واجب الدعوة إلى الله عز وجل بالحال والمقال على المحسوبين عليه
غالبا ما يقتصر فهم الدعوة إلى الله عز وجل عند غالبية المسلمين على شطر الدعوة بالمقال مع إغفال شطر الدعوة بالحال مع أنهما كخطين متوازيين لسكة يسير عليها قطار الحياة . وغالبا أيضا من يذهب تفكير غالبية المسلمين إلى أن الدعوة بالمقال هي من اختصاص علماء ومفكرين ودعاة وخطباء ووعاظ، ولا تعني عموم المسلمين ، وهو ما يخالف ما أمر به الله عز وجل في محكم التنزيل ، وما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعوة بالمقال على قدر مستطاع كل مسلم ومسلمة ولو بتبليغ آية من أي القرآن أو برواية حديث من الأحاديث النبوية مع توفر شرط صحة التبليغ بطبيعة الحال .
ومقابل وعي الجميع بالدعوة بالمقال التي توكل إلى فئة من الناس بعينهم ،يوجد شبه غياب للوعي بالدعوة بالحال مع أنها ملزمة لجميع من يدين بدين الإسلام ، ولا يعفى منها أحد مهما كان وضعه الاجتماعي، لأن الإسلام إنما هو سلوكات وتصرفات وأفعال تترجمه إلى واقع ملموس ومعيش . ولا يوجد إسلام إلا بوجود مسلمين يدينون به من خلال أحوالهم ، ولا تجزىء عنهم فيه الأقوال عن الأفعال ،بل لا يعتبر التدين بالأقوال دون الأفعال تدينا، بل يعتبر أمرا مذموما أو نفاقا يعكس تناقضا بين القول والفعل ، واضطرابا في التدين .
والدعوة إلى الله عز وجل، وهي دعوة إلى ما تضمنه كتابه الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية بالحال تكون حسب المركز أو الوضع الاجتماعي لمن يزاولها ،ذلك أن مراكز وأوضاع المسلمين الاجتماعية تختلف وتتكامل لتعطي في النهاية صورة كاملة عن تدين المجتمع بدين الإسلام .
ولا يوجد تفاوت في الدعوة بالحال إلا بقدر ما تحدث هذه الدعوة من تأثير داخل المجتمع المسلم . ومما يتداوله المسلمون بخصوص تأثير هذه الدعوة ما يروى عن الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى الذي كان شغله الدعوة إلى الله عز وجل بالمقال حيث كان عالما وداعية وخطيبا مفوها ،تفعل خطبه ومواعظها فعلها الكبير في نفوس سامعيه ، فحدث يوما أن قصده من كانوا رقيقا مسلوبي الحرية يلتمسون منه استعمال دعوة مقاله للتأثير في سامعيه ممن يسترقونهم لعتقهم من العبودية ، وكان هذا بمثابة امتحان عسير بالنسبة إليه ، فسكت طويلا ،ولم يستجب لمطلبهم حتى جاء يوم دعا بالمقال إلى تحرير الأرقاء ، فاستجاب له كل من كانوا يسترقونهم ، فجاءه الأرقاء يشكرونه ،ويثنون عليه ،ولكنهم عاتبوه على التأخر في الاستجابة لرغبتهم ، فأخبرهم أنه لم يكن لديه مال ، فجمعه ثم قصد السوق، فاشترى عبدا، وأعتقه ،وقد عاين الناس العتق ، فكانت تلك دعوته بالحال وقد سبقت دعوته بالمقال ، وكان تأثير الأولى أقوى من تأثير الثانية ،لأن الناس يؤمنون بالفعل أكثر من إيمانه بالقول ، ذلك أن القول قد لا يكون ممكن التحقق، بينما الفعل هو عين التحقق .
