الخلّة في الحياة الدنيا دون تقوى الله عز وجل عداوة في الآخرة
الخلّة هي الصحبة التي يلازم فيها الصاحب صاحبه ملازمة تامة ودائمة ، وقيل إن لفظة خلّة أو لفظة خليل مشتقة من التخلّل ،لأن الصاحب الملازم لصاحبه كالمتخلّل له أو الممتزج به . ولقد اتخذ الله عز وجل نبيه الكريم إبراهيم الخليل عليه السلام خليلا بسبب درجة التقوى الذي أدركها وقد ابتلاه ربه البلاء العظيم فثبت ، وصبر ، وكان جزاؤه أن صارا خليل الله عز وجل .
ولما كان الإنسان كائنا اجتماعيا ، فإنه ينشد ربط علاقات مختلفة مع غيره ، وأكثر العلاقات التي يحرص عليها الإنسان علاقة الخلّة حيث يختار القلة القليلة من الأخلاء، بل قد يقتصر في حياته على بعض الأخلاء ، وأحيانا لا يزيد عن خليل واحد يرتبط به أشد الارتباط ويلازمه ملازمة دائمة ، ويبلغ حبه له أعلى درجات المحبة والمودة . وقد يتخذ الرجل صاحبته أي زوجته خليلة ، كما أن المرأة قد تتخذ زوجها خليلا ، ولا تفوت الواحد منهما الفرصة يوميا للتعبير عن تلك الخلّة بشتى الطرق ، بل والتغني والتباهي بها أمام الناس . ولقد نظم الشعراء القصائد الجياد وتغنوا فيها بالخلّة . ومن يطلع على ما قيل عنها في أشعارهم يود لو قال في خليله أو أخلائه ما قاله هؤلاء الشعراء في أخلائهم .
ولا يخطر أبدا ببال أحد أن الخلّة قد تصير يوما ما عداوة وبغضاء ، والعدو هو المبغض، وهو نقيض الخليل المحب حبا في أعلى درجة المحبة ، كما أن العدو هو المبغض في أعلى درجة البغضاء .
وحين يقرأ الإنسان القرآن الكريم وهو كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولا يعتريه ما يعتري كلام البشر من وهم وباطل ،تحصل له قناعة تامة ليس فيها شك أو ريب أن الخلّة قد تصير بالفعل بغضاء ، وأن الأخلاء قد يصيرون أعداء مصداقا لقوله عز من قائل في سورة الزخرف : (( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين )). فهذه الآية الكريمة تؤكد أن الخلّة في الحياة الدنيا تصير عداوة لا محالة إلا إذا اقترنت بتقوى الله عز وجل لدى الأخلاء. ومعلوم أن التقوى هي أن يجعل الإنسان حائلا يحول بينه وبين سخط وغضب الله عز وجل ، ولا يحصل ذلك إلا بالانتهاء عما نهى عنه سبحانه ، والائتمار بما أمر به .
وكل خلّة مجردة من تقوى الله عز وجل، تصير حتما عداوة بين الأخلاء حيث يتنكر بعضهم لبعض في الآخرة ، ويعادي بعضهم بعضا، ويبغض بعضهم بعضا خلاف ما كانوا عليه في حياتهم الدنيا، ذلك أنهم إذا دخلوا النار لعن بعضهم بعضا واتهم بعضهم بعضا بأنهم كانوا سببا في دخولهم النار ، وقد سجل القرآن الكريم ما سيكون بينهم من لوم واتهام وهم في نار جهنم . وقد يدخل بعضهم الجنة ، ويدخل البعض الآخر النار، فيبغض الذين دخلوا النار الذين دخلوا الجنة ويتهمونهم بأنهم لم يخلصوا لهم الخلّة ،أوقد يندمون لأنهم لم يسيروا على نهج تقواهم في حياتهم الدنيا مع أنهم كانوا لهم أخلاء .
ولا تبقى الخلّة على حالها كما كانت في الحياة الدنيا إلا بين الأخلاء المتقين الذين لم تمنعهم الخلّة من صرف بعضهم بعضا من الإخلال بتقوى الله عز وجل دون مجاملة بينهم في الإخلال بها .
وكثيرا ما تغلب المجاملة بين الأخلاء في الحياة الدنيا ، فلا يجرؤون على مصارحة بعضهم البعض فيما يخص الإخلال بتقوى الله عز وجل ، ذلك أن الخليل قد يرى خليله على المعصية، فلا ينهاه بل قد يشاركه فيها ، وقد يشجعه عليها . وكثيرون هم الأخلاء في الدنيا الذين تجمعهم الخلّة على المعصية ، وهي خلّة مزيفة لأنها تتحول بمجرد خروجهم من الدنيا إلى عداوة وبغضاء .
ولقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " وهذا الحديث فيه توجيه للخلّة الصحيحة في الدنيا ، والتي لا تنقلب إلى عداوة في الآخرة .
وليتصور كل واحد منا أخلاءه في الدنيا سواء كانوا أزواجا أخلاء أو أقارب أخلاء أو أصدقاء أخلاء أو جيرانا أخلاء قد أسسوا خلّتهم على غير تقوى الله عز وجل ، فيتخذ الزوجان بعضهما خليلين ، ويرى الواحد منهما الآخر على المعاصي فيقره على ذلك ، وقد يشجعه أو يشاركه في ذلك كأن يشرب الزوج الخمر في بيته ، وتكون الزوجة هي من تقدمها له على مائدة الطعام ، وهي تعتبره خليلا ، كما أنه يعتبرها خليلة ، فإذا ما مضى عمرهما على هذه الحال دون توبة نصوح ،ولقيا الله عز وجل عليها صارا عدوين في الحياة الآخرة . وعلى مثال شرب الخمر تقاس كل المعاصي التي قد يرتكبها الزوج الخليل بعلم زوجته الخليلة وإقراره عليها ، وتشجيعها له بل ومشاركته فيها أو مجرد سكوتها أو رضاها . وعلى الزوجين الخليلين يقاس كل الأخلاء من أقارب وأصدقاء وجيران .
والكيس من يتحرى خلّته ، ولا يبقي إلا على تلك التي تصونها تقوى الله عز وجل من أن تتحول إلى عداوة بعد الرحيل عن هذه الدنيا . ومن آثر خلّة خارج إطار تقوى الله عز وجل ، فإنه يغضب خالقه سبحانه ليرضي خليلا أو أخلاء يكونون له أعداء في الآخرة .
ولو قيل للأخلاء سواء كانوا أزواجا أم أقارب أم أصدقاء بينهما خلّة خالية من تقوى الله عز وجل إنكم في الحقيقة أعداء لما استوعبوا هذه الحقيقة مع أنها واردة في كتاب لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه .
وعلينا أن نقوم بمراجعة خلّتنا أو بمراجعة لائحة أخلائنا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن نرحل عن هذه الدنيا الفانية ، فإن كانت تجمعنا خلّة فيها تقوى الله عز وجل اعتبرناها خلّة حقيقية ، وإلا فهي مجرد عداوة خفية أو مموهة في الدنيا ، تصير مكشوفة في الآخرة .
وعلى كل واحد منا أن يقول لأخلائه : أخلائي الأعزاء لا أريد أن أخسر خلّتكم في الآخرة ،ولا أريد أن أخسركم، فتعالوا نصون معا خلّتنا بتقوى الله عز وجل ما بقي من عمرنا لنعيش في نعيم الجنة أخلاء كما كنا في الدنيا بل وخيرا مما كنا فيها . والخليل الحقيقي من نهرك عن المعاصي ، وأمرك بتقوى الله عز وجل كلما جمح بك الهوى نحو الضلالة، وإن أغضبك نصحه ونهره وزجره ، فاحرص على أن يكون خليلك من يفعل بك ذلك ، لا من يجاملك وأنت غارق في المعاصي والآثام . وخليلك أو صاحبك إما ساحبك معه إلى الجنة أو ساحبك معه إلى النار أعاذنا الله وإياكم جميعا منها .
وسوم: العدد 783