دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 8
دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة
الحضور القيادي المتميّز (8 )
د. فوّاز القاسم / سوريا
من السمات البارزة التي تميّز سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، الحضور المتميز لشخصه فيها ، وقربه من رجالها ، والتصاقه بأحداثها .
فمنذ اللحظة التي تشرّف بها صلى الله عليه وسلم بالوحي والتكليف إلى أن التحق بالرفيق الأعلى ، كان حاضراً في ساحة الحدث ، بقلبه وروحه وعقله وكيانه .
فلقد كان صلى الله عليه وسلم ، هو القائد لدعوته ، والمخطط لها ، والمتحدث باسمها ، والمفاوض عنها .
وكان هو الأب لأبنائها ، والأخ لرجالها ونسائها .
اذا أشكل أمر على أحد من المسلمين ، لجأ إليه ، فكان يبادر ليحله له قدر استطاعته وإذا عضّت المحنةُ أحداً من المستضعفين ، استعان به ، فكان يتحسّس قضيّته ، ويتفهّمها ، ويتفاعل معها ، بكل جوارحه ، وحتى لو لم يستطع أن ينصفه ، فإنه لا يعدم أن يمنحه قدراً من الصبر والأمل والسلوان .
كان يثيب المحسن على إحسانه ، ويمنع المسيء – ولو بنية صالحة – من التمادي في إساءته .
وكان أول وأشد إخوانه تعرضاً للأذى والفتنة ، وآخرهم هجرة بعد أن فتح الله عليهم أبواب الفرج فيها.
وكان حاضراً في ساحات الجهاد والمنازلة ، إن لم يكن بجسمه وكيانه ، فبروحه وعقله ووجدانه .
هذا الحضور المتميز لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم في ساحة الحدث ، مكّنه من إدارة دفة الصراع بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والطغيان ، على أعلى ما تكون الكفاية والدراية والعبقرية .
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمسك بدعوته بكلتي يديه ، ويجذبها إليه بكامل قوته ، ويسير بها رويداً رويداً إلى غايتها ، فكلما أرادت أن تتفلّت ضبطها ، وكلما أرادت أن تتسرع بطّأها ، وكلما أرادت أن تنحرف قوّمها ..
باختصار شديد ، لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم ربّان سفينة من طراز فريد ، فلقد أوصل سفينته بمن فيها إلى بر العافية ، وشاطئ الأمان ، وسط بحر هائج ، ذي عواصف متلاطمة ، بأقل الخسائر الممكنة ، فجزاه الله عنا وعن دعوته خير ما يجزي نبياً عن أمته …
وحريٌّ بكل من ابتلي بمهمّات قياديّة في هذا العصر ، وأخصّ قادة الألوية والكتائب العسكرية الأبرار ، أن يتأسى به ، ويتخلَّق بأخلاقه ، ويسير على نهجه …
ولقد رأينا في المقالات السابقة ، الحضور المتميّز للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مرحلة الاستضعاف المكية ، وكذلك كان حاضراً في مرحلة الجهاد المدنيّة أيضاً .
فهو الذي افتتح سفر الجهاد المبارك ، فقاد بنفسه أول غزوة في سبيل الله ، وهي غزوة ودّان ، وذلك في صفر ، على رأس اثني عشر شهراً ، من مقدمه المدينة المنوّرة .
كما قاد بعد ذلك أكثر من ثمانية وعشرين غزوة ، وسيّر أكثر من ستة وخمسين سريّة ، كل ذلك في أقل من عشرة أعوام ، وكان حاضراً في كل منها ، إن لم يكن بجسمه وكيانه ، كما ذكرنا ، فبعقله وروحه ووجدانه .!
ففي معركة بدر ، كان حاضراً حضوراً راسخاً ، فهو الذي قاد المعركة بنفسه ، واستطلع العدو ، واختار مكان المعركة ، ثم عدّله بناء على مشورة أصحابه ، وهو الذي ابتكر أسلوب الصف في القتال ، فنظم صفوف جنوده بنفسه ، وحرّض المسلمين على القتال ، وشجعهم على الشهادة .
ولقد كان يدعو ويتضرّع إلى الله ، ويرفع يديه إلى السماء ويلح في الدعاء حتى سقط رداؤه عن منكبه ، قائلاً : (( اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم ، فلن تعبد في الأرض )) ، وأبو بكر رضي الله عنه خلفه ، يخفف عنه ويقول : يا نبي الله ، بعض مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك .
ولا يمكن أن نتصور حقيقة حضوره فعلاً ، حتى نسوق رواية سيد الشجعان ، وفارس الفرسان ، وأسد الإسلام : علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، الذي كان يقول عن بدر : كنا إذا حمي الوطيس ، واشتدّت الحرب ، واحمرّت الحدق ، نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه .
