الشهيد سيد قطب، الثمرة الناضجة لفكر الدعوة
في ذكرى إرتقاءالشهيد ورفاقه*
29 أغسطس 1966 *
*في مثل هذا اليوم أعدم الشهيد سيد قطب*
*سيد_قطب الأديب والكاتب والمفكر الإسلامي*
.be*خالص الإعتذار لطول الرسالة ولكن جلال المناسبة يقتضي إرسالها*
قد يعجب القارئ عن الشهيد حسن البنا، الذي أسس جماعة الإخوان المسلمين، وعن الشهيد سيد قطب رائد الفكر الإسلامى في هذه الجماعة، الذي أغنى تراثها وتراث الأجيال من بعده بذخائر مؤلفاته، حين يعلم أن كليهما ولد في سنة 1906 م، ونهلا من معين واحد، حين تخرجا من دار العلوم، ثم افترقا.. كل إلى طريق!!.
أما الأول، فذهب يبنى جماعة الإخوان المسلمين، وأما الثانى فذهب يضرب في دنيا الآداب، ويحلق في سماء الشعر، ويخوض في لجة الصحافة، ويبرز في ندوات الأدب والحب والجمال!!!.
ومن العجب ألا يجتمع أحدهما بصاحبه في دنيا الناس، ولكنهما التقيا في ركب الشهداء والصديقين، تحت راية واحدة هي راية جماعة الإخوان المسلمين، نحو هدف واحد هو إعلاء كلمة الله في الأرض.
وكان لابد للرجلين أن يلتقيا في عالم الشهادة، أو في عالم الغيب، مهما تباعدت بينهما دروب الحياة، فخصائص النفس واحدة في عزمتها الجادة، البعيدة عن اللهو والعبث والمجون، وفطرة االله التى جبل لكليهما عليها كانت من الصلابة والرقة والشفافية بحيث لم تدع لهما طريقا يسلكانه إلا طريق الحق الخالد الذي لا يسلكه إلا من كانت له مثل خصائص قلبيهما، صبة في الحق، ورقة في الشعور، وشفافية في الذوق والإدراك.
وتعجب أكثر أن الشهيد سيد قطب قد كتب مؤلفه في "العدالة الاجتماعية في الإسلام" سنة 1948، وسافر إلى أمريكا قبل أن يعرف شيئا عن جماعة الإخوان المسلمين! وإنما كان يراها من ضمير الغيب ويأمل أن يشهد رجالها في دنيا الواقع.
ولهذا صدر كتابه هذا بقوله: "إلى الفتية الين ألمحهم في خيالى قادمين يردون هذا الدين جديدا كما بدأ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، مؤمنين في قرارة أنفسهم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين... إلى أولئك الفتية الذين لا أشك لحظة أن روح الإسلام القوية ستبعثهم من ماضى الأجيال إلى مستقبل الأجيال في يوم قريب... جد قريب"،
ولقد ظن الذين اطلعوا على هذا الكتاب أن المؤلف يقصد بهذه المقدمة شباب الإخوان المسلمين، في الوقت الذي لم يكن قد عرف شيئا عن هذه الجماعة وشبابها، فبادرت الحكومة المصرية يومئذ بمصادرة الكتاب وسحبه من السوق..!!
وكان الإخوان المسلمون وقتئذ في السجون والمعتقلات يصطلون بنيران النقراشى الذي قتل في 28 ديسمبر 1948، وامتد بعده حكم إبراهيم عبد الهادى حتى 25 يوليو 1949.
وكان تعليق الشهيد حسن البنا على هذا الكتاب حين قرأه: "هذه أفكارنا وكان ينبغى أن يكون صاحبها واحدا منا"
وتحققت آمال الشهيد حسن البنا بعد أن لقى ربه في 12 فبراير 1949 حين كان صاحب هذا الكتاب مريضا في إحدى المستشفيات الأمريكية، فلاحظ بهجة وسرورا يغمران من حوله الممرضات والمرضى فظن أن القوم في عيد، غير أنه ذهل حين سألهم عن سبب بهجتهم تلك فكانت إجابتهم: "لقد تخلصنا من عدو الغرب الأول في ديار الشرق.. لقد قتل حسن البنا !!.
ولقد وجهت هذه الحاثة تفكيره ورسخت عنده أن يكون عضوا في جماعة الإخوان المسلمين !!، وألا يكتفى بأن يكون كاتبا إسلاميا فحسب بل جنديا في كتيبة الإسلام.
وهكذا قدم الطبعة الثانية لكتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام " بقوله: "إلى الفتية الذين ألمحهم بعين الخيال قادمين.. فوجدتهم في واقع الحياة قائمين، يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.. مؤمنين بقرارة نفوسهم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
إلى هؤلاء الفتية الذين كانوا في خيالى أمنية وحلما، فإذا هم حقيقة أعظم من الخيال.. وواقع أكبر من الآمال.. إلى هؤلاء الفتية الذين انبثقوا من ضمير الغيب كما تنبثق الحياة من ضمير العدم، وكما ينبثق النور من خلال الظلمات..
إلى هؤلاء الفتية الذين يجاهدون باسم الله، في سبيل الله، على بركة الله، أهدى هذا الكتاب.."
وهكذا عرف الشهيد سيد قطب دعوة الإخوان المسلمين، وبدأ يعمل لا بقلمه فحسب ولكن بكيانه كله وطاقاته الخلاقة في التنظيم ووجدانه النابض بالحياة ليحكم شرع الله في الأرض.
