ومضات من مجالس الشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله في ذكرى وفاته
توفي الشيخ رحمه الله في التاسع من شوال 1417هـ الموافق للسادس عشر من شباط 1997م، وكتب عنه كثير من الفضلاء وذكروا مناقبه وفضائله مما قد لا يحتاج إلى مزيد، لكنّ ذكر بعض التفصيلات واللطائف قد تكشف سمات من شخصيته ربما تخفى عند الحديث عن شمائله الكثيرة. والذين تتلمذوا على الشيخ، رحمه الله، يذكرون كثيراً من مواقفه ودقائق توجيهاته.
لقد كان للشيخ تلامذة على ثلاثة مستويات:
المستوى الأعلى، وكان يضم ثلة طيبة متميزة تحضر معه مجالس علم تخصصية، فيها دقائق العلم وتحقيق المسائل في مختلف علوم الشرع، لا سيما الفقه وأصوله، والحديث وعلومه. والانتساب إلى هذه الثلة شرفٌ لا أدّعيه لكنني أعرف بعض هؤلاء التلامذة، ويكفي أن أذكر منهم الشيخ المحدث العلامة محمد عوّامة، حفظه الله تعالى.
المستوى الثاني، وهم المئات الذين كانوا يحرصون على حضور خطب الجمعة عنده في الثانوية الشرعية (الخسروية) وجلسة التفقه في الدين بعد الصلاة، ودرس الخميس في جامع سيف الدولة، ودرس القراءة في كتاب "فتح باب العناية" مساء كل إثنين في مسجد زكي باشا.
فكل واحد من هؤلاء المئات قد حضر مئات من مجالس الشيخ هذه. وقد أكرمني الله فكنتُ من هؤلاء، ولا أذكر أنني غبت عن مجلس واحد منها منذ مطلع عام 1961م إلى أن غادر الشيخ سورية أواخر عام 1965م. هذا فضلاً عن أنه كان أستاذاً لي في مادة التربية الإسلامية في ثانوية المأمون بحلب سنتين دراسيّتين ونيّفاً.
أما المستوى الثالث فيشمل الآلاف ممن حضر أحدهم من مجالس الشيخ العشرات بل المئة والمئتين، فهم كذلك على درجات، فليس من حضر عشرين مجلساً كمن حضر المئة!.
ومن أهم ما أذكره من سجاياه التي تتبدّى في مجالسه، والتي يتحملها مثل هذا المقال:
1- أنه كان، رحمه الله، منفتحاً على مذاهب أهل السنّة جميعاً، يوقّر الأئمة المجتهدين، ويحترم علماء هذه المذاهب كافة، ويدعو إلى قراءة كتبهم، ولا يرضى الطعن والغمز بأي عالِم. وعلى الرغم من أن الشيخ كان من كبار علماء الحنفية فإنه، في واقع الأمر، لم يكن يقتصر في فتاواه على مذهب الحنفية، فقد اكتشفتُ في السنوات اللاحقة أنه كان يفتي وفق ما يرجحه من دليل، فيوافق الحنفية مرات، والشافعية أو المالكية أو الحنابلة مرات. ولقد أعدّ لنا، نحن التلامذة، قائمة كتب ينصحنا بقراءتها. وكان في هذه القائمة: "جامع العلوم والحكم" للإمام ابن رجب، و"اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية، و"إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن قيم الجوزية. وهؤلاء الأئمة الثلاثة حنابلة. وكتاب "الاعتصام" للإمام الشاطبي المالكي، و"العواصم من القواصم" لابن العربي المالكي، و"جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر المالكي.
ومما يتعلّق بانفتاحه على مذاهب أهل السنة، واحترامه لاختلاف اجتهادات الأئمة أنه حدث مرةً أن كان يوم عيد الفطر يوم جمعة، وانتشر قول بأنه في مثل هذه الحال يكتفي المسلمون بصلاة العيد، ويصلّون الظهر عوضاً عن الجمعة. فتناول الشيخ هذه المسألة وبيّن أنه قولٌ محترم وبيّن التخريج الفقهي لهذا القول، وقال: إن في المسألة سَعَة فمن أخذ بهذا القول فله ذلك، ومن صلّى الجمعة فله ذلك.
ومثل هذا تحدّث عن عادة الناس في زيارتهم المقابر عقب صلاة العيد فقال: ليس هذا من السنّة، إنما كان في طريق النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من مصلّى العيد إلى المدينة المنورة مقبرة، فكان يسلّم على الموتى في هذا الطريق كما يفعل في كل آن إذا مرّ بالمقبرة.
ويرتبط بهذا تأكيد معاني الأدب مع العلماء، وهو ما كان عليه جهابذة علماء السلف. قال ابن وهب: "ما تعلمت من أدب الإمام مالك أفضل من علمه"، وقال عبد الله بن المبارك: "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث. وقال أبو حنيفة: "الحكايات عن العلماء أحبّ إليّ من كثير من الفقه، لأنها آداب القوم وأخلاقهم".
