. إن عثمان أول من هاجر بأهله ) .
لم تكن بلاد الحبشة أحب إلى قلوب المهاجرين من مكة المكرمة .. مهبط الوحي على رسول الله وبلد الكعبة المشرفة وإنما وجدوا في بلاد الحبشة الأمان والسلام وحرية الدعوة فلقد آمنهم النجاشي وأحسن جوارهم وتركهم أحراراً يعبدون الله لا يخافون في الله لومة لائم .. لقد كان المسلمون المهاجرون يحنون إلى مكة يحنون إلى الكعبة المشرفة يحنون إلى الصفا والمروة يحنون إلى ماء زمزم ومقام إبراهيم بل هم كانوا وقبل كل شيء يحنون إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم والسماع إلى وحي السماء ينزل في كل فترة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هذا لم يمنعهم أن ينتهزوا الفرصة لكي يتغنوا بما حباهم الله من الأمن والسلامة والأمان في بلد النجاشي حتى أن الصحابي عبد الله بن الحارث السهمي كان ينسج القصائد الطوال يتغنى بما هم من عز ومنعة وأمن وأمان ويرسل هذا النشيد عبر الأثير إلى أهل مكة حيث يقول في إحدى قصائده :
يا راكباً بلغن عني مغلغلة
من كان يرجو بلاغ الله والدين كل امرئ من عباد الله مضطهد
ببطن مكة مقهور ومفتون
أنا وجدنا بلاد الله واسعةً
تنجي من الذل والمخزاة والهون
فلا تقيموا عل ذل الحياة وخزيٍ
في الممات وعيب غير مأمون
وهناك العديد من القصائد التي صاغها المهاجرون المسلمون أثناء هجرتهم إلى الحبشة لا أرى حاجة هنا في سردها ولمن أحب الاطلاع فعليه العودة إلى كتب التاريخ والسيرة فهناك سيجد الكثير .. ولكن هذه القصائد الرائعة طارت مع القوافل إلى مكة وسمعها أشراف مكة وزعمائها ففزعوا وطار صوابهم فقد علموا أن أصحاب محمد قد أمنوا بأرض الحبشة وأصابوا بها داراً وقراراً لذلك أخذوا يتشاورون في هذه المصيبة الثانية خاصة وأنهم خافوا أن يقنعوا النجاشي بمساعدتهم على حرب قريش وحرب المشركين أينما كانوا .. لذلك اختاروا من دهاة العرب من يتزعم وفد قريش إلى النجاشي ليقنعوه بطرد الفئة المؤمنة من أرضه فكان يتزعم وفد قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة وجمعوا لهما الهدايا القيمة لتقديمها للنجاشي ولبطارقته فانطلقا على مرأى ومسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه من أصحابه وآله .. أشفق العم ( أبو طالب ) على من بأرض الحبشة خاصة وأن فيهم ابنه جعفر بن أبي طالب وولدا ابنتيه أميمه وبرة .. ورقية بنت محمد حفيدة أخيه عبد الله .. من مكيدة عمرو بن العاص وهو يعلم حق العلم دهاء عمرو بن العاص ومكره .. فأنشد قصيدة يستثير بها كرم النجاشي ونخوته ومروءته ويحضه على أن يحمي جواره فقال في قصيدة عصماء نجتزي منها بعض الأبيات :
ألا ليت شعري في النأي جعفرُ
وعمرو وأعداء العدو الأقارب
وهل نالت أفعال النجاشي جعفراً
وأصحابه أم عاق ذلك شاغب
تعلم أبيت اللعن أنك ماجد
كريم فلا يشقى لديك المجانب
وأنك فيض ذو سجال غزيرة
ينال الأعادي نفعها والأقارب
فلما سمعت قريش قصيدة العم أبي طالب هزت رأسها وقال أحدهم مستهزئاً .. ما يبلغ صوت الشيخ أبو طالب من مكيدة ودهاء عمرو وصاحبه .. وقال آخر وماذا تجدي الكلمات مع الهدايا الفاخرة القيمة التي أرسلتها قريش إلى النجاشي وبطارقته .
وتوارت الأخبار إلى المهاجرين في منزلهم النائي أن قريشاً تتآمر عليهم لتخرجهم من حماية نجاشي الحبشة وعلموا أن اثنين من دهاة العرب هما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة قادمان إلى النجاشي .فأوجسوا في نفسهم خيفة وأخذوا يتشاورون في أمرهم وذلك عندما سمعوا أن عمرو بن العاص وصاحبه عبد الله بن أبي ربيعة قد نزلا في أرض الحبشة وأنهما ذاهبان إلى بطارقة النجاشي يطلبون موعداً لمقابلة النجاشي .
تجمعت الصحابيات المؤمنات المهاجرات في بيت رقية بنت محمد وقد خامرهن شيء من الخوف والقلق ليتشاوروا أمرهم .. وكانت ( أم سلمة هند بنت ذات الركب ) عند رقية فحدثتهم عن مكيدة قريش ومكيدة داهية العرب عمرو بن العاص وصاحبه فقالت كما جاء في كتب السيرة : ( هو ما سمعتن من ائتمار قريش لما بلغها أننا جاورنا بالحبشة خير جار .. أمننا على ديننا .. وعبدنا الله تعالى لا نشرك به شيئاً لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه .. فبعثوا هذين الرجلين ومعهم الهدايا الفاخرة مما يستطرف من متاع مكة وبلاد الشام وقالوا لهما أن يدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن يكلما النجاشي فينا .. ثم يقدما إلى النجاشي هديته ويسألاه أن يسلمنا إليهما قبل أن يكلمنا ) .
أما الرجال المهاجرون فقد تحلقوا في بيت جعفر بن أبي الطالب وفيهم من أفاضل صحابة رسول الله أمثال عثمان بن عفان والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن جحش .. وعثمان بن مظعون .. وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم وأسكنهم فسيح جناته .. كان الصحابة المهاجرون الكرام يرهفون أسماعهم إلى ما تناثر من شائعات شتى مبهمة حتى تأكد لديهم إن عمرو بن العاص وصاحبه قد وصلا إلى بطارقة النجاشي وقدموا لكل واحد منهم هديته القيمة والتمسوا منهم لقاء النجاشي وتأييدهم في طرد المؤمنين من أرض النجاشي ..
أما ما كان من أمر عمر وبن العاص وصاحبه عبد الله بن أبي ربيعة فقد أحكما خطتهما وقدما إلى بطارقة النجاشي وقالا لكل بطريق منهم : ( إنه قد ضوى إلى بلد الملك غلمان منا سفهاء .. فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم .. وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم .. وقد بعثنا إلى الملك أشراف قومنا ليردوا هؤلاء السفهاء إلى قومهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعرف وأبصر بهم وأعلم بما عابوا عليهم .. فوعدهما البطارقة خيراً .. وفي اليوم الموعود قدم عمر بن العاص وصاحبه الهدايا القيمة الفاخرة إلى النجاشي فقبلها منهم على أنها هدايا من أشراف قريش وزعمائها ثم كلماه بشأن المهاجرين المؤمنين الذين قالوا عنهم بأنهم سفهاء خرجوا على دين قومهم .. ف قال البطارقة لقد صدقا أيها الملك فقومهما أعلم وأبصر بهم .. فأسلمهم إليهم .
غضب النجاشي وقال : لا .. ها الله !! – عني لا والله – لا أسلمهم إليهما ولا يُكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم .. فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني .
تلقى المسلمون المهاجرون دعوة النجاشي ليتحدث إليهم في أمر ذي بال فذهبوا وهم يتحاورون ..
-ماذا تقولون للرجل إذا جئتموه ؟!! .
- نقول ما علمن وما أمرنا به نبينا ..
- نقول ما نحفظ من كلام الله وكلام رسوله .
- نقول تعلمنا من رسول الله من الأخلاق والصفات والعادات الكريمة .
- ومن يكلم النجاشي ؟! .
