محمد يوسف عدس.. كاتب من طراز نادر!
على مدى عشرة أيام أو أكثر؛ لم أستطع أن أكتب كلمة عن الكاتب الراحل محمد يوسف عدس- رحمه الله.
كلما هممت بالكتابة توقفت! كان الرجل يحدثني من استراليا قبل أسابيع، وطلب بعض كتبي المتواضعة، وحِرْتُ كيف أرسلها إليه. لا أحد يسافر إلى استراليا إلا نادرا، ومن يسافرون لا أعرفهم. البريد المصري من أسوأ أنواع البريد في العالم حتى لو استخدمت ما يسمي البريد السريع. ما أسهل أن يود ما ترسله بحجة لم يستدل عليه- ولي معه تجارب عديدة كتبت عن بعضها في حينه بالأهرام. مثلا أضاع منحة لطالب عربي. أرسلتُ إليه في عاصمة بلاده التقرير الذي يسوغ حصوله على المنحة، وبعد شهور عاد إلىّ المظروف وبداخله التقرير بالحجة إياها، مع أن العنوان واضح جدا، بالإضافة إلى وجود هواتف المرسل إليه!
اتفقت مع شقيق الراحل الكريم الدكتور صلاح أن يتولى الأمر بنفسه ويقوم بإرسال الكتب بمعرفته، وبعثت على البريد الإلكتروني أخبره الراحل بذلك.
كان الرجل من الكتاب الذين يعرفون قيمة الكلمة الطيبة في زمن كثرت فيه الكلمة الخبيثة المأجورة. نذر حياته من أجل الفكرة الإسلامية والدفاع عنها حسبة لله، فكتب وترجم وحقق ما يفيد الناس، ويوقظ الوعي الإسلامي، ويوضح ويكشف ويصحح الأضاليل والأكاذيب والافتراءات التي ينشرها خصوم الإسلام وأعداؤه والمنافقون من أبنائه.
ولعل هجرته الاختيارية، ولا أقول منفاه، كان بسبب حرصه على أن تكون كلمته حرة، مثلما يعيش حرا بعيدا عن القهر والهوان والقمع والإذلال الذي كان يحاصر كل مصري قبل وبعد هزيمة 1967 المصمية.
كانت تربيته ونشأته وثقافته تهيئه لرفض الظلم والقمع وقول الزور. فقد ولد في سنة 1934 بقرية بهوت ذات التاريخ الحافل، وهي من أعمال محافظة الدقهلية، وحفظ أجزاء من القرآن في كُتّاب القرية، وأمضى ثلاث سنوات في المدرسة الأولية، ثم انتقل إلى مدينة الزقازيق لاستكمال تعليمه في المدرسة الابتدائية حيث تخرج منها سنة 1948. والتحق بمدرسة الزقازيق الثانوية لمدة عام، ثم انتقل إلى مدينة المنصورة، ليكمل تعليمه في مدرسة الملك الكامل الثانوية فحصل على الثقافة العامة سنة 1952، وبعدها الثانوية العامة من مدرسة المنصورة الثانوية سنة 1953. والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، قسم الدراسات الفلسفية وعلم النفس؛ وتخرج 1957. وفي الجامعة عرف نخبة من الأساتذة أسهموا في تكوين وجدانه وإنضاج رؤيته، وفتح عينيه على آفاق واسعة، منهم توفيق الطويل، وزكى نجيب محمود، ويوسف مراد، ومصطفى الخشّاب، وحسن الساعاتي، وعبد الهادي أبو ريدة، وعثمان أمين، وزكريا إبراهيم، ومحمد مصطفى حلمي. كما عرف مثلهم حين التحق بالدراسات العليا ليحصل على درجة الماجستير.
ثم كان عمله في مجال المكتبات المدرسية والجامعية وتطويرها فرصة ذهبية لتعميق ثقافته والاطلاع على أحدث ما ظهر في الفكر المحلي والعالمي، ولكن أحوال مصر في الستينيات من القرن الماضي وما شهدته من عسف وقهر واضطراب وهزيمة ساحقه دفعته للخروج من البلاد ليتجول في أرجاء الأرض بدءا من الفلبين إلى أميركا مرورا بدول الخليج بالعمل في مجال المكتبات أو من خلال منظمة اليونسكو التي اختارته ليكون خبيرا يتولى إنشاء مكتبة جامعة قطر وتطويرها.
