القواعد التربوية العشر في الثواب والعقاب
لا يجوز إنكار أهمية الثواب والعقاب دافعاً نحو الحق والخير والنشاط، ورادعاً عن الباطل والخطأ والشر والكسل... وهذا إذا استُخدما بأسلوب صحيح، أما إذا أسيء استخدامهما فقد يقلُّ تأثيرهما، بل قد ينعكس!.
لقد وعد الله عباده المؤمنين الصالحين حياةً طيبةً في الدنيا، وجزاء حسناً في جنات الخلد. وذكر الله تعالى من سياسة ذي القرنين أنه }قال: أما من ظَلَمَ فسوف نعذّبه، ثم يُرَدُّ إلى ربّه فيعذّبه عذاباً نكراً. وأما مَن آمن وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى، وسنقول له من أمرنا يسراً{ سورة الكهف: 87 و88.
ولنبدأ بهذا المثال الافتراضي:
أبو سالم عنده أربعة أولاد: أكبرهم ذكرٌ عمره الآن أربعة عشر عاماً، وأصغرهم ذكرٌ عمره ثلاثة أعوام، وبينهما بنتان في السابعة والعاشرة. وعندما نجح ابنه البكر إلى الصف السادس، وكان متفوقاً بين أقرانه، كافأه أبوه فاشترى له درّاجة بخمسين ليرة. وكان لهذه المكافأة وقع طيب في نفس الطفل، شجّعه على مزيد من الدراسة والمثابرة والتفوق. لكن أبا سالم شعر بعدئذ أنه في ورطة. فإذا كانت مكافأة طفله دراجة بخمسين ليرة لدى نجاحه إلى الصف السادس، فكم يجب أن تكون مكافأة هذا الطفل نفسه عندما ينجح إلى الصف السابع؟!... وعندما ينال الشهادة الثانوية؟... ثم إن أخته قد رأت مثل هذه المكافأة وتطمع بمثلها، أو بأقل منها قليلاً حين نجحت إلى الصف الرابع، فهل يملك القدرة على دفع هذه المكافآت؟! وإذا دفع مكافآت أقل مما دفع أولاً، فهل سيكون لهذه المكافآت أثر إيجابي، أم ستفقد أثرها؟
لقد أدرك الرجل أنه كان ينبغي أن تكون المكافأة أصغر من هذا بكثير، حتى يستطيع أن يزيد عليها قليلاً كلما نجح الولد من صف إلى صف أعلى، لا سيما وأن أولاده الثلاثة الباقين يطالبون، أو سيطالبون، بمثل هذه المكافأة!!.
وفي أحد الأيام دخل الرجل بيته وإذا امرأتُه غاضبة كاسفة البال. لماذا؟. قالت: إن ابنها سالماً قد ضرب إحدى أختيه ظلماً وعدواناً! وتذرّع لذلك بسبب تافه! فما كان من أبي سالم إلا أن نادى على ابنه بغضب، وأمسكه من ناصيته، وجذبه جذبة قوية، وانهال عليه بضرب مبرِّح!! أما الولد فقد منعته الكبرياء من أن يبكي، لكنه انسحب إلى غرفته مكسور الخاطر، ويحسُّ بأنه قد ظُلم، وأن كلمة عتاب أو توبيخ من أبيه كانت كافية، وأما هذا الإذلال والإيذاء النفسي والبدني فلم يكن في محله!.
ويمكننا أن نتخيل أمثلة كثيرة لحالات المكافأة والعقوبة، وأن نتلمس الصواب والخطأ في كل حالة، لكننا سنكتفي ببعض القواعد أو الموجّهات التربوية التي ينبغي ملاحظتها لدى التعامل مع الثواب (أو المكافأة) والعقاب:
1- إذا عوّدتَ ولدك على الضرب أو العقوبة الشديدة، فستصبح شخصيته محطّمة، أو يصبح حِسّه غليظاً، بحيث لا يتأثر إلا بالعقوبات القاسية. بخلاف ما لو عوّدته على العقوبات الخفيفة اليسيرة، فإنك تحافظ على سلامة نفسه، وتجعله حساساً يتأثر بأي عقوبة مهما كانت خفيفة!.