- ليكن جعفر بن أبي طالب فهو أفضلنا حديثاً وهو ابن شيخ بني هاشم وأحد زعمائها وقادتها .
استقبلهم النجاشي وقد جمع أساقفته حوله ومعهم صحفهم منشورة .. فسأل المهاجرين :
النجاشي : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل .
جعفر ابن أبي طالب : أيها الملك : كنا قوماً أهل جاهلية .. نعبد الأصنام .. ونأكل الميتة .. ونأتي الفواحش .. ونقطع الأرحام .. ونسئ الجوار .. ويأكل القوي منا الضعيف .. حتى بعث الله فينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه .. فدعانا إلى توحيد الله وعبادته وخلع ما كنا نعبد من الحجارة والأوثان .. وأمرنا بصدق الحديث .. وأداء الأمانة .. وصلة الرحم .. وحسن الجوار .. والكف عن المحارم والدماء .. ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل ما اليتيم .. وقذف المحصنات .. وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً .. وأمرنا بالصلاة والصيام .. فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله .. فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا في ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله تعالى وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك .. ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك .
النجاشي : بعد صمت طويل .. هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟! .
جــعــفــــــر : نعم أيها لملك ..
النجاشي : هات فاقرأه علينا .
جــعــفــــــر : يقرأ صدر سورة مريم .. ( كهيعص .. ذكر رحمة ربك عبده زكريا .. إذ ناداه ربه نداءً خفيا .. قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربي شقيا .. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليا .. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا .. يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) .
النجاشي : يبكي بكاءً شديداً حتى أخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى خضلوا صحفهم .. وقال إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة .. ثم التفت النجاشي إلى عمرو بن العاص وصاحبه وهو يقول .
النجاشي : انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكم أبداً ..
عاد المسلمون المهاجرون وقد استبشروا خيراً عندما سمعوا من النجاشي إصراره على حمايتهم واستضافتهم على أرضه وعادوا ليقصوا على النساء المهاجرات ما جرى مع النجاشي وأن الله أخزى أعداءهم وفشَّل خططهم وسفَّه أحلامهم وأن عمرو بن العاص وصاحبه سيعودان إلى قومهما بالخزي والعار ..
أما عمرو بن العاص فلم يستسلم إلى هذه النتيجة المخزية ولم يفقد الأمل في ذكائه ودهائه بل قال مهدداً والله لآتينه غداً بما أستأصل به خضراءهم .. والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد .. وفي صباح اليوم التالي دعاهم النجاشي وسألهم عما يقولون في عيسى بن مريم فأجابه جعفر .. نقول فيه الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ( هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول ) .. فمد النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً وقال لجعفر : ( والله ماعدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود ) .. وتوجه إلى مهاجرين وقال لهم ( اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي .. من سبكم غرم .. من سبكم غرم .. من سبكم غرم .. وما أحب أن لي جبلاً من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم ) .. والتفت إلى بطارقته فقال لهم : ( ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها .. فو الله ما أخذ مني الرشوة حتى رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس فـيَّ فأطيعهم فيه ) .
رجع عمرو بن العاص وصاحبه عبد الله بن أبي ربيعة بالخزي والعار وعادا بالهدايا التي تكبدوا في حملها مشاق الطريق إلى مكة إضافة إلى أن وهذا الرفض لهدية قريش تعتبر مهانة ومذلة ما بعدها مهانة ومذلة .
أقام المسلمون المهاجرون في ارض الحبشة مع خير جار ما شاء الله لهم أن يقيموا في حماية النجاشي الذي أقسم أن من سابهم غرم ولكنهم رغم كرم الضيافة من النجاشي ورغم السلامة والأمن التي تمتعوا بها في الحبشة إلا أن قلوبهم ظلت تتجه إلى أم القرى إلى مكة المكرمة إلى الأصحاب والأقارب والأحباب .. إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الطيبين الطاهرين .. وظلت أسماعهم مرهفة تلتقط الأخبار من هنا وهناك عن الرسول الكريم وأصحابه الطيبين الطاهرين وتلتقط أيضاً ما ينزل على رسول الله من القرآن الكريم بادئ ذي بدء .
كانت رقية من أشد المهاجرين شوقاً إلى العودة إلى مكة فقد تركت فيها أبويها وأخواتها وشعرت بالشوق والحنين إلى مدارج الطفولة والصبا .. رغم رعاية زوجها عثمان وحبه وعطفه عليها ورغم وجود العديد من الأخوات المؤمنات اللواتي وجدت فيهن خير جليس وخير معين في غربتها .. ولقد كان يحز في نفسها ما تتناقله الأخبار عن الشدائد والمصائب التي تنال والدها الحبيب وتنال أهله وأصحابه المؤمنين الطيبين الطاهرين .
فرحة الأولاد
عاد عثمان بن عفان من عمله وتجارته في أرض الحبشة إلى بيته ليرى زوجته بوجهها الباسم والبشر والسعادة تطفح من وجهها .. ابتسمت رقية بشيء من الدلال وكأنها تريد أن تقول شيئاً لزوجها عثمان .
عثمان : هات .. ماذا وراءك من أخبار ؟ .
رقيـــــــة: بدلال .. لا .. لا شيء .
عثمان : بل إني لأقرأ في وجهك خبراً تخبئينه عني ..
رقيـــــــة: لا شيء جديد .. ولكن ...
عثمان : ولكن ماذا ؟ .. هيا أخبريني لقد أثرت فضولي .
رقيـــــــة: بابتسامة لطيفه إني حامل .
عثمان : وقد أذهلته المفاجأة السعيدة .. ماذا ؟ .. أحقاً ما تقولين يا حبيبه ؟! .
رقيـــــــة: أجل يا زوجي الحبيب .. آمل أن أكمل أشهر الحمل وأنجب ولداً يملأ علينا حياتنا في بلاد الغربة .
عثمان : ستكون أكبر فرحة في حياتي .
رقيـــــــة: أكبر من فرحة زواجنا ؟! .
عثمان : ليس بالضبط ولكن ..
رقيـــــــة: ولكن ماذا ؟! .
عثمان : ولكن هذا المولود هو ثمرة زواجنا يا رقيه .. ستكون فرحة عظيمة تصل صداها إلى أسماع قريش في مكة .
رقيـــــــة: إلى هذا الحد أيها الزوج الحبيب .
عثمان : بل أكثر من ذلك يا زوجتي الحبيبة .. إنني أنتظر هذا الخبر منذ أول يوم في زواجنا .
رقيـــــــة: هكذا إذن .
عثمان : أجل يا حبيبة وهل هناك أجمل وأسعد وأحب من الخلفة .
رقيـــــــة: وهي تبتسم لا أدري .
عثمان : سأعد الأيام يوماً .. يوماً حتى يحين اليوم الموعود .
رقيـــــــة: إلى هذا الحد يا عثمان ..
عثمان : سأجلس بجانبك وأرعاك حتى يحضر الضيف الحبيب .
رقيـــــــة: وعملك وتجارتك .
عثمان : لا عليك إنما هي تجارة بسيطة وعمل محدود نكتسب به بعض الرزق وسأتدبر هذا الأمر ..
وتمر الأيام وتمضي الشهور .. وعثمان يسأل عن الأم الحامل وعن المولود الجديد كل يوم .. بل كل ساعة .. بل كل ما نظر إلى زوجته الحبيبة رقية وكأن الفرحة لا تسعه حتى اكتملت أيام الحمل وأطل الشهر التاسع يبشر بقدوم مولود جديد .. وفي اليوم الموعود جاء المخاض إلى رقية بنت محمد فذهب عثمان إلى بيت الأصحاب ليطلب منهم إرسال زوجاتهم لإعانة رقية في الوضع والولادة وما هي إلا ساعات عصيبة تمر على رقية وزوجها ينتظر خارج البيت على أحر من الجمر حتى جاءته البشرى بقدوم مولود ذكر ما لبث عثمان أن سماه عبد الله ..