وفي معركة أُحد كان حاضراً أيضاً ، فهو الذي وضع خطة القتال ، وعبأ المسلمين للمعركة ، فجعل ظهرهم لجبل أحد ، ووضع الرماة في أماكنهم من الجبل ، وأعطاهم أوامره بكل صرامة قائلاً : (( انضحوا الخيل عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا ، فاثبتوا في أماكنكم ، لا نؤتين من قبلكم )) .
ولقد كان لمخالفة الرماة لهذه التعليمات ، السبب الأهم في إصابة المسلمين في هذه المعركة .
كما كان لثبات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وشجاعته ، ورسوخه ، وشموخه الدور الأكبر في تخفيف وقع المحنة فيها على أصحابه .
وتلخيص ذلك بأشد اختصار ممكن كما يلي :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤخرة المسلمين ، في نفر قليل من أصحابه ، لا يتجاوزون تسعة رجال ، بينما القسم الأعظم من الأصحاب الكرام رضوان الله عليهم ، كانوا قد اندفعوا خلف فلول المشركين يطاردونهم ، على إثر هزيمتهم في الصفحة الأولى للمعركة ، وفي هذه اللحظات استدار خالد بن الوليد ، وكان قائد فرسان المشركين ، على مؤخرة المسلمين ، بعد أن لاحظ الخلل الذي أحدثه الرماة على الجبل ، بتركهم لمواقعهم .
ولم يفاجأ المسلمون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، إلا والخيل تركبهم من الخلف ، فكان أمامه أحد خيارين : إما أن ينجو بنفسه ومن معه إلى ملجأ آمن ، ويترك جيشه المطوَّق لمصيره المحتوم .
أو يخاطر بنفسه ، فيعمل كل ما يستطيع لإنقاذ إخوانه ، وليكن بعد ذلك ما يكون . فلم يتردَّد وهو قائد أصحابه وقدوتهم في اختيار الخيار الثاني ، ونادى على أصحابه المذهولين المضطربين ، رافعاً صوته :
إليَّ ، إليَّ ، عباد الله .. هلمَّ إليَّ ، أنا رسول الله .!
ولكن المشركين القريبين ، سمعوا الصوت قبل المسلمين البعيدين ، فكان طبيعياً أن يستهدفوا الرسول القائد ، وهنا بدأت المحنة الحقيقية ، حيث اشتد ضغط المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخلصوا إليه قبل أن يرتدَّ إليه أصحابه .
روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أُحُد في سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش ( هما طلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقَّاص ) رضي الله عنهم جميعاً فلما رهقوه ، قال : من يردُّهم عنَّا ، وله الجنة ؟
فتقدَّم رجلٌ من الأنصار ، فقاتل ، حتى قُتِل .
ثم رهقوه أيضاً ، فلم يزل كذلك حتى قُتِلَ السبعة .!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه( أي القُرَشيين) : ما أنصفنا أصحابنا .
وهنا مرّت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لحظات من أحرج لحظات حياته ، حيث ضغط المشركون عليه ، واستماتوا في محاولة الوصول إليه ، إلا أن طلحة وسعد رضي الله عنهما ، أظهرا من البطولة ما يفوق كل وصف ، وكانا من أمهر رماة العرب ، فلم يتركا سبيلاً للمشركين ، لتحقيق هدفهم ، وأجهضا مفرزة المشركين بكاملها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما سعد ، فقد نثر له رسول الله صلى الله عليه وسلم كِنانته ، وقال له: إرم سعد ، فداك أبي وأمي ، ولم يجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبويه لغيره .
وأما طلحة ، فقاتل قتال الأبطال ، حتى ضُرِبَتْ يده فقُطعت بعض أصابعه ، وشُلَّت الأخرى ، وجُرِح بضعاً وثلاثين جرحاً ، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أحبَّ أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض ، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله )).
لقد حدث كل هذا في غضون لحظات ، بما يشبه الحُلُم ، لأن المشركين كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، ولكن ، ما إن سمع الأصحاب الكرام ، رضوان الله عليهم ، صوت حبيبهم وقائدهم يناديهم ، حتى انفتلوا إليه راجعين ، ولاذوا به مسرعين .
فقد روى ابن حبان في صحيحه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: قال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه : لما كان يوم أحد ، انصرف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكنت أول من فاء إليه ، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه ، فقلت : كن طلحة ، فداك أبي وأمي ، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجرَّاح ، وإذا هو يشتدُّ كأنه طير ، حتى لحقني ، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا طلحةُ بين يديه صريعاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دونكم أخاكم ، فقد أوجب )).
وقد رُمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجنته ، حتى غابت حلقتان من حلقات المغفر فيها .
قال : ثم أقبلنا على طلحة نعالجه ، فوجدنا به بضع عشرة ضربة .
