سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقائد معركة القادسية

في سيرة سعد دروس كثيرة:

منها: كيف يستطيع الفتى الشاب أن يختار طريق الحق ولو خالف قومه، ويثبُت ثبات الجبال.

ومنها: كيف يفضّل رضوان الله على بر أمه إذا هي جاهدته على الشرك.

ومنها: كم هو مقدار برّ الوالدين في الإسلام.

ومنها: كيف يُقدّم المؤمن كل شيء، فيخالف قومه ويضحي بأخيه، ويبذل نفسه رخيصة في سبيل الله.

ومنها: كيف يقدّم الإسلام نماذج رائعة في قيادة الحروب، فينتصر الجيش الإسلامي الفتيّ بقيادة سعد على جيش أكبر دولة طاغية يومئذ: دولة الفرس.

ومنها: وهو أعظمها، ويشملها جميعاً: كيف يعمل الإيمان في النفوس، وكيف تسمو النفوس التي جعلت الله غايتها.

* * *

حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كان سعد فتى في السابعةَ عشرةَ من عمره، وكان باراً بوالديه، محبّاً لأمه خاصة، وكان راجح العقل، بعيداً عن اللهو، يهتم بإصلاح السهام والرماح...

وكان من أسرع الناس إلى الإسلام. لم يسبقْه إلا ثلاثة رجال أو أربعة.

وكان من أشراف قومه، ومن أعلاهم نسباً. وفوق ذلك كان من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من بني زهرة أهل آمنةَ بنت وهب. حتى لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مرة مع بعض أصحابه ورأى سعداً قادماً فقال لمن معه معتزاً بسعد: "هذا خالي. فليُرِني امرؤٌ خالَه".

وأما قصة إسلام سعد، ثم ما لاقاه من أمه بسبب ذلك، وما تحمله في سبيل الله، فأمور عجيبة:

لقد رأى سعد في منامه، قبل أن يُسلم بثلاث ليال، كأنه غارق في الظلمات. وبينما هو يتخبط في لججها إذ أضاء له قمر فاتّبعه فإذا نفرٌ أمامه قد سبقوه إلى ذلك القمر: أبو بكر الصديق وزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب. فقال لهم: منذ متى أنتم ههنا؟! فقالوا: الساعة.

ولما طلع النهار بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام مستخفياً، فعلم أنه القمر الذي رآه في منامه وأن الله قد أراد به خيراً. فمضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً حتى لقيه في شِعبٍ بجوار مكة يقال له: شِعْب جياد، فأسلم. وما إن سمعت أمه بخبر إسلامه حتى ثارت عليه: يا سعد، ما هذا الدين الذي صرفك عن دين أمك وأبيك؟! والله لَتَدَعَنَّ دينك الجديد أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فيعيّرك الناس أبد الدهر: يا قاتل أمه. فقال لها: لا تفعلي يا أماه، فلستُ تاركاً ديني لشيء أبداً. لكنها أصرّت على ذلك حتى بلغ الجوع بها والعطش مبلغاً شديداً. وسعد يأتيها كل يوم بطعام وشراب فتأبى أن تأخذه حتى يترك دينه. عند ذلك قال لها: يا أماه، إني، على شديد حبي لك، لأشدُّ حبّاً لله ورسوله. ووالله لو كان لك ألف نفس فخرجت منك نفساً بعد نفس ما تركت ديني.

فلما رأت منه الجِدّ أكلت وشربت. وأنزل الله تعالى فيه: (ووصّينا الإنسان بوالديه. حملته أمه وهناً على وهن. وفِصالُه في عامين. أن اشكر لي ولوالديك. إليّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما. وصاحبهما في الدنيا معروفاً. واتّبع سبيل مَن أناب إليّ. ثمّ إليّ مرجعكم فأُنبّئكم بما كنتم تعملون). {سورة لقمان: 14، 15}.

إنّ فضل الله عز وجل أعظم من فضل الوالدين، فهو الذي خلق الولد والوالدين. وهو الذي هيّأ لهم أسباب الحياة والرزق، وأنشأ لهم السمع والأبصار والأفئدة... فهو سبحانه الذي يستوجب الطاعة المطلقة. فإذا لم يمكن للإنسان أن يَبَرَّ والديه إلا بمعصية الله، فطاعة الله هي المقدمة. إذ لا يجوز أن نُسخط الله في رضا مخلوق أبداً.

ومع تقديم طاعة الله تعالى، وترك طاعة الوالدين في الشرك والمعصية... يجب أن نصحبهما بالمعروف ولا نقسوَ عليهما بكلمة أو تصرّف.

* * *

وكان لسعد بلاء حسن في الإسلام.

ففي بدر شارك سعد، وشارك معه أخوه عُمير، وكان عمير في نحو الخامسة عشرة، واستُشهد عمير رضي الله عنه.

وفي أحُد وعندما زُلزلت الأقدام، وتفرق المسلمون عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق حوله إلا نفر لا يجاوزون العشرة... وقف سعد يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوسه، فكان لا يرمي رمية إلا أصابت من مشرك مقتلاً، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: "ارمِ سعد ارمِ، فداك أبي وأمي". فكان سعد يفتخر بها طوال حياته ويقول: (ما جمع الرسول لأحد أبويه إلا لي). وذلك حين فداه بأمه وأبيه معاً.

ويتسنّم سعد ذروة المجد حين يقود معركة القادسية. فقد أرسل عمر كتبه إلى عماله في الآفاق أن أرسلوا إليّ من كان له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي أو مزية من شعر أو خطابة أو غيرها مما يجدي في المعركة... وتدفقت وفود المجاهدين على المدينة من كل صوب... واستشار عمر أهل الحل والعقد فيمن يوليه على الجيش الكبير فقالوا بلسان واحد: الأسد عادياً: سعد بن أبي وقاص.

وقف عمر يودع القائد ويوصيه: يا سعد، لا يغُرَّنّك من الله أنْ قيل: خالُ رسول الله وصاحب رسول الله... يا سعد إن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا الطاعة... فالناس سواء عند الله: الله ربّهم وهم عباده... فانظر الأمر الذي رأيتَ النبي صلى الله عليه وسلم عليه فالتزمه.. فإنه الأمر.

واشتدت المعركة، وحقق جيش الإسلام الانتصارات. فلما حان اليوم الرابع عزم المسلمون على حسم المعركة فأحاطوا بعدوّهم، ونَفَذوا إلى صفوفهم من كل صوب مهللين مكبّرين... فإذا رأس رستم قائد جيش المجوس مرفوع على رماح المسلمين، وإذا قلوب الفرس تمتلئ بالرعب، حتى كان المسلم يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله، وربما قتله بسلاحه. وكان عدد القتلى كبيراً جداً حتى إن الذين قضوا غرقاً بلغوا ثلاثين ألفاً، وأما الغنائم فكانت وفيرة جداً.

عمّر سعد طويلاً، وأفاء الله عليه المال الكثير، لكنه حين أدركته الوفاة دعا بجبة من صوف بالية وقال: كفّنوني بها، فإني لقيتُ بها المشركين يوم بدر... وإني أريد أن ألقى بها الله عز وجل أيضاً.

وسوم: العدد 737