التربية عند الإمام البنا الأسلوب والأثر 6
(٦ /٦)
السعي الدائب والإصرار والإقدام؛ بوثوق النفس وثبات الخُطى
وتبدَى ذلك –أثر تربيته وتزكيته لنفسه – في أنه كان يُقبل على أي عمل أيًا كان.. واثق النفس ثابت الخطى.
وأيضاً كما يقولون عنه: "أنه كان واقعياً في طرحه.. رغم قدرته على الخيال".
لكنه كان يرى أن هيبة الواقع إنما هو وهم مرفوض. لأنه إنما هو هيبة في القلوب ورِضىً بأن يظلّ السادةُ سادة، والأجراء أجراء، وهو ما لم يقبل به المسلمون وإنه صدى لما حل في نفوسنا من هيبة ذلك الواقع ومن تلك الاستكانة، وكان يقول:
"... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ ...". وكان دائما يُعلن أنه لن يُضيع فرصته أمام وهم مرفوض ما دام قد أعدّ عُدّته وأخذ أُهبته.
وكثيرا ما كان يكرر: "إن المجاهد شخص قد أعد ُعدّته وأخذ أهبته.. وملك عليه التفكير فيما هو في جوانب نفسه ونواحي قلبه.. فهو دائم الفكرة.. عظيم الاهتمام.. على قدم الاستعداد أبدا".
تبدّى ذلك أيضاً وتجلى.. فيما يرويه المستشار "محمود نامق" وكان مستشاراً في جامعة الدول العربية.. وهو ليس من الإخوان، ولكن الرجل يذكر هذا الحدث ويقرُّ فيه بإقدام الإمام البنا وثبات نفسه وخطواته أمام ذلك الواقع المتربص، فيقول:
أرسلت أمريكا -الولايات المتحدة الأمريكية - قبل قيام المشروع الصهيو-أمريكي "إسرائيل" سنة 1947 م مندوب ترومان من أجل تهدئة الخواطر العربية.. وكانت جامعة الدول العربية هي التي تتعهد ذلك.. فأقامت احتفالاً كبيراً يحضره جميع سفراء الدول الأجنبية والعربية والمندوب السامي البريطاني وسفراء فرنسا وأمريكا كذلك.. يأتي مندوب ترومان هذا من أجل تهدئة الخواطر العربية قبل قيام ذلك المشروع الصهيو-أمريكي، وكما يروي المستشار في جامعة الدول العربية "محمود بك نامق" في مذكراته، حيث يقول: "وعزّ عليّ أن أكون أداة في ذلك التشويه والإضرار والتغرير بأمتي وشعبي.. فظللت أفكر.. ماذا أفعل ؟!
وقد كان الحضور بدعوات رسمية وكان –المستشار- هو المسؤول عن هذه توجيه هذه الدعوات. يقول: "فظللت أفكر وأنا ساهمٌ واجمٌ. ماذا أفعل حتى أعلن غضبتنا العارمة على العالم أجمع ليعرفوا موقفنا من ذلك المشروع الصهيو-أمريكي؟!، فجاء في فكري أن لو أحضرت مائة (100) شاب وسط الحضور.. فإذا بدأ مندوب ترومان في إلقاء كلمته.. يقوم أحدهم يهتف يسقط ترومان.. تسقط أمريكا.. تسقط إسرائيل، وبذلك وكالات الأنباء الموجودة سوف تطير ذلك النبأ حتى يعرف العالم كله موقفنا من ذلك المشروع الصهيو-أمريكي.
ولكن من أين آتي بمائة (100 ) شاب، وباقي على الاجتماع أقل من أربع (4) ساعات؟! حيث كانت الساعة الواحدة بعد الظهر.. والاجتماع في تمام الساعة الخامسة عصراً.
يقول: "وبينما أنا على هذه الحالة، جاء صديق لي -مستشار آخر في جامعة الدول العربية-وسألني عن السبب لما أنا فيه".. فشرحت له ما أنويه.. فقال لي: "لم لا تتصل بحسن البنا؟". فقلت له: "وما دخل حسن البنا في ذلك ؟!". وكان لا يعرفه فكان يظنه شيخ طريقة أو صاحب غرض أو منفعة، فقال لي: "إنني أعلم أنه أمل الأمة في نضالها ضد المستعمر.. وأن الرجل قد أعدّ عُدّته وأخذ أُهبته".
فقلت له: "كيف اتصل به ؟"، فأعطاني تليفونه.. واتصلت به -وهو لا يعرفني- وعرفته بنفسي وقلت له أريد أن اقابلك في أمر هام. فقال لي البنا: "بعد ساعة سوف أكون في مكتبي ومستعد للقائك". يقول فلما دخلت له.. رحب بي.. وكانت هذه طبيعته أنه يقبل على محدثه ويصغي إليه باهتمام بالغ مهما كان، فبدأ يستمع لما أقول فلما انتهيت، قال لي بكلمات وجيزة.. -"متى يبدأ الاجتماع؟"، قلت له: "في الخامسة عصراً"، قال لي: "ومتى تكون البطاقات جاهزة؟"، قلت له: "في الرابعة"، فقال: "في الرابعة والنصف إن شاء الله سوف يملأ القاعة مائة شاب من أجل تنفيذ المطلوب".
فذهبت للقاعة فوجدتها فعلاً قد امتلأت بمائة شاب.. حضروا بملابسهم الرسمية من أجل تنفيذ المطلوب.. وجلسوا في أرجاء القاعة، وما إن بدأ مندوب ترومان يلقي كلمته.. حتى بدأ الشباب في الهتاف: "يسقط ترومان.. تسقط أمريكا.. تسقط إسرائيل". وبدأ الهتاف تضج ُّ به القاعة حتى أُسقِط في أيدي الحضور.. وانطلقوا خارج القاعة كل سفراء الدول الأجنبية
والمندوب السامي ومندوب ترومان وغيرهم.. وهؤلاء الشباب وراءهم. وكانت من سخريات اللحظة أن بدا أن هؤلاء السفراء هم الذين يقودون هذه المظاهرة.. وطيّرت وكالات الأنباء وأخبرت عن غضبنا العارم إزاء ذلك المشروع الصهيو-أمريكي. وكما يقول المستشار "محمود نامق" مُعلقاً: "ولولا أن هذا الرجل كان قد أعد عُدّته.. وأخذ أُهْبته.. لما تحقق ذلك المستحيل". كان كثيرا ما يكرر الإمام البنا -رحمه الله-: "سأمضي إلى تمام الشوط.. يدفعني الأمل.. ويحدوني الرجاء.. وسأعمل عمل المجد الآمل.. والله المستعان".
وآخر دعوانا.. أن الحمد لله رب العالمين وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 882