وخلال هذه اللحظات الحرجة ، اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم ، مجموعة من أبطال الإسلام ، منهم : علي بن أبي طالب ، وأبو دجانة ، ومصعب بن عُمير ، وعمر بن الخطاب ، وسهل بن حنيف ، ومالك بن سِنان ، وأبو سعيد الخدري ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنيّة ، وزوجها ، وولداها ، رضوان الله عليهم جميعاً ، ومع تزايد أعداد المسلمين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ضغط المشركين يزداد عليه كذلك ، حتى سقط في الحفرة ، فجُحِشَت ركبته ، وأخذ عليٌّ بيده ، واحتضنه طلحة ، حتى استوى قائماً ، ثم رماه عتبة بن أبي وقاص ، بأربعة أحجار ، فكسر رباعيته.
وفي هذه الأثناء ، ارتقى مصعب بن عُمير رضي الله عنه ، شهيداً بين يدي رسول الله ، وكان شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصاح المشركون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد قُتِل !
وهنا خارت عزائم الرجال ، وانهارت معنويات الأبطال ، ومرَّت لحظات ، لم ير المسلمون مثلها قط ، حيث أسقط في أيديهم ، وتحطَّمت أعصابهم ، وارتبكت صفوفهم ، وكثر الهرج والمرج فيهم ، حتى راحوا يقتلون أنفسهم بأيديهم .!!!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان هناك ، وسط تلك المعمعة المهلكة ، وفي أُتون تلك النار المحرقة راسخاً رسوخ الجبال ، ثابتاً ثبات الأبطال .
وبثباته ، ورسوخه ، وشموخه ، وقدوته ، كان يسطر أعظم سفر في تاريخ القيادة ، والريادة ، والبطولة ، والقدوة ، وصنع التاريخ .
وكان يشقُّ طريقه في بطولة نادرة ، وسط سد من الأعداء المتكالبين ، ليخلص إلى جنوده المحاصرين ، ويكسر الطوق عن أحبابه المحتجزين ، إلى أن مكَّنه الله من تحقيق هدفه هذا.
قال ابن اسحاق : فكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة ، وقول الناس : قُتل رسول الله ، كعب بن مالك ، قال : عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي:
يا معشر المسلمين ، أبشروا هذا رسول الله .
فلما عرفه المسلمون تجمعوا حوله ، ونهضوا به ، ونهض بهم نحو الشعب . قال : فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، أدركه أُبيّ بن خلف ، وهو يقول : أي محمد ، لا نجوتُ إن نجوتَ .!
فقال القوم : يا رسول الله ، أيعطف عليه رجل منا ؟
فقال : دعوه ، فلما دنا ، تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الحربة من الحارث بن الصمّة ، يقول بعض القوم : فلما أخذها منه ، انتفض بها انتفاضةً ، تطايرنا عنه تطاير الشَّعراء (نوع من الذباب )عن ظهر البعير ، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة ، تدأدأ بها عن فرسه مراراً . هشام 2 ( 84 )
قال ابن اسحاق : فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ، ناول سيفه ابنته فاطمة رضي الله عنها فقال :
(( اغسلي عن هذا دمه يا بنيّة ، فو الله لقد صدقني اليوم )).
ولعمرو الله ، فهل يكون ذلك إلا عن قيادة حقيقية ، وحضور راسخ ، وقتال صادق .!؟ هشام 2 ( 100 )
ولقد كان حاضراً يوم الأحزاب أيضاً ، فابتكر بالتشاور مع أصحابه أسلوب الخندق ، ولم تكن العرب تعرفه من قبل ، وعمل فيه معهم .
قال ابن هشام : فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب ، وما أجمعوا له ، ضرب الخندق على المدينة ، وعمل فيه ترغيباً للمسلمين في الأجر ، وعمل معه المسلمون .
بل كان يتصدى فيه للمهمات الصعبة التي يعجز عنها أصحابه .
ولا يمكن لأية ريشة فنان ، مهما أؤتي من الإبداع والعبقريّة ، أن تصور الموقف يوم الأحزاب ، بأروع مما صوره القرآن العظيم ، إذ قال : (( إذ جاؤوكم من فوقكم ، ومن أسفل منكم ، وإذ زاغت الأبصارُ ، وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ ، وتظنّون بالله الظنونا )) الأحزاب (10)
ففي مثل هذا الكرب العظيم ، ووسط هذا الهول المزلزل ، الذي بلغت فيه قلوب الرجال الحناجر ، وزاغت فيه أبصار الأبطال ، ونجم النفاق ، واشرأبت أعناق المنافقين ، حتى قال قائلهم : كان محمد يعدنا بأساور كسرى ، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب إلى الغائط .!
