كل سعي يسعاه الإنسان المؤمن يريد به غير وجه الله عز وجل يكون سببا في سحبه على وجهه وإلقائه في نار جهنم
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الناس في الحياة الدنيا عبر تاريخ البشرية الطويل صنفان : صنف مؤمن بالله عز وجل يدين بالدين الذي ارتضاه الله عز وجل للعالمين وهو الإسلام مصداقا لقوله عز من قائل : (( إن الدين عند الله الإسلام )) وقوله أيضا : (( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) ، وصنف كافر بالله عز وجل لا يدين بدين الإسلام .
أما الصنف المؤمن الذي يدين بدين الإسلام فنوعان : نوع حسن عمله عند ربه ، ونوع حسن عمله في عينه، وهو غير حسن عند ربه . ويؤكد هذا قول الله تعالى : (( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا )) ، هذا النص القرآني يجعل يوم القيامة من لم يؤمن ، ومن آمن ولم يكسب في إيمانه خيرا في كفة واحدة ، الشيء الذي يعني أن الإيمان واكتساب الخير فيه أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر .
وما يؤكد هذا هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو قوله :
" إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه ، رجل استشهد ، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها ، قال: فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن ، فأتي به ،فعرّفه نعمه فعرفها ،قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلّمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن، قال : كذبت ، ولكنك تعلّمت العلم ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال قارىء ،فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار .ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به ، فعرّفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ، ثم ألقي في النار"
هذا الحديث النبوي الشريف يتناول موضوع استحسان الإنسان المؤمن سعيه في الحياة الدنيا وهو ليس كذلك عند الله عز وجل يوم القيامة . ولا يقتصر الأمر في هذا الحديث على سعي هذه النماذج الثلاثة : الشهيد ، والعالم ، والمنفق بل ينسحب على كل أنواع السعي التي يسعاها المؤمنون في هذه الحياة الدنيا سواء كانت مما يعظم في عيونهم كالشهادة والعلم والإنفاق ...أو مما يصغر .
وبموجب هذا الحديث سيؤتى يوم القيامة بالمؤمنين جميعا فيعرّفون النعم التي أنعم بها الله عز وجل عليهم ، فيعرفونها ثم يسألون عمّا فعلوا فيها ، فيجيبون جوابين لا ثالث لهما يكون واحد صادقا والآخر كاذبا ، فأما من صدق جوابه فقد نجا من العذاب ، وأما من كذب جوابه فإنه يسحب على وجهه ثم يلقى به في جهنم .
ومعلوم أن كل المؤمنين في هذه الدنيا تحسن أعمالهم في أعينهم إلا من رحم الله كم الأكياس وهم إما يعلمون علم اليقين أنها ليست كذلك عند الله عز وجل لما يلابسها من رياء مقصود أو لا يحترزون من الوقوع فيه باستحسانهم أعمالهم أو الرضى باستحسان غيرهم لها .
كل واحد منهم حين يتحدث إلى غيره ذاكرا سعيه وما قام به وهو يستحسنه ، يرتاح لهذا الغير وهو يثني على عمله ويشيد به ، وهذه هي الكبوة التي لا يلقى إليها بال حيث ينحرف السعي عن القصد فيراد به ثناء الخلق في العاجل لا جزاء الخالق سبحانه وتعالى في الآجل .
وحتى لا يغفل المؤمنون عن هذه الكبوة وجب أن يستحضروا جميعا الموقف والسؤال اللذين ورد ذكرهما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كانت المهمة أو المسؤولية المنوطة بهم في الحياة الدنيا، لأن الكل راع ومسؤول عن رعية استرعاه الله عليها وهي إما رعاية دائمة أو رعاية مؤقتة كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ،فالأمير الذي على الناس راع ، وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسؤول عنهم ،والمرأة راعية على بيت بعلها وولده ، وهي مسؤولة عنهم ، والعبد راع على مال سيده ،وهو مسؤول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "
فهذا الحديث كسابقه ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نماذج من المسؤولية ليس على سبيل الحصر بل على سبيل المثال ، الشيء الذي يعني أن كل المسؤوليات مهما عظمت أو كبرت أو صغرت ينسحب عليها حكم هذا الحديث الشريف ، حيث يضاف إلى الأمير والزوج والزوجة والعبد الموظف، والمستخدم، والأجير، والحرفي ،والتاجر، والفلاح ،والمربي أو المعلم ،والطبيب ،والمهندس، والجندي، والشرطي ، والعالم، والداعية، والخطيب ... وهلم جرا الكل سيعرّف النعمة أو المسؤولية المنوطة به ، ويسأل عنها، فيجيب إما صادقا يصدّق فيثاب ، وإما كاذبا يكذّب فيسحب على الوجه ويلقى في نار جهنم .
