المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " وفي رواية " من هجر السوء"
من المعلوم أن الأمة الإسلامية قد اتخذت من حدث هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأريخا خاصا بها ليظل ارتباطها بهذا الحدث قائما دائما لا ينقطع . وإذا كانت هجرته صلى الله عليه وسلم قد تجسدت عمليا في الخروج يومئذ من دار كفر وشرك بمكة المكرمة إلى دار إسلام بالمدينة المنورة ، فإن الاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم في ذلك وقد جعله الله عز وجل إسوة وقدوة لأمته ،يكون عبر هجرة إما عملية كهجرته إذا ما اقتضت الضرورة ذلك ، أو يكون عبر هجرة معنوية كما أوصى بذلك عليه الصلاة والسلام في قوله : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " وفي رواية : " من هجر السوء " .
ومعلوم أن الإنسان المؤمن حيثما وجد ومتى وجد ،يطارده السوء وما نهى الله عز وجل عنه ، وهو مطالب بأن يهجر ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هجر مكة المكرمة ، وهي يومئذ دار كفر وشرك وأي سوء أكبر منهما ؟ ويتعين على كل مؤمن أن يمارس الهجرة في كل موطن أو موقف يجد نفسه فيه وجها لوجه مع السوء بكل أشكاله لا يحقر منه شيئا ، ولا يستخف بشيء منه سواء كان قولا أو كان فعلا .
إن الاحتفال بحلول سنة هجرية ، والاحتفال عبارة عن اهتمام ،لا يجب أن ينحصر في تبادل التهنئة والمباركة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو مباشرة بل هو تجديد العهد مع الله عز وجل للسير على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في هجر كل أنواع السوء . وكلمة سوء تختصر مجموعة من الأمور المستقبحة العيب ، والعار ، و المثلبة، و المضرة ، والمعصية ، والإثم ، والخطيئة ، والذنب ، والنقيصة ، والشر ، والفساد ، والظلم ، والطغيان... وهلم جرا .
وكل من حل به عام هجري جديد ،وهو على سوئه مهما كان نوعه غير مقلع عنه ،ولا تائب منه لا معنى لاحتفاله بحلوله بل إنه حين يحتفل به يكون مجرد مدع يكذبه إصراره على السوء ، كما أنه يقيم بذلك الحجة على نفسه بالإصرار على عدم هجران سوئه .
وقول المسلمين بعضهم لبعض وهم يتبادلون التهنئة بحلول عام هجري جديد ووصفه بالهجري يعني أنه عام إقلاع جديد عن السوء ، أو عام هجران ما نهى الله عنه ،وكـأنهم يهنئون بعضهم البعض على تجديد العهد مع الله عز وجل لهجران السوء أو ما نهى عنه سبحانه وتعالى ، وتكون بذلك تهنئتهم عبارة عن محاسبة للنفس ، وإدانة واتهام لها إن لم تكن هاجرة السوء بالفعل . ومن كان منهم مهاجرا للسوء حق له أن يبتهج بحلول عام جديد من هجران السوء ، ومن لم يكن كذلك، فلا يحق له أن يبتهج بل يجب عليه أن يحزن ويندم على انفراط عام كامل وهو غير هاجر لسوئه . وقولهم لبعضهم " سنة هجرية سعيدة أو عام هجري سعيد " يكون بمثابة استفسار بعضهم بعضا هل سعدوا بتوديع عام مضى وهم للسوء هاجرون واستقبلوا عاما جديدا بنفس العزيمة وهم لذلك مستعدون .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو حلول مناسبة حدث هجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم التي هي فرصة لتجديد العهد بسنته في الهجرة من حيز لا ينتهي الناس فيه عما نهى الله عز وجل عنه إلى حيز آخر ينتهون فيه عن ذلك .
ولقد حلت هذه المناسبة وليس لنا من حظ الاحتفال بها سوى عبارات التهنئة المصورة والمسموعة والمخطوطة ، دون مساءلة أنفسنا عما هجرنا من سوء قولا أو فعلا . فهل يحق لنا أن نتبادل التهنئة وفينا على سبيل المثال من يتعمد مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو من أمر الله تعالى بالحجر الصحي لصيانة أنفسنا من وباء يفتك بالأرواح ؟ هل الذين لم ينتهوا عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من سفر إلى أرض الوباء أو الخروج منها يحق لهم تبادل التهنئة بحلول هجرته صلى الله عليه وسلم ؟ أليس التسبب في انتشار الجائحة التي تجتاحنا وتحصد الأرواح أسوأ السوء ؟ وهل يوجد أسوأ من إزهاق الأرواح عند الله عز وجل وقتل النفس الواحدة عنده كقتل الناس جميعا ؟
ألا يجدر بنا أن نعطي هذه المناسبة ما تستحق من إجلال بتصحيح أنفسنا وهجراننا هذا السوء وغيره من أنواع السوء الفاشية فينا قولا وفعلا ؟
أليس من السوء أن ترتفع أصوات البعض لتطبيع العلاقة مع عدو يحتل أرضنا ، ويسوم أهلنا فيها سوء الخسف ؟ ألا يجدر بهؤلاء أن يعود عن غيهم ويتوب إلى ربهم مما نهى عنه ؟
اللهم إنا نستغفرك من قول بلا عمل ، ونعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، وموبقات أقوالنا ، ونبرأ إليك من سفه سفهائنا ، وضلال الضالين ، وسوء المسيئين ، ربنا لا تؤاخذنا بسفه أو بضلال أو بسوء هؤلاء . اللهم إنا نعوذ بك أن نكون سببا في الإساءة إلى أحد من خلقك قولا أو فعلا بتهور منا . اللهم بصرنا بعيوبنا واسترها علينا . اللهم اهدي الضالين ، ونبه الغافلين ، وعافي المبتلين واشفي المصابين ، وارحم أموات المسلمين يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين .
والحمد لله التي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .