الحزب الراتب وقاية للنفوس من المثالب وعون لها على كسب المناقب
مما تعبّد به الله عز وجل عباده المؤمنين تلاوة القرآن الكريم والإنصات إذا تلي . أما أمره سبحانه بتلاوته ففي قوله تعالى : (( فاقرءوا ما تيسر من القرآن )) ، وأما أمره بسماعه ففي قوله تعالى : (( وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون )) . و ما تيسّر هو ما سهل ،ولم يكلف مشقة أو عناء أو كبير جهد.
ورفع الله عز وجل المشقة عن عباده في تلاوة كتابه الكريم والإنصات إليه وهو رسالته إليهم التي ضمنها ما فيه صلاحهم وخيرهم في عاجلهم وآجلهم، يدل على أمره لهم بدوام ملازمته يوميا والنهل من توجيهاته التي لا مندوحة لهم عنها وهم يخوضون غمار الحياة بما فيها من سعي ومعاملات.
والتلاوة والإنصات أمران متلازمان ، ذلك أن حال الإنسان المؤمن مع القرآن الكريم هي إما أن يكون تاليا له أو يكون منصتا إليه ، وهو يحصّل نفس الأجر في الحالين ، وينال بالحرف الواحد منه سواء كان ذلك تلاوة أو إنصاتا عشر حسنات ، فضلا عن كونه يستفيد منه ما يحمله على الاستقامة وتهذيب النفس .
ولقد سن سلف المغاربة رحمة الله عليهم سنة حصر ما تيسر من القرآن الكريم في حزبين يتلونهما فجرا ومغربا ، وهي سنة حسنة لهم أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة . وحال المغاربة مع هذا اليسير من كتاب الله عز وجل أن بعضهم يتلوه والبعض الآخر ينصت إلى تلاوته وهم شركاء جميعا في الرحمة التي ترجّاها الله عز وجل لهم في معاشرة كتابه وتعهده يوميا بالتلاوة والإنصات .
وينكر بعض من ضاقت آفاقهم في العلم وقصر نظرهم فيه على المغاربة تلاوتهم كتاب الله عز وجل جماعة ، وهم يعدّون ذلك ـ جهلا منهم ـ أنه بدعة ، علما بأن البدعة قد ضبطها صاحب الشرع ضبطا لا يمكن أن يزيد عنه أحدا مما يمليه عليه هواه ، وقد فصل القول فيها أهل العلم الراسخة أقدامهم فيه تفصيلا . وبالرغم من أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور وهو قوله : " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده " ، فإن من يبدّعون المغاربة بسبب قراءتهم الجماعية لكتاب الله عز وجل ، لا يبالون به ، ولا يستوقفهم ، ولا ينظرون فيه نظرة تدبر . ولقد جاءت التلاوة فيه بصيغة الجمع " يتلون " ، ولو كانت هذه الطريقة غير واردة في تلاوته لجاء التأكيد في الحديث على تلاوته تلاوة فردية . وإذا ما احتج هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤه مفردا ،قيل له إنه عليه أنزل، وكانت مهمته تبليغه ، ولم يكن بإمكان من كانوا معه تلاوته ولمّا يبلّغه لهم، أما وقد اكتمل تبيلغه ، فبإمكان الكل تلاوته فرادى وجماعات .
ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يقرأ عليه القرآن ، فتعجب الصحابي كيف يقرؤه عليه وعليه أنزل، فعبرعليه الصلاة السلام عن رغبته في سماعه منه وهو الذي أنزل عليه ، ولما بلغ قوله تعالى : (( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا )) قال له : حسبك ، وقال ابن مسعود : فالتفت إليه ،فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام .
ويستفاد من هذا الحديث الشريف أن الغاية من تلاوة القرآن الكريم والإنصات إليه هي أن يحصل ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرت به آية تعنيه ، وهي تتعلق بشهادته على أمته ، وأية شهادة هذه ، وأي موقف تكون فيه ؟ وإذا كانت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذرفتا، فليس خوفا من تقصير في شهادة سيشهدها أو رسالة بلّغها ، وإنما إشفاقا على من سيشهد عليهم. وجريا على سنته صلى الله عليه وسلم يجب على من يقرأ أو ينصت إلى كتاب الله عز وجل أن يستوقفه من آياته ما يبكيه ندما على تفريط في أمر أو وقوع في نهي أوهما معا أو خوفا من ذلك، لأن الإنسان لا يأمن على نفسه الأمارة بالسوء من تفريط في أمر أو وقوع في محظور. ومن لم يحصل له شيء مما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما هو بقارىء ولا منصت ،ولا هو عارف بالقصد من التلاوة والإنصات إلى كتاب الله عز وجل .
