(فلمّا تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون قال كلاّ إن معي ربي سيهدين)
لقد شاءت إرادة الله عز وجل أن يكون امتحان خلقه في الحياة الدنيا فوق سطح المعمور عبارة عن صراع بينهم فئة تقف مع الحق وتناصره ، وأخرى تقف مع الباطل وتؤيده . ولقد قص علينا الله عز وجل في محكم التنزيل قصصا تتعلق بهذا الصراع بين الفئتين، منها قصة نبي الله موسى عليه السلام الذي اختاره الله عز وجل لمواجهة الطغيان في أعتى صوره ،والذي شخصه الطاغية فرعون الذي بلغ به طغيانه حد ادعاء الربوبية العليا كما جاء في محكم التنزيل : (( فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى )) ، وقوله : (( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري )) .
ومعلوم أن دأب الطغاة عبر تاريخ البشرية الطويل أنهم يستعضفون المستضعفين من خلق الله، لهذا جرت سنته سبحانه وتعالى بإهلاك الطغاة مهما علوا وتجبروا واستبدوا . وعلى قدر طغيانهم وعلوهم واستكبارهم واستبدادهم في الأرض تكون نهايتهم مخزية . ولو كان للطغاة عقول يعقلون بها لاستحضروا من مر قبلهم من أمثالهم وهم كثير وما بلغوه من طغيان ، وما جر عليهم ذلك من ذلة وخزي ، ولكان ذلك رادعا لهم يجعلهم يفكرون في نهايتهم التي تكون على قدر طغيانهم . فكم من طاغية يتمادى في طغيانه، وهو لا يدري أنه إنما يعد نفسه لنهاية مخزية مذلة .
ومعلوم أن الله عز وجل ما قص علينا أخبار الأولين للتسلية وتزجية الوقت بل قصها علينا للموعظة والاحتياط والحذر خصوصا حين يتعلق الأمر بالوقوف إلى جانب الباطل ومناصرته على الحق . ومن تلك الأخبار خبر نبي الله موسى عليه السلام مع الطاغية فرعون الذي تجرأ على رب العزة جل جلاله وسولت له نفسه أن يستعبد خلقه سبحانه وتعالى، ويسومهم سوء العذاب ظلما وطغيانا .
ومن أخبار موسى عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم خبر نهاية الطاغية فرعون الذي بلغ طغيانه أن فكر في بناء صرح ليبلغ أسباب السماوات ويطلع على إله موسى كما جاء في الذكر الحكيم في قوله تعالى : (( وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلّع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زيّن لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب )) ، فأخزاه الله تعالى بميتة في قاع البحر ، فكان جزاؤه على قدر علوه، فخرّ من علو صرح في السماء إلى قاع بحر .
وحتى لا يصاب أهل الحق وهم في صراعهم مع أهل الباطل باليأس من نصر الله عز وجل الموعود لمن ناصر الحق، وهي سنته في خلقه ، قص عز وجل عليهم قصة أصحاب موسى لما فروا من طغيان فرعون، فأتبعهم يريد الفتك بهم فقال سبحانه وتعالى : (( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلاّ إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين )) .
إن لحظة الترائي بين الفارين من أصحاب موسى عليه السلام والملاحقين لهم من قوم فرعون كانت عسيرة عليهم حتى أنهم سلموا بأنهم مدركون وهالكون لا محالة إلا أن نبيهم عليه السلام ثبّتهم بتذكيرهم بمعية الله عز وجل له وأنه بموجبها سيهديه إلى خلاص يمنعهم من أن يدركهم عدوهم ، فجاءت الهداية في شكل معجزة حولت البحر إلى يابس ليسلكه الخائفون من فرعون وجنوده بأمان ثم يعود بحرا لجيا مهلكا كما كان ليغرق الطاغية ومن معهم أجمعين .
ولقد جعل الله تعالى الهداية الموعودة لمن يعتقد بمعيته سبحانه وتعالى سنته في خلقه إلى قيام الساعة . وما قص قصة موسى عليه السلام مع هذه المعية إلا لتكون بشارة في كل عصر ومصر للذين يثبتون على الحق عندما يعلو طغيان الباطل.
ومعلوم أن أهل الحق في كل زمان ومكان حين يطغى الطغاة من أهل الباطل مهما كان نوعه يحدث بعضهم أنفسهم بالجزع الذي حدثت به أصحاب موسى عليه السلام نفوسهم حين أتبعهم فرعون وجنوده بأنهم، ولكن لا بد لهم ممن يسد مسد موسى عليه السلام فيذكرهم بالمعية الإلهية ساعة الجزع ،وما يليها من هداية تضع حدا له بأسلوب من الأساليب التي يختارها الله عز وجل بمشيئته .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو حلول ذكرى نجاة موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنده التي تصادف العاشر من شهر محرم الحرام ،وهو يوم أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه تعظيما لهذا الحدث العظيم الذي انتصر فيه الحق على طغيان الباطل ، ذلك أنه لمّا قدم عليه الصلاة والسلام المدينة وجد اليهود صياما يوم عاشوراء ، فقال لهم : " ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " قالوا: هذا يوم عظيم أنجى فيه الله موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه ،فصامه موسى شكرا لله تعالى ، ونحن نصومه ، فقال عليه الصلاة والسلام : " فنحن أحق وأولى بموسى منكم " فصامه صلى الله عليه وسلم ، وسن بذلك صيامه للمسلمين .
