إشراقات من سورة الأنعام 6
إشراقات من سورة الأنعام:
الواقعية الحركيّة للإسلام
د. فوّاز القاسم / سوريا
إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد . . جاء ليحكم الحياة في واقعها ; ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره . . يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه . . ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا , في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده .
إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض ! إنه منهج يتعامل مع الواقع ! فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا الله , وأن الحاكمية ليست إلا لله ; ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله ; ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة . .
وحين يقوم هذا المجتمع فعلا , تكون له حياة واقعية , تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم ، وفي سن الشرائع . . لقوم مؤمنين أولاً بالله ، مرتضين عقيدة الإسلام ، مستسلمين أصلا للنظم والشرائع , رافضين ابتداء لغيرها من الأحكام الوضعيّة . .
ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع ; حتى تكون للنظام هيبته ، ويكون للشريعة جديتها . . فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها .
فمثلاً عندما كان المسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم . وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة الله . . ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع ; وإنما نزل لهم عقيدة وأخلاقاً وسلوكاً منبثقاً من العقيدة بعد اسقرارها في الأعماق البعيدة . .
فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان ، تنزلت عليهم الشرائع ; وتقرر لهم النظام ; الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية ; والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ . .
ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة , ليختزنوها جاهزة , حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة ! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين ! إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية ! إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا . . إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته ليصوغه في قالبه الخاص , وفق حجمه وشكله وملابساته الخاصّة . .
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام , وأن يصوغ تشريعات حياة بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها , ورفض كل شريعة سواها , مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه . .
والذين يريدون اليوم في سورية الثائرة تطبيق أحكام الإسلام ، فيقطعون الأيدي ، ويجلدون الظهور قبل إسقاط العصابة الأسدية التي تدكّ المدن الآمنة بالطائرات والدبابات والصواريخ ، فتحيلها إلى ركام ... وقبل إعادة الأمن والأمان والحريّة والاستقرار والعيش الكريم إلى السوريين ...
والذين يريدون اليوم تطبيق حدود السرقة على السوريين الذين جوّعتهم العصابات القرمطية ، وروّعتهم العصابات الصفوية ، وشرّدتهم في الآفاق ... قبل أن يحرروهم ، ويؤمنوهم ، ويوفروا لهم أبسط شروط العيش الكريم ...
والذين يجتمعون اليوم في فنادق استانبول والدوحة الفاخرة ليناقشوا خطط وهمية ( بطرانة ) عن مرحلة ما بعد بشّار الأسد ...!!!
هؤلاء جميعاً لا يدركون طبيعة هذا الدين , ولا كيف يعمل في الحياة ; كما يريد له الله ...
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية , ومناهج بشرية . ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم ، إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة . . إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض , تواجه مستقبلا غير موجود . . والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده . . عقيدة تملأ القلب , وتفرض سلطانها على الضمير . عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا لله , ولا يتلقوا الشرائع إلا من الله . وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم , ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم , تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية , وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك .