من أحاديث رمضان: التحولات الطارئة على سيكولوجية وسلوك الصائم
مع حلول شهر الرحمة والغفران كل عام، تطرأ على سيكولوجية الصائم تحولات كبيرة تؤثر في سلوكه وتصرفاته، والسر في ذلك هو عبادة الصيام . ويشير قول الله عز وجل : (( لعلكم تتقون )) في سياق الحديث عن ممارسة هذه العبادة ضمنيا إلى هذه التحولات .ومعلوم أن هذه العبادة لها خاصية تميزها عن باقي العبادات ، وهي طبيعتها السرية بحيث لا يمكن الكشف عن ممارستها كما يمكن ذلك بالنسبة لباقي العبادات التي تمارس علنيا . ونظرا لطبيعة عبادة الصيام السرية التي يستحيل معها أي شكل من أشكال الرياء التي قد تلابس العبادات العلنية الأخرى ، فإن الصائم يصيب أعلى درجات التقوى التي عبرعنها أسلوب الترجي في قول الله عز وجل : (( لعلكم تتقون )) . وبحصول هذه الدرجة من التقوى تحدث تحولات كبيرة وعميقة في سيكولوجية الصائم، الشيء الذي يؤثر بشكل واضح في سلوكاته وتصرفاته خلال شهر الصيام ، وهو أمر يرجى أن يستمر خلال باقي شهور السنة بعد انصرام هذا الشهر ، بل هو السر وراء فرض عبادة الصيام لأن التقوى الواردة في قوله تعالى : (( لعلكم تتقون )) وهي قمة التقوى لا تقتصر على شهر الصيام، بل تبدأ فيه ويرجى أن تستمر وتدوم في غيره .
وأول ما يطرأ على سيكولوجية الصائم استحضار المعية الإلهية في ممارسة عبادة الصيام أكثر من استحضارها في غير هذه العبادة، وإن كانت مطلوبة في كل العبادات بل في كل الأحوال التي يمر بها الإنسان المؤمن . واستحضار المعية الإلهية خلال ممارسة عبادة الصيام تنقله من حالة سيكولوجية اعتادها طيلة السنة إلى حالة سيكولوجية لا تحصل له إلا في شهر رمضان حيث تجعله المعية الإلهية التي يستحضرها يشعر بمراقبة ملازمة له لا تنفك عنه مادام صائما . وهذه المراقبة تكون ذاتية يمارسها الصائم على نفسه من خلال حرصه على الإمساك . ومن معاني الإمساك في اللسان العربي الحفظ لقول الله تعالى : (( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالاتا إن أمسكهما من أحد من بعده )) ، كما تعني الأخذ، والحبس، والقبض، والكف، والمنع أوالامتناع ... وقد تلي بعض حروف المعاني كالباء، وعلى فعل أمسك فتزداد دلالاته وتتعدد. وإمساك الصائم يجمع بين عدة دلالات، فهو يحبس نفسه، ويكفها ، ويمنعها من الشهوات أو يمتنع عنها، ويحفظها، ويقيها من الوقوع في المحرم الممنوع من الشهوات . والمراقبة الذاتية الحاصلة بالإمساك تعطي الصائم ثقة بالنفس ، وهي حالة سيكولوجية إيجابية تخرجه من حالة سيكولوجية سلبية أثناء الشعور بفقدان الثقة في النفس . ومعلوم أنه يترتب عن الثقة في النفس الإقدام ،بينما يترتب عن فقدان هذه الثقة الإحجام والنكوص والفشل ، وقد يصل الأمر إلى حد الانتحار كما هو الحال بالنسبة لكثير من فاقدي الثقة في نفوسهم . وأخوف ما يخافه الإنسان الانهزام أمام الذات أو النفس . وتروض عبادة الصيام الإنسان على ترويض نفسه، وكبح جماح ميلها الشديد نحو إشباع أقوى الغرائز وأشدها إلحاحا . ويعتبر انتصار الإنسان على شهواته أقوى وأعظم انتصار يحققه على الإطلاق ، ويكسبه ذلك أقوى ثقة بالنفس، لأن ما دون شهوتي البطن والفرج يسهل التحكم فيهما . وعندما يسترد الإنسان ثقته بالنفس عن طريق عبادة الصيام، ويمارس الرقابة الذاتية عليها ، يشعر بحقيقة إنسانيته، وبتميزه عما سواه من المخلوقات المسلوبة الإرادة أمام غرائزها ، وهو شعور بالتكريم الذي كرمه به الله عز وجل وبالتفضيل الذي فضله على كثير ممن خلق . ويترتب عن هذا شعور بالسمو يجعل الإنسان يطمح إلى بلوغ مرتبة المخلوقات النورانية المكرمة التي لم يبتلها الله عز وجل بالشهوات بالرغم من طبيعته الطينية ومن ابتلائه بالشهوات . وعندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من السمو الروحي الذي يرفعه من الطبيعة المادية الطينية إلى الطبيعة الروحية النورانية، ينعكس ذلك على سلوكاته وتصرفاته، ويربأ بنفسه أن ينحدر بها إلى ما لا يليق بسموه الروحي النوراني .