خرج عثمان بن عفان وفرحت زوجته رقية أشد الفرح وشاركهم فرحتهم كل من حولهم من المؤمنين والمؤمنات بمولد عبد الله بن عثمان ابن رقية وحفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حيث أقام عثمان حفلة ضمت كل المهاجرين والمهاجرات نحر خلالها الذبائح وأقـام الولائم وعاشـوا يوماً كله بهجــة وسرور .
******
بداية الآلام والأحزان
ابتدأت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حياتها الزوجة الأولى مع عتبة بن أبي لهب هنيئة سعيدة لا يشوبها إلا بعض المنغصات من حماتها حمالة الحطب ولكن ما إن بدأت قريش بعداوتها لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حتى طلقها عتبة فكان ذلك بداية الآلام والأحزان في حياة رقية بنت محمد رضي الله عنها عادت رقية مع أختها أم كلثوم مطلقتين إلى بيت النبوة حزينتين كئيبتين مكسورتي الخاطر فما كانتا تنتظران من أبناء العمومة الذين بذلا كل ما بوسعهما لإسعاد بنات العمومة رقية وأم كلثوم مثل هذا التصرف المشين .. ولكن ما لبثت هذه الغمة أن انقشعت على رقية حيث تقدم عثمان بن عفان لخطبتها ثم زواجها وكان عثمان خيراً من عتبة بن أبي لهب في كل شيء .
انتقلت رقية إلى بيت زوجها عثمان فكانت أسعد فتاة في قريش ولكن السعادة لم تدم طويلاً أمام عداوة قريش وإصرارها على القضاء على الدين الجديد وملاحقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبسهم وإيذائهم وتعذيبهم ليفتنوهم عن دين الله القويم .. فجاءت الهجرة إلى الحبشة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك خوفاً على أصحابه من أذى قريش .. كانت الهجرة إلى الحبشة فصلاً جديداً من فصول الآلام والأحزان التي مرت على رقية بنت رسول الله رضي الله عنها انتقلت إلى بلد لا تعرفها وإلى بشر لم تألفهم وابتعدت عن والدها ووالدتها وأخواتها وعاشت غربة قاسية بعيداً عن مكة المكرمة موطن ولادتها ومدارج صباها .. كانت رقية في مهجرها تتابع أخبار أسرتها أولاً بأول وذك عن طريق الركبان القادمين من مكة المكرمة .. حتى سمعت خبراً هز كيانها وهي في بلاد الغربة .. فقد طالبت قريش بني هاشم أن يسلموهم والدها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه لأنه سب آلهتهم وسفه أحلامهم وجاء بدين جديد يخالف دين الآباء والأجداد إلا أن عشيرة الرسول الأقربين من بي هاشم رفضوا وبشدة تسليمه بل على العكس من ذلك وقفوا معه ونصروه ودافعوا عنه ضد جميع القبائل التي لا تزال على الشرك .. وكان نتيجة ذلك أن تعاهدت قريش مع جميع القبائل العربية على حصار بني هاشم حصاراً ظالماً ومقاطعتهم في كل شيء .. لا بيع ولا شراء ولا زيارة ولا زواج مقاطعة كاملة شاملة في جميع الأمور الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وحصارهم في منطقة ضيقة هي شعب أبي طالب .. فكانت هذه المقاطعة الرهيبة سبة عار في جبين قريش والقبائل العربية خاصة وأن الاتفاق على هذه المعاهدة تم في دار الندوة التي أنشئت في الجاهلية خصيصاً لنصرة المظلوم فكانت في هذا الأمر نصرة للظالم ضد المظلوم .. خرج بنو هاشم بقضهم وقضيضهم بمسلمهم ومشركهم إلى شعب أبي طالب بظاهر مكة حيث أقاموا هناك في حصار مرير وطويل لا يآكلوا ولا يشاربوا ولا يزوجوا ولا يتزوج منهم ولا يباعوا ولا يبتاع منهم فكان حصاراً شديداً ظالماً اتفقت عليه جميع القبائل حيث كانوا يأملون من هذا الحصار أن يتخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. عن دعوته إلى الدين الإلهي دين الإسلام .. أو على الأقل أن يتخلى بنو هاشم عن نصرة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خاب فألهم فلم يتحقق لهم ما أرادوا .
كانت رقية في هذا الوقت بالذات في الحبشة مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنهما ولكن على الرغم من عدم دخولها هذا الحصار الظالم إلا أن الحزن كان يملأ قلبها على والدها ووالدتها وأخواتها بل على الشيخ الكبير أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عاش هذا الحصار الظالم المرير رغم كبر سنه ورغم مرضه .. عاشت رقية معززة مكرمة في بيت زوجها عثمان في الحبشة في بيت متواضع صغير إلا أنها كانت سعيدة هانئة بجوار زوجها .. خاصة وأنهما بعيدان عن ذلك الحصار الظالم المرير .. كانت الأخبار ترد إلى رقية وزوجها عثمان تترى عن حالة بني هاشم ووضعهم السيئ في الحصار المفروض عليهم في شعب أبي طالب .. لقد ضاقت الدنيا بما وسعت حتى لم يعد لديهم من المال والطعام والملبس والشراب ما يسد رمقهم وجوعتهم فأكلوا أوراق الشجر وباتوا على الجوع والعطش أياماً طويلة .. الكبار يتألمون والصغار يبكون والنساء يستغيثون ولكن لا مجيب ولا مغيث لكل هذه النداءات .. لقد كانت رقية وزوجها عثمان يسمعان هذه الأخبار الأليمة عن العصبة المؤمنة وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته وعن بني هاشم بشكل عام والحزن يعتصر قلبيهما وليس في وسعهما مساعدة أحد من المحاصرين فالمسافة بينهم وبين مكة بعيدة بعيدة والوصول إلى مكة يحتاج إلى أسابيع طويلة .. إضافة إلى أن قريشاً لن تسمح لأحـد أن يكسر هذا الحصار الظالم مهما كان .
وفي هذا الحصار الأليم مات الشيخ أبو طالب تحت تأثير الجوع والمرض والبرد فافتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ركناً مكيناً وسنداً قوياً بوفاة عمه أبي الطالب الذي وقف معه في هذا الحصار الظالم وقفة مشرفة .. وكان موته حدثاً فاجعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته وكانت رقية وزوجها يشاركون بيت النبوة أحزانهم في فقد الشيخ أبي طالب ، لقد كان للشيخ أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم مركزاً مرموقاً وعزاً وشرفاً ليس في بني هاشم فحسب بل في كل القبائل العربية فزال بموته السند الأول والقوي الذي كان يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم طبعاً بعد حماية الله جل وعلا ورعايته وعونه .. لقد حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفاة عمه أبي طالب وحزن أكثر أن دعاه إلى الإسلام فأبى أن يستجيب لدعوة الإسلام رغم حبه الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتضحيته بكل ما يستطيع من أجل ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم .. دخل عثمان إلى زوجته رقية قرآها كئيبة حزينة .. فربت على كتفها بيد حانية ..
عثمان : ما بك يا حبيبة ؟.
رقيـــــــة: لقد مات العم أبو طالب .
عثمان : هذه إرادة الله يا رقية .
رقيـــــــة: ونعم بالله ولكن ..
عثمان : ولكن ماذا يا رقية ؟!.
رقيـــــــة: ولكن الآن سيشتد أذى قريش على والدي وأخواتي وعلى المؤمنين أجمعين ..
عثمان : الله فوق قريش وأذاها وهو الذي يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحمي المؤمنين .
رقيـــــــة: آمنت بالله لقد طمأنت قلبي يا زوجي الحبيب .
عثمان : هناك خبر جديد وأريدك أن تكوني مؤمنة صابرة محتسبة ..
رقيـــــــة: بتلهف .. خبر جديد .. مؤمنة .. صابرة .. محتسبة .. لا شك أن هناك مصيبة أخرى ..
عثمان : مصيبة نعم .. ولكن المؤمن يحتسب كل المصائب التي تحل به عند الله الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة في السموات والأرض .