الشهيد في سطور
ولد عام 1906 ميلادية من أسرة متوسطة الحال في قرية موشا من محافظة أسيوط، وكان والده إبراهيم في وضع مالى يمكنه أن ييسر الحياة البعيدة عن الكفاف لولده...
وعاش في بيئة تقيم وزنا للأولياء وأدعياء الولاية، وهجر كتاب القرية، لأنه لم تطمئن نفسه إلى المضى فيه، والتحق بمدرسة القرية النظامية..وفي نهاية السنة الرابعة كان يجيد حفظ القرآن، ويتحدث عن نفسه في هذا الصدد فيقول: "لقد قرأت القرآن وأنا طفل صغير ولا ترقى مداركى إلى آفاق معانيه ولا يحيط فهمى بجليل أغراضه، ولكن كنت أجد في نفسى شيئا.. لقد كان خيالى الساذج الصغير يجسم لى بعض الصور من خلال تعبير القرآن، وإنها لصورة ساذجة ولكنها كانت تشوق نفسى وتلذ حسى، فأظل فترة غير أتملاها، وأنا بها فرح، ولها نشيط.. من الصور التى كانت ترتسم في خيالى إذ ذاك صورة كانت تتمثل لى كلما قرأت هذه الآية: ﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ﴾لقد كان يشخص في مخيلتى رجل قائم على حافة مكان مرتفع (مسطبة) فقد كنت في القرية.. –أو قمة تل- فقد رأيت التل المجاور للوادى- وهو قائم يصلى، ولكونه لا يملك موقفه، فهو يتأرجح، ويهم بالسقوط وأنا بإزائه أتتبع حركاته في لذة وشغف عجيبين!!".
خصائص طفولته
-كان هذا التصور في مخيلة طفلنا العزيز ينبئ بشيء عظيم- كانت هذه البادرة في تجسيد معانى القرآن الكريم عبر مشاعره بهذه الحيوية الفائقة هي أول فيوضات فهمه للتصور الفنى، وكانت هذه إحدى خصائص نفس الكاتب الإسلامى الذى نظم قلائده "في ظلال القرآن" وأذاب وجدانه الذكى الآسر ليكون مدادا لمعانى آيات القرآن الخالدة...
وأما الخصيصة الثانية في طفولته فكانت رغبته العارمة في قراءة الكتب...
وكانت هذه الخصيصة الثانية في طفولة الشاعر المبدع، الرقيق الحس، الذي تنساب كلماته في رفق إلى أغوار وجدانك فتقدم لك من مشاهد الطبيعة لوحة حية لمعنى الأمل والحياة والبعث.. كما بدت أشعاره بعد ذلك في شبابه.
وتتسامى أنغام حبه للطبيعة بل وللكون كله فيصعدها في شعره زافرات في ساحة الفداء والتضحية بعد أن عرف قبلته إلى الله وابتلى في سبيله بكل ألوان العذاب، فيخاطب أصحابه في ركب المجاهدين فيقول:
أخى إن ذرفت على الدموع وبللت قبرى بها خشوع
فأوقد لهم من رفاتى الدموع وسيروا بها نحو مجد تليد!
ولا يفوته أن يبصر إخوانه بحقيقة الحرية التى يحب أن يراها لمؤمن من وراء كيد العبيد فيقول:-
أخى أنت حر وراء السدود أخى أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما فماذا يضيرك كيد العبيد
أخى سنبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك أشواقها تر الفجر يرمقنا من بعيد
وأخيرا، تستوقفك عذوبة لحن الشاعر.. وهو يسجل رحلته إلى الآخرة، وكأنها نزهة مأمولة أو رحلة ميمونة.. فتراه يقول:
أخى إن نمت نلقى أحبابنا فروضات ربى أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود!
سأثأر لكن.. لرب ودين وأمضى على سنتى في يقين
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين
أما الخصيصة الثالثة فى نفس سيد في طفولته الواعية فكانت استعلائه على الظلم والظالمين..
ويقول بعد سرد مفصل لحياة المعذبين وتصوير مقزز لحياة أحد المستغلين لأقوات الناس وأرزاقهم.
"ولو كان في الوادى قانون عادى لقاده إلى السجن قبل أولئك الكثيرين الذين يحبسهم القانون لصوصا ومجرمين!!
ويستطرد في وصف مشاعره في هذه الفترة من طفولته فيقول: "هذا هو الشعور الذي ظل يعاوده أبدا كلما جلس يتناول طعاما دسما أو فاكهة لذيذة أو حلوى أنيقة، أو يتمتع بأيسر مباهج الحياة بين ملايين المحرومين".
حياته بين التخرج والاستشهاد
ويتخرج سيد قطب من دار العلوم ويمارس كتابة الأدب والشعر، ويعمل في عدد من الصحف والمجلات كالأهرام والرسالة والأسبوع والشرق الجديد والعالم العربى..
وفكر في الزواج وتمت خطبته إلى إحدى الفتيات.. ولكن لم تدم طويلا!! ولكنها أثمرت فقط إحدى قصصه التى صورت شفافية روحه في علاقته القصيرة الطاهرة بهذه الفتاة.. وربما حمل اسم القصة "أشواك" ما تحملته مشاعره الرقيقة الدفاقة التى ساقها إلى الناس بعد ذلك أدبا رفيعا في عالم القصة..