وتحصل للصائم ساعة إفطاره حالة سيكولوجية خاصة حيث يشعر بفرح منقطع النظير، لا لأنه عاد إلى طبيعته المادية الشهوانية ،بل لأنه انتصرعليها بالرغم من قوة إلحاحها عن طريق تحمل حالتي الجوع والعطش . وهذا الفرح يؤكده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه" فالإفطار هو وقت نهاية عبادة الصيام ،والفرحة لا تكون بالطعام والشراب ،بل بالفوز بأجر هذه العبادة . ويقوي هذا الطرح قوله صلى الله عليه وسلم : " وإذا لقي ربه فرح بصومه " ذلك أنه لا يمكن أن يكون فرحه حين يلقى ربه بالصوم ، ويكون فرحه عند الإفطار بطعامه وشرابه لا بصومه. وحال الصائم في فرحته كحال المتسابق الذي يلاقي المشقة في سباقه، ولكنه حين يفوز بالمرتبة الأولى يفرح بها ، وهو في الحقيقة يفرح بما بذله من جهد تغلب به على المشقة . ويؤكد هذا ما نلاحظه من فرح الصبية حين يصوّمهم أهلهم يوما من أيام رمضان، فيفرحون بانتصارهم على الجوع والعطش أكثر من فرحتهم بالطعام والشراب عند الإفطار ، ويفخرون بصومهم لا بتناولهم الطعام والشراب . وهذه الحالة النفسية التي يكون عليها الصائم تؤثر في طباعه وتجعله لينا، رقيق المشاعر تماما كما يكون حال الفائز لحظة الفوز، فيعانق غيره بحرارة ، ويبتسم في وجهه ، وقد يبكي من شدة الفرح ، وقد يجود بما يكون في يده ولو كان مما يعز على نفسه تماما كما يفعله بعض الرياضيين الذين يجودون بقمصانهم الرياضية على من يرغب فيها لحظة فرحهم ونشوتهم بالانتصار ، فكذلك الصائم يكون أجود ما يكون لحظة الفرح بصومه ، وهو ما يؤكده قول ابن عباس رضي الله عنه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ،وكان يلقاه في كل ليلة فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ". ومن المؤكد أن جود النبي صلى الله عليه وسلم كان من خصاله الملازمة لشخصه الكريم، ولكنه يزداد بسبب فرحته بلقاء جبريل عليه السلام الذي كان يلاقيه في ليالي رمضان . والمؤمن يتأسى بالنبي الكريم في جوده فرحا بصيامه وقيامه . ومما يحدثه الصوم من تأثير في الصائم إعداده سيكولوجيا لتلقي كلام الله عز وجل قراءة وقياما حيث يلاحظ إقباله عليه في رمضان أكثر مما يقبل عليه في غير رمضان . ويحدث القرآن الكريم تأثيرا سيكولوجيا قويا وعجيبا في الصائم خلال رمضان لهذا يلاحظ إقبال كبيرعلى تلاوته والحرص على ختمه عند الصائمين . ومعلوم أن الإنسان يتأثر نفسيا وعاطفيا بما يقرأ أو ما يسمع أو ما يشاهد ويعاين . فإذا كانت القصص والروايات والأفلام تحدث فعلها في الإنسان ، فإن كتاب الله عز وجل الذي لا تنقضي عجائبه يحدث العجب العجاب في نفسية من يقرأه أو يسمعه ، وقد أكد الله عز وجل ذلك في قوله وهو يصف تأثير كلامه في بعض من كانوا يستمعون إليه : (( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق)). والبكاء حالة نفسية تلازم الصائمين إذا ما قرءوا أو سمعوا القرآن، وتترتب عن ذلك رقة قلوبهم التي تحدث تأثيرات في سلوكاتهم .
وخلاصة القول أن عبادة رمضان بصيامها وقيامها تؤثر في سيكولوجيا الصائم وتعدل من سلوكاته وتصرفاته المعتادة ، وتنقله من السلوكات السلبية إلى السلوكات الإيجابية من رقة، ورحمة، وشفقة ،وجود ،وكرم، وتسامح، وعطف ،ولين...ويحدث لديه شعور بأنه تحول من أحوال كان عليها طيلة السنة إلى ما هو خير منها ، ويترتب عن ذلك أن يلازمه شعور بالسمو والطهر. وكم من إنسان يتحاشاه الناس طيلة السنة ، فإذا جاء رمضان وهو يمارس عبادة الصيام يألفه الناس، ويقبلون عليه ،ويستأنس هو بهم بعد ما كان منهم من نفور ، ويفرحون به وهو على حاله في عبادة الصيام .
وما لم يحصل للإنسان هذا التأثير السيكولوجي بسبب عبادة الصيام في رمضان ، فإنه لا يستفيد من صيامه كما جاء في الحديث الشريف : " رب صائم ليس له حظ من صومه إلا الجوع والعطش ، ورب قائم ليس له حظ من قيامه إلا السهر والنصب " . فحظ الإنسان من الصيام والقيام هو تلك الحالة السيكولوجية التي تحصل له، وتؤثر في سلوكاته . ويؤكد هذا حديث شريف آخر يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل ، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه " فقول الزور والعمل به والجهل، وهو هنا التصرف غير اللائق، كل ذلك يصدر عن حالة نفسية يكون فيها الإنسان خارج الرقابة الذاتية التي تعطيها له عبادة الصيام والتي تصدر عن حالة نفسية أخرى ، لهذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن تكون هذه العبادة مجرد ترك الطعام والشراب دون حصول الحالة السيكولوجية المترتبة عن ذلك الترك . ونفسية الصائم لا تسمح له بالإمساك عن ممنوعات منعا مؤقتا دون الإمساك عن ممنوعات منعا مؤبدا ، لأن الله عز وجل درب الصائم بالممنوع المؤقت على الممنوع المؤبد، لهذا لا حاجة له بترك الصائم طعامه وشرابه المحرمين تحريما مؤقتا إذا هو لم يترك ما حرم عليه تحريما أبديا من قبيل ما جاء في الحديث الشريف من قول الزور والعمل به والجهل... وغير ذلك من الموبقات.
وسوم: العدد 773