رقيـــــــة: بفـزع شديد وبصوت عالٍ وبكاء .. ماذا و راءك يا أبا عبد الله .. بالله عليك أخبرني ..
عثمان : بصوت هادئ .. لقد ماتت خديجة والدتك ..
رقيـــــــة: يرتفع صوتها بالبكاء والدموع تنهمر من عينيها بغزارة وهي تردد حسبي الله ونعم والوكيل حسبي الله ونعم الوكيل .
عثمان : حسبي الله ونعم الوكيل .. هو الذي أعطي .. وهو الذي أخذ ولا راد لحكه جل وعلا .
رقيـــــــة: لقد كانت أمي الدعم والسند الثاني بعد الشيخ أبي طالب ولابد أن يشتد أذى قريش بعد وفاتها .
عثمان : مهما اشتد أذى قريش فإن الله سينصر دينه وينجي رسوله .
رقيـــــــة: أمنت بالله .. وتوكلت على الله وأنا على ثقة تامة بأن الله سينصر عباده المؤمنين ويخذل أعداءهم المشركين .
حزنت رقية أشد الحزن على وفاة الجد أبو طالب وحزنت أكثر على وفاة والدتها خديجة بنت خويلد وشاركها زوجها عثمان بن عفان هذا الحزن .. كانت أخبار بني هاشم المحاصرين في شعب أبي طالب القاسية والمحزنة تتردد كل فترة إلى رقية وزوجها فتزيدهم هماً وحزناً فوق حزنهم على وفاة أبي طالب وخديجة وغيرهم من بني هاشم .. لقد تمنت رقية أن تكون مع زوجها في مكة لتساعد المحاصرين في الشعبة خاصة وأن زوجها عثمان هو من أشراف قريش وله كلمته في بني عبد شمس ولكن .. الهجرة إلى الحبشة كانت بأمر رسول الله ولا يمكن العودة إلا بأمر رسول الله ..
وبعد وفاة أبي طالب وخديجة تغير الحال في قريش فتحولت إلى العداء السافر والإيذاء المر للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه من المؤمنين الطيبين الطاهرين بل كل من آزرهم وسادنهم من الهاشميين .. لقد بدأت معركة الاضطهاد التي فترت مدة من الزمن بوقوف بني هاشم وبني أسد وبعض أشراف مكة في وجه الظلم .. أما الآن وبعد موت أبي طالب الهاشمي وخديجة بنت خويلد الأسدية فقد بدأت المعركة الشرسة الظالمة على محمد وصحبه .. كانت رقية تتعذب وتتألم وزوجها يواسيها في مثل هذه الأيام المليئة بالمصائب والأحزان .
عثمان : كفاك حزناً وبكاءً يا رقيه .
رقيـــــــة: إذا لم أحزن على أمي التي ماتت وجدي أبي طالب الذي مات في هذا الحصار الظالم فعلى من أحزن في هذه الدنيا .
عثمان : ولكن الحزن والبكاء قد غير حالك يا حبيبة .
رقيـــــــة: وهل كان باستطاعتي أن أدفع هذا الحزن يا عثمان .
عثمان : ولكن حزنك قد يؤثر على ولدنا عبد الله .. فهو لا يزال في سني الرضاع .
رقيـــــــة: قلت لك ليس الأمر بيدي .. إن قلبي يكاد ينقطع يا أبا عبد الله .. وأجهشت بالبكاء ..
فما كان من زوجها عثمان إلا وأن اقترب منها وأخذ يواسيها ويربت على كتفها حتى أحست بدموع ساخنة تنهمر من عينيه .
لقد كان لموت أبي طالب وموت خديجة بنت خويلد من بعده أثراً بالغاً خلف حزناً عميقاً في نفس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطيبين الطاهرين .. خاصة وأن رقية كانت بعيدة في أرض الحبشة لم تستطع أن تشاركهم محنتهم .. ولم تستطع أن تشاركهم أحزانهم ومصائبهم وظل ضميرها يؤنبها فترة طويلة من الزمن .
ولكن هذا الحصار الظالم لم يرق للكثيرين من زعماء قريش وأشرافها خاصة بعد وفاة الشيخ أبي طالب زعيم بني هاشم وخديجة بنت خويلد من أشراف بني أسد فتداعى بعض زعماء قريش إلى الاجتماع من جديد في دار الندوة وقرروا نقض هذه المعاهدة وتوجهوا إلى الكعبة المشرفة مكان تعليق الصحيفة الظالمة ليمزقوها فوجدوا أن حشرة قد أكلت كل هذه الصحيفة ولم يبق منها إلا كلمة ( باسمك اللهم ) فزاد عجبهم وأيقنوا أن محمداً على حق في دينه ودعوته ولكنهم أصروا على شركهم واستكبروا استكبارا .
لم يتوقف ظلم قريش واضطهادها للمسلمين بعد فك الحصار عن بني هاشم بل على العكس من ذلك فقد ازدادوا ظلماً واضطهاداً للمسلمين الطيبين الطاهرين .. ونتيجة لهذا الظلم والاضطهاد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى مدينة يثرب فراراً بدينهم من الفتنة والظلم والاضطهاد حتى لم يبقى مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مكة إلا من حبس أو فتن غير علي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما .. وبناته زينب وأم كلثوم وفاطمة .. أما زينب فبقيت في مكة تحت حماية زوجها أبي العاص بن الربيع وأما أم كلثوم وفاطمة فما لبثتا أن هاجرتا إلى المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم .
*******
العودة إلى مكة
ازداد الشوق والحنين لدى المهاجرين المؤمنين في الحبشة إلى الوطن الحبيب إلى مكة المكرمة إلى البيت العتيق إلى مراتع الطفولة والصبا إلى ماء زمزم .. إلى جبل الصفا وجبل المروة بل إلى كل شبر في هذه ا لأرض المقدسة الطاهرة لأن البيت العتيق هو أول بيت وضع للعبادة فهو من أقدس المقدسات على الإطلاق يقول ربنا جل شأنه (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً .. فيه آيات بينات .. مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ) .. لقد كان هذا الشوق والحنين إلى مكة المكرمة وإلى البيت العتيق هو جزء من دعوة إبراهيم عبر آلاف السنين حيث دعا ربه فقال : ( رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم .. ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) .. لقد دعا إبراهيم ربه أن يجعل أفئدة الناس تهوي إلى البيت العتيق فاستجاب له ربه حيث لا تزال وفود الحجيج والمعتمرين مستمرة متواصلة منذ أن رفع إبراهيم القواعد من البيت وعاونه في ذلك إسماعيل وحتى يومنا هذا .. بل وحتى تقوم الساعة ..
جلست رقية بنت محمد رضي الله عنها كئيبة حزينة يكاد الحنين إلى مكة يمزق قلبها والشوق إلى أهلها يهز كيانها في كل لحظة ولا تزال الدموع تتقاطر من عينيها بين الفينة والفينة ليهرع الزوج الطيبة المؤمن لمواساتها يكفكف بيديه دموعها ويمسح على وجنتيها ورأسها ويطيب خاطرها ويذكرها بأن الهجرة جهاد وأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عثمان : ما بك يا رقيه ؟! .
رقيـــــــة: لا شيء .. لا شيء يا عثمان .
عثمان : ولكني أراك تبكين .
رقيـــــــة: تذكرت والدي وما يحف به من صعاب وعذاب وتحديات ونحن هنا قابعون في الأمن والسلام لا تكاد تحرك ساكناً .
عثمان : سأرسل في استشارة رسول الله بالعودة .
رقيـــــــة: الواجب لا يحتاج إلى مشورة .
عثمان : الواجب طاعة الله ورسوله فيما أمر وما هاجرنا إلا بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
رقيـــــــة: لقد طلب والدي الهجرة لينقذنا من العذاب والفتنة التي تمارسها قريش على المسلمين ..
عثمان : الصبر .. الصبر فما أنت أشد مني شوقاً إلى مكة أو أكثر مني حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. والله لقد تركت كل عزي وجاهي وداري وأموالي وتجارتي وهرعت ملبياً أمر رسول الله .