وفي سنة 1948 حتى أواخر عام 1950 يمضى في بعثة حكومية من وزارة التربية إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة نظم التربية فيها.. وصبها صبا في عقول الشباب في مصر!!
ولكنه يعود ليصرح أنه لم يجد بدا من اتخاذ المنهج الإسلامى أساسا للتربية في مصر!!
وكان ذلك قبل أن يتعرف على جماعة الإخوان المسلمين.. واتهمه المصريون المطبوعون بالطابع الأمريكى في وزارة التربية بالجمود والرجعية، وكتب عن أمريكا كتابا لم يشهد النور عنوانه "أمريكا التى رأيت" عرض فيه ما رآه هناك من زيف الديموقراطية المزعومة التى تفرق بين الأجناس والألوان وقارن بينها وبين نظام الإسلام..
ثم حرر مجلة "الفكر الجديد" بعد أن عرف جماعة الإخوان المسلمين وتحدى فيها الرأسمالية الجائرة واستغلال أصحاب الألقاب والنفوذ لأقوات الشعب وأرزاقه، وبدأت تلتقى عند الشهيد سيد الفكرة والحركة في تعانق منسق هدفه الوصول بالإسلام إلى الحكم الرشيد في الوطن الإسلامى كله.
وفي عام 1952 انتخب الأستاذ سيد قطب عضوا في مكتب الإرشاد للجماعة وعين رئيسا لقسم نشر الدعوة في المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين.
وفي شهر يوليو سنة 1954 عين رئيسا لتحرير جريدة "الإخوان المسلمين" ولكن الجريدة عطلها عبد الناصر بعد شهر واحد وخمسة أيام حين بدأت تعارض المعاهدة الإنجليزية المصرية التى عقدها عبد الناصر وضباط الحركة مع الإنجليز!..
وساقه عبد الناصر مع الإخوان المسلمين في يناير 1954 إلى حجرات التعذيب في سجن القلعة والسجن الحربى وأبى زعبل وليمان طره، ثم أخلى سبيله في مارس سنة 1954 حيث مرض مرضا صدريا وأصابته أزمة قلبية كادت تطيح به في يوليو سنة 1955 بعد دخوله السجن مرة ثانية.
وفي 13 يوليو سنة 1955 حكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة 15 عاما مع الأشغال الشاقة، وكانت فترة سجنه نحوا من عشر سنوات دامت حتى 1964.
وفي عام 1965 أعيد إلى السجن من جديد متهما برئاسة مؤامرة دبرها الإخوان المسلمون لقلب نظام الحكم سنة 1965.. وقدم أمام محكمة صورية هزلية أمام أحد الضباط "محمد فؤاد الدجوى" الذي أسرته إسرائيل قبل ذلك سنة 1956 وقدمته أمام شاشة التليفزيون ذليلا مهينا لم يجرؤ أن يقول كلمة طيبة عن وطنه أو عن سادته الطغاة.. وكان هذا الصنف المتملق الجبان هو أصلح من يتولى محاكمة الشرفاء.. لأن عبد الناصر كان يملك منه ما عجز عن أن يملكه من الشرفاء..
وفي صبيحة يوم 29 أغسطس نفذ فيه حكم الإعدام فلقى ربه بصفحة مشرقة من الرجولة والبطولة والوفاء..
ولا يسعنا أن نختم هذه الصفحة الساطعة البياض إلا أن نشير إلى اقتباس من نور حياته في محنته وراء الأسوار.
قلنا إنه ظهر لنا من خصائص شخصية طفل القرية إباءه للظلم وكرهه للطغاة، وحين عنَّ لعبد الناصر أن يقهر كبار الإخوان في عزتهم وإبائهم عرض عليهم أن يكتبوا تأييدا له إذا أرادوا الخروج من محنتهم!..
وضل في هذا التيه كثير، وصمد له كثير ومن بينهم شهيدنا الغالى الذي رد على الضابط السجان بمقولته المشهورة:
"إن السبابة التى أشهد بها في كل صلاة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يمكن أن تكتب سطرا فيه ذل أو عبارة فيها استجداء، فإن كنت مسجونا بحق فأنا أرضى بالحق، وإن كنت مسجونا بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل...!
وربما يعزينا في هذا المقام أن نسمع بعضا من أحاديث الشهيد لأسرته وذويه في أثناء سجنه، حين يقول في إحدى رسائله:
"عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعى. وتنتهى بانتهاء عمرنا المحدود!!
أما عندما نعيش لغيرنا، أى عندما نعيش لفكرة فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض. إننا نربح أضعاف عمرنا الفردى في هذه الحالة نربحها حقيقة لا وهما، فتصور الحياة على هذا النحو يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا وليست الحياة بعدّ السنين ولكن بعداد المشاعر، وما يسميه (الواقعيون) في هذه الحالة (وهما) ! هو في (الواقع) (حقيقة) أصح من كل حقائقهم.. لأن الحياة ليست شيئا آخر غير الشعور الإنسانى للحياة، جرد أى إنسان من الشعور بحياته، تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحس الإنسان شعورا مضاعفا بحياته فقد عاش حياة مضاعفة فعلا..".
