دور استحضار المعية الإلهية في حضور الوازع الديني
الناس منذ اقتضت إرادة الله عز وجل ابتلاءهم في الحياة الدنيا لينالوا جزاءهم في الآخرة على سعيهم صنفان : صنف يحكمه وازع ديني ، وصنف آخر لا يحكمه هذا الوازع . ويختلف سعي الناس في هذه الحياة الدنيا حسب حضور وغياب الوازع الدني . والوازع لغة هو الزاجر أو المانع الداخلي الذي يمنع من سلوك معين . ووصف الوازع بالديني يعني أنه ما يمنع في دين الله عز وجل من إتيان ما نهى عنه ، وما حرّم من قول أو فعل .
ولمّا كان الوازع مانعا داخليا ، فإنه عبارة عن قناعة ذاتية أوشخصية تنشأ لدى الإنسان المؤمن بعد عون من الله عز وجل وهداية منه لقوله تعالى : (( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين )) ، وقوله أيضا : (( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء )) . وبهذه الهداية الإلهية ينشأ لدى الإنسان المؤمن الوازع الديني الذي يمنعه من كل فعل أو قول ينقض هدايته واستقامته على صراط الله المستقيم .
ومعلوم أن وراء نشأة هذا الوازع هو معية الله عز وجل . والمعية اسم من " مع " وهي ظرف لازم للظرفية مع احتمال ورودها خبرا، وصفة ،وصلة، وحالا كما يقول أهل اللغة . وقد تعدد ورود معية الله عز وجل في محكم التنزيل ، وفصّل أهل العلم القول فيها ، وقسّموها إلى معية إلهية عامة، وأخرى خاصة ، وثالثة أخص.
أما العامة، فهي معيته سبحانه وتعالى مع كل الخلق ، وهي تعني الإحاطة والشمول والقيومية كما هو الشأن في قوله تعالى : (( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات والأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبّئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم )) وقوله أيضا : (( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا )). وقد تكرر كثيرا ذكر هذا النوع من المعية في كتاب الله عز وجل .
أما معيته الخاصة سبحانه وتعالى، والتي تعني التأييد والمعونة والنصر، فهي خاصة بعباده المؤمنين كما جاء في قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )) وقوله أيضا : (( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )) ، وقد تكرر أيضا ذكرها في القرآن الكريم .
وورد ذكرها أيضا في حديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ،كما جاء ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام رواية عن رب العزة جل جلاله : " أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني " ، وقوله عليه الصلاة والسلام أيضا : " احفظ الله تجده تجاهك " ، وحفظه تعالى هو استحضار معيته ، وتجاهه تعنى قبالته وتلقاءه، ولها دلالة المعية .
وأما المعية الأخص فهي خاصة بصفوة خلقه من الرسل والأنبياء الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وهي معية نصرة كما جاء في قوله تعالى في سياق الحديث عن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام وقد واجها فرعون : (( إنني معكما أسمع وأرى )) ، وقوله تعالى في سياق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار ومع الصديق رضي الله عنه يوم الهجرة : (( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )) .
ودون الخوض في دلالة المعية الإلهية ،أهي على وجه الحقيقة أم على وجه المجاز؟ كما جاء في أقوال بعض أهل العلم ، نشير إلى أن المعية العامة تدل على قيّومية الله سبحانه تعالى دون أن يذهب فكر الإنسان إلى معيته بذاته سبحانه وتعالى ،لأنه ليس كمثله شيء، ولا تدركه الأبصار، وهو بكل شيء محيط .
وهذه المعية الإلهية العامة من شأنها أن تنبه الخلق جميعا إلى أنهم مراقبون ، وهو ما يتعين عليه استحضارها على الدوام في كل الأحوال . ولا شك أن من خصهم الله بنعمة هدايته ، وهي أعظم النعم على الإطلاق تكون بداية هدايتهم استشعار واستحضار معيته ، وهو ما ينشأ به عندهم الوازع الديني المانع لانحرافهم عن صراطه المستقيم . وبعد هذه المعية العامة ، وبعد استقامتهم تحصل لهم المعية الخاصة التي هي بشارة لهم ، وتثبيت لهم على الصراط المستقيم دون أن تغيب عنهم المعية العامة لقول الله تعالى : (( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون )) ،والمتقون من عباد الله هم الذين يخافونه ، وخوفهم ناتج عن الوازع الديني الناشىء بدوره عن استحضار معية الله عز وجل ومراقبته، وهو ما يجعلهم يأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه . ومع تقواه فإنهم معرضون إلى طائف الشيطان لعنه الله لصدهم عن الطاعة بشكل أو بآخر مما يعتري الطبيعة البشرية الخطّاءة، لكن الله عز وجل يخصهم بمعيته الخاصة، فيصرف عنهم طائف الشيطان فإذا هم مبصرون، يبصرون هدي الله عز وجل وطاعته ، ويكون ذلك عن وازع ديني بعد فضل الله سبحانه وتعالى عليهم .
وأما عموم الناس من غير أهل المعية الإلهية الخاصة ، فسعيهم في الحياة الدنيا سواء كان أفعالا أم أقوالا ،فإنه محكوم بالوازع الديني حضورا وغيابا . ومتى حضر هذا الوازع ، فإن الله تعالى يبصّرهم بطائف الشيطان فإذا هم مبصرون ، ومتى غاب هذا الوازع ، فإنهم يقعون في شراكه لعنه الله، فيضلهم عن صراط الله المستقيم . وما يزال الإنسان يستحضر معية ربه العامة حتى يوفقه سبحانه وتعالى إلى ولوج دائرة معيته الخاصة، فيسدد بها سعيه قولا وفعلا .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو غفلة كثير من الناس عن دور استحضار معية الله عز وجل التي تكون سببا في اكتسابهم الوازع الديني الذي يحبسهم ويمنعهم ويكفهم عن إتيان ما حرّم عليهم ربهم . وكل معصية يقع فيها الإنسان إنما تحصل لحظة غياب هذا الوازع ، وغيابه إنما يترتب عن الغفلة عن معية الله عز وجل .
وعلى الإنسان المؤمن أن يراجع نفسه متى ما وقع في المحرم والممنوع شرعا ، وأول ما يجدر به في هذه المراجعة تجديد استحضار المعية الإلهية لتقوية وزارعه الديني الكابح له ليقلع عن نكوب صراط الله المستقيم ، ومن نعم الله عز وجل على الإنسان نعمة العفو والمغفرة ما لم يغرغر ، وهي نعمة تبعث الأمل في نفسه ، وتجعل رجاءه في ربه سبحانه وتعالى كبيرا وغير منقطع .
اللهم لك الحمد على نعمك ظاهرة وباطنة ،ومنها نعمة استحضار معيتك فضلا منك ، ولك الحمد على نعمة الوازع الديني وهو أيضا منك وحدك والذي لولا لطفك لما ظفر به أحد من خلقك . اللهم لا تجعل نغفل طرفة عين عن استحضار معيتك ، واكتب لنا معيتك الخاصة التي جعلتها لعبادك المتقين المحسنين . اللهم إنا نعوذ بك من طائف الشيطان الرجيم ، وإذا مسنا شيء منه، فاجعلنا ممن يتذكرون فإذا هم مبصرون .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تنويه : المرجو اعتماد هذا النص الذي تضمن تصحيحا لأخطاء مطبعية وقعت سهوا في آية قرآنية عوض النص السابق، وجزاكم الله خيرا .
وسوم: العدد 886