وقد يتساءل كل مسلم أو مسلمة عن طبيعة دعوته بالحال ، وكيف تكون ،وكيف تتحقق ، والجواب هو أن يترجم الواحد منهم الإسلام إلى فعل ملموس في مجال تخصصه ،وهو يمارس الدور الذي أوكله الله إليه في الحياة ، وهو دور يحدده جنسه وعمره ومهمته . ولو شئنا أن نعدد أشكال الدعوة بالحال، لطال بنا الحديث وضاق به هذا المقال، ولكننا سنذكر نماذج على سبيل الذكر لا الحصر ، وسنبدأ بالدور حسب الجنس حيث خص الله تعالى كل من المسلم والمسلمة بدور باعتبار جنسهما، وهو دور يناسب طبيعة كل واحد منهما ، فالمسلم خلق ليسعى من أجل أسرته ، والمسلمة خلقت لترعى تلك الأسرة ،وسعي الأول ،ورعاية الثانية عبارة عن أحوال، وليست مجرد أقوال ،فالساعي على أسرته، يكدح الكدح الذي شرعه الله عز وجل ، ولا يسعى على عياله بما حرم الله أو نهى عنه ، والراعية لهذا العيال ،لا ترعاه الرعاية التي نهى عنها الله عز وجل، فالساعي على عياله بالحرام لا اعتبار لسعيه، وحاله وهو يسعى سعي الحرام ،ينقض مقاله حين ينتسب إلى دين الإسلام ، والناس يكذبون ادعاءه الانتماء إلى هذا الدين وهم يتابعون سعيه الحرام على عياله ، كما أن الراعية لعيالها الرعاية الممنوعة أو المحرمة ،لا يصدق الناس قولها وهم يعاينون فعلها الناقض له .
أما الدور حسب العمر ،فشأنه كشأن دور الجنس حيث يتدخل عامل السن ليحدد واجب المقال وواجب الحال . والإنسان ذكر أو أنثى عليه واجبات حسب مراحل العمر التي يمر بها ، فدوره في مرحلة شبابه ليس هو دوره في مرحلة كهولته أو شيخوخته ، ولا يصدق الناس ما يقوله في مراحل عمره بل يصدقون ما يفعله ، وهو بأفعاله يمارس الدعوة إلى الله عز وجل من خلال ترجمة انتمائه إلى دين الإسلام ترجمة عملية إجرائية ملموسة ، فيتعلم منه الناس، ويتأثرون بفعله قبل التأثر بقوله ، فإن وجدوا تطابقا بينهما أقبلوا عليه ، وإن وجدوا تناقضا بينهما انصرفوا عنه .
وأما الدور حسب المهمة أو الوظيفة ،فشأنه أيضا كشأن دور الجنس والعمر ، ذلك أن الناس يلتمسون الأدلة على الأقوال في الأفعال ، فالتاجر، والفلاح ،والعامل ، والصانع ، والموظف ،والمدرس، والطالب ، والمسؤول ...ولوشئنا لذكرنا كل من في المجتمع حسب مهمته ووظيفته كلهم يقولون ويفعلون ، والناس إنما يرصدون الانسجام بين أقوالهم وأفعالهم، ويتأثرون بأحوالهم قبل التأثر بأفعالهم ، فكل من هؤلاء ملزم بالدعوة إلى الله عز وجل بالحال قبل الدعوة إليه بالمقال ، فمن صدق في مهمته ووظيفته كان داعية بحاله وإن لم يدع بمقاله ، وهو المطلوب منه شرعا . ورب دعوة بالحال من هؤلاء هي أبلغ من دعوة بالمقال منهم .
وإذا كانت العادة أن يرصد الناس الانسجام بين دعوة المقال ودعوة الحال عند المشتغلين بدعوة المقال من علماء ومفكرين ودعاة وخطباء ووعاظ لتصديق ما يقولون بأدلة على ذلك بما يفعلون خصوصا إذا كانوا يزاولون مهام أو وظائف ، فإن أغلبية الناس قد لا يرصدون هذا الانسجام عند غير هؤلاء من عامة الناس ، وكأنه خاص بالمشتغلين بدعوة المقال ، علما بأن كل من يعلن انتماءه إلى دين الإسلام يكون بالضرورة مدعيا هذا الانتماء بالمقال ، ويلزمه حتما أن يبرهن عليه بالحال .
ويكاد حكم فرض العين ينطبق على الدعوة بالحال إن لم نقل هو كذلك ،لأن بها يتحقق الإسلام عمليا أو إجرائيا . ومن الإساءة إلى دين الإسلام أن تكون أحوال المنتمين إليه مخالفة لتعاليمه حيث يستغل ذلك خصومه للحكم عليه بأنه دين غير واقعي ، ولا يمكن أن يتجسد في شكل أحوال، ومن ثم يدعون إلى طرحه جانبا ليكون على هامش الحياة ، ويكون غيره أولى بملابستها .
وأخيرا نرجو أن يسأل كل محسوب على الإسلام سواء كان ذكرا أم أنثى نفسه عن دعوته بالحال في وسطه الاجتماعي ، فإن انسجم حاله مع تعاليم الإسلام ،كان بحق داعية بالحال ،وإن كان غير ذلك، كان مقصرا بل ومسيئا أيضا إلى هذا الدين، مساهما في استهدافه من طرف خصومه وما أكثرهم في هذا الزمان.
وسوم: العدد 810