وتقرأ له سلوكه كداعية مع الناس في شرهم وخيرهم فترى من دقة فهمه ورقة حسه ما جعله أهلا لإيصال الحق للنفوس الحيرى:
"عندما نلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيرا كثيرا قد لا تراه العين من أول وهلة... لقد جربت ذلك مع الكثير، حتى الذين يبدو في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور.. شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، شيء من الود الحقيقي لهم، شيء من العناية -غير المتصنعة- باهتماماتهم وهمومهم ثم ينكشف لك النبع الخير في نفوسهم، حين يمنحوك حبهم ومودتهم وثقتهم في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه في صدق وصفاء وإخلاص..،
إن الشر ليس عميقا في النفس الإنسانية إلى الحد الذي تتصوره أحيانا أنه في تلك القشرة الصلبة من الثمرة الحلوة للحياة التى تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن في جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم وعلى حماقاتهم كذلك.. وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع المثيرون، لقد جربت ذلك، جربته بنفسى فلست أطلقها مجرد كلمات مجنحة وليدة أحلام وأوهام..!".
ويؤكد لك روح الداعية فيه، وسمت تواضع المؤمن الذليل لأخيه العزيز على الطاغية والطاغوت ما تسمعه منه حين يقول:-
"حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحا، أو أطيب منهم قلبا، أو أرحب منهم نفسا، أو أذكى منهم عقلا لا نكون قد صنعنا شيئا كبيرا... لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة!!
إن العظمة الحقيقية: أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع.
إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثنى على رذائلهم، أو نشعرهم أننا أعلى منهم أفقا، إن التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة الحقيقية".
وحين تشهد نور كلماته في مؤلفاته المشرقة بالحق والجمال تعرف من خلالها كيف يسكب فيها مهجته ودمه ونبض قلبه وروحه، ومن أقواله:-
"إنه ليس كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها وتجمعها وتدفعها... إنها الكلمات التى تقطر دما، لأنها تقتات قلب إنسان حى..
كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان، وإن الكلمات التى ولدت في الأفواه وقذفت بها الألسن، ولم تصل إلى ذلك النبع الإلهى الحى فلقد ولدت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبرا واحدا إلى الأمام.. إن أحدا لن يتبناها لأنها ولدت ميتة، والناس لا يتبنون الأموات!..
إن أصحاب الكلمات والأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا.. ولكن بشرط واحد أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم، أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق.
إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثة هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو فديناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء..
ولعله من الإنصاف أن نقدم طرفا مما يعرفه له بعض أصدقائه الذين ألفوا كتبا عنه، وهو الأستاذ يوسف العظم فيقول:-
"وكان موثوقا، التف حوله إخوانه بين جدران السجن أو في جنبات المجتمع، إنه حقا قطب الجماعة والجبل الذي يلتف حوله ويفتدى به لو استطيع بالغالى والنفيس، وكان مخلصا، داس بكبريائه على مناصب الطغاة عن قناعة، ورفض كل لين أو هوان يقوده إلى نعيم الدنيا ويحرمه من نعيم الآخرة..
أبى المساومة على كرامة الدعوة والداعية.. وقد أغرته السلطة بمنصب وزير المعارف في أعقاب قيام الثورة فأبى.. وعرضوا عليه منصب السكرتير العام لهيئة التحرير المصرية أول بذرة للحزب الواحد في مصر الثورة.. ولكنه عد ذلك هراء ولغو حديث طالما مطالب الثورة تنحصر يومذاك في هتاف وصياح ومواكب تطبيل وتزمير، حاولوا خداعه فعرضوا عليه وهو سجين أن يكون مرشدا عاما للإخوان المسلمين مكان المرشد الصابر حسن الهضيبى فسخر من تجارة المساومة وأكد لهم التفاف الإخوان حول مرشدهم،
ثم قال للطغاة ناصحا: أكون غاشا حينما أقول إن الإخوان يجتمعون على غير مرشدهم حسن الهضيبى".
محاكمة الشهيد
وربما أضفت جديدا إلى القارئ عن ظروف محاكمة الشهيد سيد قطب بما كتبه عنه الأستاذ يوسف العظم في كتابه الذي دونه عنه:-
أما المحكمة التى قدم إليها الشهيد سيد قطب وإخوانه فليست جديدة على كل حال.. لقد عرفتها مصر الثورة من قبل. كان ذلك في عام 1954 حين قدمت العالم الشهيد عبد القادر عودة، والمجاهد محمد فرغلى، وفريقا من طلائع الفداء جزءا من مسرحية ساخرة وتمثيلية دامية.. انتهت بهم إلى حبال المشانق، في الوقت الذي أعيد فيه ثلاثة عشر بحارا يهوديا من بحارة السفينة اليهودية (بات جاليم) إلى إسرائيل وألسنتهم تلهج بالشكر والثناء والدعوة للثورة التى أحسنت معاملتهم وأكرمت مثواهم في جناح مفروش مؤثث بكل وسائل الراحة في السجن الحربى العتيد..!
قد يبدو هذا خيالا ولكنها الحقيقة التى هى أغرب من الخيال، وقد يبدو هذا مبالغة ولكنه الواقع الذي يفوق المبالغة، نشرت معظمه صحف الثورة يومذاك في معرض الحديث عما سمته جرائم الإخوان المسلمين.. وحسن معاملة الثورة لأسرى الدولة اليهودية!!