رقيـــــــة: وأنا كذلك يا عثمان تركت كل شيء من أجل هذا .
عثمان : لقد أرسلت مع بعض الركبان إلى رسول الله أستشيره في العودة إلى مكة ولابد أن الجواب سيأتينا خلال يوم أو يومين أو أسبوع فعليك بالصبر فما أنا بالذي يخالف أمر رسول الله في الهجرة ثم أعود دون إذنه ومشورته ..
رقيـــــــة: أحقاً ما تقول يا زوجي الحبيب ؟! .
عثمان : كل الحق يا حبيبه .
رقيـــــــة: وسنعود إلى مكة .
عثمان : سنعود إن شاء الله ثم إن شاء رسول الله .
رقيـــــــة: تمسح دمعتها بسرعة والفرحة والبشر يعلو وجهها .. لقد اقترب الفرج يا عثمان .. لقد اقتربت العودة إلى الأوطان .. سنكون عوناً لوالدي في محنته مع قريش .. لن نؤثر السلامة بعد اليوم سنكون في قلب المعركة مع المشركين ..
عثمان : وقد طار قلبه من افرح .. هكذا أريدك يا رقية .. يجب أن تمسحي دموعك وتستعدي للرحيل إلى مكة .. وتستعدي لمجابهة الشرك والمشركين .
رقيـــــــة: أنا على أتم الاستعداد حتى في هذه اللحظة .
فرحت رقية بنت محمد لهذا الخبر السار فما هي إلا أيام معدودات ويأتي الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافقة على العودة إلى مكة ولم يكن يدُر بخلد كل من رقية وعثمان أنهم سيعودون من هجرة الجنوب في الحبشة ليستعدوا مرة أخرى إلى هجرة أخرى هي هجرة الشمال إلى يثرب .. وجاءت الموافقة الكريمة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد أن تمت المعاهدة بين رسول الله وقبيلتي الأوس والخزرج في مدينة يثرب على النصرة والحماية وبعد أن هاجر معظم المسلمين إلى مدينة يثرب وشكلوا فيها قاعدة صلبة متينة تمتلك كامل حريتها في الدعوة إلى الله ونشر دين الله في مدينة يثرب .
تجهز بعض المهاجرين المسلمين في الحبشة للعودة إلى مكة وكان عددهم ثلاثة وثلاثون رجلاً وبعض النساء والأطفال .. وكان على رأس القافلة المهاجرة كبار صحابة رسول الله من السابقين الأولين إلى الإسلام أمثال عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الله بن جحش وأبو سلمه وغيرهم كثير وكان في هذه القافلة من النساء رقية بنت محمد وابنها عبد الله وأم سلمه وسودة بنت زمعة وغيرهم كثير من نساء الصحابة رضوان الله عليهم .
سار الركب يحثون الخطى إلى مكة المكرمة يحدوهم الأمل في لقاء الأهل والأحباب في موطنهم مكة المكرمة وكانوا خلال سفرهم الطويل يعللون أنفسهم بلقاء الأقارب والأهل والأحباب وبلقاء المؤمنين الطيبين وقبل هذا وذاك بلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .. كانوا يتمثلون ما ينتظرهم في مكة المكرمة من أمن وسلام وأنس وطمأنينة بعد أن ازداد عدد المسلمين وقويت شوكتهم .. عبروا البحر الأحمر إلى بلاد اليمن برواحلهم وبما تحمله من زاد ومؤونة ومتاع إضافة إلى شيء يسير من الهدايا والهبات للأهل والأصحاب .. وسار الركب المهاجر الميمون في طريق مكة المكرمة وأخذ الحداة ينشدون لعل العير تسرع بهم فيصلوا إلى البلد الحبيب قبل يوم أو يومين فهم في أشد الشوق إلى مكة ومَنْ مِنَ المسلمين لا يحب مكة .. كان شوقهم وحنينهم يسبقهم إلى مكة بل ربما ظنوا قلوبهم طارت لتسبقهم إلى الوطن الحبيب وإلى الرسول الحبيب قبل أن تصل أجسامهم إليها .. إلى أن وصلوا مشارف مكة فرأوا ما يغاير أحلامهم وطموحاتهم لقد رأوا بأم أعينهم سفهاء قريش يعذبون أصحاب رسول الله المؤمنين الطيبين على الصخور وعلى الرمال بالضرب والجلد والصلب والتقييد في بطحاء مكة تحت حر الشمس وتحت وطأة الظمأ والجوع لعلهم يعودوا إلى شركهم ولكن المؤمنين الصابرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا دائماً يرددون لا إله إلا الله محمد رسول الله .. أحد .. أحد .. قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .. وصمت الحداة لما رأوا ظلم قريش وقارنوه بعدل النجاشي الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ) .. لما رأى المهاجرون العائدون هذا العذاب والاضطهاد لم يتجرؤوا على الدخول إلى مكة قبل أن يدخل كل واحد منهم في جوار أحد أشراف مكة أمثال الوليد بن المغيرة وعتبة وشيبة أبنا ربيعة وغيرهم .. أما من لم يجد من يجيره فقد التجأ إلى بيت الله الحرام يستجير به من ظلم أعداء الله .. وهم يستبشرون بالشهادة في سبيل الله إذا لم يجدوا من ينصرهم أو يجيرهم أو يحميهم من ظلم قريش .
هرعت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار أبيها لترى الحزن يخيم على بيت البنوة هرعت إليها أخواتها زينب وأم كلثوم وفاطمة معانقين أختهم المهاجرة والدموع لا تكاد تنقطع من أعينهم لقد علمت أن جدها أبا طالب قد مات وعلمت أن أمها خديجة قد ماتت ولكن لم تكن تصدق هذا الخبر حتى أخذت تسأل لتستيقن من الخبر الصعب الأليم وابتدأت بالسؤال عن أبيها وكأنها لم ترد أن تفجع بخبر وفاة أمها خديجة بنت خويلد .
رقـيـــــــــــــة : أين أبي ؟! .
زيــنـــــــــــب : خرج يستقبل وفود العائدين من الحبشة .
رقـيـــــــــــــة : وكيف حاله بعد وفاة الشيخ أبي طالب .
أم كلثوم : بخير ولله الحمد .. ولكن ..
رقـيـــــــــــــة : ولكن ماذا ..؟! .
أم كلثوم : ولكنه حزين .. حزين جداً يا أختاه .
رقـيـــــــــــــة : تسأل وهي تتوقع الخبر المحزن الأليم .. وأين أمي ؟!.
وهنا اختلجت شفاه الأخوات الثلاث وتجلجلت الأحرف مضطربة بين شفاههن فلم تستطع أن تجتمع إلا على كلمة واحده هي ..
زيــنـــــــــــب .. أم كلثوم .. فاطمة : أمنا ؟ ..
رقـيـــــــــــــة : وقد قرأت على شفاههم خبر الفاجعة الأليمة فصاحت بمـــلء صوتها .. أجـــل أمنا خديجة بنت خويلـد .. أين هـي .. ؟!! .
أطرقت البنات الثلاث صامتين لا يجيبون .. بعدها غادرت كل واحدة منهم الغرفة لتذرف الدموع بعيداً عن أختهم المهاجرة رقية ولكن رقية فهمت الجواب من صمتهم وبكائهم فأجهشت ببكاء طويل والدموع لا تفارقها ثم هرعت إلى غرفة أمها تنظر آثار الأم الحنون تنظر إلى فراشها فتستلقي لتذرف الدموع على وسادة أمها خديجة بنت خويلد الأسدية التي جاهدت ضد ظلم قريش ووقفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة عجز عنها كل الرجال فكانت كما قال عنها رسول الله : ( والله ما أبدلني الله خيراً منها آمنت بي حين كفر الناس .. وصدقتني إذ كذبني الناس .. وواستني بمالها إذ حرمني الناس .. ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء ) .
