دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 6
دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة
د. فوّاز القاسم / سوريا
فهم أصول الصراع مع الأعداء ، والبراعة في تطبيق مبادئ السياسة الشرعية(6)
إن أعظم القادة في التاريخ ، هم الذين يعرفون كيف يديرون دفة الصراع مع أعدائهم ، فلا يلجؤون إلى القتال أصلاً ، وإذا اضطروا إليه ، فيعرفون كيف يربحون الحروب ، وينتصرون في المعارك ، بأقل جهود ، وأخف تضحيات ممكنة ، ولا يتأتى ذلك لهم إلا إذا كانوا على درجة عالية من العبقرية ، والذكاء ، والتمرس في أصول القيادة والمسؤولية .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحداً من أولئك القادة العظماء ، بل هو سيدهم ومعلمهم على الإطلاق ، ولسنا نهدف من هذه الدراسة ، إلى إعطاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، صفات من النبوغ والعبقرية ، فوق ما أعطاه الله من جلال النبوة ، وعصمة الوحي ، كما لا نريد أن نحمِّل القادة من بعده ، أكثر مما تطيق عقولهم ، وقدراتهم ، فنلزمهم بالتحليق في ذات الآفاق الشامخة التي كان يحلق فيها هذا القائد العظيم ..!
إنما أردنا أن نذكِّر أمتنا فقط ببعض الإشراقات القيادية والدعوية ، التي عاشها النبي القائد صلى الله عليه وسلم ، فعلاً وواقعاً ، لتكون مثابة ونبراساً ومشعلاً ، يقتدي بها ، ويهتدي بنورها ، كل من ابتلاه الله بمسؤولية القيادة والريادة في هذا العصر ، ونخصّ هنا المجاهدون الأبرار ، الذين ابتلاهم الله وشرّفهم بقيادة أعظم ثورة في تاريخ سورية منذ الفتح الإسلامي .
فلقد كان صلى الله عليه وسلم ، يضع أروع الخطط والمناهج لدعوته ، من خلال فقه حركي واقعي منضبط ، يقدر فيه حاجات الظرف والمرحلة والواقع والإمكانات ..
فكان تصرفه في مرحلة الاستضعاف المكية ، هو غير تصرفه في مرحلة التمكين المدنيّة ، فلقد كان يرد على كل استفزازات الأعداء ، ووقاحاتهم ، وتفاهاتهم ، في مكة ، بالمزيد من الصبر ، وضبط النفس ، واحتمال الأذى ...!!!
ثم يغير منهجه هذا ، عندما يتغير الظرف ، وتتغير المرحلة ، فنراه يدخل مكة فاتحاً فيجمع بين عزّة الفاتحين ، وتواضع المؤمنين بشكل مدهش .!
ففي الوقت الذي ينحني فيه تواضعاً لله تعالى ، حتى إن عُثنونه ليكاد يمس واسطة رحله .!
فإنه يأمر بحبس أبي سفيان زعيم الشرك في مضيق الوادي لكي تمر به كتائب الإيمان فتسحق أعصابه ، وتحطم معنوياته ، وتنزع من تفكيره أي أمل في المقاومة والتحدي .!
ويهدر دماء أناس بعينهم ، ويأمر بقتلهم حتى لو وُجدوا معلقين بأستار الكعبة المشرّفة ، لأنهم كانوا من الموغلين في الإساءة إلى دينه .!!!
ولا يدخل الكعبة المشرَّفة ، حتى يحطم كل ما كان فيها من الأصنام ، ويذل الشرك ، وهو الذي طالما طاف حولها ، وصلى فيها ، وهي مليئة بالأوثان قبل ذلك .!
وعندما يقف ليخاطب المشركين ، تتغير لهجته كذلك ، فهو اليوم .. ليس ذلك اليتيم المسكين ، الذي يغشى المجالس ، ويتوسّل إلى العرب ، ويتودد إلى الناس ، ويرجوهم أن يقبلوا ما جاءهم به من عند الله ، فيؤمنوا به ، وينصروه .!
إنما هو القائد الفاتح ، الذي يخاطب أعداءه المهزومين فيقول بعزة الفاتحين ، وشموخ المنتصرين : (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده .. ألا كلُّ مأثرةٍ ، أو دمٍ ، أو مالٍ يدّعى ، فهو تحت قدميَّ هاتين ..!!)) هشام 2 (412) .