2- أهم ما ينبغي اللجوء إليه في تقويم سلوك أبنائك (وتلاميذك) أن تقنعهم بصواب الصواب، وبخطأ الخطأ، وتبين لهم أنهم، باتّباعهم الصواب، وتجنُّب الخطأ، يحصلون على رضوان الله ودخول جنته ومرافقة نبيه r...
3- وابدأ بمكافأتهم ببسمة حانية، وكلمة طيبة، وثناء على ما فعلوه: "حسناً إنك صليتَ في المسجد. الله يرضى عنك!".
وابدأ بمعاقبتهم، عندما يخطئون أو يقصّرون، بعبوس في وجوههم، وبكلمة عتاب، وتصحيح للخطأ الذي وقعوا فيه، أو الواجب الذي قصّروا في أدائه.
4- ويمكن أن تُتْبع المكافأة بشيء مادي يناسب سن الولد: لعبة، أو حلوى، أو ثوب، أو دراجة... وهنا يجب أن تبدأ بالمكافأة اليسيرة حتى تبقي الفرصة لمكافآت أكبر، في مناسبات قادمة. وكذلك تُتْبع العقاب بحرمان للولد من بعض ما يشتهيه، كأن تمنعه من بعض الألعاب التي يرغب بها، أو تمنعه من مرافقتك في بعض الزيارات والنزهات... على أن يعرف أن عقوبته كانت بسبب مخالفته أو معصيته!.
5- يجب أن تكون المكافأة (وكذا العقوبة) متناسبة مع الأمر الذي استوجبته. فمكافأة النجاح بتفوق يجب أن تكون أكبر من مكافأة النجاح من غير تفوق!! وعقوبة الولد الذي تكلم بكلمات نابية يجب أن تكون أكبر من عقوبته إذا كسر كأساً بسبب قلة انتباهه.
6- ويجب أن يكون الفاصل الزمني بين المكافأة (أو العقوبة) وبين السبب الذي استوجبته، قصيراً قدر الإمكان، حتى يكون وقْعها مؤثِّراً، سواء في تعزيز الفعل الجيد الذي تكافئ عليه، أو في الردع عن الخطأ أو المعصية التي تعاقب عليها. تصوّر مثلاً أن ولدك أذنب ذنباً ثم جئت بعد عشرة أيام لتعاقبه عليه!!. لقد نسي الولد ذلك الذنب وأنت الآن تذكّره به!!. وكذلك إذا جاءك يحمل بشرى نجاحه في مسابقة حفظ عشرة أجزاء من القرآن الكريم، فأخّرت مكافأته أسبوعاً أو اثنين!! إن أثر المكافأة بعد هذا التأخر سيبدو باهتاً!.
7- لا تلجأ إلى العقاب بالضرب إلا بعد استنفاد الطرق السابقة: العبوس والعتاب والتأنيب والحرمان من بعض المحبوبات والتهديد بالعقوبات الشديدة. ولكن إذا اضطررت إلى الضرب أخيراً فليكن من المرة الأولى ضرباً مؤلماً، لكنه ليس ضرباً مؤذياً. أما إذا بدأت بالضرب الخفيف ثم الأشد ثم الأشد، فإنه يفقد قيمته كلياً!. وفي كل الأحوال تجنّب ضرب ولدك (أو تلميذك) إذا كنت في حالة هياج أو غضب شديد، وانتظر حتى يذهب عنك الغضب، فإنك إن ضربتَ وأنت غاضب فقد انتقل هذا الضرب من دوره التربوي إلى دور آخر يؤدي إلى تحطيم شخصية الولد، وإلى ملئها بالحقد والكراهية، ثم بالروح العدوانية، أو الروح الانطوائية.
وانظر معي إلى حكمة النبي r وهو يوجهنا: "مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع". رواه الإمامان أحمد وأبو داود.
لقد وجَّهَنا r أن نستمر في أمرهم بالصلاة وتحبيبهم بها، ثلاث سنوات كاملة، قبل أن نلجأ إلى ضربهم!!.
8- يجب أن تتحرى العدل والتوازن، في المكافأة والعقوبة، حتى لا يشعر أحد أولادك (أو تلامذتك) أنك تتحيّز ضدّه، فتعاقبه أشد من غيره، على ذنب مماثل، أو تكافئ غيره أكثر مما كافأته هو، مع أن مقتضى المكافأة متوافر لدى الاثنين بالتساوي!.