فيا من قلّدتم المسؤولية مهما كان حجمها أو نوعها ،فإنها جسيمة في كل الأحوال ،فإذا ما استفدتم من امتياز مهما كان نوعه ماديا أو معنويا، ولم ترعوا ما استرعيتم عليه كما يجب ، فستسألون عن كل الامتيازات المادي منها والمعنوي ،ولن يكون حالكم يوم تسألون إلا أحد أمرين : إما أنكم وظفتهم أو استعملتم تلك الامتيازات في أداء الواجب على الوجه المطلوب ، وإما أنها كانت سحتا سيستوجب السحب على الوجه والقذف في نار جهنم .
فيا من تسكن سكنا أو تركب مركبا في بر أو جو أو بحر وقد أعطيت ذلك لأداء مهمة أو تحصل على تعويض من أجل ذلك واجبا ،فتجعل ما وضع رهن إشارتك لخدمة الصالح العام في خدمة مصلحتك الخاصة ومصلحة أهلك وولدك ، فاعلم أنك ستكذّب عندما ستسأل عما عملت بالسكن والمركب والتعويض ، وستسحب على الوجه لا محالة ، فهلاّ تداركت أمرك قبل الرحيل ، وتحلّلت مما لا حق لك فيه ، ووقيت نفسك وأهلك النار كما قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمره ويفعلون ما يؤمرون )) ، احذر أن تجعل نفسك وأهلك وولدك وقود نار ، واستحضر هولها وغلظة وشدة ملائكة عليها .
إنك حين تركب على سبيل المثال سيارة الصالح العام التي تسير بوقود الصالح العام ،وتحمل فيها أهلك وولدك ،وهي لم تعط لك لذلك ، فاعلم أنها تسير بك نحو مصير السحب على الوجه إلى نار وقودها الناس والحجارة . وعلى مثال السيارة يقاس كل ما جعل للصالح العام لكنه استعمل في المصلحة الخاصة .
وننصح من وقع منه شيء من هذا أعاذنا الله وإياكم منه أن يبادر باستبراء ذمته منه ، وعليه أن يجدّ ما بقي له من فسحة في عمره لإيجاد طريقة يرد بها أو يعوض ما غلّ قبل أن يأتي يوم القيامة مغلولا به مسحوبا على وجهه إلى نار جهنم .
والنصح موصول لمن تحدثهم أنفسهم بإضفاء الطهر والقداسة عليها ،وهي الأمارة بالسوء ، ويدعون الولاية تزكية لها وهم لا يعلمون هل زكاها مولاها أم لم يزكها وهو القائل : (( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )) ، واحذوا أن يقال لكم أنكم أولياء الله ،فيطربكم ذلك لأنكم ستسألون عن ذلك ويقال لكم : قد قيل ثم يؤمر بكم فتسحبون على وجوهكم وتلقون في النار . إن نعمة الولاية سر استأثر بعلمه رب العزة جل جلاله ، ومن ادعاه من غير صفوة خلقه من الرسل والأنبياء الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، أو من شهد له هؤلاء بذلك ، إنما هو مدّع كاذب ، ومن شهد له بذلك دون علم ، فهو شاهد زور كالذين شهدوا لغير الشهيد بالشهادة ولغير العالم بالعلم ، و لغير المنفق بالإنفاق كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورب نشوة يطرب لها في الدنيا من يحمد ويوصف بما ليس هو أهل له تكون حسرة لا نهاية لها في الآخرة ، ولقد قال الله تعالى : (( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ))
اللهم إنا نبرأ إليك مما يحسن في أعيننا من سعي لم ترضه ولم يحسن عندك ، ونعوذ بك أن نقول بين يديك كذبا فنكذّب ، ونعوذ بك أن نخزى يوم القيامة يا واسع الرحمة . والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 868