تطور المنهاج عند الإخوان المسلمين (1)
دراسات وبحوث
عاشت الأمة الإسلامية حالة من الضعف الشديد بعدما تكالب الأعداء عليها، وبعدما ضعفت الخلافة الإسلامية، فأصبح لا شغل لها إلا الصراع على الكرسي، وإجادة المؤامرات، والاستعانة بالعدو الغربي على حساب مقدرات الأوطان.
يقول برنارد لويس: «وبضياع الشرعية خسر أهل الشرق الأوسط (هويتهم الواحدة)، فبعد أن كان كل مواطن عضوًا من أعضاء إمبراطورية إسلامية كبيرة لها ألف سنة أو تزيد من التراث والتاريخ، وجد الناس أنفسهم مواطنين لسلسلة من الدول التابعة والوحدات السياسية الجديدة المفتعلة، التي تحاول الآن إيجاد جذور لها في ضمير الشعب وولائه»([1]).
في هذا الجو لم يستطع الأزهر الشريف أن يقاوم حالات الحداثة والتغريب التي جرفت الأمة، وخرجت منه حالات فردية تدعو الأمة إلى التمسك بدينها، ووضعت منهجًا تربويًا إلا أنه لم يكتب له الديمومة لانصراف أصحابه عن متابعةِ وتعهدِ الأفراد بالتربية، ومنهم الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا.
وقد أدرك حسن البنا منذ الصغر هذا الأمر، فأخذ على عاتقه أن يتربى وفق خطة ومنهج واضح، حيث وضح ذلك من خلال أسطر كتبها في كراسة التعبير وهو صغير حينما طلب منه معلمه أن يكتب أمنيته فكتب يقول: «هو أن أكون مرشدًا معلمًا، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار ومعظم العام، قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة»([2]).
كانت المناهج التي وضعها الإمام حسن البنا واقعية، فيذكر الدكتور يوسف القرضاوي عنها: «لا تضع كل اهتمامها في الناحية الروحية أو الخلقية التي يُعنى بها المتصوفة والأخلاقيون، ولا تقصر كل جهودها على الناحية الفكرية التي يهتم بها الفلاسفة والعقليون، ولا تجعل أكبر همها في التدريب والجندية كما يصبغ المصلحون الاجتماعيون، إنها في الواقع تهتم بكل هذه الجوانب، وتحرص على كل هذه الألوان من التربية، ذلك أنَّها تربية للإنسان كل الإنسان، عقله وقلبه وروحه وبدنه، خلقه وسلوكه، كما أنها تعد هذا الإنسان للحياة بسرَّائها وضرّائها، سلمها وحربها وتعده لمواجهة المجتمع بخيره وشره، حلوه ومرّه»([3]).
ويقول عبد الرحمن البنا عن طفولة الإمام الشهيد: «كنا نعود من المكتب فتتلقفنا يد الوالد الكريم، فتعدنا وتصنعنا، وتحفظنا دروس السيرة النبوية المطهرة وأصول الفقه والنحو، وكان لنا منهاج يدرسه لنا الوالد الكريم»([4]).
بداية المنهاج
كما أسلفنا في الذكر، اختلجت نفس الإمام البنا على وضع منهج واقعي لرؤيته للإصلاح وتربية المجتمع منذ صغره، فعندما دخل المدرسة الإعدادية شارك في (جمعية الأخلاق الأدبية)، وبرز فيها، وأصبح رئيسًا لمجلس إدارة هذه الجمعية التي كانت لائحتها تدعو إلى مكارم الأخلاق، وتغرم من يخطئ في حق إخوانه مبلغًا من المال يُنفق في أوجه الخير([5]).
ثم كانت (جمعية الحصافية الخيرية)، التي زاولت عملها في ميدانين مهمين، الأول: نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، والثاني: مقاومة الإرسالية الإنجيلية التبشيرية التي هبطت إلى البلد واستقرت فيها([6]).
لم يتوقف المنهج التربوي عند هذا الحد، لكن جاء الدور العملي بعد هذا الاستعداد العلمي بالخروج للوعظ في المقاهي، ويصف البنا هذا الأمر بقوله: وأعتقد أن هذا الجمهور أكثر استعدادًا لسماع العظات من أي جمهور آخر، حتى جمهور المسجد نفسه، لأن هذا شيء طريف وجديد عليه، والعبرة بحسن اختيار الموضوع فلا نتعرض لما يجرح شعورهم([7]).