ويفرِّق بين أعدائه المحاربين ، والمسالمين .. ويعرف طريقة تفكير كل منهم ، فيتعامل مع الأعداء المحاربين ، بغير المنهج الذي يتعامل به مع الأعداء الموادعين والمسالمين ، ويبذل كل ما يستطيع من حنكة لعزل أعدائه المحاربين وتحجيمهم .!
ويعمل بكل ما أُوتي من عبقرية ، لدق إسفينه بين صفوفهم ، وتفريق جموعهم ، وشرذمتهم ، وبالتالي .. إضعافهم ، وكسب معركة الصراع معهم .!
ولقد استوقفتني بعض اللفتات الرائعة في صلح الحديبية ، فكنت أقف لأجد نفسي أمام قائد عبقري من طراز متميز فعلاً .!
فهو يتمتع بأعلى درجات الكفاية ، والدراية ، والنبوغ ، والعبقرية ..!
وهو يقرأ خصمه من خلال تصرفاته ومواقفه ، ويرسم على ضوء هذه القراءة خططه وبرامجه ، فتأتي مطابقة للواقع تماماً .!
وعندما يتمعَّنُ المرءُ في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ، التي كان يخاطب بها مفاوضيه ، يأخذه العجب والدَّهَشُ ، من حكمته وبراعته كل مأخذ .!
ومن هذه النصوص مثلاً ، ما خاطب به بُدَيْل بن ورقاء الخُزاعي: (( إنَّا لم نجيء لقتال أحدٍ ، ولكننا جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب ، وأخذت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم مدَّةً ، ويخلُّوا بيني وبين الناس ، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإن هم أبوا ، فو الذي نفسي بيده ، لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذنَّ الله أمره )) هشام2 (309)
أية روعة ، وأية حنكة ، وأية دراية ، وأية عبقريّة ، تلك التي كان يتمتع بها هذا القائد العظيم ، صلى الله عليه وسلم .!؟
إنه يريد الصلح ، ويخطط له منذ البداية ، ولربما كانت عنده أوامر من الوحي بهذا الشأن ، ولذلك لما بركت ناقته القصواء ، وقال عنها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم : بأنها قد خلأت ، قال : (( والله ما خلأت ، وما ذلك لها بخُلُقْ ، ولكن حبسها حابس الفيل ، والله ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة ، يسألونني فيها صلة الرحم، وتعظيم البيت ، إلا أعطيتهم إياها .!)) هشام 2 (310)
إذاً هو يريد الصلح ، ويخطط له ، بناءً على إشارات تلقَّاها من ربه ، ولكنَّ الذي يريد الصلح في الحروب والمعارك ، لا يهرول إليه ، ولا يتهافت عليه ، ولا ينبطح تحت أقدام أعدائه ، حتى لا يطمع به الأعداء ويذلّوه ، بل يظهر شيئاً من التجمّل والجلادة والقوّة .. !!!
وها هو إمام الدعاة ، وقائد المجاهدين ، وقدوة القادة ، يعلّم القادة من بعده أصول المفاوضات ، وفنون الصلح ، فهو :
1. يظهر نيَّاته السلمية غير العدوانية ، وكأنه يلمّح لقريش بحقيقة ظلمها له ، واعتدائها عليه ، وإخراجه من وطنه ، وصدّها له ولإخوانه عن زيارة هذا البيت المعظَّم (( إنّا لم نأتِ لقتال أحد ، ولكننا جئنا معتمرين )).
2. يعرّض بأعدائه ، ويشعرهم بأنه على علم تام بما وصلت إليه أحوالهم ، من الضعف ، والترهل ، والتشرذم ، بعد ما يزيد على ستة أعوام من الحروب ، لم يحصدوا فيها غير الخيبة والخسران (( وإنَّ قريشاً قد نهكتهم الحرب وأخذت بهم )).
3. ثم يعرض عليهم الإسلام ، بلهجة المشفق والمتفضل ، ليخرجهم مما هم فيه من وضع مزري (( وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا )).
4. وأخيراً يلوِّح لهم بالصلح من بعيد ، ولكنه الصلح العزيز ، الموشَّح بكل ما أوتي من عنفوان الإيمان ، وقوة العقيدة ، ويوحي لأعدائه بأنه الأمل الأخير لهم ، في اللحظة الأخيرة : (( فإن شاؤوا ماددتهم مدَّةً ، ويخلُّوا بيني وبين الناس )).
5. أما إذا لم يقبلوا شيئاً من هذه العروض ، فهو الأسد الهصور في ساحات الوغى (( فو الذي نفسي بيده ، لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذنَّ اللهُ أمره )).!!!