في حمية الجاهلية .. والسكينة .. وكلمة التقوى
( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ ؛ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) .. الفتح / 26 /
والآية نزلت في يوم الحديبية ، يوم أخذت قريش الحمية الجاهلية فأبت للمسلمين أن يعتمروا ، وصدت عن المسجد الحرام ، ثم أبى سهيل بن عمرو أن يكتب في الصحيفة " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ثم أبى أن يقر لرسول الله بوصف الرسالة ، وما خلفه كل ذلك في قلوب المؤمنين من أحزان ، وفي موقفهم من اضطراب ؛ حتى يقفز سيدنا عمر من صحابي لآخر يسأله : ألسنا ؟! ...أليسوا ..؟! ،فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!!! كانت الحمية الجاهلية في قلوب المشركين ألا يدخل رسول الله عليهم مكة عنوة ، وهو إنما جاء معتمرا ، معظما للبيت الذي يعظمون ، يسوق الهدي بين يديه ..كانت الحمية الجاهلية تضطرب في قلوب المشركين ، وبالمقابل فقد عمت بعض البلبلة في صفوف المسلمين نتيجة المعاهدة التي ظنها البعض مجحفة كما قلنا ، وجعلت رجلا في مقام عمر يسأل : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟؟ أي بتوقيعنا هذا الصلح !!!
ومقابل الحمية الجاهلية كما مقابل حالة البلبلة التي انتشرت في الصف الإسلامي يبشرنا الله بنزول السكينة على المؤمنين ، وإلزامهم كلمة التقوى ، وجعلهم أحق بها وأهلها ..
في منهج المفسرين الأوائل ..
ومع أن الفقهاء أصّلوا في أصولهم الفقهية أن لهم من النص " عموم اللفظ لا خصوص السبب " إلا أن المفسرين ظلوا متمسكين بتقليص المعاني على قدر الوقائع والأسباب . وإذا كانت آية مثل هذه الآية العظيمة ، وكل آيات القرآن عظيمة ، يمكن أن تستشرف آفاقا عظيمة في كل العصور عن الحمية الجاهلية ...والسكينة .. وكلمة التقوى .. إلا أننا عندما نعود إلى كتب المفسرين الأوائل فقلما نجد من أطلق للكلمات آفاقها لتبقى علاجا لواقع إنساني متغير ومفتوح . وتبقى حمية الجاهلية في نصوص التفسير مقصورة على موقف قريش أو موقف سهيل بن عمر ، وتبقى السكينة مخيمة فوق رؤوس المعسكرِين في الحديبية ، وتبقى "كلمة التقوى " متجسدة في كلمة التوحيد مقابل باطل الشرك والمشركين. وهذه الطريقة في الفهم والتفسير تتنافى مع قولنا : نور وهدى لكل زمان ومكان . وإنه يمكننا انطلاقا من فهمنا للدائرة الأولى أن نعيد تنزيل المعاني على تجسداتها في الزمان والمكان ..
وحمية الجاهلية .. ليست فقط في قلوب مشركي قريش وسهيل بن عمرو يوم الحديبية ..
وحذر رسول الله الأنصار منها ، وهو بين ظهرانيهم ، يوم غنى لهم سويلم اليهودي بغناء يوم بعاث ، حتى تواعدوا الحرة . العصبية الجاهلية أن يقول بعضهم : كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر . الحمية الجاهلية أن لا يزال بعضنا يقصر الدين والشرف والصدق على مكان أو بلدة أو عرق أو جنس . أن نصطف وراءه ونحن نعلم أنه يسيء . ولو ضربت للناس الأمثال على بث مثل هذا لخفت على بلعومي ما خاف أبو هريرة رضي الله عنه من قبل ..
فأنزل الله سكينته ...
والسكينة كما يقول المفسرون : هي الطمأنينة والوقار . هي الطمأنينة والوقار مقابل البلبلة والاضطراب . والسكينة حالة تتغشى القلوب فلا يؤثر فيها خوف ولا هم ولا حزن ولا قلق . تتغشى القلوب والنفوس فتسكن إلى رضا وإلى بشرى وإلى أمل بحسن وعد الله . السكينة الفردية والجماعية ، هي التي تعصم وهي التي تؤمّل ، وهي التي تشجع وهي التي تملأ القلوب بالرضا والنور والأمل. ولقد نزلت كلمة السكينة في القرآن الكريم في ستة مواضع . وقد عد ابن القيم رحمه الله تعالى " السكينة " منزلة من منازل السالكين . وأحببت أن أنقل لكم عنه كلامه البديع عسانا نجد في آيات السكينة الست غنى عما يعتصر قلوبنا من ألم وما يتغشى نفوسنا من اضطراب :
قال ابن القيم رحمه الله في شرح منزلة «السكينة» من منازل السالكين إلى الله:
( هذه المنزلة من منازل المواهب، لا من منازل المكاسب، وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في ستة مواضع:
الأول: قوله تعالى: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) البقرة/248.