أجل لقد تأكد الخبر الحزين لدى رقية تأكدت من وفاة والدتها بعد أن رأت الدموع تنهمر غزيرة من أخواتها الحبيبات وهنا تهالكت على مخدع أمها الراحلة زائغة البصر جامدة الحركة دامعة العينين لا تقدر على الكلام .. وظلت في ذهولها وجمودها ودموعها حتى سمعت صوت والدها الحبيب صلى الله عليه وسلم .. يدخل بيت البنوة فمسحت دموعها وهرعت إلى والدها يضمها إلى صدره الحنون ويمسح دموعها بكفه الشريف صلى الله عليه وسلم فأذاب جمودها وذهولها بحرارة لقائه وحرارة حديثه وعذب كلماته عليه الصلاة والسلام .
******
الهجرة الثانية
اشتد أذى قريش واضطهادها للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأمر أصحابه بالهجرة إلى مدينة يثرب والتي سميت بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها بالمدينة المنورة .. حيث تحالف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قبيلتي الأوس والخزرج المقيمتين في مدينة يثرب وذلك للنصرة والحماية بعد أن آمن زعماء هاتين القبيلتين وكثير من الأوسيين والخزرجيين فكانت هذه الهجرة المباركة هي بداية الدولة الإسلامية التي انتشرت فيما بعد في جميع أنحاء العالم .. هاجر معظم أصحاب رسول الله من المؤمنين الطاهرين الطيبين إلى مدينة يثرب وبقي رسول الله صلى اله عليه وسلم مع نفر قليل من أصحابه في مكة .. وبقيت ابنته زينب بنت محمد في حماية زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان من أشراف بني أسد فلم تهاجر إلى مدينة يثرب بادئ ذي بدء أما رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم فقد هاجرت مع زوجها وابنها الرضيع عبد الله بن عثمان رضي الله عنهم إلى المدينة كما هاجرت أم كلثوم وفاطمة إلى المدينة قبل هجرة رسول الله بأيام قليلة .. ولم يدم الأمر طويلاً حتى فتحت قريش أعينها على أصحاب رسول الله وقد هاجروا بقضهم وقضبضهم إلى مدينة يثرب وشكلوا فيها قاعدة قوية بحماية الأوس والخزرج وأحست قريش أن هذه القوة المؤمنة المدعومة من قبيلتي الأوس والخزرج قد تشكل قوة ضاربة تهدد كيان قريش كلها وتهدد زعامتها على القبائل العربية كلها .. اجتمع قادة قريش وزعماؤها في دار الندوة في مكة وتباحثوا أمرهم في شأن محمد وفي تكاثر أتباعه وتعاظم قوته فلم يجدوا حلاً إلا في قتل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. ذلك لأنه إذا وصل إلى أتباعه في مدينة يثرب ستكون لهم قوة وشأن يضربون بها قوة قريش وسيادتها وزعامتها على كل القبائل العربية ولكن من سيقتل محمداً ووراءه بنو هاشم وبنو أسد وبنو زهره وغيرهم من المتعاطفين معه وإن لم يكونوا قد أسلموا بعد .. من سيتورط في مثل هذا الأمر الجلل ولكنهم توصلوا أخيراً إلى حل يرضي الجميع ألا وهو أن تشترك جميع القبائل في قتله صلى الله عليه وسلم .. لقد كانوا يتآمرون ويتفقون على قتل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ..
اختاروا من كل قبيلة من القبائل العربية فتىً يمثلها في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا ضربوه ضربة رجل واحد تفرق دمه في القبائل كلها واضطر بنو هاشم لقبول الدية إذا لا يستطيعون مجابهة كل القبائل في الحرب وفي أخذ الثأر .
كانت هذه الأخبار تصل إلى زينب عن طريق زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان واحداً من أشراف قريش المجتمعين في دار الندوة .. وكان يشفق على رسول الله من تخطيط قريش فكانت زينب تلح على رسول الله أن يغادر مكة المكرمة حتى لا تطاله يد سفهاء قريش .. وكانت زينب تنقل إلى والدها كل ما تسمع وكل ما يقال في أندية قريش .
وفي اليوم الموعود تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالهجرة من السماء فطلب من صاحبه الصديق أن يجهز الرواحل والدليل وزاد الطريق وكل ما يلزم للهجرة الميمونة إلى مدينة يثرب وذلك كله بسرية تامة بعيداً عن أعين قريش ومسامعها .. وفي نفس الوقت بالذات كانت قريش قد اتخذت قرارها وجهزت كل قبيلة من القبائل فتىً يمثلها في قتل محمد صلى الله عليه وسلم وعلمت زينب الخبر ولكنها لا تستطيع أن تقدم لوالدها الحبيب أية مساعده ولكنها كانت تعلم حق العلم أن الله سيحمي والدها من كيد قريش وعدوانها .. وتحت جنح الظلام اجتمع فتيان القبائل حو بيت محمد وانتظروا خروجه لصلاة الفجر كعادته .. وكان عبد الله بن أبي قحافه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد جهز ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبات ينتظره في مكان ما متفق عليه .. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معه بين العصبة المشركة الذين تآمروا على قتله .. خرج من بين أظهرهم وهم نائمون فأخذ يحسو التراب على رؤوسهم واحداً واحداً وهو يقول شاهت الوجوه .. شاهت الوجوه .. وفي ذلك يقول ربنا جل شأنه : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليقتلوك أو يثبتوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .
خرج محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق من مكة المكرمة وهو يقول : ( والله لإنك أحب بلاد الله إلى قلبي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك ) .. أفاق فتية مكة المتحلقين حول بيت رسول الله والمتربصين برسول الله من غفوتهم على نبأ خروج محمد بن عبد الله من بين أظهرهم دون أن يعلموا واستشاطت قريش غضباً وأخذت بمطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل جهة من جهات مكة .. وسرى الهمس بين مشركي مكة عن خروج محمد صلى الله عليه وسلم فأخذوا يبحثون عنه في كل مكان ويطاردونه في كل اتجاه .. وأعلنوا عن جائزة كبيرة لا يحلم بها أي فتى من فتيان مكة لمن يأتي بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أحياءً أم أمواتاً .. وانطلق الشباب الغر في كل اتجاه وكل واحد منهم يحلم بالجائزة السخية التي وضعتها قريش لمن يأتي بمحمد وصاحبه .. كانت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختبئ مع صاحبه في غار خارج مكة هو غار ( ثور ) حتى تهدأ الأوضاع وتفقد قريش أملها في الإمساك بمحمد صلى الله عليه وسلم بعدها ينطلقوا إلى مدينة يثرب .
كان فرسان قريش يطوفون في كل اتجاه ويبحثون في كل مكان حتى وصلوا إلى الغار الذي يختبئ به رسول الله وصاحبه حيث أشفق الصديق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له هامساً : ( يا رسول الله لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا ) .. فيرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الواثق بحماية الله ثقة كاملة مطلقه ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالهما ) .. ما أجمل هذه الكلمة وما أعظم هذه الثقة وما أروع هذا التسليم المطلق بمعية الله وفي ذلك يقول ربنا جل شأنه في هذه الحادثة بالذات : ( إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن اله معنا ).