2- وكان يحرص على سلامة اللغة، ويصحّح لنا الأخطاء الشائعة في هذا. ومن ذلك كان يضبط لنا عبارة: "على الرّحب والسّعة"، فيؤكّد ضمّ الراء من كلمة رُحب، وفتح السين من كلمة سَعة.
وفي كتابة تاريخ الحوادث يبيّن خطأ قولنا مثلاً: 5 شعبان، فيقول: لا بد أن نكتب: 5 من شعبان، وننطقها هكذا: الخامس من شعبان.
3- وكان ذا أدب ولطف وكياسة ونكتة، وكان يستشهد ببعض الأشعار كذلك في دروسه.
في مطلع الستينيات من القرن الماضي بدأت ظاهرة إطلاق اللحى على وجوه الشباب، ورافقها في كثير من الأحيان اعتراضات من الآباء والأمهات. من جملة ذلك أن الأب يقول لابنه: إنك صغير، واللحية تكون للكبار. ويسأل الشاب في "جلسة التفقه في الدين": هل على الصغير أن يطلق لحيته؟. ويتغافل الشيخ عن قصد السائل فيقول: الصغير هو من كان دون البلوغ، وهذا لا تنبت لحيته، فلا يمكن أن يكون من واجبه إطلاقها. وأما البالغ فليس بصغير، وعليه إطلاقها.
ويسأله آخر: هل على الشاب أن يطلق لحيته وإن كان أبوه لا يلتحي؟!. فيجيب الشيخ: نعم، عليه أن يلتحي وإن كان أبوه لا يلتحي أي لا يستحي!.
ومرّة كان يتعرّض لحكم التدخين، ويحذّر منه، فسأله أحد التلاميذ: إذا قدّم لي صديقي سيكارة فماذا أقول له؟. فتدخّل تلميذ آخر فقال: قل له: شكراً!. فقال الشيخ: لا، لا تقل له شكراً، فإنه لا يستحق الشكر. قل له: الحمد لله الذي عافانا.
أما الأشعار التي كان يستشهد بها فأذكر منها:
- إنّ السلامة من سلمى وجارتها ألا تمرّ على حالٍ بواديها
(أي ابتعد عن الشبهات وعما يؤدي إلى حرام).
- نَحَــــــوْنا نحــــو بيتــك يا حـــبيبي وجدنا نحو ألف من رقيب
(شاهد على استعمالات لفظ "نحو").
- اليــــــوم شــــــيءٌ وغـــــــــداً مثــــــله من دُرَر العلم التي تُلتقَطْ
يحـــصّـــــل المرء بها حكــــمـــة وإنما السيل اجتماع النقط
(احرص على كل فائدة علمية، مهما بدت صغيرة).
- وقل لمن يدّعي في العلم معرفة: علمتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ
(لا ينبغي لمن حصل شيئاً من علم أن يغترّ بعلمه).
- والعينُ تعرف من عيني محدّثها إن كان من حزبها أو من أعاديها
(نظرات العيون تُنبئ عما في النفوس).
- يعطي ويمنعُ لا بخلاً ولا كرماً لكنّها خطرات من خواطره
(سلوك الإنسان المزاجي).
- إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبيّنَ مَن بكى ممن تباكى
(إذا جدّ الجدّ انكشفتْ الحقائق).
- وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكا
(ليس كل من ادّعى شيئاً فهو صادقٌ بادعائه).
4- وكان يعلّمنا الإنصاف في الأحكام، ويضرب لنا مثلاً: إذا مرّ بك إنسان وشممتَ منه رائحة عطرة، ثم تبيّن لك أنه من أعدائك، فلا يحقّ لك أن تقول: إن رائحته خبيثة، وكذلك لو شممت من إنسان رائحة خبيثة ثم ظهر أنه من أحبابك فلا ينبغي أن تقول إن رائحته عطرة.
5- وكان يعمّق في نفوسنا أهمية الالتزام بسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا يجيب التلميذ الذي يرفع يده اليسرى، فيقول: اليد اليمنى هي التي تُجاب.
ومرّةً كان في مجلس يضمّ عدداً كبيراً من الإخوان، ودخل أخ يحمل صينية فيها أكواب الشاب، وبدأ يقدّم الضيافة من يمين المجلس. وكان الشيخ من أكبرنا سنّاً، وهو أكبرنا مقاماً، فنادى صاحبَ الضيافة: تعال وابدأ من عندي ثم من على يميني!.
6- وكان رحمه الله يحرص على تنمية الملكة الفقهية في نفوس التلامذة. فكثيراً ما يذكر الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان ومذهب الصحابي... ويذكر بعض القواعد الأصولية مثل: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وبعض القواعد الفقهية مثل: "المشقة تجلب التيسير" و"إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق".
رحم الله الشيخ عبد الفتاح فقد كان مدرسة كاملة في العلم والذوق والأدب والأخلاق.
وسوم: العدد 862