أما هذه المرة فقد أعلنت "مصر الثورة" بمناسبة زيارة المشير عبد الحكيم عامر إلى فرنسا، وفي الوقت الذي كان فيه الشهيد سيد قطب يقدم للموت –أن قضية التجسس لصالح إسرائيل، والتى اتهم بها المكتب التجارى الفرنسى بالقاهرة كأنها لم تكن، وأخلى سبيل المتهمين عربونا جديدا من الصورة والثوار على أن مطاردة الأحرار أولى من مطاردة الجواسيس، وأن قتل الأبرياء من قادة الفكر ورجال العقيدة هو الهدف الأول والأخير من أهداف ثورة التحرير.. والطلائع الثورية!!..
ونعود إلى قاعة المحكمة؛ لنلتقى بأعجب حلف يجمع بين القاضى والدفاع والنيابة العامة والجمهور حيث يتمارى الجميع في إلصاق ما يرون للسلطان من تهم وهم يسخرون من إنسان سلبوه كل مقومات الدفاع عن النفس وحرموه من أبسط مقومات الحرية!!
إن القاضى في كل الشرائع والقوانين الكونية يسمع رأى النائب العام الذي يحاول إدانة المتهم، ثم رأى الدفاع الذي يبذل جهده لتبرئة موكله، ثم رأى المتهم إن رغب في ذلك وكان لديه ما يقوله.
أما القاضى في محاكم الثورة العتيدة المتعافية فمهامه كثيرة، ليس بينها الإصغاء بتعقل، والاستيعاب بإنصاف وتقصى الحقيقة بتجرد –ليصدر الحكم بعد ذلك بنزاهة لا يشوبها شائبة سوى عجز الإنسان عن إدراك الحقيقة وبلوغ الحق المطلق.
إن القاضى في محاكم الثورة التى ألفت قصتها ووضع حوارها وتم إخراجها على يد رجال المخابرات همه تنفيذ المؤامرة وسوق الأبرياء إلى حبال المشانق وزنازين الطغاة.. وإذا كان القاضى يقوم بدور الممثل الأول.. فالجمهور يقوم بدور "الكمبارس" ذلك أن كل خفقة في صدره ونبضة من دمه وخلجة في وجهه وكلمة ينطق بها.. كلها تعلن تحيره وتؤكد أن الحكم صادر في مخيلته واضح في تصوره قبل بدء المحاكمة، وكل ما يجرى على ملأ من الجمهور تمثيل في استوديوهات دوائر المخابرات التى يسمونها محكمة الثورة!!
والنائب العام.. أو المدعى العام.. إنه لا يسوق الأدلة على الإدانة ولكنه يسوق عبارات السخرية والألقاب التى تبدأ (بالقطب الأغر) و (القطب اللامع) وتنتهى (بزعيم الإجرام وعصابة الإرهاب الآثمة).
أما الأدلة والحجج فلا داعى لها، ألا يكفى أن أبواق الإعلام المسعورة خارج القاعة وقبل يوم المحاكمة قد مهدت الأجواء والأصداء وأصدرت حكمها مسبقا على المتهمين وأعلنت خيانتهم وطالبت أن يحكم على البعض بالموت والبعض بالسجن المؤبد..
ومن الغريب العجيب أن تأتى مطالبة النائب العام بنسخة مما تطالب به الصحف وما ترجوه الإذاعة وما يرغب فيه التليفزيون، وأن تجئ أحكام القاضى النزيه محمد فؤاد الدجوى مطابقة منسجمة مع تلك المطالب وتلك الرغبات!!
ومحامو الدفاع في قضية الأبرياء.. أمرهم لا يقل عجبا، موقفهم لا يقل غرابة، إن مهمتهم في المحكمة تنحصر في كيل المديح لعدالة القاضى بعد دعاء خاشع أن يحفظ الله الرئيس المفدى من كل سوء.. ثم لمحة عن تاريخ الرئيس التى سخرته العناية الإلهية لرفع مستوى الشعب المصرى وإنقاذه من الذل والمهانة ويختم الدفاع خطبته بفقرتين هامتين..
الأولى اتهام السجين الذي يدافع عنه المحامى الأمين بالجنون أو المرض النفسى أو الكذب والحقد والغرور،
والثانية يطلب بها رحمة المحكمة..
لقد منعت السلطات الظالمة يومذاك عددا من المحامين العرب الذين تطوعوا من السودان والمغرب والأردن وغيرها للدفاع عن المتهمين.. منعتهم من دخول مصر والمرافعة أما محكمة الثورة.. في الوقت الذي تعلن فيه قرارات مؤتمر المحامين العرب أنه يحق لأى محام عربى أن يترافع أمام محكمة عربية –ولم يجد مثل هذا القرار الجائر موقفا منصفا أو اعتراضا كريما من محامى التقدمية والثورية في كل أجزاء الوطن العربى المنكوب!!.
ولما لاحظ القائمون على أمر المحاكمة خارج المحكمة أن نشر وقائع الجلسة ولو مزورة مشوهة يطلع الناس علي جانب من الحقيقة ويبين لهم بعض الحق.. أمروا بمنع نشر وقائع الجلسات على الصحف.. وقد نسوا أنها جلسات علنية كما أعلنوا.. واكتفوا بنشر خبر لا يتعدى أربعة أسطر يشير إلى أن محاكمة المتهمين ما زالت جارية.. وأن الأحكام ستصدر قريبا.
ولو قدر للجمهور المبعد عن قاعة المحكمة أن ينفذ إليها وأن يحتل مقاعدها لوجد كثيرا من مواقف الجرأة التى يعلنها الشباب المؤمنون والسجناء الأبرياء بأنهم أصحاب عقيدة.. وأنهم يعملون لخلاص ديارهم من كل طاغوت. وإنقاذها من كل تبعية!!..