الثاني: قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِين ) التوبة/26.
الثالث: قوله تعالى: ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) التوبة/40.
الرابع: قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ) الفتح/4.
الخامس: قوله تعالى: ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) الفتح/18.
السادس: قوله تعالى: ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) الفتح/26
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة.
وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها، من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة، قال: فلما اشتد عليّ الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرأوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبَة.
وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته.
وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين، والثبات، ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب كيوم الهجرة، إذ هو وصاحبه في الغار، والعدو فوق رؤوسهم، لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما، وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد، وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم، ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس، وحسبك بضعف عمر رضي الله عنه عن حملها، وهو عمر، حتى ثبته الله بالصدِّيق رضي الله عنه.)
وحسبي وحسبكم فيما قرأنا ، أن علمنا أن السكينة منزلة وهبية لا كسبية ليس لنا في اجتلابها إلا صدق الالتجاء إلى الله أن ينزلها على عقولنا فلا تضرنا فتنة ، وعلى قلوبنا فلا يتغشاها هم ولا حزن ..
ونردد في نشيد ابن الأكوع الذي ردده نبينا :
وأنزلن سكينة علينا .. إن حاولوا فتنة أبينا ..
ثم الحديث عن كلمة التقوى :
وذهب جمهور المفسرين إلى أن كلمة التقوى هي كلمة " لا إله إلا الله " وما أجملها من كلمة . وقال آخرون كلمة التقوى هي " الإخلاص " . والإخلاص حال وليس كلاما . ومع ذلك فهو قول مذكور ذكرناه ..
وكلمة التقوى في فهم أكثر عموما : هي كلمة الحق تقال في موضعها وتلتزم تقال في كل ميادين الحياة وتلتزم . وقوله تعالى ( وَأَلْزَمَهُمْ ) هنا تتفرع على معنيين ، الأول أنه رزقهم الانحياز إلى هذه الكلمة قولا وموقفا ظاهرا واضحا ، فلا يقولون إلا حقا مبنيا على تقوى . والمعنى المكمل أنه ألزمهم قولها والعمل بها ، وتحمل أعبائها حين يقتضي الالتزام بها التضحية بالشهوة والرغبة والمصلحة والجاه والسمعة والمال والمكانة والحياة صعودا إلى مقام الشهادة ..
وعلى هذا التفسير نقول : إن اشتغال بكلام الحق في غير موضعه ولا أولويته ليس من كلام التقوى .
موضوعات كثيرة تطرق وتثار ، حوارات كثيرة تنثر ، جدالات كثيرة تشتد وتحتد وترتفع فيها أصوات ، فرعيات كثيرة تأكل الأوقات ، وتستأثر بالاهتمامات ودماء المسلمين تسفك ، وأعراضهم تنتهك ، وأجسادهم ، لحمهم الحي ، يصهر ، وكيد عدوهم يحيط بعقيدتهم ووجودهم ويومهم وغدهم ، كل أولئك يقع ثم يجلس بعضهم فكهين في أحاديث هي في السياق الذي تعالج فيه من السفساف أو السفاسف التي يكرهها الله جل الله.
( كَلِمَةَ التَّقْوَى ) هي الكلمة المعبرة عن معالي الأمور في كل موطن "إن الله يحب معالي الأمور " ومعالي الأمور متغيرة وليست ثابتة . حتى قيمة كلمة الحق تتغير قيمة ووزنا ، فهي عند سلطان جائر تلحق صاحبها بسيد الشهداء ، وتبقى جميلة لو قيلت في خلوة ، أو مجتمع صغير محدود.
اللهم أنزل سكينتك على عقولنا وعلى قلوبنا وعلى نفوسنا وألزمنا كلمة التقوى واجعلنا من الأحق بها ومن أهلها ..
وسوم: العدد 885