وهنا أريد أن أقرر فكرة هامة ألا وهي فضل الصحابي الجليل أبي بكر الصديق الذي وصفه الله جل وعلا بأنه صاحب رسول الله وشريكه في رحلة الهجرة بينما نسمع بعض السفهاء المارقين يتهمونه وابنته الصديقة بنت الصديق بأبشع الصفات قاتلهم الله أنى يؤفكون .. وفي هذه الأثناء كانت زينب أشد الناس قلقاً وخوفاً على رسول الله ذك لأنها كانت في مركز الأحداث وتسمع كل يوم الكثير الكثير من الشائعات والأكاذيب عن قتل محمد والإمساك بمحمد فكانت تبكي ما وسعها البكاء وزوجها أمامها وهو من زعماء مكة وأشرافها ولا يستطيع أن يحرك ساكناً .. كانت زينب تعيش أشد حالات الخوف والفزع والهلع على مصير والدها وهي تسمع عن خروج صناديد مكة وفرسانها في مطاردة والدها خاصة وأن الشائعات في مثل هذه الأجواء المضطربة تكثر ويشتد أثرها فكثيراً ما كانت تسمع عن قتل والدها أو قتل صاحبه أو عن أ سر والدها وإحضاره موثقاً مكبلاً بالأغلال أمام أشراف قريش أو غير ذلك كثير من الشائعات الكاذبة المضللة .. ولكنها رغم كل شيء فقد كانت واثقة بنصر الله وحمايته ورعايته لحبيبه المصطفى صلى اله عليه وسلم .. أما أصحاب رسول اله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في مدينة يثرب فقد كانوا يعيشون فترة حرجة على أحر من الجمر وهم أيضاً يسمعون أنباء المطاردة الشرسة العنيدة التي تقوم بها قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدأت الأنباء تتسرب إلى زينب في مكة المكرمة وإلى بنات رسول الله وأصحابه في مدينة يثرب عن اقتراب وصول رسول اله صلى الله عليه وسلم إلى مدينة يثرب حيث لا يستطع فرسان قريش من الاقتراب من هذه المنطقة التي لا سلطة لهم عليها .. خاصة وأن قبيلتي الأوس والخزرج متحالفون مع رسول الله .. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجون مع بزوغ شمس كل يوم ويصعدون رابية مرتفعة ينظرون نحو الجنوب لعلهم يروا طيف قادم من بعيد أو خبراً من الركبان يطمئنهم عن وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا شيح بعيرين من بعيد فاستبشروا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهرع فرسان يثرب القادمين من بعيد ليستقبلوا موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ينشدون بصوت مرتفع يشق عنان السماء :
طلـــــع البـــــــدر علينا
من ثـنيــــــات الوداع
وجب الشكر علينـا
مـــــــا دعـــا لله داع
أيهـــــــا المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينــة
مرحباً يا خيــــر داع
وصل رسول الله صلى اله عليه وسلم إلى مأمنه في دار الهجرة في مدينة يثرب التي بارك الله فيها للمؤمنين وجعلها مركز انطلاق لهذا الدين القويم وبداية أول دولة إسلامية في التاريخ حيث انتشر الإسلام يعد ذلك في كل أصقاع المعمورة .. وهذه معية الله .. وهذه حماية الله للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه .وهذه منة من الله جل وعلا على الرسول الكريم وعلى أصحابه الغر الميامين الطيبين الطاهرين .. فقد حفظ الله نبيه حتى أكمل الرسالة وأدى الأمانة ونصح أمة الإسلام وأتم بناء الدولة المسلمة التي أراد الله فيها الخير العميم ليس لمدينة يثرب فحسب وليس للمؤمنين وحدهم وإنما للبشرية جمعاء .
*******
غزوة بدر الكبرى
التم شمل بيت النبوة في المدينة المنورة ولم يبقى في مكة إلا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بقيت مع أولادها وبحماية زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان أحد زعماء قريش ، لقد كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة حدثاً هاماً في تاريخ الإسلام بشكل عام فقد آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار وأصبحوا مجموعة متماسكة صلبة تتمسك بعقيدتها وتؤمن بربها وتصدق رسولها فكانت هذه العصبة المؤمنة الموحدة نواة لدولة الإسلام الأولى ما لبثت أن قويت واشتد عودها وأصبحت لها كلمتها في كل القبائل العربية .
اشتدت شوكة الإسلام في المدينة المنورة حيث دخلت قبيلتان كبيرتان في الإسلام بشكل كامل هما الأوس والخزرج واتفق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قبائل يهود على الدفاع المشترك عن المدينة المنورة ضد أي عدوان خارجي وخاصة ما يتوقع أن يكون من قريش ووافقت القبائل اليهودية مجتمعة على هذا الاتفاق .. كانت مدينة يثرب تقع على طريق قوافل قريش التجارية بين مكة وبلاد الشام .. وكانت أكبر قوافل قريش التجارية بزعامة أبي سفيان بن حرب في طريق عودتها من بلاد الشام إلى مكة مروراً بمدينة يثرب .. ورأى المسلمون الفرصة سانحة لاسترداد بعض الحقوق المغتصبة للمسلمين الذين فروا بدينهم من ظلم قريش واضطهادها وذلك في اعتراض قوافل قريش التجارية وضرب عصب التجارة لقريش وتحطيم قوتها المالية والاقتصادية خاصة وإن قريش قد وضعت في هذه التجارة جل أموالها في تجارتها إلى بلاد الشام .. وجاءت الأخبار إلى قريش كالصاعقة المدمرة فهزت أركان قريش وتزعزعت مكانتها وسيادتها وسمعتها واقتصادها ومالها وهيبتها وكبريائها .. هل يتجرأ محمد بن عبد الله الذي خرج بالأمس طريداً هارباً ضعيفاً من مكة ومن معه من القلة القليلة من المسلمين أن يواجه قريشاً بقوتها وعظمتها وكبريائها وجبروتها .. هل يستطيع محمد ومن معه يتحدى قريشاً تحدياً سافراً بقوتها وعظمتها .. وتتابعت الأخبار التي يتناقلها الركبان عن اقتراب عاصفة مدمرة عاتية بين قريش بكبريائها وعزتها وسيادتها على كل القبائل العربية وبين محمد ومعه القلة القليلة من المؤمنين وذلك عندما وجدوا الدعم والسند القوي من الأوس والخزرج في مدينة يثرب .. خاصة وأن فئة قليلة من المسلمين استطاعت أن تستولي على قافلة صغيرة سابقة بقيادة عمر بن الحضرمي .. ولكن قافلة أبي سفيان غير قافلة ابن الحضرمي لأن قافلة أبي سفيان تضم معظم أموال قريش .. لقد عاشت قريش أحلك أيامها وهي تسمع تلك الأخبار المؤلمة المتواترة عن اعتراض محمد صلى الله عليه وسلم قافلة أبي سفيان بن حرب حتى تأكد لهم الخبر حين قدم ضمضم بن عمرو الغفاري الذي كان عائداً من الشام مع أبي سفيان فوقف أمام الكعبة على بعيره وهو يصبح بأعلى صوته بعد أن شق ثوبه ( يا معشر قريش .. اللطيمة اللطيمة .. الغوث الغوث .. أموالكم في قافلة أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ما أرى أن الوقت يسمح لكم أن تدركوها ) .. تعالت أصوات الغضب تستنكر هذا التصرف من محمد وأتباعه من المهاجرين والأنصار فقال أبو جهل عمر بن هشام : ( أيحسب محمد وأتباعه أن قافلة قريش مثل قافلة ابن الحضرمي .. لا والله وليعلمن محمد وأصحابه غير ذلك ) .
وفي هذا الوقت بالذات مات عبد الله بن عثمان حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزنت رقية حزناَ شديداً على ولدها الصغير الذي لم يكد ينهي رضاعته من أمه حتى وافته المنية ليترك بعد ذلك الحسرة والحزن والأسى في قلب الأبوين الكريمين حزنت رقية بنت رسول الله رضي اله عنها حزناً شديداً على وفاة ابنها عبد الله وهو الولد الأول والوحيد عندها وعاشت تحت وطأة الثكل المرير وجاءتها الحمى فأقعدتها طريحة الفراش فترة طويلة من الزمن .. وجاءت الأخبار التي تتناقلها الركبان عن اقتراب عاصفة مدمرة عاتية بين قريش بكبريائها وعزتها وسيادتها على كل القبائل العربية وبين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه القلة من المؤمنين تساندهم قبيلتي الأوس والخزرج اللتان دخلتا في الإسلام وكانتا الدعم والسند القوي للإسلام والمسلمين ..
لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه في المدينة المنورة أنصاراً كثراً ومقاماً محموداً ودعماً سخياً حتى أصبح في مقدورهم أن يهددوا قوافل قريش ويقطعوا عليهم أهم طرق التجارة .. كانت قافلة أبي سفيان التي تضم جل مال قريش تضم الثقل المالي والاقتصادي لقريش .. لقد عاشت قريش أحلك أيامها وهي تسمع تلك الأخبار المتواترة المؤلمة عن اعتراض محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه قافلة أبي سفيان .. أما القافلة بقيادة داهية العرب أبي سفيان بن حرب الذي ما إن سمع باعتراض المسلمين للقافلة حتى اتجه بالقافلة باتجاه الساحل دون أن يمر في المدينة المنورة ودون أن يمر بمنطقة بدر الطريق المعهود لقوافل الشام وبذلك استطاع أن ينجو بالقافلة .. وفي ذلك فقد كان حرياً بالمشركين حين نجت القافلة أن يرضوا بنجاة القافلة وعودة أموالهم وتجارتهم إليهم إلا أن عمرو بن هشام أبو جهل أصر على الاستمرار في الطريق إلى المدينة لقتال محمد وصحبه وقال قولته المشهورة ( والله لا نرجع حتى نرد بدراً فننحر الإبل ونشرب الخمر وتعزف علينا القبان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا ) .. وهنا استقر رأي زعماء قريش على حرب محمد فانطلقوا بألف مقاتل من خيرة مقاتلي قريش بكامل عدتهم وعتادهم وخيلهم ورواحلهم بزعامة أبي جهل عمرو بن هشام ..
وفي هذه الفترة الحرجة كانت رقية تزداد مرضاً وحزناً وكانت الحمى لا تفارقها ، قعد عثمان بن عفان بجانبها يواسيها ويسهر على خدمتها ولم يخرج عثمان إلى عزوة بدر وذلك بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وأن المسلمين خرجوا لاعتراض القافلة ولم يخرجوا للحرب وفي ذلك يقول ربنا جل شأنه ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ... ) لقد أراد المسلمون القافلة ولكن الله أرادها حرباًً زعزعت أركان قريش وغيرت وجه التاريخ كله وفتحت الطريق أمام الدولة الإسلامية الناشئة .. ودخل كثير من المشركين في الإسلام فكانت غزوة بدر الكبرى نقطة تحول هامة في تاريخ الإسلام بشكل عام ..
عاد المسلمون إلى يثرب تسبقهم بشائر النصر المؤزر على عدوهم وهم يجرون معهم الأسرى والغنائم ولكن فرحة النصر ما لبثت أن خبت بمأتم قلب البسمة التي على شفاه المؤمنين إلى حزن شديد وبكاء ودموع عادوا ليستقبلهم عثمان بن عفان بخبر وفاة رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في العام الثاني من الهجرة بعد عودة المقاتلين المسلمين من غزوة بدر الكبرى .
فراق لا لقاء بعده
عاد المسلمون المجاهدون من غزوة بدر الكبرى فرحين مسرورين بما آتاهم ربهم من نصر ومنعة وأسرى كثيرون وغنائم ضافية وفي هذا الوقت بالذات كانت رقية بنت رسول الله تصارع سكرات الموت .. واشتدت عليها سكرات الموت ثم ما لبثت أن اختلجت شفتاها في حشرجة غير مفهومة وعيناها معلقتان على زوجها الحبيب عثمان بن عفان فيما ما لبثت أن رفت روحها الطاهرة وغابت عن الوجود .ز أما عثمان فقد ظل واجماً شاخصاً ينظر إلى زوجته المهاجرة الصابرة يتزود منها بنظرات ملؤها الحزن والأسى في رحلة فراق لا لقاء بعده في هذه الحياة ..
لقد خيم الحزن والأسى مرة أخرى على بيت النبوة وتوفيت رقية بنت محمد بعد وفاة والدتها خديجة .. بعد حياة حافلة بالصبر والهجرة والجهاد في سبيل الله حافلة بالإحداث الأليمة حافلة بالصعاب والمسرات حافلة بالحب والفراق فتركت بصمات الحزن والأسى على الزوج الكليم وعلى الأب الرحيم وعلى الأخوات الكريمات فترة طويلة من الزمان لقد فجع عثمان بن عفان رضي الله عنه للمصاب الأليم الذي حل به فأكب على الحبيبة الغالية يناجيها ويتشبث بها في لوعة وأسى حتى أبكى كل من حوله ولم يجرؤ أحد أن يبعده عن فراش الحبيبة الراحلة حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم متأثراً حزيناً فاستودعها الله وطلب من النساء اللواتي حولها قائلاً : ( اغسلنها وتراً .. ثلاثاً أو خمساً .. واجعلن في الآخرة كافوراً ) .. وما إن غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخدع ابنته المتوفاة حتى تبعه عثمان بن عفان مغادراً مخدع الحبيبة الغالية الراحلة بخطوات مترنحة ونظرات شاردة وقلب حزين فوقف منتظراً خارج البيت حتى انتهت النساء من غسلها وتجهيزها كما أمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم حملها الرجال المسلمون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلوا عليها ثم حملوها إلى مرقدها الأخير الذي لا يؤوب منه راحل وذلك في ثرى طيبة الطيبة رضي الله عنها وأرضاها .. ورحمها الله وأسكنها فسيح جناته .. لقد كانت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنة الطيبة الطاهرة المهاجرة الصابرة التي هاجرت مع زوجها إلى الحبشة ثم عادت إلى مكة ثم هاجرت مرة ثانية إلى المدينة المنورة ولكنها بقيت هناك إلى أن أتاها أمر الله .. وبذلك سميت رقية ذات الهجرتين .. أما الأخوات الطيبات الطاهرات زينب وأم كلثوم وفاطمة الزهراء رضي الله عنهم فكانوا من أشد الناس حزناً على وفاة رقية التي كانت الشقيقة والصديقة والتي عانت في حياتها أشد المعاناة ولكنها صبرت واحتسبت حتى جاءها أمر الله .
عاد عثمان بن عفان إلى بيته الذي كان بالأمس جنة وارفة الظلال يظللها الحب والألفة والسعادة والمودة والرحمة فأصبح بعد رحيل السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت الأحزان والأشجان والذكريات والأحلام فكاد الحزن والأسى يهلكه لولا أن وجد في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصاحب والحبيب فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سلوان نفسه وطمأنينة روحه يتذكر برؤيته ابنته الحبيبة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
رحم الله السيدة رقية بنت رسول الله فقد كانت مثالاً رائعاً للمرأة المسلمة هاجرت في سبيل الله مع زوجها عثمان بن عفان تحت ضغط البلاء والامتحان من أجلاف قريش ثم هاجرت مع زوجها مرة أخرى في سبيل الله تحت وطأة الظلم والاضطهاد من قريش وعاشت مع زوجها مثالً رائعاً للتقى والورع والصلاح والتمسك بدين الله .. رحمها الله ورضي عنها وأرضاها .
******
ثبت المراجع
تم أخذ المادة التاريخية مع شيء من التصرف فيما عدا ما يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تم نقله كما ورد في الروايات وذلك عن الكتب التالية :
الطبقات الكبرى لابن سعد الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر جمهرة أنساب العرب مجمع الزوائد تاريخ الطبري الطبري سيرة ابن هشام لابن هشام الاستيعاب لابن عبد البر عيون الأثر صحيح البخاري البخاري صحيح مسلم مسلم مسند الإمام أحمد أحمد بن حنبل الذخائر لابن حزم تفسير الكشاف للزمخشري الشفا للقاضي عياض
تراجم سيدات بيت النبوة الدكتورة بنت الشاطيء
* هناك روايات متعددة عن تاريخ ولادة القاسم بن محمد ولكني ارتحت إلى هذه الرواية التي تفيد أن تاريخ ولادته بعد ولادة زينب وقبل ولادة رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم .
* اختلف المؤرخون في تاريخ بناء الكعبة وتحكيم النبي محمد بن عبد الله في موضوع الحجر الأسود ولكن العبرة بالحادثة نفسها لا بتاريخها .
وسوم: العدد 732