والتقى الأحبة..!
(1)
أُصدّق الخبر .. لا أُصدّق .. ! منذ سنوات وأنا أحاول .. أودع رجلاً وأستقبل آخر ، أسألهم : ما الذي حدث..؟ ماذا فعل عز الدين ؟ موقد يلتهب في قلبي ، كلما توجهت إلى قادمٍ جديدٍ من هناك .. من دمشق ، أتقدم إليه متوجساً ، تملؤني ريبة وشكوك ، ، أسأله .. ؟ لا أسأله ؟! وقبل أن أجمع الجرأة كلها في روحي وفي قلبي لأقدم على السؤال ، ارتسمت في مخيلتي صورة عز الدين الطفل ، الذي كان صنو روحي ، ورفيق الأيام والساعات ، وكان حاله من حالي ؛ مهاجِرَيْن من فلسطين ، التقينا في درعا ، حيث كانت من نصيب أَهْلَيْنَا في توزيع قافلة القادمين من أرض الأنبياء ( لاجئين عام 1948م ) ، وأذكر أن الفرنك في أيدينا كان ثروةً ، لكننا لم نكن فريديْن في هذا الحال .. كان معظم الأطفال من عُمرينا ومن أهل البلد في حال شبيهة بحالنا ، وهذا ما كان يعزينا ، كنت وإياه رغم طفولتنا نشعر بأن الرجل حلّ فينا مبكراً ، فاللجوء ، وهجر الديار ، والخروج بلا شيء جعل من الطفل رجلاً صغيراً .. لذا فقد ترافقت وعز الدين في العمل أثناء العطلة الصيفية ، مذ كنا في الصف الرابع الابتدائي مُنطَلِقَيْن من شعور سكن قلبينا ، بأن علينا واجباً تجاه معونة أهلنا في المحنة .
وتعيدني كلمات الضيف إلى الحضور : ما بك ؟ أين سرحت ..؟ وإلى أين وصلت يا محمد ..؟
_ الذي سأسألك عنه هو الذي أخذني من بين يديك ..
_ من هو ؟
_ عز الدين .. عز الدين .. يا أخي .. ما هي أخباره ؟ ألم تقل إنك كنت هناك .. في تدمر ؟
_ عز الدين .. عززز .. آه .. مدرس الرياضيات النابه ..؟
_ نعم .. هو من أسألك عنه ..
_ رحمه الله .. رحم تلك الروح الوثابة ، التي كانت تسكن ذلك الجسد النحيل .. هل تعرفه ..؟
_ صنو الروح .. رفيق الطفولة ، والصبا والرجولة .. كنا معاً منذ الرابع الابتدائي وحتى مغادرتي دمشق عام 1978م هارباً بديني ونفسي وأهلي .. ولكن قل لي : كيف عرفت الخبر ..؟
_ كنا معاً في تدمر .. سجن تدمر .. وقد توفى ورأسه على فخذي هذه ..! نِعْمَ الرجل .. كان ثابتاً .. صابراً .. محتسباً ، ذا روح مرحة لا تعرف الهزيمة .. رغم كل ما لاقاه من تعذيب ، أوهن جسده النحيل أصلاً ، وسبب له مرضاً عضالاً ، عانى منه فترة ليست قليلة ، وتركوه يموت ، دون دواء ولا عناية ، حتى لاقى ربه في لحظة وضع فيها رأسه على فخذي ، ونظر بعينين مودعتين إلى وجهي قائلاً :
_ يا أبا محمود .. إن قدّر الله لك السلامة ، وخرجت من هذا الجحر المهين ، وقُدر لك زيارة دمشق .. فسلم لي على أهلي ، وقل لولدي أسامة : إن أباك لم يَهُنْ ، وهو يرجو أن تكون على الدرب ..
وأردف : لست نادماً على شيء فعلته أو آمنت به ، بل إن نفسي تتوق إلى عودة تعطيني وقتاً إضافياً لعلني أخدم مولاي من جديد ، ولست حاقداً على أحد .. وأدعو لجلادي بالهداية والرجوع إلى الحق .. ثم رفع سبابته اليمنى وتشهّد وأغمض عينيه إلى الأبد ..
