في صفة قيام الليل
وأحكم وأقوم وأجمل ما ورد في صلاة الليل قوله تعالى في سورة المزمل ( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلا ) ومنه ما جاء في مطلع سورة المزمل نفسها : ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ).
وفي الرواية أن قيام الليل كان مكتوبا في أول البعثة حتى فرضت الصلاة . ويشير آخر سورة المزمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم وطائفة من الذين معه من المؤمنين أقل من ثلثي الليل قليلا ، وأحيانا يقومون نصفه وأحيانا ثلثه . وأن الله سبحانه وتعالى ترك للمؤمنين تقدير ما يستطيعون من قيام حسب ما يتيسر لأحدهم ..
الحديث عن صفة قيام الليل في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ، والوقوف عند قيام رمضان خاص يتضمنه ذلك العموم .
وقبل أن نشرع في ذكر صلاة الليل يجدر التوضيح أنه ليس من غرض هذه الكلمات التقليل من شأن صلاة التراويح التي تقام في مساجد المسلمين . والتي أصبحت شعيرة من شعائر رمضان والتي نؤكد أن تكثير السواد في الاجتماع عليها هو بحد ذاته مطلب ينبغي لكل مسلم قادر أن يحرص عليه . جميلة صلاة التراويح ، حبيبة للقلوب ، ونعمت البدعة هي كما قال سيدنا عمر الذي سبق إلى جمع الناس عليها ، ولكن اجتزاء أو اختصار " قيام الليل " أو " صلاة الليل " في صورتها لا يوفي حق هذه الشعيرة الربانية التي سميت شعار الصالحين حقها .
ذلك أن سيدنا عمر عندما جمع الناس على التراويح إنما جمعهم على قارئ يؤمهم ويسهل عليهم القيام بالاجتماع . ولم ينس أن يقول وهو ينظر إليهم في اجتماعهم " نعمت البدعة هذه وإن التي عنها ينامون خير من التي يصلون " مرة أخرى لا نريد توهين أمر صلاة التراويح ، وإنما ندعو المسلمين عامة والدعاة إلى الله منهم بشكل خاص إلى أن تكون لهم خصوصية قيام بينهم وبين مولاهم ، حين يقفون بين يديه يتبتلون إليه تبتيلا كما كان سيدنا رسول الله يتبتل إلى مولاه ..
ولا يعنينا في هذا المقام حسم الجدل المزمن حول ثماني ركعات أو عشرين ركعة ، وإنما الذي يعنينا تتمة رواية أمنا عائشة رضي الله عنها " .. أحد عشر ركعة لا تسل عن طولهن وحسنهن " وحديثنا هنا ليس عن عددهن وإنما عن طولهن وحسنهن ..
عن صفة الصلاة التي يفتتح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقرة ثم بالنساء ثم بآل عمران ثم يركع نحوا من قيامه ، ثم يسجد نحوا من ركوعه ..
لنترك لخيالنا المدى يوم يقول سيدنا عبد الله بن مسعود يوم حاول أن يجاري رسول الله في صلاته تلك فاقتدى به ، فلما طال عليه أمر الصلاة وشعر أنه في ورطة حتى هم كما قال بأمر سوء !! قيل له ما هو يا صاحب رسول الله ؟ قال أن أقعد وأدعه !! أي أن يفارق رسول الله في صلاة لا طاقة له بها .. فقد قام رسول الله حتى تشققت قدماه ليكون عبدا شكورا ...
صلاة الليل مثنى .. مثنى ، ركعتين .. ركعتين ولفظ مثنى تفيد التكرار المفتوح عند العرب ، حتى إذا شعرت بالفجر قد اقترب ختمت بواحدة هي الوتر ..
وسر آخر من أسرار صلاة الليل قلما يهتم به أئمة التراويح على فضل أولي الفضل منهم وهو التبتل إلى الله ..
يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه بآية فيها ذكر الرحمة فيتوقف يرجوها ويلح في رجائها . ويمر بالآية فيها ذكر العذاب فيستعيذ الله منه ويلح في الاستعاذة منه..
تقرأ قوله تعالى وقد أحاط بك ظلم الظالمين من فوقك ومن أسفل منك وعن يمينك وعن شمالك وظلم ذوي القربى أشد مضاضة : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ..) فلا عليك أن تظل تكرر : لا ظلم اليوم حتى يوافيك الفجر أو يكاد . يطغى ملوك الأرض ويتجبرون فتقرأ : لمن الملك اليوم ؟... لمن الملك اليوم؟ .. الملك اليوم لله الواحد القهار .. تشعر بالتصحر في قلبك وروحك فيسعفك قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) فتظل تحت قبتها حتى يطلع فجرك.. تشعر بقسوة في قلبك وجمود في عينك فتقرأ : (كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) .. فتقوم بها حتى يلين منك الصخر وتخضر فيك الصحراء ..
صلاة الليل ليست عد ركعات ، ولا عد آيات ، بل هي تبتل وانقطاع وضراعة وخروج من هذه الدنيا وتجربة عروج إلى السدة التي تملك علينا العقول والقلوب ..
صلاة الليل في الخلوة ..,لا يحسن للإنسان أن يتحدث عما يجري في الخلوات . فكلام العشاق في خلواتهم يطوى ولا يحكى فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر وإنما لا بد من إشمام للتشويق أو روم لأهل التحقيق ..
تقوم بسورة أو بأية أو بما شئت ثم تركع فتظل تسبح ربك العظيم تنزهه وتمجده نحوا مما قمت ، ثم تسجد فتشعر أنك بلغت الغاية وأمسكت حلقة الباب ، أصبحت في غاية السمو والقرب عندما وضعت جبهتك على الأرض فتظل تسبح وتحمد : سجد وجهي لله الذي خلقه وشق سمعه وبصره .. وتثني على ربك بالمحامد كلها وتذكر حاجتك من أمري الدنيا والآخرة تدعو لوالدِيك بكسر الدال ، ولذريتك ولعامة المسلمين وخاصتهم وأجمع دعاء لأمة الإسلام في هذا الزمان اللهم فرج كروب المسلمين..
صلاة الليل ...
وما أدراك ما صلاة الليل ..
إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا ..
اللهم أذقنا هذه الناشئة كما أذقتها لعبادك الصالحين .. مذنبون نستغفر الله .. معذبون نسترحم الله .. منعمون نحمد الله ... اللهم أذقنا ما أذقت الذين علموا أن لا إله إلا أنت .. فاستغفروا ، نستغفر الله ، وألحقنا بطريقتهم ، واحشرنا على قدم الأحبة محمد وصحبه وصل وسلم دائما أبدا على نبيك خير الخلق والآل والصحب كلهم ..
وسوم: العدد 824