ولقد وقف الداعية الشهيد سيد قطب يسخر من المحكمة التى أمر قاضيها وطلب إليه أن يذكر الحقيقة كما يريدها لا كما وقعت. فقال.. وقد كشف عن صدره وظهره الممزق بالسياط وأنياب الكلاب البوليسية الثورية:
أتريدون الحقيقة.. هذه هى الحقيقة!!
فضجت القاعة بالاشمئزاز وأشاح الجمهور بوجهه ألما وازدراء لما يقع في سجون مصر الثورة!! رغم أن معظم جمهور القاعة من زبانية الثورة وزبائن المخابرات، كان الناس يتتبعون بلهفة ما يجرى في محكمة الثورة.. وكانوا على علم من مجريات الحوادث وسرد الوقائع ولهجة القاضى والنيابة والدفاع.. بأن الموت ينتظر فريقا من الأبرياء الذين نذروا أنفسهم في سبيل الله وإنقاذ مصر من هلاك محقق.
وينتهى حديث الصديق والكاتب يوسف العظم، ولعله من نافلة القول أن نقرر أن القاضى أو الجلاد محمد فؤاد الدجوى قد أصدر حكمه بعد هذه المحكمة الهزلية بالإعدام...
مؤلفات الشهيد
وربما استوقفنا غزارة إنتاج الشهيد سيد قطب في جوانب ملكاته المختلفة كأديب وقصصى وشاعر ومؤلف إسلامى وداعية.. ونذكر من مؤلفاته القصصية:-
(1) طفل من القرية. (2) أشواك. (3) المدينة المسحورة. (4) قصص الأنبياء. (5) الأطياف الأربعة.
ونذكر من دواوين شعره:-
(1) الشاطئ المجهول. (2) حلم الفجر. (3) قافلة الرقيق.
ونراه ناقدا منصفا كذلك في كتابه "نقد مستقبل الثقافة في مصر" الذي صدر في ثمانين صفحة، عرض فيه برأيه في كتاب طه حسين الذي أثار ضجة حينذاك بدعوته إلى الأخذ من حضارة الغرب "حلوها ومرها خيرها وشرها"
وأبرز الشهيد سيد قطب في نقده لهذا الكتاب المغالطات التى أوردها طه حسين في هذا الشأن بصورة واضحة لا لبس فيها...
كما قدم في مجال النقد أيضا كتابه "النقد الأدبى أصوله ومناهجه".
أما سيد قطب صاحب الفكر الإسلامى الرشيد فأول ما قدم في هذا الصدد "العدالة الاجتماعية في الإسلام" وسبق الحديث عن هذا الكتاب في طبعتيه الأولى والثانية ثم أردف كتابه هذا بمؤلفاته الآتية:-
(1) معركة الإسلام والرأسمالية. (2) السلام العالمى و الإسلام. (3) دراسات إسلامية. (4) نحو مجتمع إسلامى.
وعندما تحركت أشواق الشهيد سيد قطب ليخدم الحركة الإسلامية في إطار جماعة –هى جماعة الإخوان المسلمين- قدم للإسلام هذا التراث الخالد:-
(1) هذا الدين. (2) المستقبل لهذا الدين. (3) خصائص التصور الإسلامى ومقوماته. (4) الإسلام ومشكلات الحضارة.
(5) في ظلال القرآن. (6) معالم في الطريق.
إن كتب الشهيد سيد قطب لا غنى بعضها عن الآخر، ولكن إذا أردنا تلخيص معطياته للأمة الإسلامية في مجال الحركة. استطعنا أن نجدها في كتابيه "في ظلال القرآن" و "معالم في الطريق"، فما عجز عن نشره في مضمون التحرك الإسلامى في الكتاب الأول استطاع بعد ذلك أن يقدمه في كتابه "المعالم"...
ولعل الشهيد سيد قطب يعرض لنا طرفا مما أراد أن يقدمه للناس في كتابه الظلال، وأنت تقرأ له في مقدمة الطبعة الثالثة قوله:-
"لقد عشت أسمع الله –سبحانه وتعالى- يتحدث إلى بهذا القرآن أنا العبد القليل الصغير.. أى تكريم للإنسان هذا التكريم العلوى الجليل، أى رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أى مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟..
وعشت في ظلال القرآن أنظر من علو إلى الجاهلية التى تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال وتصورات الأطفال واهتمامات الأطفال، كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال ومحاوت الأطفال ولثغة الأطفال. وأعجب ما بال هؤلاء الناس؟ ما بالهم يرتكزون في الحمأة الوبيئة، لا يسمعون النداء العوى الجميل، النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه..؟ عشت أتملى في ظلال القرآن.. ذلك التصور الشامل الكامل الرفيع النظيف للوجود، لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنسانى وأقيس إليه التصورات الجاهلية التى تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب وشمال وجنوب، وأسأل.. كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن في الدرك الهابط، في الظلام البهيم، وعندها ذلك المرتع الذكى، وذلك المرتقى العالى، وذلك النور الوضئ.. وعشت في ظلال القرآن أحس التناسق بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذى أبدعه الله.. ثم أنظر.. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريدة التى تملى عليها، وبين فطرتها التى فطرها الله عليها، وأقول في نفسى، أى شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى الجحيم؟ يا حسرة على العباد.. وعست في ظلال القرآن الكريم.. أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود، أكبر من حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه، إنه عالم الغيب والشهادة، لا عالم الشهادة وحده...
وإنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها، والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول.. والموت ليس نهاية الرحلة وإنما هو رحلة في الطريق، وما يناله الإنسان من شيء في هذه الأرض ليس نصيبه كله، وإنما هو قسط من هذا النصيب، وما يفوته هنا من هذا الجزء يفوته هناك، فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع، على أن المرحلة التى يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هى رحلة في كون مأنوس وعالم صديق ودود"..
وبعد...
فلا نستطيع أن نترك مجال الحديث عن كتاب "الظلال" وكاتب "المعالم" بدون أن نعرض لما توهمه البعض فيما أورده الكاتب الشهيد.. في هذين الكتابين من أنه كفر المسلمين بمعاصيهم إذا لم يعملوا في صف الجماعة التى ينتمى إليها، والحركة التى يعمل للإسلام من خلالها، وأنه عد المجتمعات المعاصرة في ديار الإسلام مجتمعات جاهلية أفرادا وحكاما وأنظمة...
ويرد الأستاذ يوسف العظم في كتابه عن الشهيد سيد قطب على هذا الوهم في فهم الجاهلية التى ورد ذكرها في هذين الكتابين فيقول:-
لقد وردت كلمة الجاهلية في عطاء سيد قطب عند الحديث عن الفهم والأنظمة والأخلاق التى تهيمن على "المجتمع الجاهلى اليوم" كما سيطرت على المجتمع الجاهلى الأول، ولم يورد الشهيد كلمة الجاهلية في حق الأفراد ما يفهم منه تكفير الناس أو إخراجهم من ربقة الإيمان...
كما وردت كلمة الجاهلية في بعض المواضع لدى الشهيد بمفهوم التخلف في الفكر والخلق والقيم وأساليب الحياة يقول:-
"ولابد أن نبادر فنبين أن التشريع لا ينحصر فقط في الأحكام القانونية كما هو المفهوم الضيق في الأذهان اليوم لكلمة التشريع – فالتصورات والمناهج والقيم والموازين والعادات والتقاليد... كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه، وحين يصنع الناس –بعضهم لبعض- هذه الضغوط- ويخضع لها البعض الآخر منهم في مجتمع لا يكون هذا المجتمع متحررا، إنما مجتمع بعضه أرباب وبعضه عبيد –كما أسلفنا- وهو –من ثم مجتمع متخلف- أو بالمصطلح الإسلامى.. جاهلى".
وإن للجاهلية مفاهيم متعددة ومعانى كثيرة، فما بال قوم يحملونها على معنى الكفر البواح دون سواه، إذ أن للكفر نفسه مفاهيم متعددة ومعانى كثيرة، فما بال قوم يصرون على أن تحمل على معنى الشرك وعبادة غير الله؟!
ثم يستطرد المؤلف يوسف العظم فيقول:- "هذا هو الفهم السليم لفكر الشهيد، وهذه هي دعوة الإسلام التى دعاها –يرحمه الله- وما سوى ذلك فلغو وضيق أفق ومرض ولا يستقيم مع مفهوم الإسلام في الإصلاح ودعوته في بناء الأنفس والمجتمعات".
ويختم عرضه لآراء سيد قطب عن مفهوم الجاهلية:-
ومن هنا يتضح لنا أن تسمية المجتمع اليوم مجتمعا جاهليا لا تعنى اعتباره مجتمعا كافرا بأفراده أو حكامه، غير أن هذا لا يعنى اعتبار أنظمته المرقعة المستوردة الدخيلة أنظمة إسلامية وقوانين إيمانية. ولكنها قوانين جاهلية وأنظمة صبغها الكفر واستوردها الخانعون ليطبقوها في ديار الإسلام، يرضون بها المستعمر المتسلط والعدو الغاصب، ويذلون بها عباد الله من أبناء أمتهم المبتلاة باستعلائهم، المنكوبة بطغيانهم، وهم يحرمونها من إقامة العدل وتطبيق شرع الله في الأرض.
وفهم آخر يلزم التنويه عنه حيث خاض فيه المحبون والشانئون لشهيد الإسلام هو معنى "لا إله إلا الله"..
فيقول الشهيد –عليه الرحمة- "لا إله إلا الله منهج حياة" فالعبودية لله وحده هي شطر الركن الأول في العقيدة الإسلامية المتمثل في شهادة "أن لا إله إلا الله" والتلقى عن رسول الله (ص) في كيفية هذه العبودية هو شطرها الثانى، المتمثل في شهادة "أن محمدا رسول الله".
ثم يستطرد فيقول: والمجتمع المسلم هو الذي تتكثل فيه تلك القاعدة ومقتضياتها، لأنه بغير تمثل تلك القاعدة ومقتضياتها فيه لا يكون مسلما... الخ.
وأراد البعض أن يحملوا هذا القول أكثر مما يحمل واقعه فقالوا (إن الكاتب يصدر أحكاما على الناس بالجملة بالكفر)!!.
وحول هذا الفهم يرد الأستاذ محمد قطب شقيق الشهيد سيد فيقول:-
"لقد سمعت الشهيد يردد أكثر من مرة قوله: نحن دعاة ولسنا قضاة إن مهمتنا ليست إصدار أحكام على الناس ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة لا إله إلا الله، لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي وهو التحاكم إلى شريعة الله.
