إشراقات من سورة الأنعام : ( الولاء والبراء )
د. فوّاز القاسم / سوريا
( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ )
لقد تقرر في الدروس السابقة أن الله وحده هو الخالق , وأن الله وحده هو المالك ، وأنه فاطر السماوات والأرض , وأنه الرازق المطعم , وأنه الضار النافع , وأنه القادر القاهر. . إلخ
والآن ، يجيء الاستنكار العنيف للاستنصار بغير الله , والعبودية لغير الله , والولاء لغير الله . لأن هذا مناقض لحقيقة الإسلام ، وأنه هو الشرك الذي لا يجتمع مع الإسلام أبداً .
إن هذه القضية . . قضية اتخاذ الله وحده ولياً . بكل معاني كلمة "الولي" .
أي اتخاذه وحده رباً ومولى معبوداً ، يدين له العبد بالعبودية ، ممثلة في الخضوع لحاكميته وحده ; ويدين له بالعبادة وحده . واتخاذه وحده ناصرا يستنصر به ، ويعتمد عليه , ويتوجه إليه في الملمات . .
ويتخذ من تشريعاته وحدها دستوراً للحياة ...
إن هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها . فإما إخلاص الولاء لله - بهذه المعاني كلها - فهو الإسلام .
وإما إشراك غيره معه في أي منها , فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام !
وفي هذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق إيقاع: ( قل : أغير الله أتخذ وليا , فاطر السماوات والأرض , وهو يطعم ولا يطعم ? قل:إني أمرت أن أكون أول من أسلم , ولا تكونن من المشركين). .
إنه منطق الفطرة القوي العميق . . لمن يكون الولاء ولمن يتمحض ? لمن إن لم يكن لفاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأنشأهما ? لمن إن لم يكن لرازق من في السماوات والأرض الذي يطعم ولا يطلب طعاما ?
قل : أغير الله أتخذ وليًا . . وهذه صفاته سبحانه . . أي منطق يسمح بأن يتخذ غير الله وليا ? إن كان يتولاه لينصره ويعينه , فالله هو فاطر السماوات والأرض , فله السلطان في السماوات والأرض . وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه , فالله هو الرازق المطعم لكل من في السماوات ومن في الأرض . ففيم الولاء لغير صاحب السلطان الرزاق ?
قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين . . فالإسلام معناه المتعين ألا أتخذ غير الله وليا .
لأن اتخاذ غير الله وليا - بأي معنى - هو الشرك بعينه . ولا يجتمع الشرك مع الإسلام في قلب واحد أبداً . .
قضية واحدة محددة , لا تقبل ليناً ولا تميعاً . .
إما إفراد الله سبحانه بالولاء ، والتوجه ، والتلقي ، والطاعة ، والخضوع ، والعبادة والاستعانة ;
والإقرار له وحده سبحانه بالحاكمية والتشريع في كل أمر من أمور الحياة ، ورفض إشراك غيره معه فيها ;
وولاء القلب والجوارح , في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك . .
إما هذا كله فهو الإسلام . .
وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك . الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام أبداً .
والذين يزعمون اليوم أنهم مسلمون ، ولكنهم يرفضون التحاكم إلى شرع الله ، ويسخرون من الجماعات والجبهات الإسلامية التي تدعو إلى دولة إسلامية مرجعيّتها القرآن ، ويكتفون من الإسلام ببعض المظاهر والشعائر فقط ...
هؤلاء ليسوا بمؤمنين ، ولا مسلمين ، وإن حملوا شهادات ميلاد مسلمة ...
ولقد استنكر القرآن على المشركين من قبل ، الذين كانت هذه صفاتهم ، والذين كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الملاينة والمداهنة ; ليجعل لهم حق التشريع وسنّ القوانين والتحكّم بالناس , مقابل أن يدخلوا معه في هذا الدين . وليترك لهم بعض خصائص الألوهية يزاولونها إبقاء على مكانتهم وكبريائهم ومصالحهم , . . وأولها تقاليد التحريم والتحليل ووضع الدساتير . . في مقابل أن يكفوا عن معارضته , وأن يجعلوه رئيسا فيهم ; ويجمعوا له من مالهم , ويزوجوه أجمل بناتهم !
وهذا هو منتهى العبث والميوعة والتلاعب التي لا تليق بجديّة وعظمة هذا الدين ...