قد يمر المسلمون بقوله عليه الصلاة والسلام : " نحن أحق وأولى بموسى منكم " مرور الكرام دون أن يستوقفهم ،ودون استحضار ما يستوجبه من تفكير في تذكير موسى عليه السلام قومه ساعة جزعهم وعدوهم يطاردهم بضرورة الاعتقاد الراسخ بالمعية الإلهية الموجبة لهدايته سبحانه وتعالى . وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق وأولى بموسى منكم " أي بشكر الله تعالى على هدايته موسى عليه السلام ساعة العسر بعبادة الصيام ، وفي نفس الوقت نحن أحق وأولى بالاعتقاد الجازم بالمعية الإلهية في كل عسر يواجهنا .
والأجدر بالمسلمين وهم في زمن ذلة لا لقلة فيهم بل لغثائيتهم مع كثرتهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور : " يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأمم على قصعتها " فقال قائل : ونحن من قلة يومئذ ؟ قال : " بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن " فقال قائل : وما الوهن يا رسول الله ، قال : " حب الدنيا وكراهية الموت " ، الأجدر بهم أن يستغلوا حدث نجاة موسى عليه السلام من فرعون من أجل مراجعة أنفسهم سعيا وراء خلاصهم من غثائيتهم ، وذلك باستعادة يقينهم الراسخ بالمعية الإلهية التي تضمن لهم هدايته سبحانه وتعالى بالكيفية التي يختارها لهم . وعلى قدر رسوخ اليقين بمعيته سبحانه وتعالى، تكون هدايته المفاجئة كما كانت هدايته مفاجئة لنبيه موسى عليه السلام .
إن لسان مقال وحال دعاة التطبيع اليوم مع العدو الصهيوني، وهو استسلام يموه عليه بكلمة تطبيع أو سلام شبيه بقول أصحاب موسى : (( إنا لمدركون )) مع فرق في التعبير وهو" إنا لمنهزمون أو مستسلمون " ، وإن لسان مقال وحال من يرفضون الاستسلام هو قول موسى عليه السلام : (( كلا إن معي ربي سيهدين )) . ولا شك أن المعتقدين بالمعية الإلهية هم الغالبون مصداقا لقوله تعالى : (( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون )) وإن لله تعالى جندا في كل زمان ومكان قد سبقت لهم كلمته عز وجل بأنهم منصورون، وإن وعده سبحانه وتعالى لناجز.
وإنه ليجدر بالمسلمين أيضا وهم يحيون ذكرى انتصار موسى عليه السلام على فرعون وهم يواجهون بلاء وباء يفتك بهم أن يستعيدوا ثقتهم بالمعية الإلهية آملين هداية منه سبحانه وتعالى تكون سببا في رفع هذا البلاء كما رفع بلاء ظلم فرعون . ويجدر بهم ألا يقولوا إنا مهلكون، ولا شفاء، ولا علاج ،ولا رحيل للوباء بل علبهم أن يقولوا : كلا إن معنا ربنا سيهدينا، وهو قول يقتضي فعلا هو الاستقامة لله رب العالمين خلاف ما عليه سواد الناس في هذا الزمان من انحراف عن صراطه المستقيم .
ومعلوم أن ما ابتدع من بدع لإحياء ذكرى انتصار نبي الله موسى عليه السلام على فرعون أو ما طرأ عليها من تحوير ينقض الاستقامة على الصراط المستقيم صراط المنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
اللهم اجعلنا نستعيد الثقة بمعيتك التي استحضرها نبيك موسى عليه السلام يوم تراءى الجمعان ، والتي استحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو وصاحبه في الغار . اللهم ثبت قلوبنا على الإيمان الراسخ الذي لا يتزعزع قيد أنملة أو دون ذلك . اللهم غافر الذنب وقابل التوب، اغفر ذنبنا واقبل توبنا . اللهم إنا نعوذ برحمتك من غضبك وسخطك ، ونعوذ بك من سفه سفهائنا ، ومعاصي عصاتنا . اللهم إنا نسألك سؤال الملحين عليك، وأنت الذي لا يتبرم من إلحاح الملحين عليه أن ترفع عنا بلاء هذا الوباء الذين حال بيننا وبين حسن عبادتك، فحرمنا ارتياد بيوتك وسماع ذكرك ، وجعل حياتنا نكدا وكمدا، وعيشنا بلا رغد ، اللهم عجل بصرفه عنا وعن العالمين لعلهم يرجعون يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 892