في مثل هذه الظروف العصيبة ، برز دور الرسول القائد ، صلى الله عليه وسلم ..
فبحضوره ، وشجاعته ، ورسوخه ، وشموخه ، وتأييد الله له ، تحول الضعف إلى قوة ، والخوف إلى أمان .
ولقد كان حاضراً في الحديبية أيضاً ، وكان لحضوره ، وصبره ، وحكمته ، وبعد نظره ، وتأييد الله له ، الدور الأكبر في إبرام الصلح ، الذي شكل منعطفاً هاماً في حياة الدعوة بعد ذلك ، إلى الحد الذي سماه الله في قرآنه العظيم ، فتحاً مبيناً .
قال تعالى : (( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، ليغفرَ لك اللهُ ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتمَّ نعمته عليك ، ويهديك صراطاً مستقيماً )) الفتح (1)
وكان حاضراً يوم فتح خيبر ، يقود جنود الحق الميامين ، فيدك بهم حصون اليهود الغادرين ، حتى استسلموا لحكمه صاغرين .!
كما كان حاضراً يوم فتح مكة ، ولقد رأينا من قبل كيف كان يخطط للفتح بمنتهى السريّة والكتمان ، وكيف زحف بعشرة آلاف مقاتل من أسود الإسلام ، فلما رأت قريش نيرانهم التي ملأت الآفاق ، أُسقط في أيديهم ، وخارت عزائمهم ، واستسلموا صاغرين بدون أية مقاومة تُذكر .
كما كان حاضراً يوم حنين ، يوم فاجأ المشركون المسلمين بكمين لم يكونوا يتوقعونه ، فتفرّق الناس ، وانشمر الرجال ، حتى قال قائلهم : لن يُوقفهم إلا البحر ، وذلك كناية عن شدّة هزيمتهم .!
وهنا برز دور الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، الذي تطاول بقامته الشريفة وسط جموع المنهزمين ، وجعل ينادي بأعلى صوته ويقول :
أنا النبيُّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب
إليَّ إليَّ يا أصحاب العقبة .. إليَّ إلي يا أصحاب بيعة الرضوان ..!
وبثباته ، ورسوخه ، وشموخه ، تحول الضعف إلى قوة ، وتحولت الهزيمة إلى نصر .
كما كان حاضراً في الطائف بعد حُنَيْن ، فحاصر المعتدين ، ودكَّ حصونهم بالدبابات والمنجنيقات ، لأول مرّة في تاريخ العرب والجزيرة العربية .! هشام 2 ( 483 )
وكذلك كان حاضراً في غزوة تبوك ، وهي الغزوة الوحيدة التي أخبر الناسَ صراحة بها ، ولم يورِّ بغيرها ، وذلك نظراً لبُعْد الشُّقة ، وشدة الزمان ، وكثرة العدو .
وهكذا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً على رأس دعوته ، ووسط جنوده ، يجهز الجيوش للقتال ، ويقود الفيالق للجهاد ، ويدير المعارك ، ويبني الدولة ، ويرشّد الحياة ، ويزرع الفضائل ، ويغرس الأخلاق ، ويرسل السفراء ، ويستقبل الوفود ، ويدعو إلى الله على بصيرة ، هو ومن اتبعه .
ولقد صنع مع جنوده في ربع قرن ، ما عجز الآخرون عن صنعه في عدّة قرون .!
وأخيراً ، وليس آخراً ، فلا أفضل ، ولا أروع ، دلالة على حضوره وقدوته صلى الله عليه وسلم ، من أن يكون قد مات شهيداً .!!!
قال ابن هشام محدثاً عن حضور الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر : فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي من فتح خيبر ، أهدت له زينب بنت الحارث ، امرأة سلاّم بن مشكم ، شاةً مَصْليّة ( أي مشويّة ) ، وقد سألت : أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله .!؟ فقيل لها : الذراع . فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت ، فلما وضعتها بين يديه ، تناول الذراع فلاك منها مضغة ، فلم يُسِغْها ومعه بشر بن البراء بن معرور ، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأما بشر فأساغها ، فمات من فوره .!
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلفظها ثم قال : إنَّ هذا العظم ليخبرني أنه مسموم .! ثم دعا بها فاعترفت
قال ابن اسحاق : وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المُعَلّى، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي تُوفّي فيه ، وقد دخلت عليه أم بشر ، بنت البراء بن معرور تعوده : (( يا أم بشر ، إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر )).
قال : فإن كان المسلمون ، لَيُرَوْنَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان قد مات شهيــداً ، مع ما أكرمه الله به من النبوة . هشام2 (338)
وهل هناك أروع مثلاً ، وأعظم دلالةً ، على حضور هذا القائد العظيم وقدوته ، من أن يكون قد مات في سبيل الله شهيداً .!؟