في تلك اللحظة كان نشيجي يملأ الغرفة ، وكانت دموعي تبلل لحيتي الرمادية .. وسمعت صوت أبي محمود يخاطبني قائلاً :
_ وحِّد الله يا أخي .. إنه شهيد ..
(2)
واستفزتني كلمة " شهيد " وقلت في سري :
_ عشرات الآلاف حالهم كحالي وحال عز الدين ؛ كثير منهم شردوا ، وكثير منهم شهداء ، وكلنا نتزاحم على بوابات رضوان الله ، فهل ألتقي مع صنو روحي عز الدين هناك في الجنة ..؟
وعاد بي شريط الأيام إلى عهود الصبا الأولى ، وغزا تفكيري الشوق إلى طبق البامية الذي كان يحبه عز الدين مطبوخاً بيد والدته الكريمة ، وكان يدعوني إليه ، وكانت يدانا تطيش في الطبق بحثاً عن قطعة لحم فلا نكاد نجدها ، وعندما تخذلنا الآنية ، يضحك عز الدين ، ويقول : غدا عندما نأخذ الثانوية ، ( نتوظف ) ، ونأكل اللحم على ( كيفنا ) ، ويمتلئ المكان بضحكتينا تشاركنا بها والدته .. كان ذلك في أواخر الخمسينيات .. وكانت الحرية تملأ حواري المدن السورية والأرياف ، حيث كانت الوزارة تسقطها مظاهرة الطلاب . ويمر الشريط بحادثة في درعا ؛ ذلك عندما زار رئيس الوزراء ( خالد العظم ) المدينة .. وقابله المتظاهرون بالحجارة وحبات البندورة ، اعتقلت الشرطة على إثرها العديد من الطلاب و المتظاهرين ، ولم يلبث رئيس الوزراء بعد أن وصل دمشق من درعا ، إلا أن أبرق إلى الأمن في درعا : أن أطلقوا كل من اعتقلتموهم فهم أحرار ، وتعبيرهم وموقفهم حر .. وما استرعاني في هذا المشهد أنني وعز الدين كنا ضمن المتظاهرين من الإخوان ، وما تزال كلمات عز الدين ترن في أذني حين قال لي وكنا عائدين إلى أهلنا من مخفر شرطة المحطة :
_ هل ستدوم هذه الحرية ..؟ إنها نعمة تستدعي الشكر ، ولا يتمُّ شكرها إلا بمزيد من السعي إلى رضوان الله..
وأحسب أني قد قلت له جواباً لسؤاله : صحيح ما قلت ، ولكن ألا تسمع الأخبار التي تشير إلى تسارع السير إلى الوحدة مع مصر .. وأنت تعلم أن مصر لا حرية فيها ، ولا أظنّ أنّ الوحدة إن تحققت ستبقي على هذه الحرية ..
_ كلامك في مكانه ، ولكن الوحدة تجبُّ كل فأل سيء ..
_ صدقت .. وليكن ...
وانتقل بي الشريط مع أيامه سريعاً قافزاً إلى السنة الأخيرة لي في سورية أواخر السبعينيات من القرن الماضي مستعيداً الحوار الآتي :
_ عز الدين . .ما الذي عاد بك إلى الفعل الجماعي ، بعد أن ابتعدت منذ سنتين على إثر بعض الاختلاف حول مفاهيم العمل ..؟
_ لا يحق لي أن أبقى بعيداً ، وأنا أرى إخواني يتعرضون للسلاسل في عهد أطاح بالوحدة .. وجاء بعصر الحزب قائد الدولة والمجتمع .
_ ولكنك ابتعدت بسبب كثرة استعمال كلمات بعينها في صف الجماعة .. وأنت كنت تقول دائماً : هذا طريق أوله سلام ، وأوسطه سلام ، وآخره نجاة .. ولازِمَتُكَ المعروفة لن ينساها أحد : ( هذا الوطن لنا جميعاً ,, ومركبنا إلى ذلك التفاهم ) .