فضلا عن أن الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك، وهذا أمر ليس في أيدينا، ولذلك فنحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس، فلسنا دولة وإنما نحن جماعة مهمتها الدعوة لتبيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم".
ونحن في هذه النبذة عن الشهيد سيد قطب (أفكاره) لا نستطيع الإفاضة في الرد على ما قيل عن خروج أفكاره عن مشكاة الشرع، فإن ما دعا الشانئون إلى هذا الخطأ هو تعريفه لمعنى التوحيد بأنه تصديق سلوكى وشعورى عما نطقه اللسان، فاستنتجوا أنه يعنى الحكم بالكفر على من كذب سلوكه قوله.. وهو أمر لم يرد في حسبانه بإطلاقه هكذا بهذه الصورة:
ولكن قد نجد أنفسنا في حاجة إلى الرد على مقولة الشهيد في دار الحرب ودار الإسلام، فيما أورده في كتاب المعالم حيث قال:-
"إن هناك دار واحدة هى دار الإسلام، تلك التى تقوم فيها الدولة المسلمة فتهيمن عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده، ويتولى المسلمون فيها بعضهم بعضا، وما عداها فهو دار حرب علاقة المسلم بها إما القتال وإما المهادنة على عهد وأمان ولكنها ليست دار إسلام. ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين"..
فقد لا يتسق هذا القول مع سابق ما قدمناه من شروح لأفكار الشهيد إلا إذا حملنا عبارته على أن الديار التى يعيش فيها المسلمون تبقى ديار مسلمين، وإن تكن ديار إسلام بالمصطلح الفقهى المعروف..
وأخيرا.. بقى أن نقدم مقارنة بين عطاء الشهيدين حسن البنا وسيد قطب للإسلام وللحركة الإسلامية، فلا مجال للمفاضلة بين الرجلين، إذ أن الشهيد سيد قطب يقول ويشهد للإمام حسن البنا بالأستاذية، ويعترف له بفضل السبق إلى ميدان العمل والبناء. وما خطر بباله أن يأتى اليوم الذي يرضى فيه الرجل لنفسه أن يقدم على الإمام الشهيد، البنا، العبقرى في أى مجال. مجالات البناء والعطاء،
وهذا ما أورده الشهيد سيد قطب في كتابه "دراسات إسلامية" حيث تحدث عن البنا وعبقرية البناء، ويحسن أن نورد هان ما سجله الأستاذ يوسف العظم حول هذه المقارنة في كتابه عن الشهيد سيد قطب فيقول:-
يمضى الشهيد على طريق الأدب أولا والفكر ثانيا والالتزام بأمور الدين والفرائض ثالثا، بينما بدأ حسن البنا حياته ملتزما بروح الدين وتكاليف الشرع، حتى إنه أنشأ وهو مازال على مقاعد الدراسة جمعية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر"وإذا كان حسن البنا قد انصرف إلى الأنفس يدعوها إلى التطهر، والقلوب يدعوها إلى التآلف، فقد انصرف سيد قطب ابتداء إلى العقول يدعوها إلى الاستنارة والتبصر والتدبر والنظر فيما حولها وما يراد بها من مكر الأعداء وتآمر الدخلاء الذين يحملون أسماءنا وينطقون الحروف العربية كما ننطقها في حياتنا اليومية مساء وصباحاً.لقد انصرف حسن البنا لجمع الشباب وتوعيتهم وتنظيمهم حول صفاء العقيدة وشمول الإسلام وصلاحيته للحكم ومعالجة شئون الحياة مستمدا من الكتاب والسنة قواعد أساسية عامة أقيم عليها تنظيم الجماعة.أما سيد قطب فقد لقى جيلا منظما، وشبابا متوثبا، وجماعة واعية فراح يعمق مناهجها ويبلور أهدافها وغاياتها وفق أحكام الإسلام متخذا من القرآن الكريم منطلق منهاجه حتى صار رجل الفكر الأول ليس في الجماعة وحدها بل في العالم الإسلامى كله.كان البنا مهندس الجماعة وبانيها، وكان سيد قطب نبعها الثرى بزخم فكرى نير، وعطاء من نور الإيمان، يقدمه منهاج حركة ومنهاج حياة، لجماعة عملت منذ وجدت بتطبيق شرع الله في الأرض، واستئناف الحياة الإسلامية رغم كل الظروف القاسية والمؤامرات المريبة التى لا ترحم.لقد كان حسن البنا البذرة الصالحة للفكر الإسلامى، وكان سيد قطب الثمرة الناضجة لهذا الفكر المستنير.ولئن كان الشهيد سيد قطب قد زرع في كل بيت كتابا ينير العقل وفكر تهتدى به الأجيال فقد زرع الشهيد حسن البنا في كل ميدان رجلا وفي كل حقل داعية يعطى المثل الحى على أن الإسلام حسن تحمله القلوب الصادقة في الصدور العامرة يحيلها أقباسا وضيئة، ومشاعل على الدرب، وعنا وين على البذل والعطاء.. لتكون كلمة الله هى العليا أبدا، وجند الشيطان الخاسرون إلى بوار..لقد قدر للرجلين أن لتقيا في عام الولادة.. وأن لتقيا في ساح الشهادة، بأن يسقط كل منهما على يد طاغية أرعن وجندى من جند الشيطان.. والرجاء في رحمة الله كبير بأن يغمرهما بفضل منه وأن يجمعهما في مستقر رحمته في مقعد صدق عند مليك مقتدر..
وسوم: العدد 736