القرآن الكريم كما قدمه الله عز وجل للعالمين
الحلقة الأولى من أحاديث رمضان :
من المعلوم أن التعرف على أي شيء مهما كانت طبيعته ، يجب أن يطلب من أعلم وأصح وأوثق جهة تحيط به علما . ولمّا كان القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل ، فإن من أراد معرفته وجب عليه أن يطلبها منه سبحانه وتعالى ، وقد أودعها في كلامه الذي يتحدث عن نفسه بنفسه . ومهما تعددت أحاديث البشر عن القرآن الكريم أوتفننت في ذلك أو توسعت وأسهبت... ، فلن تبلغ دقة حديث الله عز وجل عنه .
و من المعلوم أيضا أن الله عز وجل تعبّد المسلمين في شهر الصيام بقيام لياليه بالقرآن الكريم بغرض التعرف عليه والاطّلاع على ما فيه ، و ما فيه إنما هو ما به يسعدون في عاجلهم وآجلهم .
ومما أخبر الله عز وجل به العالمين عن القرآن الكريم أنه أنزل في ليلة مباركة من شهر رمضان . ولا بد من وقفة مع هذا الإنزال انطلاقا من قوله تعالى :
(( شهررمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ))
ففي هذه الآية الكريم أخبر الله عز وجل عن الإنزال بصيغة بناء فعل "أنزل" للمفعول ، وهو فعل أصله الثلاثي " نزل " وأصبح مزيدا بهمزة دخلت عليه ، وهي حرف من حروف المعاني التي تفتح آفاقا للأفعال التي تلحق بها . ومن تلك المعاني : التمكين كقولهم: " أظهر الله المسلمين على الكافرين" ، أو الدخول في الشيء زمانا أو مكانا كقولهم :"أصبح وأمسى أوأشأم وأعرق" ، والصيرورة كقولهم: " أورق الشجر" إذا صار له ورق ، والدلالة على السلب والإزالة كقولهم: "أعجمت الكتاب" إذا نقطته لتزول عجمته ،والتعريض كقولهم: " أبعت الدار" إذا عرضتها للبيع ، والتعدية حيث يصير الفاعل مفعولا ،كما هو الشأن في هذه الآية الكريم ،لأن الأصل هو " نزل القرآن " فصار القرآن وهو فاعل مفعولا به في قوله تعالى (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن )) ،وهذه صيغة نحوية تعرف ببناء الفعل للمفعول حيث يتوارى فيها الفاعل ،وينوب عنه المفعول به ليتم التركيز على المفعول به عوض التركيزعلى الفاعل لبيان أمر هذا الأخير كما هو الشأن في هذه الآية الكريم إذ الذي أنزل القرآن هو رب العزة جل جلاله ولكنه سبحانه وتعالى اختار صيغة البناء للمفعول ليتدبرها المتدبرون . فالمعروف عن فعل " نزل " في اللسان العربي هو الدلالة عن حركة هبوط تكون من أعلى إلى أسفل . والمعروف أن إنزال القرآن الكريم كان من اللوح المحفوظ الذي هو كتاب كتب فيه الله عز وجل مقادير الخلق قبل خلقهم مصداقا لقوله تعالى : (( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماوات والأرض إن ذلك في كتاب )) ومن ثم إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك الكريم جبريل عليه السلام.
وإذا كان فعل النزول أو الإنزال يكون من علو إلى سفل ، وقد حصل هذا الحدث للقرآن الكريم ، فإنه يدل على أصل سموه و علوه ، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام الأعلى سبحانه وتعالى . وإنزاله من علو إلى سفل لا يعني ما يفهمه البشر عادة من حركة التحوّل من أعلى إلى أدنى بل هو الرقي بالأدنى ليسمو نحو الأعلى . وإنزال القرآن الكريم إلى الأرض إنما حصل ليسمو بمن فيها من بني آدم إلى مستوى سموه هو ، الشيء الذي يجعلهم إذا ما تخلقوا به يستعيدون مكانة السمو التي كان عليها أبوهم آدم عليه السلام قبل أن يترك مقامه في الجنة ويهبط إلى الأرض .
وإن من يقرأ قول الله عز وجل : (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن )) قد يمر مرور الكرام بفعل "أنزل "المبني للمفعول دون أن يبلغ به تدبّره الوصول إلى أن الأمر يتعلق بنعمة السمو التي أنعم بها الله عز وجل على الناس ليرفعهم من الأدنى إلى الأعلى تماما كما يمد الحبل من أعلى إلى أسفل ليرفع من فيه إلى الأعلى . وليس من قبيل الصدفة أن سمي القرآن الكريم حبل الله المتين الذي أمر الله عز وجل التمسك به في قوله تعالى : (( واعتصموا بحبل الله جميعا )) وقد بيّن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق عن كثرة الرد ،من قال به صدق ،ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم ".
إنه حبل عجيب لا تنقضي عجائبه ، وهي إنما تدرك على قدر ما يكون من تدبّر فيه ، وعجيب أمره لأنه لا يبلى من كثرة ترداده، لأن ما لا تنقضي عجائبه لا ينال منه البلى . ومن عجائبه أن الصدق لا يحصل إلا لمن قال به ، والرشد لا يكون إلا بالعمل به ، والهداية إلى الصراط المستقيم لا تتأتى إلا بالاعتصام به . وعندما يظفر بهذه العجائب أحد من البشر، ينتقل من أسفل إلى أعلى وقد أنزل إليه الحبل الذي به يعلو ويسمو . وإن هذا الحبل كما عرّفه الله عز وجل للعالمين في قوله تعالى : (( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص )) . إنه تنزيل وإنزال ليكون الدين ولتكون العبادة خالصين لله تعالى . وإنه إنزال وتنزيل لرفع الإنسان إلى مستوى علو وسمو هذا الدين ومستوى علو وسمو هذه العبادة .
هذه نظرة في تعريف من تعاريف القرآن الكريم الذي عرّفه رب العزة جل جلاله للعالمين . وإلى نظرة أخرى إن شاء الله تعالى .
وسوم: العدد 874