_ ولما قلت لك : أتساوم على المبادئ ..؟!
_ قلت : لا يحق لك أن تسألني مثل هذا السؤال ، فقد ابتعدت عن المرمى كثيراً .. إنك تعلم أن الوطن شراكة، وعليك وعلينا وعليهم أن نعرف جميعاً كيف نسوس هذه الكلمات ، ولا نستدعي الدماء إلى الرؤوس، أو نناقل بين طرفي المعادلة ، بحيث تكون النتيحة راعبة .. هل فهمت مقصدي ..؟
_ وقلت لك يومها : هل تريد أن تضيعني برياضياتك التي تدرسها ..؟ أقول لك ببساطة : هل يصلهم كلامك؟
احمر وجهه النحيف الأبيض ، واتسعت حدقتاه ، حتى برز بؤبؤاه البنيان ، وامتلأ البياض بالدموع ، ثم أقبل عليّ يحتضنني ، ويقبل وجنتي قائلاً :
_ أخي .. إن كلماتي التي قلتها لك آنفاً لن ترى ولادة سهلة ، وسوف يكون دونها سَفَرٌ طويل داخل رماد الرؤى ، التي يلفها صمت مريب ، واستدعاء كثير للدماء البريئة ، تهراق على مذبح بقاء الكرسي ، وليس بقاء الوطن نقياً .. وإن لي طرقي في إيصال رأيي ، والحال يحتاج إلى وقت ..!
_ أخي كلماتك راعبة ، وصوتك مشحون بكثير من الهلع ، ونظراتك توحي بأيامٍ قادمة مكسورة الخاطر .
_ يا أخي هل تساعدونني وتساعدون أنفسكم ، فنشد سواعدنا مع سواعد الجميع ، كي نزحزح صخرة الأنانية وسوء الفهم ، اللتين سدتا منافذ القبول لدى من بيدهم القرار .
_ تعني التفاهم والحوار ,, أليس كذلك ..؟
نظر عز الدين في وجهي نظرة تضج بابتسامة متبرجة ، أسفرت عن دواخل بيضاء ناصعة ، وصلت حدّ السذاجة حسب ما أعتقد .
(3)
عند هذا الحد توقف شريط الأيام، وعدت إلى أبي محمود على وقع نحنحاته الصاخبة، ودَفْعه لي في كتفي قائلاً : إلى أين ذهبت يا أخي ..؟ قلت له : ذهبت في سياحة مع عز الدين ، لقد زارني هنا في البلد الذي هاجرت إليه.. كان لا يزال متفائلاً بأفكاره البيضاء ، رغم كل ما جرى من جرائم قادتها السلطة ، لم يخالجه رجس الخوف ، ولم تهاجر هواجسه مع قوافل الموت ، الباحثة عن مخرج من سياسة الخوف ، ولما قلت له أثناء زيارته القصيرة لي : ابق معي يا أخي هنا .. نكمل رسالتنا دون خوف . قال لي : إني لم أقم بأي عملٍ أحاسب عليه ، فأنا واضح ، ويداي شفافتان لا تحملان إلا قلماً وقرطاساً ، أرصّ بهما حروف نداءٍ ، تمر إلى الآخرين من خلال دروب الوطن المشترك ..
_ قلت له : ولو ... إنها معركة يجردون فيها الوطن من معانيه ، ويضعون المواطن في الطرق الضيقة الخالية من الخيارات ، وهم أكثر ما يخافون من أمثالك الانفتاحيين .
_ قال : أنا لست وحدي في هذا التوجه ..
_ ألا ترى أن الألوف يساقون إما إلى كهوف الجلادين أو إلى القبور مع أنهم في صفك ومن مشربك .
_ على رسلك .. مكاني هناك .. ولعلني أستعيدك وآلاف من المهجر .
ودّعني بحرارة .. وقبل أن يفك يده من يدي رفعته بين ذراعي ، فقد ساعدني وزنه على ذلك ، وقبلته بين عينيه ، وشددت صدره إلى صدري ، حتى أحسّ كل منا بنبض قلب الآخر ، ثم تركته مصافحاً باكياً ، رغم أن ابتسامة عبأت تضاريس وجهه النحيف ، ألزمتني أن أقابلها بابتسامة أخرى مغسولة بالدموع ..
