الشهوة الخفية

(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون عُلُوّاً في الأرض ولا فساداً. والعاقبة للمتقين). {سورة القصص: 83}.

إنها سنّة الله، ولن تجد لسنّة الله تبديلاً: نعيم الآخرة لا يناله الذين يريدون العُلوّ في الأرض، أو الفساد، والذين يريدون الدنيا يعطيهم الله منها، وليس لهم في الآخرة إلا النار.

حُبّ العلوّ في الأرض، الذي يظهر حرصاً على الجاه، وطلباً للزعامة والرئاسة والظهور، أو ما يسميه علماؤنا الأوّلون حب الشرف... مقتلٌ لصاحبه.

روى الأئمة أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي – وقال: حديث حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ذئبان جائعان أُرسِلا في زريبة غنم بأفسَدَ لها من حِرص الرجل على المال والشرف لدينه".

وروى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتخوَّف على أمتي الشركَ والشهوةَ الخفية".

يملك بعض العُبّاد والعلماء، في كثير من الأحوال، قهر نفوسهم، وفَطمها عن شهواتها حتى لا تطمع في المعاصي الظاهرة... فتستريح نفوسهم إلى التحلّي بالخير، والتظاهر بالعلم والعمل، وتجد مهرباً من مشقة المجاهدة إلى لذة القَبول عند الخلق، ونَظَرهم إليهم بعين الوقار والتعظيم.

فإذا أطلق الناس ألسنتهم بالثناء على الرجل، وبالغوا في الإطراء، ونظروا إليه بعين التوقير، وقاموا له في المحافل، وانقادوا إليه في أغراضه... أصابت نفسَه لذةٌ من أعظم اللذات، وشهوةٌ من أغلب الشهوات، فاستحقرت تركَ المعاصي، واستلانت الخشونة في مواظبة الطاعات لإدراكها في الباطن لذة اللذات!.

الشهوة الخفية التي تَعْمَى عن دَرْكها العقول النافذة هي أن يرى الرجل نفسه مخلصاً في طاعة الله، وقد أبطن شهوةَ التصنّعِ للخلق، فأحبط بذلك ثواب طاعته، وهو يظن أنه عند الله من المقرّبين!.

وهذه مكيدة لا يكاد يسلم منها الصديقون. ولذلك قيل: آخر ما يَخرج من قلوب الصدّيقين حب الرئاسة.

يقول أبو بكر بن أبي داود: سمعتُ أبي يقول: الشهوة الخفية حُبُّ الرئاسة.

وإليك، يا أخي، ثلة من الأحاديث الشريفة تنبيك بخطورة الإمارة، وتقلّد الزعامة، وعاقبة من لم يَرْعَها حق رعايتها:

روى أحمد والدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أمير عَشَرَة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يَفُكّه العدلُ، أو يُوبقَه الجَور".

وروى أحمد، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، عن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إلى الشام: يا يزيدُ إن لك قرابةً عَسَيتَ أن تُؤثرَهم بالإمارة، وذلك أكثرُ ما أخاف عليك بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن وَليَ مِن أمر المسلمين شيئاً فأمّر عليهم أحداً مُحاباةً، فعليه لعنةُ الله. لا يقبل الله منه صَرفاً ولا عدلاً، حتى يُدخله جهنم".

فيأيها الإخوة الأحباب. أبَعْدَ هذا الوعيد الذي تنقصم له الظهور، وتنخلع لهوله القلوب، يحرص عاقل على التطلع إلى إمارة أو مسؤولية إلا إذا كان ممن يتناولهم الوصفُ في قوله تعالى: (أم على قلوبٍ أقفالها)؟.

هلّا زَهِدنا بالمنصب والزعامة، واجتهدنا في مرضاة الله تعالى، وتطلّعنا إلى نفحاته ورحماته، وفررنا من سخطه وغضبه؟.

وفي اليوم الذي تَعُمُّ فيه هذه الشهوة الخفية وتطغى، تُعَشّش الأمراض القاتلة، والأوبئة الفتاكة، وينْخَرُ السوس في بُنيان الجماعة والمجتمع، حتى يغدو كالبيت الخرِب...

وحين نتسامى فوق هذه الشهوة، ويسود فينا الحب في الله، والتطلع إلى رضوانه، ونعكِف على هذه القلوب نعمُرُها بالإيمان، ونتسابق في الطاعات، فتنجلي عن العيون كل سوداء مظلمة، ونتحقق بقوله تعالى: (ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة...)، يومئذ نستردُّ عافيتنا، وينشئنا الله خلقاً آخر (فتبارك الله أحسنُ الخالقين).

ويومئذ نكون أهلاً لتسلُّم القيادة من جديد، وإنقاذ الأمة من الضياع والضلال.

وسوم: العدد 759