ومن لم يحصل له ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس تنزل على جلسائه السكينة ، وتغشاهم الرحمة ، وتحفهم الملائكة ، ويذكرهم الله عز وجل فيمن عنده ، فاته إدراك مهابة المجلس وعظمته ، وهو مجلس لا يرقى إلى مهابته وعظمته مجلس مهما كان مما يعظم في عيون الناس . فإذا عظمت في أعين الناس المؤتمرات التي يحضرها الزعماء والعظماء ، فإن مجلسا تحفه الملائكة ، وتنزل فيه سكينة ورحمة من الله عز وجل على جلسائه لهو أعظم من كل لقاء . ولو اجتمعت البشرية كلها على غير الذي يجتمع له من يتلون كتاب الله عز وجل أو ينصتون إليه لما تعلق جمعها بغبار مجلس القرآن الكريم .
ومع ما لهذا المجلس العظيم من قدر عند الله عز وجل ، فإن الناس مع شديد الحسرة والأسف ينصرفون عنه انصرافا ، ولا يحضرونه . فمنهم من ينصرف عنه غاضبا حانقا، وهم ممن يلبس عليهم الشيطان فيعتبرونه بدعة ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ومنهم من ينصرف عنه كسلا أو انشغالا عنه بدنيا يصيبها أو بلهو يلهوه أو جريا على عادة الانصراف إذا اجتمع قوم لتلاوته فجرا أو مغربا . والقلة القليلة هي التي تحضر هذا المجالس المهجورة ، والله أعلم بحجم التأثير الذي يحصل لها ، وإن كان حظها من السكينة والرحمة ومرافقة الملائكة لها وذكر الله عز وجل لها لا يخامر فيه شك.
ومع كثرة مثالبنا وقلة مناقبنا في هذا الزمان، فإننا مع شديد الأسف نعرض إعارضا عن الحزب الراتب من كتاب الله عز وجل ، وأغلبنا يظن أن هذا الحزب الراتب مسؤولية الإمام الراتب والمؤذن والقلة القليلة التي تحضره معهما ،علما بأن هذا الحزب الراتب يقي نفوسنا من المثالب ، ويعينها على كسب المناقب .
ولو قيل لنا إن مجالس الحزب الراتب سيحضرها من يعظمون في عيوننا من البشر لسعينا إليها سعيا رغبة في حضورها ، ولكننا ونحن نعلم علم اليقين أنها مجالس تحضرها الملائكة وتنزل فيها السكينة ، وتغشاها الرحمة ، ويذكر الله عز جل من فيها عند من هم أفضل منهم ، ننصرف عنها انصرافا إلى ما دونها من مجالس لا تخلو من لهو وعبث ، ويحضرها الشيطان ، ونقع فيها في المحظور ، ونغضب فيها الديّان جل جلاله .
وأكثر من ذلك أننا في الصلوات الجهرية لا نكاد نذكر ما تلي علينا من آي الذكر الحكيم ، وإن ذكرنا منه شيئا لم نحصل منه ما يصلح من أحوالنا ، ولم تدمع لنا عين ، وربما يكون ما سمعنا مما نهينا عنه ونحن نأتيه ، أو مما أمرنا به ونحن لا نأتيه .
وأخيرا نسأل رب العرش العظيم الذي قلوبنا بيده يقلبها كيف يشاء أن يحررها من قيود الأكنة الحاجبة ،وأن يزيل وقر الآذان العازلة ، فيحبب إلى نفوسنا مجالس القرآن الكريم ، وأن يكتب لنا حظنا من السكينة التي تنزل فيها ، والرحمة التي تغشاها ، والملائكة التي تحفها ، وذكره العظيم رحمة منه وفضلا ونعمة ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 854