_ اعتن بنفسك يا أخي ..
_ توكل على الله .. فالله خير حافظاً .. وإن كانت الأخرى فقد فاز بها قبلنا الكثيرون على طريق بلال وياسر..
_ طبعاً ليس ( حافظاً ) رئيسك ، وضج المكان بضحكتين صاخبتين ، وسار إلى الحافلة التي ستقله إلى دمشق ، بينما بقيت متسمراً في مكاني حتى تحركت الحافلة ، وابتعدت ، ثم غابت عن ناظري ، اللذين لم أستطع أن أكبحهما عن اللحاق به دون جدوى ، ولم أشعر إلا وشفتي ترددان شعراً حديثاً قرأته مرة .. يقول :
(( سؤال في الصمت ، مدن بلا جواب ، أنهار بلا لغة ، قمم بلا أصداء ، طابور قبور ، يجهلونني ، طيور محزنة، أغنيات متحجرة ، ركب مذهول ، عميان لا يدرون شيئاً ، رياح قديمة ، بلا شموس على أطراف المدن ، عاجزة عن الهبوب .. ))
(4)
بعد غياب عز الدين ، وأثناء تحديقي الذاهل في الطريق الذي ذهب به ، هتف بي هاتف لا أدري مصدره .. كان يقول : صاحبك ذهب إلى الموت إلى هناك.. في ديارك جحيم .. كان عليك ألا تتركه يذهب ، ودون وعيٍ مني ، حاولت اللحاق بالحافلة التي غابت ، ولكن الموت سبقني إليه، فقد أمضيت يومين بعد سفر عز الدين يأكلني فيهما اللوم ، وفي اليوم الثالث رن جرس الهاتف في منزلي ، رفعت السماعة ..
_ مرحباً .. من .. ؟
_ صاحبك اقتادوه الليلة .. لا أستطيع أن أزيد .
_ لماذا .. لماذا ؟! كان صوتي مخنوقاً متحشرجاً ، تعرقل حروفه دمعة عزيزة .. ولكن لماذا ، لماذا .. تلاحقني من جديد ، وسقطت السماعة من يدي ، وانتابتني هلوسة في سري تقول : جميع الطرق في وطني مغلقة ، بوابات الجحيم وحدها مفتوحة ، هم بلا رؤية .. أمامهم كرسي ومنافع أتتهم مجانية .. يريدونها أبدية سائغة بلا منغصات .. دولة على طريقة دولة ( جورج أورويل ) التي جاء وصفها في روايته ( عام 1984م ) ، يكون فيها السيد أباً للجميع وعيونه في كل مكان ، وسيفه فوق الرقاب .
_ لماذا أخذوه .. ؟ كان يؤمن بالحوار ، وكانت يداه مكشوفتين ، وقلبه أبيض ناصعاً ، وفكره شفافاً ، وصديقاً للجميع .. لماذا أخذوه ..؟ لماذا أخذوه من بين الزغب الذين ظلوا ينتظرونه ، حتى أتاهم اليقين : مات ورأسه على فخذ أخيه أبي محمود ، عذبوه حتى بانت عظامه من تحت جلده .. وتقرحت جروحه .. وهاجمته الكوليرا.. وما من علاج ولا لباس ولا غطاء ولا طعام مناسب ، أما النوم فهو على جنب واحد ؛ فالمساحة المخصصة داخل الكهف لا تتيح التحرك .. كان آخر كلام تلفظ به وصية لولده بمتابعة الطريق ، إنه لم ييأس ، والشهادة كانت تتردد على شفتيه قبل أن يغمض العينين مبتعدا ًعن محبيه في الأرض ،ولكنه التقى الأحبة محمداً وصحبه..
الله..الله.. يا صديقي! لقد سمعت صوت عز الدين هذه الأيام ينطلق بحوار آخر، إنه حوار من نوع عصر حق القوة.
وسوم: العدد 808