وفي أواخر سنة 1974 انتقل مع أسرته إلى كانبرا العاصمة الفدرالية لأستراليا ليتسلم وظيفة مفهرس في المكتبة الوطنية. وسُمح له بالالتحاق بكلية كانبرا للدراسات العليا (جامعة كانبرا فيما بعد)، فمكث ثلاث سنوات يدرس: علوم المكتبات، ونظم استرجاع المعلومات، وإدارة المؤسسات حتى تخرج سنة 1977.
بعد تخرجه صار زميلا في الجمعية الملكية للمكتبات والمعلومات الأسترالية، وتبنت المكتبة مشروعه لإنشاء أرشيف لشخصيات المستقبل؛ وبعد أن تولي مناصب رفيعة في مجال عمله تقدم بالاستقالة في يوليو سنة 1990 قبل أن يصل إلى السن القانونية للتقاعد بأربع سنوات، كي يتفرغ للكتابة أو الكلمة الطيبة التي نذر نفسه لها.
اهتمت دراساته ومؤلفاته بمشكلات الأقليات المسلمة في العالم، وإبراز المعاناة والمظالم التي تتعرض لها، ابتداء من الفلبين، ثم البوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان، وصدرت له كتب عديدة حولها، كما اهتم كثيرا بأعلام المسلمين المعاصرين ومنهم محمد أسد ومحمد إقبال، وبشكل خاص المفكر المسلم المجاهد "على عزت بيجوفيتش"، رئيس جمهورية البوسنة والهرسك الأسبق؛ وترجم بعض كتبه ومن أهمها "الإسلام بين الشرق والغرب"، و"الإعلان الإسلامي".
وفي فترة تقاعده ازداد اهتمامه بالشئون الإسلامية العامة، فكان يكتب للدوريات الشهرية والأسبوعية، ويزودها بما يوضح الحقائق ويبلور المواقف الإسلامية الصحيحة في أذهان القراء. وقد عرفت مقالاته طريقها إلى مجلات الدوحة، والمختار الإسلامي، والهلال، والمنار الجديد، ووجهات نظر، وجريدة الشعب، والمصريون، وعرب نيوز، وغيرها.
قام بتحقيق كتاب مهم حول بلدته بهوت ألفه أحد أقاربه، واسمه صالح محمد فارس(1892-1967م) . والأستاذ صالح من الأدباء الكبار في زمنه ولكنه مجهول في أيامنا، عرفه أبناء جيله، فقد تعرف إلى جمال الين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وكثير من أدباء عصره، وله إنتاج غزير في الشعر والقصة والمسرح والتاريخ وغيرها. وكتابه "تاريخ بهوت" يتناول جغرافيتها وتحولاتها السكانية والهجرة منها وإليها، ويؤرخ لها منذ أمد بعيد يعود إلى ما قبل الإسلام، وينتهي بعصرنا الراهن، ولعل الراحل الكريم الأستاذ عدس كان يقصد من وراء التحقيق أن يدفع عن بهوت تهمة الشيوعية التي رماها بها الشيوعيون المصريون. فالكتاب يتحدث عن البلدة المسلمة التي أنجبت عديدا من علماء الإسلام ودعاته، ويعيش أهلها بروح الإسلام ومنهجه، وفي الوقت نفسه يواجهون بروح الإسلام ظلم الحكام والطغاة والإقطاع منذ حكم محمد على وسلالته حتى عام الانقلاب1952.
في مقالاته الأخيرة تناول الانقلاب الثاني2013، وهاجم القمع وإهدار إرادة الشعب المصري، والتبعية لأميركا والغرب، وحمل على العناصر المنافقة من علماء السلطة وفقهاء الشرطة، وتناول العلاقة بين الانقلاب والعدو الصهيوني، وكانت آخر مقالاته المنشورة في "الشعب" حول حصانة الكيان الصهيوني وعدم الاقتراب منه ولو بالكلام، وقد سبق إلى تأليف كتب تنبه وتحذر من الإمبريالية الغربية والأميركية خصوصا؛ فكتب الوجه الحقيقي للإمبريالية الأمريكية والنهب المنظم لفقراء العالم: الشركات والتكتلات لاحتكارية. والحرب البيولوجية والتحكم في البشر...
رحم الله محمد يوسف عدس، وأدخله فسيح جناته، فقد كان كاتبا مسلما من طراز فريد، لا يتيه بنفسه، ولا يبحث عن شهرة، ولا يطلب من الناس جزاء ولا شكورا.
الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!
وسوم: العدد 742