9- حاول أن تكون المكافأة مرتبطة، نوعاً، بالسبب الذي اقتضاها، حتى يشعر الولد (أو التلميذ) بلذة وسرور لدى أدائه العمل الجيد، وحتى يكون الثواب ذاتياً، فهذا أدعى إلى دوام الالتزام. فمثلاً إذا أعطيت الطفل مكافأة (حلوى، أو لعبة) لقاء صلاة أدّاها، أو سورة حفظها، أو بحث كتبه، فهذا أمر حسن، لأنه يوجِد ارتباطاً نفسياً بين العمل والمكافأة، يجعل العمل محبباً لديه. لكنْ يُخشى في هذه الحال أن ينقطع عن الصلاة أو الحفظ إذا انقطعت المكافأة، أما إذا جعلته يحب الصلاة نفسها، أو يحب التلاوة والحفظ، أو يحب القراءة والبحث، فإن الارتباط يكون أوثق وأدوم. ولنتأمل حديث النبي r: "وجُعلت قُرّة عيني في الصلاة" رواه أحمد والنسائي. فهنا نلحظ أن النبي r يحب الصلاة نفسها، ويجدها غاية المنى، لأنها تصله بخالقه. وبذلك فالصلاة ذاتها أصبحت مكافأةً له، والعلاقة بين النبي r وبين الصلاة قوية لا تنفصم.
اجعل معظم مكافآتك مرتبطة بالموقف الذي اقتضى تلك المكافأة، كأن تقدّم له مصحفاً جميلاً وبهامشه تفسير... لقاء حفظه بعض الأجزاء، وتقدّم له بعض الكتب والمجلات لقاء تحضيره بحثاً، وتقدّم له كرة أو حذاء رياضياً لقاء تفوقه في بعض الألعاب الرياضية، وتقدّم له كتاباً في البرمجيات لقاء إتقانه بعض المهارات الحاسوبية... ولا يمنع أن تترافق هذه المكافآت بمكافآت أخرى نقدية أو عينية من نوع آخر.
10- وماذا لو كان الذي يستحق المكافأة مجموعة من الأفراد تشكّل فريقاً، وليس فرداً واحداً؟.
هنا يجب التفريق بين نوعين من الفرقاء:
النوع الأول: فريق تجمع بين أفراده علاقات مستمرة، فقد اختار بعضهم بعضاً، وتوافقوا على توزيع الأدوار فيما بينهم، وحصل بينهم انسجام، ومثال ذلك فريق كرة القدم لأحد النوادي. وفي هذه الحال فإن المكافأة تكون للفريق بالكامل، ثم يحتفظ بها هذا الفريق لنفسه، أو يوزعها على أفراده وفق قواعد اتفقوا عليها.
النوع الثاني: فريق جُمِع أفراده بشكل اعتباطي أو مؤقت، كأن ينقسم المشاركون في إحدى الرحلات، أو أحد الأنشطة، إلى فريقين، ويتنافسان بمباراة رياضية أو مسابقة ثقافية. وفي هذه الحال لا يكاد يوجد معنى لمكافأة الفريق الفائز، لأن العلاقة التي تجمعهم علاقةٌ عارضة، لم تكن موجودة قبل المنافسة، ولن تستمر بعدها، ولم يكن أداء الأفراد متساوياً أو متكاملاً، بل ربما كان الذي تسبّب بالنجاح هم ثلث أعضاء الفريق مثلاً، وربما وُجد في الفريق الخاسر آخرون كانوا أفضل أداء من بعض أفراد الفريق الرابح!! ففي هذه الحال تجب ملاحظة أداء كل فرد، ومكافأة أصحاب الأداء الجيد من كل فريق، ولا بأس من مكافآت تشجيعية بسيطة لسائر الأفراد، لا سيما من كانوا في الفريق الفائز.
إن التعامل مع الأولاد والتلاميذ بالمكافأة والعقوبة يحتاج إلى كثير من الحكمة }ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذّكّر إلا أولو الألباب{.
وسوم: العدد 796