نشأة الجماعة والمنهج المنظم
تحقق حلم الإمام البنا من تكوين جيل يفهم ويترجم التعاليم الإسلامية بمفهوم عملي واقعي، إلا أنه ظل يتعهده بالمناهج التربوية التي تحافظ على كينونة الفرد ونسيج الجماعة.
فما إن نشأت الجماعة وأصبح لها مركز حتى سعى لتغليب المنهج الدراسي في المدارس التي تم إنشاؤها في الإسماعيلية، مثل (معهد حراء) و(مدرسة أم المؤمنين) للبنات، حيث وضعوا لها مناهجَ وطرقًا تتناسب مع المنهج التربوي الإسلامي، فكانت تتماشى مع مواقيت الصلاة، فتبدأ في وقت مبكر وتنتهي الفترة الأولى قبل صلاة الظهر، حيث يؤدي التلاميذ جميعًا الصلاة مع الجماعة في المسجد، ويعودون بعد الغداء وقبيل العصر ليؤدوا الصلاة في جماعة أيضًا([8]).
واستمرت المدارس تعمل بالمناهج حتى تم استحداثها بمنهج (مدارس الجمعة)، حيث تضمن منهاج تلك المدارس التربية الروحية، والثقافة العامة، والتربية الدينية([9]).
كانت المناهج التعليمية تختلف عن المناهج التي وضعها الأستاذ البنا للجماعة، حيث حدد الإمام البنا خطواته الانتقالية في البلوغ بدعوته إلى كل الناس بدأ من التعريف بها، ثم التكوين والتربية حتى تتحقق في نفوس المجتمع، فيتكون الفرد المسلم، ثم الأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، وقتها يترك المرحلة الأخيرة للمجتمع أن يقوم بالتنفيذ سواء من انتخاب الحكومة المسلمة والحاكم المسلم.
كانت البداية التنظيمية لمنهج الجماعة في مجلس شورى الإخوان المنعقد في بور سعيد في 4 و5 شوال 1352هـ، الموافق 19 و20 يناير عام 1934م، حيث اقترح الأستاذ محمد أفندي شهاوي أن يعنى مكتب الإرشاد بمناهج التعليم العام والخاص بمدارس الجمعية ليلية ونهارية، وأن يفكر في افتتاح فصل لتمرين المدرسين تمرينًا خاصًا في الإجازة الصيفية بالقاهرة، وأن تؤلف رسائل يمكن الرجوع إليها في المحاضرات والدروس العامة.
كما اقتراح الأستاذ محمود عبده أن يخصص مكتبُ الإرشاد معهدًا يتربى فيه الإخوان على مبادئ الأخوة عمليًا بنفس مكتب الإرشاد، وذلك بأن ينتدبوا من دوائرهم بطريقة دورية في كل دورة عددًا صغيرًا معينًا، ويمكث هذا العدد وقتًا محددًا مناسبًا حتى يستفيد من وجوده بالمكتب ويتمرن على الإرشاد والدعوة([10]).
وفي الحلقة القادمة إن شاء الله نتعرف على تطور مناهج الإخوان في عصر الأستاذ البنا وعصر من خلفه، حتى أصبح للجماعة في مصر وفي كل وطن قسم معني بتطوير المناهج التربوية للجماعة.
المصادر:
([1]) عبد المتعال الجبري، لماذا اغتيل الإمام الشهيد، دار الأنصار، ص12.
([2]) حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1998، صـ65.
([3]) يوسف القرضاوي: التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا، مكتبة وهبة، الطبعة الثالثة، 1992م، صـ23
([4]) أنور الجندي: حسن البنا.. الداعية الإمام والمجدد الشهيد، دار القلم، 1978م، صـ330، 331.
([5]) مذكرات الدعوة والداعية: مرجع سابق، صـ15، 16.
([6]) المرجع السابق: صـ 25.
([7]) المرجع السابق: صـ 53- 55.
([8]) جمعة أمين عبد العزيز، أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين نقلا عن حسن البنا – مذكرات الدعوة والداعية صـ119.
([9]) المركز العام – قسم المراقبة العامة – نشرة إدارية عامة رقم (2) – غرة رجب 1363هـ / 22يونيو 1944م.
([10])جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، السنة الأولى، العدد 27، الخميس 23شوال 1352هـ / 8فبراير 1934م.
وسوم: العدد 797